أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - هدى توفيق - مقطع من رواية - رقصة الحرّية -















المزيد.....

مقطع من رواية - رقصة الحرّية -


هدى توفيق

الحوار المتمدن-العدد: 7525 - 2023 / 2 / 17 - 18:49
المحور: الادب والفن
    


مدينتي الصغيرة، تلك المدينة التي نخرت طبائعها في داخلي مهما رحلت عنها وتجاهلتها،بصماتها تملأ وجداني وسلوكياتي اليومية وتصرفاتي برعونة الفلاحة ناريمان الغبية ، مدينتي التي أورثتني أيقونة الغباء والحماقة المتجلية من ميراث آل مصباح ، ناريمان العاشقة للقراءة، والتهام الحروف بشغف كطفل رضيع، يستجدي ثدي أمه، دون أمل في الوصول إليه، و شعور الحرمان المرير يسقط بي في بئر من العزلة والإنطوائية، وأصبح مدعاة لسخرية إيمي ويحيى، وأظل على الدوام بنعت يلازمني حتى مع الغرباء كخفاش مظلم: ناريمان الفلاحة الغبية على وزن بقرة...
لكني في نهاية الأمر، أجد نفسي عاشقة لمدينتي النائية ، ربما أكرها بل ألعنها في بعض الأحيان، لكن بعد وقت قصير أحبها ، وأحن إليها بشدة وأهفو إلى زيارتها من حين لآخر؛ لأسير وأغوص في زحمة شوارعها، والذي يتجسد في شوارع المدينة الرئيسية: بين شارع الرياضي ، والدهشوري ، والجبالي ، والخضار، وداخلهم غالبا يتكاثر الفلاحون والفلاحات الآتين من المراكز والقرى للفرجة ، وشراء ما يلزمهم ، وفورًا أقف بحماس عند ساندوتش عنبة الشهير ، والذي بمجرد أن يلمحني وسط زحمة المارة والواقفين بغرض الشراء، يرفع شارة التحية السريعة، ويرسل لي مع الصبي الساندوتشات الملفوفة بورق الجريدة ، والتي دومًا ما تكون من حظي من ورق جريدة الأهالي التي اعتدت قراءتها كما كان يفعل ناصر ، وأستمتع بالتهام ألذ ساندوتشات فول لم أكله في أي مكان آخر حتى الآن. وأدلف سريعًا من خلال مدقات وحواري خلفية إلى شارع الرياضي، لأهب على وهج ولغط شارع الرياضي رأس الإخطبوط ، والذي يتفرع منه العديد من الأزقة والطرق السالكة لبقية شوارع وسط المدينة ، من شارع السكة الحديد ، وميدان المديرية ، وصلاح سالم ، ورجائي ، وعبد السلام عارف ووو...كل أطراف المدينة تقريبًا تتشابك من رأس هذا الإخطبوط الهائل، وأذهب كالعادة إلى شارع الصاغة المشهور ، ويقطن فيه الكثير من الصعايدة النصارى الذين نزحوا من الصعيد (الجواني) منذ سنوات طويلة ، أميزهم (صائغ وجواهرجي إلياس) ؛ التي منها تنحدر عائلة حبيبة ناصر النصرانية الفاتنة ، والتي هربت معه إلى أمريكا. هذا المحل لم ولن أنساه أبدًا في حياتي مهما مرت السنون ، هو محل كبير وواسع للغاية أشبه بالوكالة ، يأخذ مساحة ناصيتين ويعج بالفتارين التي تعرض أفخم وأجمل وأجود التشكيلات الذهبية ، ويقال أيضًا أنه يبيع ويشتري الجواهر الثمينة ، في الحقيقة يُقال الكثير عن مجد وعراقة عائلة إلياس.
إحدى الناصيتين تطل على شارع الرياضي الرئيسي ، والثانية تلتف كالثعبان حتى تصل بك إلى ناصية تطل على شارع الخضار من الجهة الأخرى ،كلما اشتقت إلى ناصر أذهب إليه ، وأظل واقفة بحجة مشاهدة الفاتيرنات اللامعة ببريق الذهب الخالص ، وأهمس في سري حزنًا وحسرة : هل كان لا بد ياناصر ألا تحب إلا بنت إلياس النصرانية ؟! هل كان لابد أن تتركني هكذا في منتصف الطريق ،لا أعرف له من نهاية، ولا أدرك السير فيه بمفردي ؟! تترقرق جفوني بالدموع ، ويبرق لمعان الذهب داخلي جنون التساؤل، والدهشة من نفسي البائسة عن كل ما حدث وكان ، وأصبحت عليه الآن، وألحظ أحد البائعين يتشكك في أمري ، فأهرع إليه بأي سؤال وأهرب من غواية بنت إلياس الفاتنة ، ثم أتجه سريعًا إلى الرصيف الآخر الذي به عمارة الأطباء المشهورة فوق محل باتا القديم صاحب البيجامات الكستور والكوتش البلاستيك التي كان يحضرها لي ناصر في نزهة خاصة معه دون بقية أخواتي ؛ حتى أسعد وأبتهج بمفردي ، وأمر على محل كشري البكري الجديد ، بينما قديمه الأول في شارع صلاح سالم ، ومطعم 23يوليو فراخ ولحمة وحمام ، وأقارنه برائحة كبابجي (أبو هاشم) التي أشمها مجازًا، والتي لا تعادلها أي رائحة كبابجي آخر كما سمعت من يحيى، وكل الآخرين. وأخيراً أجلس على كافتيريا محطة القطار، وأتذكر يحيى والقطار والنفق فأضحك فيلمحني أحد الجالسين ؛ فيمعن النظر نحوي ويستغرب. حتى ينقذني عم محمد مهللا عليّ بضحكة عالية قائلاً :
_ أستاذة ناريمان إنت فين من زمان ! وفين أستاذ يحيى ؟ وحشتونا قوي والله.
ابتسم قائلة بضحك :
_ فين العناب المخصوص بتاعي ياعم ، إنت نسيت ولا إيه ؟
وما دمت على كافتيريا محطة القطار، أنسل من نفق القطار الداخلي، لأخرج على قهوة الصحافة ، من أقدم القهاوي في المدينة ، التي يعود عهدها منذ وقت طويل لميراث عائلة الرفيق (ريعو)، ويضحك يحيى قائلاً : مصطفى صاحبها دا يانونو شيوعي مسلم أصيل بكل فخر. هو شخصية غريبة الأطوار بعض الشئ ، وظريف للغاية ، يحلف بالطلاق على أخيه ريعو وأصدقائه بعدم دفع أي حساب للمشاريب ، ويحدد لهم أوقات احتساءها ونوعها ويخبرهم بحذلقة : في بداية الاجتماعات مشروب يكون من أجل افتتاح الحديث جيدًا ، ثم بعد وقت قصير هذا المشروب بالذات ؛ من أجل تعميق الحديث وتنميقه وتوضيحه تمامًا، وختاماً هذا المشروب من أجل انهاء الحديث بحكمة وهدوء وتروي ، فيضحكون ويقهقون من فلسفة مصطفى الشيوعي المسلم الأصيل بكل فخر كما يطلق عليه يحيى ، وهم يستمتعون بالجلسه والمشاريب المجانية ، وبمجرد أن يرتفع صوت الآذان ، يرفع صوت التليفزيون أكثر من الازم ،كأنه يحث الجالسين على الذهاب إلى الصلاة وعدم التواكل.
أغمغم بحزن وأهمس داخلي: الله يرحمك أيها الرفيق ريعو أنت وأخيك المبارك ، ويمتد حزني وكدري وعزائي في أطلال الأحبة ، والأماكن عندما أمر من جانب جامع عمر ابن عبد العزيز في ميدان المديرية ، وأتكدر لرؤية المحكمة أنقاضًا، وقد تهدمت أثناء ثورة يناير 2011م.
تنهشني الذكريات والشوارع والأماكن كفريسة دخلت المصيدة دون رجاء أو ملاذ لها غير النهش ، وتلذذ صيادها بالتهام لحمها الوافر. أسير بالحنين والدموع تكاد أن تغرقني أمام القادمين والرائحين أو الضاحكين والباكين مثلي. فأجلس لأرتاح من عناء الذاكرة النشطة عند محل (عصير قصب الصعيدي) أشهر محل عصير قصب في المحافظة كاملاً ، وليس فقط في بندر مدينتي ، ولا أكتفي (بشوب عصير القصب). ولكن يلازمه (شوب الفواكه الطازجة المحلاه) من الثلاجة.
انظر المصدر : رواية ( رقصة الحرية ). هدى توفيق ، ط1/ دار نشر/ يسطرون للطباعة والنشر ، 2019م. مصر _ القاهرة.



#هدى_توفيق (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- شهادة أدبية
- قصة قصيرة
- قراءة في المجموعة القصصية - مخرج -
- قصة - عدوى المرح -
- نماذج قصصية هدى توفيق
- عن فن المتتالية القصصية ـ وتداخل الأجناس الأدبية
- قراءة في رواية - نخلة وبيت -
- الواقعية التسجيلية في المجموعة القصصية - حذاء سيلفانا -
- عن قصص - فاكهة بشرية -
- عن رواية - رقصة الحرية -
- التحليل النفسي في العمل الإبداعي
- مداخلة حول العام الثقافي في مصر عام 2021م
- الثقافة عن بعد
- رؤى ثقافية عن الإبداع
- مشكلة المثقف في مصر
- فقط لأسمع حبيبة بابا
- كتاب ( اقتحام الخلوة ) ـ إعداد ـ هدى توفيق
- حوار عن المجموعة القصصية - حذاء سيلفانا -
- عن الكتابة أتحدث!
- عن رواية المريض العربي


المزيد.....




- المخرج الفلسطيني رشيد مشهراوي: إسرائيل تعامل الفنانين كإرهاب ...
- نيويورك: الممثل الأمريكي أليك بالدوين يضرب الهاتف من يد ناشط ...
- تواصل فعاليات مهرجان بريكس للأفلام
- السعودية تتصدر جوائز مهرجان هوليوود للفيلم العربي
- فنانون أيرلنديون يطالبون مواطنتهم بمقاطعة -يوروفيجن- والوقوف ...
- بلدية باريس تطلق اسم أيقونة الأغنية الأمازيغية الفنان الجزائ ...
- مظفر النَّواب.. الذَّوبان بجُهيمان وخمينيّ
- روسيا.. إقامة معرض لمسرح عرائس مذهل من إندونيسيا
- “بتخلي العيال تنعنش وتفرفش” .. تردد قناة وناسة كيدز وكيفية ا ...
- خرائط وأطالس.. الرحالة أوليا جلبي والتأليف العثماني في الجغر ...


المزيد.....

- صغار لكن.. / سليمان جبران
- لا ميّةُ العراق / نزار ماضي
- تمائم الحياة-من ملكوت الطب النفسي / لمى محمد
- علي السوري -الحب بالأزرق- / لمى محمد
- صلاح عمر العلي: تراويح المراجعة وامتحانات اليقين (7 حلقات وإ ... / عبد الحسين شعبان
- غابة ـ قصص قصيرة جدا / حسين جداونه
- اسبوع الآلام "عشر روايات قصار / محمود شاهين
- أهمية مرحلة الاكتشاف في عملية الاخراج المسرحي / بدري حسون فريد
- أعلام سيريالية: بانوراما وعرض للأعمال الرئيسية للفنان والكات ... / عبدالرؤوف بطيخ
- مسرحية الكراسي وجلجامش: العبث بين الجلالة والسخرية / علي ماجد شبو


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - الادب والفن - هدى توفيق - مقطع من رواية - رقصة الحرّية -