أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - هدى توفيق - شهادة أدبية















المزيد.....


شهادة أدبية


هدى توفيق

الحوار المتمدن-العدد: 7490 - 2023 / 1 / 13 - 14:32
المحور: الادب والفن
    


الأ نا
ورؤية الآخر

بدأت الكتابة تقريبًا في سن العاشرة، أتذكر هذا جيدًا، كنت في الصف الخامس الابتدائي ، وجدتني أكتب أي شئ أشعر به من حزن وفرح ، وفي أي مكان على أية أوراق حتى خلف أغلفة الكتب الدراسية أو داخلها ، أو في الكراسات ، أو في الجرائد التي كنت أحضرها لأخي وأبي بعد أن ينتهوا من قراءتها وأقلدهما في القراءة . أكتب فقط بدون حسابات أو التزام بشئ ؛ من أجل أن أدون خواطر ما أشعر به في أي وقت ؛ مثلاً أن أبي دومًا يزعق إذا تأخرت في تأدية مشاوير الدكان من شراء ، أو أخذ ، أو عطاء من منزلنا المجاور للمحل الذي كان اسمه ( مكتبة الطالب )،التي كان يفتحها أبي في الفترة المسائية بعد حضوره من العمل الوظيفي. وأكون أنا أيضًا عدت من المدرسة ( مدرسة الدواوين ) ، وأسميها مدرسة أمي حيث كانت تعمل بها أيضًا معلمة . وأتذكر هذه المدرسة ولا أستطيع نسيانها ؛ لأنها كانت أول ملمح جغرافي ورئيسي في حياتي في ذاك الوقت ، مختلفة تمامًا عن أجواء المكان الذي كنت أعيش فيه ؛ لأنها كانت عبارة عن قصر يتكون من ثلاثة طوابق، يُقال أنه كان لأحد الباشوات ثم بعد التأميم أخذته حكومة ثورة 1952م ، واستخدمته كمدرسة للمرحلة الابتدائية فقط. وذهابي إليها مرتبط بوجود والدتي ؛ لذلك هي مدرسة أمي فقط كما أعتقد ؛ لأنه كان يوجد الأقرب من سكني في الناحية الأخرى من بندر بني سويف. كنت أحب هذا القصر كثيرًا رغم أنه كان متهالكًا وبه شقوق إلى حد كبير ، وبعد مرور عدة سنوات تهدم وأصبح عمارة شاهقة استثمارية . كان بجانبة شارع خلفي مهجور أخرج منه على سكة القطار الذي يشق المدينة إلى إتجاهين : الناحية الأولى بها شارع البحر ، والرياضي ، والخضار ، والدهشوري ، وأحياء قديمة وحديثة في نفس الوقت. و أشهرهم ميدان المديرية الذي به قسم البوليس الرئيسي لبندر بني سويف. الذي كان يُعتبر المركز الأم لكل المراكز والقرى والنجوع التابعة له. ما يمكن أن نسميه وسط البلد لدينا مثل ما يُسمى على وسط البلد في القاهرة أي التحرير ، وقصر النيل وهكذا. بينما من الناحية الأخرى لهذا القطع الحديدي ( أي مرور القطار ): شارع المدارس ، والمرماح ، وعزبة بلبل ، وموقف الأتوبيس القديم ، وما يطلق عليه الأماكن الحيوية. والكوبري المؤدي إلى مدينة الشرق الجديدة الذي يربط المدينة كاملًا .
كانت مدرسة صغيرة لكنها كانت كنقطة نور مختلفة الرؤية لي عن مدينتي ، وأوحت لي بالكثير من الحكايات بعيدًا عن مقر سكني في حي بني سويف الجديدة ؛ الذي يُحكى أنه كان ترعة كبيرة قبل أن تُردم ويمتد العمران ويجرف الأراضي الزراعية ؛ لتتحول كلها إلى أحياء بني سويف الجديدة . كانت تلك المدرسة كنزهة أسير بها كل يوم مع أمي للفسحة والخروج ، وأتسلل كلما استطعت من الشارع الخلفي لأشاهد القطار وهو يمر ويرج أرجاء المدينة من حوله بصوته وقوته ، وعندما كبرت وانتقلت إلى المرحلة الإعدادية ، وكانت بجوار منزلنا وبعيدة عن وسط المدينة. كنت أختلق الأعذار بقدر المستطاع لأذهب إلى هذا الشارع ، وأمر على مدرستي الأولى ، وأظل سائرة فيه إلى أن أصل لمحطة القطار ؛ وأجلس على مقهاه وأكتب بكل فرحة عن تلك المشاعر، أو أي مشاعر وأحاسيس نحو كل البشر الذين أقابلهم ،وحدثت بيني وبينهم مواقف تستحق الكتابة ، أو لا تستحق ، وأتفحص في الغادين والرائحين ، وأدون العبارات المتفرقة ، وأشتري المجلات والكتب من كشك الصحافة ، وأساله عن كل الجديد . وامتدت الأمور حتى تحقق حلمي بالالتحاق بالمرحلة الثانوية ، وكانت لحسن الحظ في الجانب الآخر للقطار. أي سأراه كل يوم اضطراراً ؛ لأصل من خلاله إلى الجانب الآخر ، لأدرس وأتعلم في المدرسة الثانوية. التي كانت في ذاك الوقت المدرسة الوحيدة للبنات في بندر بني سويف؛ قبل افتتاح بعد ذلك العديد من المدارس. شعرت بالحب والامتنان أن الله يحبني ؛ لأوثق علاقتي برؤية القطار والجلوس على المحطة ، والذهاب بحرية في كل الشوارع المجاورة لمدرستي الأولى التي كانت بمثابة نقطة نور ومحطة إبداعية مهمة لي ؛ لأرى أجواء المدينة البعيدة كثيرًا عن سكني في بيت الأسرة. هذه الأجواء المختلفة من حياتي الأولى جعلتني أكتب كل ما بخاطري ، ومعرفة خفايا عن اقتناء وشراء الكتب أثناء بحثي خلفها. ليس فقط في مكتبة أخي الصغيرة ، والتي أغلبها كانت كتب في السياسة والاقتصاد. حتى التقطت أثناء سيري في شارع المدارس عم صبري المعجزة. عن رجل يفترش الأرض بالعديد من الكتب القديمة ، ولديه مخزون كلما طلبت شيئًا محددًا أذهب إليه ، وبعد تمدد وتعزيز العلاقة والثقة بيننا أصبح يعطيني الكتب بالشكك أي بالتقسيط ؛ وجعل لي صفحة في مفكرة صغيرة لتصفية الحسابات أول بأول . يكتب فيها التليفونات ، وطلبات الزبائن ، والحسابات ، والتاريخ ، وكل التفاصيل الخاصة بعمليات البيع والشراء ، والكتب المتاحة والمطلوبة. وكنت في ذاك الوقت مغرمة بقراءاة القصص والروايات. أتذكر مثلًا أن كان يحضر لي الطبعات القديمة مثل: ألف ليلة وليلة، وروايات نجيب محفوظ ، ويوسف السباعي ، ومحمد عبد الحليم عبدالله ، وتوفيق الحكيم ، وطه حسين ، ويحيى حقي ، ويوسف جوهر ، ومحمود البدوي ، وغيرها من الكتب المهمة للرواد . التي كان يطرحها علي من خلال خبرته في انتقاء الكتب ؛ ويقول أنه قرأ الكثير منها ؛ ويعرف الأفضل لي ما دمت أحب قراءة الأدب. والغريب أن بجانب حبي لقراءة الإبداع كنت أحب كثيراً قراءة المغامرات ، والقصص البوليسية ؛ وتشدني قراءة الجرائم وحبكتها ولو كانت بسيطة ؛ ويحضرها لي ويرشح لي أفضلها في الدراما والحبكة. وتمنيت كثيرًا أن أكتب هذا النوع من الأدب ، ولا زلت أتمنى ؛ فالأحلام كثيرة وعالم الإبداع واسع وطويل ، وكلما انشغلت بكتابة شئ يأتي بعده الآخر، وكأنها سلسلة من الأحلام. أشبها أيضا بالمغامرات التي كنت أعشق قراءتها ، لكنها مغامرات فنية مختلفة الإبداع. أشعر به أحيانًا يحتاج لعمر فوق أعمارنا من كثرة ما نتمنى ونكتب ونقرأ ؛ ولا يكفي الوقت والجهد.
عم صبري الهمام والمخلص لمهنة بيع وشراء الكتب . كان يتم بيننا اتفاق على الثمن والموعد فلم يكن يوجد بعد التليفون المحمول ، أو الفيس ، والواتس ، وكل هذه الفاعليات الحديثة الآن. كانت الكلمة هي الوعد والتنفيذ. وبعد أن أصبحت أنشر في المجلات والدوريات كنت أخبره حتى يحتفظ لي بنسختين واحدة لي ، وواحدة لأمي التي كانت تذهب في بعض الأحيان بنفسها لتشتري الجريدة أو المجلة التي نُشر بها أي عمل إبداعي من أعمالي ؛ فكانت أمي وعم صبري المعجزة والهمام أول المؤمنين بقدرتي على الكتابة وأمنياتي الكبيرة ؛ وإن كان أخي من اكتشف داخلي هذه البقعة البيضاء التي أنارت بعد ذلك كل حياتي وجعلتني أسيرة وعاشقة للكتابة بشكل كبير، وقد كنت أمزقها وألقيها في القمامة بدون اهتمام أواعتناء . كانت الحياة أكثر صعوبة لكنها كانت ممتعة ، وذات تأثير كبير وراء البحث والجهد الكبير ؛ من أجل أن نحصل على المعلومة أو نريد انجاز شئ.
هذه الأجواء المختلفة من حياتي الأولى جعلتني أكتب كل ما يجول بخاطري تقريبًا من نهاية المرحلة الابتدائية ؛ وتم ذلك في صدفة قدرية منَّ بها الله عليّ ؛ ففي إحدى المرات التقطني أخي الكبير ، وأنا أقطع بعض الأوراق فسألني : ماذا تمزقين هكذا دومًا ؟!. فقلت له : هذه أشياء أكتبها وأتخلص منها ؛ لعدم أهميتها فهي مجرد كلمات كنت أسميها مواضيع تعبير تخصني ، ولا تخص الدراسة في مادة التعبير ؛ فانزعج ، وقال : ولِم تمزقينها ؟! اجعليني أقرأها وقد كان ؛ فأعجب بها رغم ما بها من الأخطاء اللغوية والنحوية. ثم ابتسم وقال بدهشة : أنت موهوبة في الكتابة والتعبير عن مشاعرك ، ومواقفك تجاه الناس ، ونحو تفسير أمور الحياة ياجميلة ... ولم أفهم شئ في وقتها ؛ لكن منعني بتاتًا ألا أتخلص منها ، وقال : اتركيها أرجوك يافريكيكو ، ولا تفعلي شئ غير الكتابة.. فاهمه. ضحكت وقلت بسخرية : لكنها مجرد أوراق وتتوه مني ، أو تضيع أو أمزقها يا أخي الكبير. فقال بحزم وعصبية : قلت لك فقط اكتبي ، وما يعجبك احتفظي به ، وما لا يروق لك اتركيه في أدراج مكتبي ، وأهداني أول كشكول في حياتي من أجل الكتابة فقط ، وكنت في ذاك الوقت في المرحلة الإعدادية. وتطور الأمر وبدأت أكتب على مجلات الحائط في المدرسة ، والوسائل التعليمية : " خواطر الطفلة هدى الفريكيكو " كما كان يطلق عليّ جميع أفراد الأسرة ؛ لسرعة الحركة والنشاط في اتمام الأعمال الموكلة لي في المنزل ، والعمل مع أبي في الدكان ، وواجباتي الدراسية بالهمة والنشاط والسرعة. وبدأت أدخل المسابقات وأكتب في المجلات الماستر المطبوعة ، واشتركت في نادي أدب قصر الثقافة ، وحصلت على كرنيه استعارة الكتب ، والبحث عما أريده براحتي ؛ بتعزيز من رئيس النشاط ، والذي أشار لي أيضًا بالمكتبة العامة العريقة في شارع المدارس بجوارعم صبري المعجزة ، ولم أكن أعرفها رغم أنها بجواره بخطوات ؛ وكأن الكتب تناديني وتجوب معي من شدة حبي فيها. وبدأت أعرف أماكن أخرى لبيع الجرائد والكتب بأثمان ليست باهظة . واشتركت أيضًا في الفرقة المسرحية لقصر ثقافة بني سويف ، وبعض الوقت في فرقة الفنون الشعبية ؛ ولكن تركتها حتى أوفر وأركز جهدي في فن الكتابة. حتى المسرح ظللت به سنوات ثم تركته تقريبًا في عام 2000؛ من أجل مشوار الكتابة الذى بدأ يتضح ويتأكد في الجامعة. فقد كانت الجامعة الانطلاقة الحقيقية والتعارف بالأساتذة المتخصصين وطرح أعمالي ، وبدأت أعلم ما هو النقد ؛ من خلال التوضيح والاستياء والتقبل نحو هذا العمل أو ذاك من النقاد بمعنى الكلمة ، وليس مجرد أراء عابرة أو تذوق أدبي انطباعي. والذهاب إلى الفاعليات الثقافية في قصر الثقافة ، ونادي الأدب ، وحضور الندوات في مدينتي وخارجها في محافظة القاهرة وغيرها من المحافظات ، وقمت بالاشتراك في أي تفعيل أدبي يخص مدينتي سواء في قصر الثقافة ، أو في حزب التجمع فيما يخص الجانب الثقافي حتى وصلت لصالون ( الدكتور/ عبد المنعم تليمة ) كل خميس ، وكنت أسافر أسبوعيًا لحضوره ، وواظبت عليه لسنوات ، واستفدت منه كثيرًا ؛ ويعتبر من أهم الأشياء الجيدة التي حدثت لي في حياتي ، وتأثرت به كثيراً ، وقدم لي الكثير والكثير من المعرفة والثقافة ، ورؤية نفسي كمبدعة أمام وجهات نظرالآخرين ؛ لأن جميعهم كانوا من كبار الأساتذة أوالمبدعين. ونصحني أ.د. تليمة بالكتابة في النقد والقراءة والتثقيف أكثر ؛ لأني كنت خائفة تمامًا من هذه الخطوة التي أشعر بها تخص الجانب الأكاديمي فقط ؛ ولست بالمستوى الذي يسمح لي بذلك أمام ما أشاهد وأقابل وأسمع في صالون الناقد الكبير وأصدقائه. وامتد الأمر معي في ورشة الزيتون ، والاشتراك في تقديم عروض للكتب ، وبعض الأراء ولو الانطباعية عن الأعمال التي كانت تعرض بمؤازرة الأستاذ الفاضل / شعبان يوسف. وقد كان يحفزني بشدة ويقدم لي كل المصادر والمعلومات والكتب ، وعرفت من خلاله سور الأزبكية الشهير الذي كان يشبه عالم عم صبري المعجزة في مدينتي ، ولكن بشكل أوسع وكبير، ولكن بالجد والمثابرة بدأت أكتب وأنشر أيضًا مقالات وعروض كتب فكرية وإبداعية. والتي بدأت من مكتبة أخي الكبير الذي نبهني لموهبة الكتابة والقراءة ، وشراء الكتب والبحث في المكتبات ؛ بداية من المدارس التي التحقت بها في مراحل تعليمي . وعم صبري المعجزة ، والمكتبة العامة الكبيرة في شارع المدراس ، وقصر الثقافة وصولاً للكنز الكبير ؛ لإرشادات الدكتور( عبد المنعم تليمة ) في الصالون ، وورشة الزيتون مع الموسوعة القرائية وأرشيف الكتب القديمة ، وبل صدورها بمختلف الطبعات للأستاذ ( شعبان يوسف ). وامتدت اللقاءات مع أساتذة آخرين من خلال اللقاءات والندوات الأدبية والكثير، والكثير الذين لا أنكر دورهم في حياتي ، وإن كنت لا أستطيع تذكر كل الأسماء ، وبدأت محاولتي لنشر الكتاب الأول لي على شكل مجموعة قصصية ، ولكن تعثر الأمر طويلًا في النشر الحكومي ، ولم يكن الأمر سهلاً للغاية في ذاك الوقت ؛ وفعلاً امتد هذا الأمر لسنوات حتى أستطيع أن أصدر الكتاب الأول ، رغم أنني قبله قمت بنشر العديد من القصص الإبداعية في الجرائد والمجلات ؛ بل وفزت بجوائز. حتى تم نشر أول إصدار في عام 2007م. مجموعة قصصية عن الهيئة العامة لقصور الثقافة. رغم أنني كنت أكتب من سنوات طويلة قبل النشر الفعلي ، لكن دون إرادة مني تأخر النشر لظروف خاصة بالنشر ، والظروف الحياتية الطارئة حول الظروف الاجتماعية والاقتصادية التي كانت تواجهني في ذلك الوقت ، وأشياء أخرى تدور في مسالك الحياة الوعرة التي عشتها لبعض الوقت .
ولكن لا شك أن الأمر كان يحتاج لهذا الدأب والمثابرة ، وأن الكتابة والقراءة مثل النبع المستمر في جريانه داخل المخيلة والأفكار، وكل ما نفعله من محاولات لا توقف مسيرة الفنان ما دام مصمم على الظهور والعمل والإنتاج ولو تأخر ؛ رغم أن العمل يظل محبوس في الأدراج حتى يحين ظهوره ، ولكن مع المعافرة والقفز بين مغامرات الحياة والاختيارات في تلك الحياة القصيرة هناك سؤال مهم لا بد أن نعيه: كيف يرانا الآخرين برؤية ثاقبة ، ورؤية نقدية تشوبها الخطأ أو الصح ؟ ليس هذا المعيار ؛المهم كيف يتناول الناقد والمتذوق للأدب ما نكتب ؟ حتى نستفيد ونتعمق أكثر في الأفكار والاهتمام بكل تفاصيل العمل. الذي يشبه مشرط الجراح الذي عليه أن يُخرج كل ما يحاول أن يؤذي الجسد الإنساني . ليس المهم فقط أن نقرأ ونكتب ؛ ولكن الأهم: كيف نكتب ؟ لا أنكر أن حالة الكتابة تستهويني بعشق حتى ولو كان الأمر من أجل الكتابة فقط التي أفكر فيها دومًا.
هنا يأتي أهم دور بعد انهاء وتفريغ هذه الشحنات الإبداعية. كيف أصبح الأمر ؟ كيف رأيت الأمر ؟ كيف كانت التفاصيل في العمل الفني ؟ أنا أشعر دائماً أن العمل الفني روح كالجنين المختلق ، وإن كان يتضمن ما في المخيلة ، والذاكرة ، والتجارب ، والخبرة الحياتية والقرائية السابقة ؛ ولكن في النهاية هذا المخلوق الجديد والعجيب يحتاج لرعاية ، ورؤية واضحة ونزيهة ؛ لتفحص الصحيح والخطأ منه ؛ فلا شئ يكتمل في الإبداع.
أنا نفسي عندما أعود للعمل أقول لم وضعت هذا الوصف ؟! لما كتبت هذا التعبير ؟! لم كانت الكتابة بهذا الشكل الذي لا يروقني الآن ؟! وقد جربت هذا بشكل فعلي بعد عمل عدد من الإصدرات تحت مسمى ( مختارات قصصية )، وغيره. لن أقول غيرت الكتابة نهائيًا ، ولكن قمت بتعديلات هامة بناءً على رؤى الآخرين من النقاد ومتذوقي الأدب في سابق الوقت ، ورأيتها أراء صحيحة لم أنشغل أواهتم بها في وقتها حتى صدور الكتاب بهذا الشكل الفني. فدائمًا أحفظ هذه المقولة كلما تقدم بي العمر : ليس المهم أن تنجح فقط ؛ ولكن الأصعب والأهم : كيف تحافظ على هذا النجاح ؟ بالاستمرار والتطور والتجدد والمعرفة والثقافة الذي ليس له حدود . الكتابة فعل صعب للغاية لا يكفي فقط أن يكون لديك موهبة. إنما هناك ملكة أقوى : وهي كيف تختلف وتتميز وتشق طريق الكتابة وتختلق الأفكار؟ وأنا أخص بالحديث هنا عن لغز الفكرة الذي يُمثل بالنسبة لي فعلًا ليس سهلاً ، ويحتاج للكثير من الثقافة والتأمل ، وبالإضافة إلى تقوية اللغة والمفردات والقراءة والتثقيف اليومي الفعال ، والتقاط كل المسببات التي تجعلك تكتب وتكتب وتقرأ وتقرأ. إنه مشوار طويل ومنهك ؛ ولكن هذا قدر العشق لأي شئ نحبه باخلاص. ولا ينتهي إلا بالموت مع هذا الكائن الحائر الفنان الذي يبحث ويبحث ، وخاصة أن هناك ظروف أخرى صعبة تواجهني في الحياة من محاولة الاستقرار ، واللهث وراء لقمة العيش ، والحياة بكل صدفها العجيبة والقدرية ؛ التي تصل بي إلى مناح مختلفة في بعض الأحيان لم أكن أتوقع بتاتًا أن أصل إليها . إنها أشياء كثيرة لابد من الحين لآخر أن أفكر فيها بكل جدية واهتمام؛ حتى أستطيع أن أصل للفكرة والمعنى والاستمرار.
عندما كنت أعرض أعمالي على الأصدقاء والنقاد ؛ وأتمنى نقدًا ولو شديد اللهجة حتى أعرف أخطائي ومعايير الاستقامات الأدبية التي لا أشعر بها عندما أكتب ، أو حتى عندما أقرأ. كنت أسعد وتزداد سعادتي عندما أجده مكتوبًا ، ومنشورًا في مقال أو دراسة طويلة في جريدة ، أو مجلة ، أو موقع إلكتروني ، أو مطروح في كتاب نقدي أو رسالة أكاديمية. أسعد للغاية وأعود ألوم نفسي كيف لم ألاحظ ؟! وأرى الأمور جيدًا في ذاك الوقت ؛ لتخرج الكتابة بشكل أفضل من ذلك ؛ لكنها في النهاية تجارب شعورية مرتبطة بذاك الوقت لا أستطيع التحكم بها ، وتخرج عن إرادتي بهذا الشكل القصصي أو الروائي أو النقدي أو حتى مسرحي أو شعري ؛ فقد عشت أغلب هذه الحالات الإبداعية ، لكن أقربها لنفسي القصة والرواية.
إن عالم الإبداع عالم واسع مثل البحرعميق يُغرقك في أمواجه ، وأنت دومًا تطمح سعيًا للنجاة والوصول إلى شاطئ الحرف والإبداع وقلب الفكرة الجهنمي ، والإنجاز حتى لو جاء ناقصًا ، وليس كامل الرؤية كما كنت أتمنى ، وعندما تطور الأمر ونصحني الأساتذة بالكتابة النقدية ، ولو انطباعيًا لأعبر عن رؤيتي نحو الأعمال الإبداعية والفكرية. كنت خائفة جدًا ؛ لأني لم أدرس أكاديميًا ، وأعتمد على قراءاتي التي هي محدودة بالطبع ، لكن مع حضور الملتقيات الأدبية والثقافية بدأت أطرح هذه الرؤية في حياتي. وشعرت وتأكدت عن مدى صعوبة النقد البناء ، ومدى أهمية دور الناقد ، وربما رأيته أصعب حقل يدخل في زمرة المجال الإبداعي ، واستفدت منه أيضًا لنقد نفسي وأنا أكتب ؛ وعدت إلى الوراء وعاتبت على نفسي كثيرًا في أشياء كتبتها ؛ وقلت يسامحني الله ويحسن لهؤلاء النقاد. كيف لم أرى تلك العيوب في هذه الكتابة ؟! كيف، ولماذا لم أكتب هكذا وهكذا ؟! وتمردت على الكتابة السابقة ؛وأصبحت أكثر تشكيكًا وقسوة في كل ما كتبته ، وما سوف أكتبه إن شاء الله. فرؤية الآخر من منظور النقد كانت من المقترحات والعلامات المهمة والقوية ؛ من أجل رؤية الأنا داخل الوعاء الإبداعي بشكل أعمق وأفضل ، وعن قدرته على التعبير ومحاولة تصويب الأخطاء والمثالب لهذا العمل وذاك. بالتأكيد مع توضيح وعرض آلياته الفنية المطروحة بشكل إيجابي ؛ من أجل أن نبدع بشكل أحسن ونتطور ونعمل بجد ومثابرة وصبر وتأمل وعمل ؛ ليس فقط من ضرورة القول والاقتناع بما نريد ونرغب أن لابد أن نكتبه ؛ لكن من الضروري أيضًا أن يتم نقده جيدًا ؛ من خلال رؤية الآخر شريكي الأهم في رؤية الأنا .
29/11/2022م
الموافق / الثلاثاء



#هدى_توفيق (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- قصة قصيرة
- قراءة في المجموعة القصصية - مخرج -
- قصة - عدوى المرح -
- نماذج قصصية هدى توفيق
- عن فن المتتالية القصصية ـ وتداخل الأجناس الأدبية
- قراءة في رواية - نخلة وبيت -
- الواقعية التسجيلية في المجموعة القصصية - حذاء سيلفانا -
- عن قصص - فاكهة بشرية -
- عن رواية - رقصة الحرية -
- التحليل النفسي في العمل الإبداعي
- مداخلة حول العام الثقافي في مصر عام 2021م
- الثقافة عن بعد
- رؤى ثقافية عن الإبداع
- مشكلة المثقف في مصر
- فقط لأسمع حبيبة بابا
- كتاب ( اقتحام الخلوة ) ـ إعداد ـ هدى توفيق
- حوار عن المجموعة القصصية - حذاء سيلفانا -
- عن الكتابة أتحدث!
- عن رواية المريض العربي
- النشر الإلكتروني


المزيد.....




- في عيون النهر
- مواجهة ايران-اسرائيل، مسرحية ام خطر حقيقي على جماهير المنطقة ...
- ”الأفلام الوثائقية في بيتك“ استقبل تردد قناة ناشيونال جيوغرا ...
- غزة.. مقتل الكاتبة والشاعرة آمنة حميد وطفليها بقصف على مخيم ...
- -كلاب نائمة-.. أبرز أفلام -ثلاثية- راسل كرو في 2024
- «بدقة عالية وجودة ممتازة»…تردد قناة ناشيونال جيوغرافيك الجدي ...
- إيران: حكم بالإعدام على مغني الراب الشهير توماج صالحي على خل ...
- “قبل أي حد الحق اعرفها” .. قائمة أفلام عيد الأضحى 2024 وفيلم ...
- روسيا تطلق مبادرة تعاون مع المغرب في مجال المسرح والموسيقا
- منح أرفع وسام جيبوتي للجزيرة الوثائقية عن فيلمها -الملا العا ...


المزيد.....

- صغار لكن.. / سليمان جبران
- لا ميّةُ العراق / نزار ماضي
- تمائم الحياة-من ملكوت الطب النفسي / لمى محمد
- علي السوري -الحب بالأزرق- / لمى محمد
- صلاح عمر العلي: تراويح المراجعة وامتحانات اليقين (7 حلقات وإ ... / عبد الحسين شعبان
- غابة ـ قصص قصيرة جدا / حسين جداونه
- اسبوع الآلام "عشر روايات قصار / محمود شاهين
- أهمية مرحلة الاكتشاف في عملية الاخراج المسرحي / بدري حسون فريد
- أعلام سيريالية: بانوراما وعرض للأعمال الرئيسية للفنان والكات ... / عبدالرؤوف بطيخ
- مسرحية الكراسي وجلجامش: العبث بين الجلالة والسخرية / علي ماجد شبو


المزيد.....

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - هدى توفيق - شهادة أدبية