|
الضَّوءُ الأحمَر// قصة قصيرة
ريتا عودة
الحوار المتمدن-العدد: 7510 - 2023 / 2 / 2 - 10:48
المحور:
الادب والفن
- "احْذَري!" صرخَ الشُّرطيُّ، ثمَّ ابتسمَ ابتسامةً مدروسَة، وتابعَ: - "لا يمكنُكِ اجتيازَ الشّارع والضَوء أحمَر!" دهِشْتُ! كيفَ استطاعَ أنْ يبتسِمَ ولو مرّة؟! ترَاهُ مَلَّ مُلاحَقتِي بغراماتِهِ الماليَّة، أم أنّهُ أدركَ أنّي لا أملكُ ثمنَهَا، أم أنَّه اقتنعَ أخيرًا أنَّ الضَّوْءَ الأحمرَ لَيْسَ إلاّ قَانونه هوَ؟ = حسنًا. هتفتُ وأنا أخفي راية النّصْر خلفَ شفتَيَّ. أخذتُ أستعدُّ لاجتياز الشَّارع ثانيةً، لكنّهُ لمْ يتحرَكْ. لمْ يَستعدّ للّحَاق بي. أصبحَ يعرفُنِي جيِّدًا. يعرفُ أنِّي أرفُضُ أنْ أطيعَ أوامِرَهُ ويظنُّ ذلكَ لكونِهِ رَجُلاً. لكي أستَفِزَّ غضَبَهُ قررْتُ ألاّ أعبُرَ الشّارع. قرّرتُ أنْ أصلِبَ نظراتِهِ فوقَ خُطواتي؛ ستعبُر. لنْ تعبُر! بدأتُ أبحثُ عنْ أيّ شيء يثيرُ فضولي. لاحقنِي صوتُ امْرَأةٍ تؤكدُّ على الهاتف: "لا تَتَأخَّر!" ارتفعَ صوتُ شابٍّ منْ خلفي: "تفضّلي". ترَدَّدْتُ، فهتفَ: "ألا تريدينَ استعمالَهُ؟". تملّكتني نوبةُ ارتباك. أُريدُ أن أتحدثَ إلى أيّ كانَ، لكنْ مَنْ يسمع؟ فجأة، اقتنصَتِ الفرحةُ غاباتِ أفكاري: لماذا لا أطلبُ أيّ أرقام فأتحدثُ إلى أيّ كانَ؟ أجبتُ بكبرياء: "نعمْ سأتحدثُ فهلْ تمانع؟". لمْ يكتَرثْ لقولِ "لا" أو حتَّى "نعم". فرَاغ. مجرّدُ فرَاغ يفصِلُ بينَ البشر. مجرّدُ مسافات لا يُمكنُ لإنسَان اجتيازها. ابتعدَ ربما ليبحثَ عنْ هاتفٍ آخَر فِي مكان آخر. لا يمكنهُ الانتظار ولو لحظة. قلَق. أرَق. إرهاق يأكلُ وقتَهُ، بل وقتَ جميع شبابنا. لماذا؟ تساءلتُ وأنا أخْنِق غصَّةَ ألَم في حلقي. ألأنَّ أحلامهُم مكبوتة؟ نظرَ إلى الضّوءِ بإمعانٍ، ربما ليتأكدَ أنَّه ليسَ أحمرَ. ثمَّ اجتازَ الشّارع كالبَرْق، وتركني وحدي أبحثُ عن شَيء يثيرُ فضولي. قبضْتُ على سماعَةِ الهاتفِ، وأخذتْ أصابعي النّحيلة تتحَرّكُ بنهَم فوقَ الأرْقام. زقزقَ قلبي. ارتفعَ صوتُ رجُلٍ (ما) يهمسُ بِتكاسلٍ: "ألووو". بَدَا لي من رائحةِ عَرَقِهِ عَبْرَ الهاتفِ أنّهُ أفاقَ لتوِّهِ من حُلم. = مَنْ؟ تساءلتُ بلهفة، فصرخَ بعصبيّة: - مَنْ يطلبُ رقمًا يُعَرّفُ نفسَهُ لا العَكْس. = نعَم، ولكن بإمكاني تلفيق أيّ اسم لكَ. هذا ليسَ جوهرَ الموضُوع. قالَ وهوَ يتثاءَبُ: - مَا هوَ الموضوع إذًا؟ أنتِ تُعاكِسينَنِي! = أنا لا أعرفُكَ. - إذًا، عُذْرًا. سأقطَعُ المكالمة. صرختُ مُتوسّلةً: = لا. أرجوك. صمتُهُ المُفاجئ أيقظ َعاصفةً مَا داخِلَ آباري فبدَأتُ أرَدّدُ بتوَسُل: = ألو. ألو. - حَسَنًا. حَسَنًا. قولِي ما عندَكِ بسرعة. همسَ متأفّفًا ورائحة عَرَقِهِ تتمَلّكُني منْ جديد. أدركتُ أنّهُ ينتظرُ، ففرحْتُ لأنّي سأتمكنُ أخيرًا منَ التّعْبير عن مخَاوفي. أعلنتُ بحُرْقة: = إنّهُ الملَلُ. - ماذا؟ صرخَ مذهولاً، فَنُحـْتُ: = المَلَلُ عدُوّي. انتظرْتُ صوتَهُ يُضيءُ عتمةَ حواسّي. انتظرْتُ رائحةَ عَرَقِهِ تُخَدِّرُ صَمْتِي. انتظرْتُ صَرْخَةً كصرخاتِ الشّرطيّ تشْتمُنِي. انتظرْتُ. انتظرْتُ، لكنّ الصَّمْتَ اغتصبَ شفتيهِ. بدا لي أنّهُ نهضَ عن السّرير، فقد وصلني صوتُ ضجيجٍ خفيف. أخيرًا قالَ: - اشتغلي. أحسستُ أنّ الجُرْحَ قد عثر على الخنجر الَّذي طعنهُ فأجبتُ: = لا أجدُ شُغْلاً. - لمَ؟ = بسَبَب... ترددْتُ، ثمّ ألقيتُ حجرَ النّرد على رقعةِ الألمِ: = البَطَالَة. - البطالة؟ = نعَم. أبحثُ عن عملٍ دونَ جدوى. تمتمتُ بإعياء: = هُنالكَ رجالٌ كالصّخور يستيقظون كالطّيور معَ الفَجر لِيسافرُوا إلِى مناطِقَ عَمَل مُجَاورَة، فيَجدُون أنْفُسَهُم مطرودينَ من أعمالهم بعدَ ضياعِ شبابهم، فتضيع كرامتهم بصمتٍ. لا يبكون ولا يصرخون، بل يصرخُ الجوعُ في أحشاءِ أطفالهم، فماذا بإمكاني أنا أنْ أفعل؟ تنهدَ ذلكَ الرّجُل. فكرَ طويلاً، ثمّ تمتمَ: - استخدمي شهاداتكِ لتوفير فرصة عَمَل. = لا أملكُ شهادة. - لماذا؟ تساءلَ بلهفة، فقلتُ بمرارَة: = مَنْ يدفَع لِي ثمنَ الأقساطِ الجامعيّة؟ أتظُنُّ أنَّ العِلْمَ لنا؟ نحنُ (في نظرهِم) دونَ مستوَى الالتحاق بالجامعات. نحنُ عُمّالُ نظافة لا أكثر. الجامعاتُ لأبنائهم هم، وحتى لو حاولنا الالتحاق بجامعاتهم، سيضعون ألف عثرة في طريقنا. خفت صوتي وأنا أعلن: = كمْ تمنيتُ لو ألتحقَ بإحداها. - إذًا تزوَّجِي كهلاً ثريًّا كغيرك من الفتيات. = مستحيل أن أكون تحفةً في قبضةِ الّذي يدفعُ أكثر. - إذًا؟ همستُ بإرهاق: = لمْ يَبْقَ إلاّ المَلَل. لمْ تَبْقَ إلاّ حكايات الجَدّات عن العَريسِ المُنْتَظَر. لمْ تَبْقَ إلاّ أحلام الشُّيوخ ببطولةِ الأجداد. لمْ تَبْقَ إلاّ صرخَات النِّساءِ على أطفالهنّ حين تنتهي مُهمَّةُ تنظيف المنزل من خيوطِ العناكِب، فيطول انتظار عودة الزوج، ويسُود المَلَلُ حين لا يجدْنَ لآمالِهِنّ منفذًا إلاّ الأحلام المستحيلة، أمّا أنا فأريدُ أنْ أحيا بكرامة؛ أن أشعر بقيمة نفسي، بأنّي كِيَان قادرة علَى الأخذِ والعَطاء والمشاركة، لكنْ، حتّى العَطاء هنا مُقَيَّد. لففتُ وجعي بأوراقِ الصمت، فأعلنَ الرّجُلُ بأسَى: - آسِف لأنّي لا أملكُ لكِ حَلاً، فكُلّنا نجتمر في المِرجل ذاته. بلهفة سألتهُ: ماذا تَعْمَلُ؟ - أنَا؟ = نعَم أنتَ. كرضيع فقدَ ثديَي أُمّه ناحَ: حارس ليلي. خِلتـُهُ يمسحُ دمعةً بلَّلَتْ وجنتـَهُ. تابعَ بصرامة: - يجب أن أعودَ إلى النّوم كي لا أُطْرَدَ منَ العملِ ليلاً. إلى لقاء. بدأ فورًا نقيقُ الهاتف يعلنُ عن انقطاع المكالمة.ألحّت عليّ هواجسي بسؤال: "ترَى، هل عانى هذا الرّجُل يومًا من ملاحقة الشّرطي؟ هل مَلّ هو، أيضًا، صرخاته وشتائمهُ ولعنتهُ أنّنا أجساد متحرِّكة، دُمَى؟" سقطتْ سمَّاعةُ الهاتف من يدي. سقطتْ خيبةٌ ما داخل آبار أعماقي. هجرتُ أنينَ الهاتف، وأخذتُ بنزقٍ أبحثُ عن ذلك الشّرطي، عن عينيهِ الزّرقاوَين وشعره الأشقر. ألا يعاني ذلك الشّرطي هو، أيضًا، من الملل؟ ألا يخشى هو، أيضًا، التهديد بالطّرد من العمل؟ ألا يخاف شبحَ الجوع والبطالة؟ ألا يملّ تسجيلَ الغرامات للمارّة؟ ألا يملّ ملاحقة عيونهم وترقبّ خطواتهِم؟ ثمّ ما هو راتب هذا الشّرطي؟ أيكفيه أن يتنفس، ويَحلُم، ويُعلنُ بكبرياءٍ أنّه حيٌّ؟ ألا يُؤرقُ ساعاتِهِ الخوفُ من المجهول، ومِن فجر لا يجد فيه ما يُخْمِدُ فيه فحيحَ الجوع في أحشاء أطفاله؟ ألا يخاف غدر الزمان والمكان؟ أم أنَّهُ لا يُطْرَد لأنَّه هنا، في حيفا، ممنوع ترْك خطوات المسحوقين دون مُراقبة، ودون حصار الغرَامات الملعونة، وسياطِ الأسياد؟ وجدتـُهُ عَلَى الْرّصيفِ الآخَر؛ كانَ يتلوّى كقطٍّ جائِعٍ. ركضتُ نحوه. قد آن الأوان للغزالة أن تباغتَ الأسدَ. عندما تأكدتُ أنّهُ يراني، أخذتُ أجتاز الشارع خطوة. خطوة. قوانينـُهُ لا تروق لي ليسجّل لي غرامةً أخرى، ليُسجل أنّي ثائرة على ظِلّي. يكفيني فخرًا أن أكون قد تمكنتُ من التعبير عن موقفٍ ما ولو مرَّة منذ أدركتُ كوني أحيا في وطن مُغتصَب. أخذَ صوتُهُ يطاردني، وخطواتي تعلنُ ثورتها على قيوده: ممنوعٌ اجتياز الشّارع والضوء أحمر!
(1984)
==========================================
((آراء وتقييم))
Amal Kassis ردا على
الظروف القاهرة هي التي أدّت الى هذا الملل/البطالة/ حالة الاختناق/ فدفعت الإنسان القابع تحت الاحتلال للزاوية إلى أن انفجر التّحديّ.
ريتا عودة
* * *
قصة إعجازية الإبداع والأفكار والثورة والتحدي.. هذه أنت "ريتا"، ومن تراه غيرك يكون أو يجرؤ؟!
Ahmad M. Alastal /باحث وصحفي
* * *
بوركت قصتك الجميلة التي تشد القارئ باسلوبها المشوق!!
نظير شمالي/ شاعر فلسطيني، عكا Nazeer Shamali
========================================== المجموعة القصصيّة: أنا جنونك. http://ritaodeh.blogspot.com/2010/10/2009.html?m=1
#ريتا_عودة (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
الكاتب-ة لايسمح
بالتعليق على هذا
الموضوع
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
حزن غير عادي// قصة قصيرة جدًّا
-
الفِرَاق الرّجيم//ومضات
-
إلهي..إلهي..لماذا تركتني!/ ومضات
-
يونس الفلسطينيّ
-
العشقُ جعلني فَرَاشَة بينَ المفرداتِ أُرَفرفُ
-
اضاءة على -قصة حبّ مجوسيّة-
-
لستُ امرَأَةَ العزيز// ومضات
-
ترانسفير/ ق.ق.ج
-
مَنْ قالَ إنَّني شاعرة...؟!
-
ومضات قصصيّة
-
في اتِّحادِ الفَرائسِ ضِدَّ المُفتَرسِ...قُوَّة//ومضات
-
سآتِيــكَ مَلِكَةً// ومضات
-
سأخطفكَ من جحيمِكَ./ ومضات
-
اضاءة على ديوان: على كتفَيْنِ مِن تعب- الشاعر محمد دقّة
-
اضاءة على رواية: إلى أن يُزهر الصّبّار
-
مِن جوفِ الحُوتِ أكتبُ// ومضات
-
شَغَبُ الأسئلة// قصَّة قصيرة
-
لم أحْلُم بِنُجُومٍ تَسْجُد لِي//ومضات
-
(( أُحبُّكَ الى ما بعد بعد الحُلُم ))
-
أنا لا أكتب لكي أقاتل نيرون/ومضات
المزيد.....
-
العرض الأول لفيلم -Rust- بعد 3 سنوات من مقتل مديرة تصويره ها
...
-
معرض -الرياض تقرأ- بكل لغات العالم
-
فنانة روسية مقيمة في الإمارات تحقق إنجازات عالمية في الأوبرا
...
-
جنيف.. قطع أثرية من غزة في معرض فني
-
مسرحية -عن بعد..- وسؤال التجريب في المسرح المغربي
-
كاتبة هندية تشدد على أهمية جائزة -ليف تولستوي- الدولية للسلا
...
-
الملك الفرنسي يستنجد بالسلطان العثماني سليمان القانوني فما ا
...
-
بين الذاكرة والإرث.. إبداعات عربية في مهرجان الإسكندرية السي
...
-
شاهد: معرض الرياض الدولي للكتاب 2024
-
السفير الإيراني في دمشق: ثقافة سيد نصرالله هي ثقافة الجهاد و
...
المزيد.....
-
جماليات الكتابة المسرحية الموجهة للطفل مسرحية "سندريلا و ال
...
/ مفيدةبودهوس - ريما بلفريطس
-
المهاجـــر إلــى الــغــد السيد حافظ خمسون عاما من التجر
...
/ أحمد محمد الشريف
-
مختارات أنخيل غونزاليس مونييز الشعرية
/ أكد الجبوري
-
هندسة الشخصيات في رواية "وهمت به" للسيد حافظ
/ آيةسلي - نُسيبة بربيش لجنة المناقشة
-
توظيف التراث في مسرحيات السيد حافظ
/ وحيدة بلقفصي - إيمان عبد لاوي
-
مذكرات السيد حافظ الجزء الرابع بين عبقرية الإبداع وتهمي
...
/ د. ياسر جابر الجمال
-
الحبكة الفنية و الدرامية في المسرحية العربية " الخادمة وال
...
/ إيـــمـــان جــبــــــارى
-
ظروف استثنائية
/ عبد الباقي يوسف
-
تداخل الاجناس الأدبية في رواية قهوة سادة للكاتب السيد حافظ
/ غنية ولهي- - - سمية حملاوي
-
سيمياء بناء الشخصية في رواية ليالي دبي "شاي بالياسمين" لل
...
/ رانيا سحنون - بسمة زريق
المزيد.....
|