أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - ابحاث يسارية واشتراكية وشيوعية - عبدالرحمن مصطفى - المشروع السوفيتي وأسباب سقوطه















المزيد.....


المشروع السوفيتي وأسباب سقوطه


عبدالرحمن مصطفى

الحوار المتمدن-العدد: 7495 - 2023 / 1 / 18 - 04:44
المحور: ابحاث يسارية واشتراكية وشيوعية
    


لا يمكن إغفال أهمية السؤال عن طبيعة المشروع السوفيتي ؛ لأنه بواسطة حل هذه الإشكالية فقط يمكن اكتناه حقيقة المشروع السوفيتي والمسار الذي اتخذه وأسباب سقوطه ،هل كان المشروع مشروعاً أممياً اشتراكياً كما أراد ذلك فعلا أصحاب ومتبني المشروع (البلاشفة) أم كان مشروعاً قومياً محلياً انطلاقاً من ظروف روسيا الخاصة ومراحل تطورها واحتكاكها مع العالم الغربي ...أراد البلاشفة أن تكون ثورة أكتوبر فاتحة للثورات الاشتراكية خصوصا في العالم الغربي ، وكانوا يعولون على وعي الطبقات العاملة في الدول الغربية ليس فقط لضمان انتصار الاشتراكية على الرأسمالية بل لضمان استمرار وجودهم ،لكن المشروع السوفيتي لم يتواءم مع المعطيات الجديدة في الدول الغربية ،ثورة أكتوبر كانت ثورة قومية برداء أممي ،كان المشروع السوفيتي امتداد لمقدمات تاريخية مهدت له ،فانفتاح روسيا على الغرب في عهد بطرس الأكبر في نهاية القرن السابع عشر وإلغاء القنانة في عام 1860 في عهد ألكسندر الثاني وما نتج عنه من صراع بين الإقطاعيين القدماء مع الفلاحين في ظل المعطيات القانونية الضبابية ...انطلاقا من واقع روسيا في تلك الفترة يمكن فهم طبيعة المشروع السوفيتي وأسباب سقوطه ،الدعاية الليبرالية الساذجة تصور أن المشروع السوفيتي هو نتاج لتطبيق نصوص كارل ماركس وفريدريك انجلز على روسيا ، وكأن الثورات تصنع بنزوات المفكرين ورغبات الزعماء السياسيين وهذا التصور لايبارح النظرة المثالية التي تنظر الى الصراع المجتمعي على أنه صراع أفكار وليس صراع مصالح بين جهات متناقضة ..أراد البلاشفة أن تكون الثورة ثورة اشتراكية وعلى مستوى أممي لكن حركة التاريخ لم تواكب هذه الرغبات ..بل كان أن مهد المشروع البلشفي لنهضة روسيا الاقتصادية واستقلالها وتلبية حاجتها بما يتلاءم مع متطلبات وضعها الجيوسياسي ..تماما كما سخرت حركة التاريخ الثورة الفرنسية الأولى وبالرغم من راديكالية زعمائها (اليعاقبة) الى انتصار النموذج البرجوازي في فرنسا ولو أن اليعاقبة أرادوا شيئأ أكثر من ذلك..

لاتختلف نظرة التيار الليبرالي هذا (وهو لايشمل كل الليبراليين ،فمنهم من يمتلك رؤية تستند الى الواقع الاجتماعي ولو كانت مخالفة للمشروع البلشفي) عن نظرة المناشفة الماركسيين لثورة أكتوبر من ناحية الأسس التي تُبنى عليها هذه النظرة ،فالمناشفة عارضوا ثورة أكتوبر على اعتبار أنها تحريف لنصوص ماركس وفريدريك انجلز ؛ فكلا النظرتين تنطلقان من رؤية النصوص كمحدد لحركة التاريخ ،فالنصوص هي التي تتحكم بالواقع وليس العكس ...لايمكن فهم الثورات باعتبارها حدث عقلاني ونتاج لفكرة أحد العباقرة السياسيين أو الفكريين ،الفيلسوف اللاهوتي الروسي نيقولا بيرديائيف وصف الثورة بأنها حدث غير عقلاني من ناحيتين؛انطلاقا من الواقع غير المعقول ، فالظلم الاجتماعي والاضطهاد يولد الثورة ، وكذلك من ناحية كون الثورة رد فعل غير عقلاني على الأحداث (ليس هذا ادانة للثورة بحد ذاتها ، بل المعنى أن الثورة تفجر روتين ورتم سياسي واجتماعي معين لتخليق واقع جديد) ..الثورة تبدأ عفوية وهذا تعبير عن لا عقلانيتها (أي أنها ليست نتاج لإرادة مقصودة) لكن فيما بعد يتم عقلنتها بما يتلاءم مع الواقع الاجتماعي أو مع مصالح الجهات والأحزاب المُعقلنة للثورة ..

وانطلاقا من هذا فقط يمكن فهم المشروع السوفيتي ،والمفكرين الروس لاينظرون الى تيار البلاشفة باعتباره تيار ماركسي صميم أرثوذكسي (على عكس نظرة الليبراليين) ، ربط المفكرين الروس كنيقولا برديائيف وسيرجي قرة تيار البلاشفة بالتيار الشعبوي القومي الروسي الذي اعتبر أن التطور الرأسمالي في روسيا مستحيل ،استنادا الى طبيعة النظام الرأسمالي الامبريالية ، وعلى هذا الأساس عارض بليخانوف لينين ، فهو لم ينظر له كماركسي أرثوذكسي بل على اعتباره قومي شعبوي يوظف نصوص ماركس وانجلز في غير محلها وعلى واقع مختلف تماما ..كذلك فهم الفيلسوف الأيطالي غرامشي هذه الجزئية فهو من قال بأن ثورة أكتوبر هي ثورة ضد كتاب رأس المال!

لهذا لايمكن فهم المشروع السوفيتي إلا باعتباره مشروع قومي استخدم الايدولوجيا الماركسية كجهاز نظري لتعبئة الجماهير كأي ثورة ، وعلى هذا يقول الفيلسوف نيقولا برديائف في كتابه (أصل الشيوعية الروسية) بأن أي ثورة بحاجة الى اسطورة (نظرة طوباوية) لتعزيز ايمان الجماهير بها وأنه بدون هذا ستفشل الثورة ولن تخلق رابطة وجدانية بين الجماهير والحزب الموجه للثورة ..فيسهل بذلك اختراقها وتشتيتها وتفرقتها ، وعلى هذا الأساس يمكن فهم أسباب نجاح الثورة الروسية والصينية والايرانية وفشل الانتفاضات العربية ..فالثوراث الشيوعية في روسيا والصين والثورة الخمينية في ايران كانت تقاد وتوجه من جهة واحدة ومن شخصيات قيادية تتمتع بكاريزما قوية بما تمتلكه من قدرة على جذب الجماهير وسلب أفئدتها ومخاطبتها بأوجاعها وآلامها بالاستناد الى فلسفة ايمانية محددة..بينما الانتفاضات العربية لم تتجاوز المرحلة العفوية (اللاعقلانية) وبذلك سهل تشتيتها وتفتيتها وتوجيهها بما يخدم أطراف متناقضة ومتصارعة فآلت الى ما آلت اليه من ضياع وخراب للدول التي ظهرت فيها هذه الانتفاضات، أقول هذا وبصرف النظر عن التقييم الأخلاقي للثورات الشيوعية أو الثورة الخمينية في ايران والانتفاضات العربية ..

وعلى هذا الأساس يمكن فهم واقع روسيا في عام 1917 ،فروسيا كانت في مفترق طرق ،فاستمرارها في الحرب العبثية مع ألمانيا والنمسا كان سيؤدي الى هلاكها سواء كنتيجة مباشرة لمعطيات الحرب (كانت ألمانيا متفوقة على روسيا) أو اذا أنقذ الحلفاء روسيا بتغيير قواعد الصراع وبما يتوافق مع مصالح الدول الغربية التي ستعزز بذلك قبضتها وهيمنتها على روسيا واقتصادها ؛ وما سينتج عن ذلك من تعميق لتبعية الاقتصاد الروسي واستمرار تخلفه وربطه بالمتروبل الغربي ...وفعليا كانت ثورة أكتوبر ضرورة لتجاوز التفتت وحالة الضياع التي واجهها الشعب الروسي بعد الحرب العالمية الأولى واستمرار عبث الحكومة المؤقتة بعد ذلك ..وهذا ما اعترف به الفيلسوف الروسي برديائيف المناوئ للبلاشفة وكذلك المؤرخ الانجليزي أريك هوبازيوم ، وفي الواقع لم يكن هناك ثورة بمعنى انقلاب وتغيير مجتمعي واضح المعالم ..بل الأمور كانت تتجه لسيطرة السوفيتات ، فتمرد الجنود كان عفوياً ومع مرور الوقت كان يشكل ذلك تحديا خطيرا لوحدة روسيا وتماسك المجتمع ، وكان هناك انشقاق للفيالق القومية في الامبراطورية القيصرية (الأوكرانية والقوقازية) عن الجيش الأم للإمبراطورية في عهد الحكومة المؤقتة فضلا عن ظهور بوادر لانفصال سيبيريا عن روسيا بتشكيل فيلق عسكري مستقل وادارة مدنية مستقلة عن الحكومة المركزية (كتاب الاتحاد السوفيتي من النشوء الى السقوط لسيرجي قره) لهذا الحزب الذي يلبي مطالب الجماهير هو الحزب الذي سيسود سياسيا ،لهذا لامعنى للتوصيفات التي تطلقها بعض الأبواق الليبرالية على اعتبار أن ثورة البلاشفة كانت انقلابا ..فالثورات لا توجه بالمبادئ المجردة والشعارات البراقة كشعارات حكم القانون أو الدستور والديمقراطية ، فالشعوب غير معنية بهذه المطالب مباشرة ؛ إلا على اعتبارها وسائل لتحقق غايات معينة ، أما لو سار الحكم الانتقالي بما يخالف مطالب الشعب المباشرة فالنتيجة ستكون حتما سقوطه وبهذا كان استمرار الحكومة الانتقالية بعد ثورة فبراير بالحرب وعدم حل مشكلة القوميات ومشكلة الأرض سببا لتنحيتها وتخلي الناس عنها ..وقد تبين ذيلية هذه الحكومة للغرب خصوصا بعد تشكيل الدول الاسعمارية لتحالف من 14 دولة وغزوها لروسيا ودعمها للأحزاب التي كانت مشاركة بالحكم الانتقالي فضلا عن دعمها جنرالات دمويين كدينيكين الذي كان معبئاً بمعادة السامية فقتل بذلك مئات الالاف من اليهود!

وعلى أساس هذا الفهم لثورة اكتوبر يمكن فهم خواء الدعوات التروتسكية للثورة العالمية الاشتراكية ،فالتروتسكية وان كانت تملك نظرة عميقة (الى حد ما) لواقع الاتحاد السوفيتي ومراحل تطوره ..الا انها لم تفهم طبيعة هذا المشروع ،وتنطلق من رؤية ذاتوية على اعتبار أن الثورات تخلق بإرادة الأحزاب وليس بفعل الظروف الموضوعية المنتجة لإنفجار الثورات فضلا على فشل تجاوزها لمنظور الصراع المجرد بين البروليتاريا والبرجوازية ،فالثورات الراديكالية أصبحت صعبة أو شبه مستحيلة في هذا الزمن (على الأقل في عصرنا الحالي) ،لكن الثورات المطلبية والتدريجية والمرحلية هي الأساس (والاشتراكية تبنى تدرجا) ..وفعليا ليست الطبقات العاملة من تقود هذه الثورات بقدر ما يتطلب ذلك من وجود جبهة قيادية واعية قادرة على اللعب على التناقضات الموجودة دون التفريط بالمبدأ والهدف الأساسي وثورات زماننا غالبا ما تنتجها الطبقات الوسطى (ليس هذا مديحا للطبقة الوسطى فهذه الطبقة قد تكون مترددة وجبانة وانتهازية في بعض الأحيان وهذا ما يحدث في الواقع لكن في نفس الوقت يمكن لشرائح منها أن تنتهج منهجا معاكسا ومخالفا لنهج هذه الطبقة)..برديائيف على مثاليته فهم طبيعة الثورة الروسية في كتابه (أصل الشيوعية الروسية) أفضل بكثير من معظم الماركسيين ، فهو حلل الثورة انطلاقا واقع روسيا بعد انفتاحها على الغرب في عهد بطرس الأكبر والصراع الذي تشكل بعد ذلك بين الغربويين والسلافيين ووعي الانتلجنستيا وخصوصا الأدباء الروس (ديستوفسكي وتولستوي وغوغول) فالأدب الروسي في القرن التاسع عشر كان أدبا واقعيا ومناوئا للرأسمالية التي ظهرت في روسيا بعد عام 1860 ،والنخبة المثقفة التي كانت في معظمها أرستقراطية تعاطفت مع الجماهير الروسية ،وبرديائيف ينطلق من تصور شوفيني فهو يرى أن الشعب الروسي بأرثوذكسيته يحمل المشروع المسياوي للبشرية ،وهو مناهض للبلاشفة ليس لاشتراكيتهم أو لنظامهم الاجتماعي ، بل لانغلاقهم الفكري ومعارضتهم لتديين الجماهير التي يرى فيها وسيلة لتحقيق الشيوعية ، فالإنسان يفعل الخير عندما يتجاوز عالمه المحدود ويكون على صلة بالأبدية وعالم الروح الخ..بصرف النظر عن نظرة برديائيف اللاهوتية الا أنه فهم طبيعة المشروع السوفيتي باعتباره مشروعا قوميا بصورة أفضل من كثير من الماركسيين التروتسكيين والستالينيين ..وكذلك فعل المفكر الروسي سيرغي قره في كتابه (الاتحاد السوفيتي من النشوء الى السقوط) فهو ينظر للمشروع البلشفي كامتداد لمشروع المشاعة الروسية التي تطورت واتخذت انتشارا أكثر اتساعا بعد اصلاحات عام 1860 ..التي تركت الفلاحين بمعزل عن الاستفادة من هذه الاصلاحات وعمقت اصلاحات ستولبين الليبرالية بعد ثورة 1905 المأساة بعد أن عزز صلاحيات الطبقة الإقطاعية البرجوازية وفكك نظام المشاعة في القرى ..فالثورة الشيوعية هي ثورة فلاحية بالدرجة الأولى وليست ثورة بروليتاريا ،بل حتى أن طبقة البروليتاريا في روسيا عام 1917 لم تكن طبقة مستقرة في المدن بل كانت في معظمها متنقلة بين العمل الموسمي الريفي والعمل في المصانع في المدن الكبرى ..

هذا بالنسبة لطبيعة المشروع السوفيتي ، أما فيما يتعلق بأسباب انهيار هذا المشروع فقد قيل كثيرا عن ذلك وهناك وجهات نظر متعارضة حول أسباب الانهيار ،فبعض الليبراليين ينظرون أن ذلك دليل على فشل نظام الملكية العامة وهو تصور ساذج تكذبه أي مقارنة بسيطة بين حال الاقتصاد الروسي في عهد برجنيف (عصر الجمود) وفترة حكم يلتسن التي شهدت تدهورا مخيفا في مستويات المعيشة والمستويات الكلية للاقتصاد (الناتج المحلي ،البطالة ..معدلات النمو الخ..) فالذي فشل اقتصاديا وبصورة فاقعة هو الرأسمالية ولازالت روسيا ترزف تحت وقع مأساة التسعينيات فاقتصادها هو اقتصاد ريعي بالدرجة الأولى وحجم الناتج المحلي لايتجاوز حجم ناتج مدينة النيويورك! في أواخر الزمن السوفيتي لم يكن هناك كارثة اقتصادية واجتماعية كما كان عليه الحال في ظل الرأسمالية في التسعينيات ، كان هناك بطء في النمو وضعف في الانتاجية أي ركود نسبي ..الأمر مشابه لو قارنا بين مستويات نمو الاقتصاد الأمريكي في الفترة (1950 الى 1980 ) وبين 1980 الى وقتنا هذا ..ففي الفترة الثانية نلحظ ركودا نسبيا وارتفاع في معدلات البطالة (في النظام السوفيتي لم يكن هناك بطالة تذكر مقارنة بأمريكا أو أي دولة رأسمالية أخرى) ونقص في معدلات النمو ..


الستالينيون يعتبرون أن انقلاب خروتشوف كان عاملا في تفكيك الاشتراكية في الاتحاد السوفيتي ، وهذه نظرة سطحية فخروتشوف لم يكن له أن يفعل بغير ما قام به بعد أهوال الستالينية خصوصا بعد ضرب المشروع السوفيتي في أساسه بفعل سياسة التجميع القسري للفلاحين ،وهذا التصور ينطلق من فكرة أن فشل المشروع السوفيتي هو نتاج للصدفة أو لنزوة زعيم سياسي ما (خروتشوف في هذه الحالة) ،لا شك أن خطوة خروتشوف مثلت تصدعا في النظام السوفيتي لكن لا يمكن لوم خورتشوف على ذلك بقدر ما يستحق ستالين اللوم ..فستالين قلب المعادلة التي كانت قائمة في المشروع اللينيني حول التعامل المتزن بين مشروع كهربة روسيا وسلطة السوفيتات لصالح الأولى ..فخلق بذلك نهضة اقتصادية كبيرة على حساب العلاقات الاجتماعية والواقع الطبقي في المجتمع فعمق بذلك من مركزية الدولة وبقرطتها على حساب اشاعة الديمقراطية في مكان العمل ..أراد خروتشوف أن ينتقل من الاقتصاد المركزي الى الاقتصاد اللامركزي (مع الملكية العامة) لكنه فشل بذلك وأشاع الفوضى في الاقتصاد عوضا عن اقامة نظام ديمقراطي اقتصادي ،جمد برجنيف مشروع الإصلاح الخروتشوفي وأعاد هيبة النظام الستاليني الذي تزعزع بفعل اصلاحات خروتشوف لكن ذلك كان على حساب مواجهة مشكلة الاقتصاد السوفيتي فاقتصاد الحرب الذي خلقه ستالين لم يعد قادرا على التحرك بديناميكية لمنافسة الاقتصاد الغربي ،غورباتشوف أعاد اصلاحات خروتشوف وبحدة أكبر وفهم أن خلق نظام اشتراكي ديمقراطي قائم على لامركزية الانتاج مستحيل بدون وقف تعبئة الاقتصاد للحرب وتوجيهه لأهداف كلية محددة ،فأراد أن ينفتح على الغرب وهو ما لم يفعله خروتشوف وقدم تنازلات كبيرة للغرب فأراد مثلا وبسذاجة منقطعة النظير أن يفكك السلاح النووي السوفيتي ومن طرف واحد! طبعا الغرب لم يتخلى يوما عن امبرياليته واستغل سياسات غورباتشوف الفاشلة لمحاصرة غورباتشوف نفسه وفي نفس الوقت استغلت بعض الجهات في طبقة النومنكلاتورا التي تم تخليقها بفعل النموذج الستاليني في الانتاج (دون أن يكون ذلك مقصودا بالضرورة كما يتصور أصحاب نظرية المؤامرة) سياسة الغلاسنوست وصعدت تدريجا كحالة يلتسن وانقلبت على غورباتشوف واصلاحاته بقلبها الى غير ما هدفت اليه وكان ذلك نتيجة لسياسة غورباتشوف الساذجة في التعامل مع طبقة النومنكلاتورا ومع الغرب في نفس الوقت ..هذا كتحليل عام لمسار الأحداث والحقب التي مر بها المشروع السوفيتي ، أما الإجابة على سؤال لماذا لم تنافح الجماهير عن هذا المشروع ؛ فيمكن عزو ذلك الى النموذج الاستبدادي للنظام السوفيتي والذي حرم الجماهير من المشاركة الفاعلة في السياسة وتأسيس الأحزاب وبذلك خلق النظام السوفيتي مجتمعا سلبيا ..طبعا لايمكن أن تحل هذه المشكلة بقرار ثوري فجائي كما أراد غورباتشوف أو ماو تسي تونغ في ثورته الثقافية (فخلق الأول فوضى سياسية وسبب تشظيا في النظام السياسي وانتقالا فجائيا من مبادئ وأهداف الاصلاح وبسرعات صاروخية مما أدى الى انهيار النظام السياسي) والثاني خلق فوضى مجتمعية فبدلا من أن تثقف ثورة ماو الجماهير ، فجرت هذه الثورة غرائز الجماهير ودفعتها للتناطح في فوضى مخيفة ضربت مدماكا في أساس النظام الشيوعي الصيني ..وتجاوزت الصين هذه المحنة وتجاوزت ما آلت اليه الأوضاع في روسيا بعد غورباتشوف بأن حافظت على سيطرة القطاع العام على الاقتصاد في ظل اقتصاد مختلط ووحدة النظام السياسي طبعا مع تناقضات جديدة أفرزتها الاصلاحات الصينية ..في حالة الاتحاد السوفيتي كان يمكن الذهاب في الخيار الصيني لكن ليس بنفس درجته والمدى الذي اتخذه ..فالاتحاد السوفيتي لم يكن الحال فيه كما كان الوضع في الصين بعد الثورة الثقافية ..

وبالنسبة للسبب الثاني لعدم مقاومة الجماهير لانقلاب يلتسن ..فهو ببساطة أن الجماهير كانت في حالة حيرة ، فالنظام السوفيتي ضمن تلبية الناس للاحتياجات الأساسية وبكفاءة عالية وصعد بالطبقات الفقيرة في العهد القيصري الى درجات ومستويات أفضل، لكنه لم يضمن تحقيق اشباع روحي أو رمزي (كما دعاه سيرغي قره) ..فالناس بحاجة الى اشباع حاجاتها الكمالية بالترفيه ، النظام السوفيتي وفر حياة متوسطة للناس ،لكن الشعوب تتطلع الى المزيد والى تجاوز مستواها الاجتماعي ..بطبيعة الحال هذه طبيعة بشرية لكن لا يعني ذلك بتاتا ما يتوافق مع ادعاء الرأسماليين برغبة الناس للإثراء ولو على حساب الآخرين ..بل مرد ذلك أن الإنسان يرغب في مستوى حياة مناسب لكن مع حرية تصرف أكبر ومع تنويع في حاجاته ..يتطلب هذا وجود سوق ولامركزية في الاقتصاد لكن السوق لايرادف الراسمالية ،فالرأسمالية تستخدم السوق كوسيلة لمراكمة الأرباح ..بينما السوق موجود قبل الرأسمالية وبقرون طويلة ..السوق هو تعبير عن لامركزية الانتاج والتوزيع ..والاشتراكية وبفكرة الغاء الدولة التي نادى بها ماركس لايمكن أن تكون إلا لامركزية (في مراحلها الأولى اقامة نظام توزيع على اساس اختلاف القدرات ،يتطلب ذلك وجود سوق للتبادل وليس لمراكمة الأرباح كما هو الحال في ظل النظام الرأسمالي)..من هذا صدقت الجماهير دعوات غورباتشوف الاصلاحية ووقفت موقف المتفرج من تحركات يلتسن طمعا في الحصول على حرية أكبر في اقتناء البضائع واشباع حاجاتها الكمالية ..لكننها بذلك سقطت في فخ الرأسمالية التي أرجعتها الى مستويات مخيفة من العوز والفقر ..وهذا تفسير حنين الروس للنظام السوفيتي ولفترة برجنيف أكثر من رأسماليتها الحالية !

الخلاصة ..لم يكن انهيار المشروع السوفيتي حتميا ،بل كان يمكن تجاوز ذلك ،وعلى عكس رؤية المناشفة التي تصورت أن انهيار المشروع البلشفي هو انهيار حتمي لأنه انطلق متجاوزا لمرحلة التطور الرأسمالي ،حقق النظام السوفيتي انجازات هائلة في مجال تطوير الاقتصاد ورفع معدلات نموه ورفع المستوى المعيشي للناس ومجابهة المشروع النازي وهزيمته (على نقيض ذلك تعرضت روسيا القيصرية وروسيا كيرنسكي لهزيمة نكراء في حربها مع ألمانيا ) ،فضلا عن تناقضات الرؤية المنشفية ؛ فهل الشروع بتطوير نموذج رأسمالي في روسيا يبرر ما كان سينتج عن ذلك من استعباد للفلاحين الذين سيطردون من قراهم للعمل وبظروف مأساوية في المصانع لتخليق طبقة البروليتاريا التي حلم بها المناشفة في روسيا! وهذا التناقض الأخلاقي أكده الفيلسوف برديائيف المعادي للمشروع البلشفي! ولماذا لم تثر الطبقات العاملة الأوروبية بعد التطور الاقتصادي ! فإلى أي مدة ممكن أن تقبل الثورة الاشتراكية ..

لكن بلا شك كانت ظروف روسيا وما عانته من تخلف وحصار غربي امبريالي عاملا مهما في تعميق تناقضات المشروع السوفيتي التي أدت الى انهياره في النهاية ، لكن مع هذا لم يكن الانهيار حتمي وكان يمكن تجاوزه بتوفر ارادة صلبة وتخطيط علمي وعقلاني ..



#عبدالرحمن_مصطفى (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- أزمة الرأسمالية النيوليبرلية
- فالح عبدالجبار ومابعد ماركس
- التنوير الليبرالي بين الوهم والواقع
- الاشتراكية والسوق ،هل يمكن التوفيق بينهما ؟
- مساهمة روزا لوكسمبورج في الاقتصاد السياسي الماركسي (كتاب ترا ...
- حول أزمة التضخم الحالية وتناقضات الرأسمالية
- ما هي طبيعة النظام الاقتصادي في الصين ؟
- خرافة جائزة نوبل في الاقتصاد
- بين كينز وماركس نقاط الإتفاق والإختلاف بينهما
- الاشتراكية ورأسمالية الدولة
- تشويه توماس بيكتي لأفكار كارل ماركس
- مناقشة كتاب رأس المال في القرن الواحد والعشرين لتوماس بيكتي.
- النظرية العامة لكينز رؤية نقدية 2
- النظرية العامة لكينز رؤية نقدية
- التفسيرات المعاصرة للوعي
- (((علم))) الإقتصاد المعاصر بين الزيف والواقع4
- (((علم))) الإقتصاد المعاصر بين الزيف والواقع 3
- (((علم))) الإقتصاد المعاصر بين الزيف والواقع 2
- (((علم))) الإقتصاد المعاصر بين الزيف والواقع
- وحدة الوجود


المزيد.....




- شاهد كيف رد ساندرز على مزاعم نتنياهو حول مظاهرات جامعات أمري ...
- نشرة صدى العمال تعقد ندوة لمناقشة أوضاع الطبقة العاملة في ال ...
- مشادات بين متظاهرين في جامعة كاليفورنيا خلال الاحتجاجات المن ...
- إصدار جديد لجريدة المناضل-ة: تحرر النساء والثورة الاشتراكية ...
- ??کخراوکردن و ي?کگرتووکردني خ?باتي چيناي?تي کر?کاران ئ?رکي ه ...
- عاش الأول من أيار يوم التضامن الطبقي للعمال
- اندلاع اشتباكات بين الشرطة الإسرائيلية ومتظاهرين في تل أبيب ...
- الولايات المتحدة: اعتقال مئة من المتظاهرين المؤيدين للفلسطين ...
- اعتقال الشرطة الأمريكية متظاهرين في جامعة كولومبيا يؤجج الاح ...
- الحزب الشيوعي العراقي: معا لتمكين الطبقة العاملة من أداء دو ...


المزيد.....

- مساهمة في تقييم التجربة الاشتراكية السوفياتية (حوصلة كتاب صا ... / جيلاني الهمامي
- كراسات شيوعية:الفاشية منذ النشأة إلى تأسيس النظام (الذراع ال ... / عبدالرؤوف بطيخ
- lمواجهة الشيوعيّين الحقيقيّين عالميّا الإنقلاب التحريفي و إع ... / شادي الشماوي
- حول الجوهري والثانوي في دراسة الدين / مالك ابوعليا
- بيان الأممية الشيوعية الثورية / التيار الماركسي الأممي
- بمناسبة الذكرى المئوية لوفاة ف. آي. لينين (النص كاملا) / مرتضى العبيدي
- من خيمة النزوح ، حديث حول مفهوم الأخلاق وتطوره الفلسفي والتا ... / غازي الصوراني
- لينين، الشيوعية وتحرر النساء / ماري فريدريكسن
- تحديد اضطهادي: النيوليبرالية ومطالب الضحية / تشي-تشي شي
- مقالات بوب أفاكيان 2022 – الجزء الأوّل من كتاب : مقالات بوب ... / شادي الشماوي


المزيد.....

الصفحة الرئيسية - ابحاث يسارية واشتراكية وشيوعية - عبدالرحمن مصطفى - المشروع السوفيتي وأسباب سقوطه