أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - ابحاث يسارية واشتراكية وشيوعية - عبدالرحمن مصطفى - الاشتراكية ورأسمالية الدولة















المزيد.....


الاشتراكية ورأسمالية الدولة


عبدالرحمن مصطفى

الحوار المتمدن-العدد: 6923 - 2021 / 6 / 9 - 21:27
المحور: ابحاث يسارية واشتراكية وشيوعية
    


ليست الاشتراكية وصفة اقتصادية صرفة لحل مشكلات النمو والتراكم ،الاشتراكية كحركة فكرية وثورية هي نتاج للقهر والاستغلال الطبقي الذي ترافق مع النظام الرأسمالي منذ نشوئه وبزوغه وسطوته على المجتمع الغربي أولاً ثم بقية المجتمعات حول العالم ؛لذا فالاشتراكية هي مشروع إنساني بالدرجة الأولى ،ظهرت كنقيض وخلاص لكل المآسي والعذابات التي نتجت من سطوة العلاقات السلعية -الرأسمالية على المجتمع .
الاشتراكية هي مشروع ديمقراطي ليس فقط على المستوى السياسي بل على مستوى علاقات الإنتاج "المؤسسة والمصنع والمزرعة" إن الاشتراكية هي صنو للديمقراطية المباشرة التي تتجاوز الشكل الطبقي للمؤسسات والدولة ،وبطبيعة الحال ليس هناك دولة في النظام الاشتراكي -الشيوعي،فالدولة كجهاز طبقي ظهرت مع بروز وتطور الملكية الخاصة كحارس لهذه الملكية أولاً وجهاز قمعي موجه ضد الأعداء الخارجيين،لهذا لم تكن التجربة السوفيتية أو الصينية أو تجارب أوروبا الشرقية تجارب اشتراكية ،بل إن سيادة العلاقات السلعية وسيطرة الدولة على فائض القيمة هي النقيض للنظام الاشتراكي ،في الاشتراكية تنتفي كل العلاقات الطبقية وفي التجربة السوفيتية والصينية كانت العلاقات الطبقية حاضرة وبقوة بين جهاز الدولة والشعب ،وقد يقال إن الدولة السوفيتية كانت دولة عمالية "ديكتاتورية البروليتاريا"كتمهيد للمجتمع الاشتراكي فيما بعد،لكن في الحقيقة هذا مخالف لما شهدته التجربة السوفيتية فعلاً ،فالدولة في العهد الستاليني استحوذت على فوائض العمل الزراعي واستخدمته لأغراض النمو والتراكم وتطوير القدرة الدفاعية ،بل قبل ذلك في الفترة اللينينية سيطرت الدولة أو الجهاز البيروقراطي الناشئ آنذاك على فائض العمل الزراعي فيما عُرف بشيوعية الحرب ،وقد ذكر لينين بصورة واضحة أن الدولة السوفيتية هي دولة عمالية بتشويه بيروقراطي (في عهده فيما بعد تحولت كلياً إلى دولة بيروقراطية) .
الاشتراكية حاضرة بشكل أو بآخر في العديد من المؤسسات يمكن إيراد بعض الأمثلة في هذا الشأن؛ مؤسسة Mondragon مثلاً وهي سابع أكبر مؤسسة في اسبانيا والتي تأسست عام 1956 في إقليم الباسك على يد قس كاثوليكي يدعى "خوسيه ماريه" هذه المؤسسة توظف حاليا أكثر من 100 ألف موظف حول العالم وتملك أكثر من 250 شركة ومنظمة ،في هذه المؤسسة تُتخذ القرارات ديمقراطياً ودون أي تفاوت يذكر في أحقية التصويت ويتم التصويت على جميع نشاطات الشركة وعلى نسبة الأجور وخطط الشركة المستقبلية إلخ ونسبة التفاوت في الأجور 1-5 بالمتوسط ..ومثال آخر قريب نوعا ما هو شركة هواوي في الصين حيث أن حملة الأسهم هم من عمال الشركة حصراً ويمنع تداول الأسهم مع مساهمين آخرين خارج نطاق الشركة ومؤسس الشركة لايملك إلا 1% من أسهم الشركة وللعمال أو الموظفين حق التصويت واختيار المجلس التمثيلي لهم بالشركة ،وبطبيعة الحال هناك جوانب ناقصة في هذه المؤسسات والتجارب من ناحية وجود هرمية وتراتبية خصوصاً في حالة شركة هواوي فضلاً عن أن هذه التجارب تبقى مقيدة في ظل سيادة العلاقات السلعية -الراسمالية ،لكن الفكرة هنا أن الاشتراكية ليست خيال ويمكن تحقيقها وسيادة العلاقات التعاونية غير الهرمية يمكن تطبيقها على أرض الواقع وهي موجودة بشكل أو بآخر على أرض الواقع .

إن سيادة النمط الهرمي داخل المؤسسة يناقض وبشكل صريح فكرة الديمقراطية ،والديمقراطية ليست نظاما سياسيا فقط ،بل إن غيابها على مستوى علاقات الإنتاج يجعل هذا الشكل السياسي هشاً وعرضة للهيمنة والسيطرة الطبقية ،فمن المثير للسخرية مثلاً أن الانتخابات الأمريكية تمول من رجال أعمال بالدرجة الأولى ،وبالطبع لن يعارض الفائز في هذه الانتخابات هيمنة المؤسسات الإحتكارية في المشهد الأمريكي ،بل في بعض الحالات كان هناك علاقات فساد مشبوهة بين المرشح الرئاسي ورجال الأعمال كما حدث في فضيحة إنرون Enron في (فيما عُرف أنذاك بفقاعة الانترنت) 2001 حيث مول القائمين على هذه الشركة حملة بوش وقبله كلينتون بملايين الدولارات لقاء غض النظر عن أنشطة الشركة ومنع الرقابة على الأسعار في سوق الكهرباء وإعطاءها حصص أكبر في سوق الكهرباء حيث كانت تستحوذ هذه الشركة على 20% من قطاع الكهرباء في امريكا وأوروبا وجورج بوش (الابن) استحوذ على أسهم وحصص كبيرة في شركات الطاقة خصوصاً شركة هاركن التي خسرت وأفلست .

إن سيادة العلاقات التعاونية الاشتراكية هي ضرورة وبالأخص في هذا الوقت حيث يستحوذ قلة على معظم الثروات البشرية وفي تقرير أوكسفام 2017 نجد أن 8 أشخاص يستحوذون على أكثر من نصف ثروة البشرية !! وفي كتاب توماس بيكتي رأس المال القرن الواحد والعشرين نجد أن أغنى 10 % من المجتمع الأمريكي يستحوذون على أكثر من 90 % من الأصول فيما تملك الأغلبية (90 %) الباقية على أقل من 10 % ،بل إن أغنى 1 % يملكون من الأصول أكبر مما تملكه اغلبية ال 90 % ! واستحوذ أغنى 10 % من المجتمع الأمريكي على أكثر من 80% من النمو خلال فترة الثمانينيات وحتى العقد الثاني من القرن الحالي الأمر ذاته موجود في الدول الأوروبية واليابان ومعظم دول الجنوب ،في ظل هذا التفاوت المهول في امتلاك الأصول والثروات هل من العقلانية التحدث عن ديمقراطية حقيقية في دول العالم الأول !

إن الحديث عن فشل الاشتراكية هو كلام سطحي مضلل ،لأن الاشتراكية لم تطبق كنظام حتى الآن ،وما كان موجوداً في دول الاتحاد السوفيتي أو اوربا الشرقية هو مرحلة انتقالية إلى الاشتراكية هكذا يمكن وصف هذه المرحلة في أفضل الأحوال ،بينما في الواقع ما كان سائداً هو نظام بيروقراطي طبقي يتنافى كلياً مع الفكرة الاشتراكية ،ان سيادة هذا النظام البيروقراطي في الحالة السوفيتية مثلاً والتي جرت معها باقي الدول الأوربية والآسيوية هي نتاج لأزمة المجتمع الروسي آنذاك ،لم يكن المجتمع الروسي هو الحالة الأمثل لتطبيق النظام الاشتراكي ،فالمجتمع الروسي كان مجتمعاً متخلفاً تسوده غالبية فلاحية (قرابة 80 %) ،وان ماركس وإنجلز عندما تصورا غلبة النظام الاشتراكي افترضا مسبقاً تطور قوى الإنتاج وهذا ما لم يكن موجوداً في الجمهوريات السوفيتية ،إن ديكتاتورية البروليتاريا ليست مرادف للديكتاتورية السياسية كما يتصور بصورة ساذجة ،بل هي تفترض سيطرة الغالبية العمالية على مفاصل الدولة ،فالدولة هي ملك للغالبية البروليتارية كنقيض للنمط السائد في ظل علاقات الانتاج الرأسمالية حيث تكون الدولة جهازا مساعدا لطبقة الأثرياء فيما ترزح الغالبية تحت نير القهر والإستغلال .كانت ثورة شباط1917 علامة على تأزم المجتمع الروسي والمصير الأسود الذي رسمته اقلية من الارستقراطيين والبرجوازيين للمجتمع ،فقد ورطت هذه الأقلية الغالبية الساحقة من فلاحين وعمال في حرب عبثية مع ألمانيا والنمسا ،فكانت انتفاضة الجنود والفلاحين ضد النظام القيصري ،وإن العجز الذي اتسمت به حكومة كيرنسكي الانتقالية ولد الفرص لظهور ثورة أخرى تمهد لنظام جديد يسيطر عليه الغالبية من فلاحين وعمال ،إن هذه الحكومة استمرت في مشاركتها العبثية في الحرب وما نجم عنه من خسائر ومآسي جديدة بل وردات فعل كانت ستعيد عقارب الساعة الى الخلف الى ماقبل ثورة شباط 1917 كما حدث مع حركة كورنيلوف (الجنرال العسكري) الذي أراد إسقاط الحكومة الإنتقالية وتصدى له البلاشفة على الرغم من الاضطهاد الذي تعرضوا له على يد الحكومة الانتقالية .

كانت ثورة أكتوبر نتاج لتأزم المجتمع الروسي واستمرار الحكومة الانتقالية في الحرب مع ألمانيا ،فكانت شعارات الثورة (الأرض والخبز والسلام) ،إن عجز المجتمع الروسي عن الخروج من دائرة التخلف والتبعية مهد لقيام نظام جديد يستبدل النظام الرأسمالي الفاشل والذي تم تبنيه في أواخر القرن 19 وبصورة أكبر مع ثورة 1905 ،لهذا كانت الثورة ضرورة للخروج من التبعية وبناء مجتمع عادل .

إن التناقضات التي رافقت مسيرة ثورة أكتوبر كانت هي تناقضات المجتمع الروسي ذاته ،فكما أسلفنا لم يكن المجتمع الروسي بأغلبية عمالية وبالضرورة كانت قوى الانتاج في حالة يرثى لها ،والاشتراكية بطبيعة الحال ليست وصفة اقتصادية بل هي تفترض وجود أرضية تعمل عليها حتى تُنهي علاقات الاستغلال والطبقية الرأسمالية ،لكن مع عجز الرأسمالية المحلية بل وتماهيها مع النظام العولمي الناشئ حيث إن المستثمرين الأجانب كانوا يستحوذون على معظم القطاعات الإنتاجية والبنكية في الاقتصاد ومايسحوذون عليه كنتيجة لهذا من ايرادات تمتص جهد العمال والفلاحين الروس .

لهذا كان على الثورة أن تحل مشكلة التراكم والنمو أولاً لبناء مجتمع اشتراكي بدون طبقات،لكن كان هناك مشكلة أخرى برزت مع نجاح ثورة أكتوبر وهي طمع القوى الاستعمارية وشراهتها ورغبتها في إفشال أي تجربة مستقلة عن النظام العولمي الراسمالي اللامتكافئ ،حيث انخرطت هذه القوى في الحرب ودعمت ارهاب الحرس الأبيض وشكلت تحالفا من 14 دولة لمواجهة الثورة (القوى الرئيسية هي أمريكا وبريطانيا وفرنسا وايطاليا واليابان) وتورطت هذه الدول في معارك مع الجيش الأحمر فنفذت اليابان اجتياحا برياً لشرقي سيبيريا ونفد الانجليز والأمريكان عمليات انزال في مورمانسك وسيبيريا ومناطق أخرى ،هذا فضلاً عن الصراع مع ألمانيا والنمسا والذي استمر حتى معاهدة بريست ليتوفيسك والذي تنازلت فيه حكومة الثورة عن سيطرتها على العديد من الجمهوريات الناشئة في البلطيق والقوقاز وشرق أوروبا.كان واضحاً أن الثورة البلشفية تشبه الثورة الفرنسية الكبرى من ناحية رفض القوى الاستعمارية المحافظة لهذه الثورة ومن ناحية هيمنة علاقات انتاج متخلفة.

امام هذه المعضلات برزت التناقضات الاجتماعية ،فلإقامة نظام اشتراكي ينبغي الشروع في تطوير قوى الانتاج والقوة الدفاعية أيضا للبلاد ،إن الشروع بهذه المهام متعذر دون وجود سلطة بيروقراطية قوية أو على الأقل سلطة مركزية تملك القدرة والنفوذ للتأثير على الفئات المجتمعية المختلفة ،وإن السخف الذي يتبناه أنصار الرأسمالية حول مزايا السوق الحر في تطوير الاقتصاد ما هو إلا هراء كذبته التجربة الرأسمالية ذاتها ،فالرأسمالية وكما تنبأ ماركس تحولت الى نظام احتكاري في نهاية القرن التاسع عشر وهذه الاحتكارات هي التي قامت بتصدير رؤوس الأموال الى الخارج وبناء سكك الحديد والنقل والمشاريع الكبرى الخ..لهذا كانت البيروقراطية ضرورة لا مفر منها ،لكن كان يمكن التحكم بها والحيلولة دون تحول الطبقة البيروقراطية إلى طبقة منفصلة تماماً عن العمال والفلاحين وهذا ما حدث في الفترة الستالينية التي تشبه المرحلة البونبارتية في الثورة الفرنسية من ناحية إنفصالها عن العمال والفلاحين .

أبدى لينين مرونة تجاه التحديات والعقبات التي واجهت المجتمع الروسي ،فلينين تبنى سياسة النيب التي شُرع بموجبها في ترخيص عمل الملكية الخاصة في العديد من القطاعات وفتح الاقتصاد الروسي أمام الاستثمارات الأجنبية ،هذا على الرغم من العديد من الأخطاء التي اتخذها لينين كقوانين شيوعية الحرب وما نجم عنها من توتر في العلاقة بين العمال والفلاحين أو حل الجمعية التأسيسية هذه القرارات نُقدت من روزا لوكسمبرغ مثلاً في سجالها مع لينين ،لكن يمكن تفهم هذه القرارات في ظل الظروف العصيبة التي مرت بها الثورة في مراحلها الأولى وهو ما اعترفت به روزا لوكسمبرغ ..


كان على قيادة الثورة إذن أن توازن بين تطوير قوى الانتاج وفي نفس الوقت بث العلاقات التعاونية الاشتراكية في المجتمع وهو ما كان في السنين الأولى من ثورة أكتوبر وهي مهمة صعبة ،لكن مع النظام الستاليني تم ترجيح كفة القوى البيروقراطية في المجتمع خصوصاً بعد إدماج التقنيين والفنيين والخبراء والإداريين من العهد القيصري في النظام الاقتصادي وهذا ما أدى فعلياً لوأد أي إمكانية لإقامة نظام اشتراكي فعلي.إن استحواذ الطبقة البيروقراطية في العهد الستاليني على فائض العمل الزراعي وتوظيف هذه الفوائض حصراً في تطوير قوى الإنتاج والقدرات العسكرية للبلاد كان إيذاناً بانفصال الطبقة الحاكمة عن العمال والفلاحين،وتحديداً لأن هذه الفوائض لم تستثمر في انتاج سلع الاستهلاك بل وظفت حصراً لانتاج وسائل الانتاج والقدرات الدفاعية ،بالإضافة الى ذلك كانت حملة ستالين ضد الكولاك والفلاحين وتجميعهم قسراً كان ذلك علامة واضحة على أن الدولة السوفيتية لم تكن دولة عمالية بل هي دولة بيروقراطية أو كان النظام ما يعرف برأسمالية الدولة ،بالطبع لم يظهر ستالين فجأة واستحوذ على المجتمع وأجهزة الدولة هكذا دون مقدمات ،بل إن التهديدات والحصار الاقتصادي الذي فرضته القوى الاستعمارية الرأسمالية بأطماعها الشرهة كان ذلك الممهد والعامل الأقوى في ظهور ستالين فضلا عن تخلف البلاد والحاجة لتطوير قوى الانتاج ،لهذا كانت الفترة الستالينية هي الفترة التي شهدت نمواً وتراكماً وتطويراً لقوى الانتاج حتى تحول المجتمع الروسي من مجتمع زراعي الى مجتمع صناعي متطور يضاهي المجتمعات الغربية ويتفوق عليها في الكثير من المجالات ،كانت معدلات النمو في الاقتصاد السوفيتي تتفوق على معدلات النمو في الاقتصادات الغربية بأضعاف خصوصاً خلال فترة الثلاثينيات والخمسينيات ،بفضل هذا التطور استطاعت الدولة السوفيتية أن تقارع النازية لثلاث سنوات لمفردها وأن تهزمها بعد خسارة الدول الغربية من ألمانيا النازية ،ومن أجل هذا سيطرت الطبقة البيروقراطية على المجتمع وأخضعته ،لهذا لم تكن الدولة السوفيتية دولة عمالية ..

وهكذا فرضت التناقضات الاجتماعية في المجتمع السوفيتي والتهديد الخارجي هيمنة وسيطرة الطبقة البيروقراطية على مفاصل الحكم ،ولهذا ليست المشكلة في الاشتراكية بحد ذاتها لأنها لم تكن موجودة أصلاً كنظام خلال عُمر الثورة إنما المشكلة أساساً هي في البيروقراطية وما تولد عنها من ديكتاتورية وعجز (على النقيض من أزمات النظام الرأسمالي "أزمات فائض انتاج") ،لهذا الفشل هو فشل البيروقراطية بالدرجة الأولى ،لكن بطبيعة الحال لم يكن الإنهيار حتمي لهذه التجربة فكان يمكن تجنب هذا الإنهيار لو سارت البيرسترويكا على غير ما سارت عليه .

فعلياً وعلى النقيض من أوهام أنصار الرأسمالية ،لم تكن عوامل الإنهيار من طبيعة النظام الاشتراكي ذاته لأنه لم يكن موجوداً فعلياً بل عوامل الإنهيار المباشرة على الأقل كانت بفعل السياسة الخاطئة التي انتهجها تيار البيرستويكا ،بل إن هذا التيار تبنى سياسات البنك الدولي في تقليص الإنفاق الحكومي وطرح العديد من القطاعات والمؤسسات الإنتاجية للخصخصة (تحت اسم التعاونيات) ،لقد تم تقليص انتاج الفحم الى النصف فضلاً عن المواد الأولية وباقي المواد المساعدة ،وإقترضت الدولة السوفيتية من البنك الدولي! هذه هي العوامل المباشرة لانهيار تجربة رأسمالية الدولة (لا الاشتراكية) ،وبالطبع هذه المشاكل والإختناقات هي نتاج لعجز الطبقة البيروقراطية في حل المشكلات الاقتصادية للبلاد ،فكان يُحتم أن تلغي الطبقة البيروقراطية ذاتها ! أي أن تغير في علاقات الانتاج وأن تفسح المجال لسيطرة ومراقبة عمالية للعملية الانتاجية ،فالطبقة البروليتارية أصبحت أغلبية في المجتمع ،وإن منح هذه الطبقة سلطة لتسيير ومراقبة العملية الإنتاجية كان سيحول دون سقوط التجربة السوفيتية ،فمن مصلحة العمال تطوير وانتاج سلع الاستهلاك على نحو واسع ومن مصلحتهم أيضا تطوير وسائل الانتاج تقنياً لزيادة القدرة الانتاجية لهم وبالتالي انتاج سلع الاستهلاك على نحو موسع وبجودة أفضل وتقليص وقت العمل في نفس الوقت ،وهذا على النقيض مما يحدث في ظل علاقات الانتاج الرأسمالية حيث أن زيادة الإنتاجية تستخدم لإستغلال العمال والموظفين .لهذا لم تكن المشكلة مشكلة كفاءة كما يصور السذج من أنصار الرأسمالية بل المشكلة هي تضارب مصالح بين الطبقة البيروقراطية الحاكمة وعموم الشعب ..

أو كان يمكن تجنب انهيار التجربة لو اتخذت البيريسترويكا مساراً آخر ضمن نطاق سيطرة الطبقة البيروقراطية كما حدث في الصين مثلاً ،والصين مثال بارز على امكانية وجود نظام غير رأسمالي في هذا الوقت وللتوضيح ؛في الصين تسيطر الحكومة والحزب الشيوعي الحاكم على القطاعات الرئيسية في الاقتصاد من نقل ومصارف (وهنا الأهم لتجنب الإحتيال النيوليبرالي -الراسمالي) وعلى قطاع صناعة الالات أو وسائل الانتاج والمعادن
والبيتروكيماويات والمستحضرات الصيدلانية وسكك الحديد والنفط والانشاءات والانترنت والسفن وتوليد الطاقة والتكنولوجيا الحيوية والقطاع الزراعي والانترنت والاتصالات السلكية والمركبات ( بالشراكة) مايتبقى هو الصناعات الخفيفة والتجميعية ومع هذا الدولة منخرطة في هذه الصناعات بالشراكة او من خلال اسعار الصرف او بالتوجيه الغير مباشر ،تسيطر الدولة على أكثر من نصف الانتاج الصناعي (سيطرة مباشرة) وهناك 30 % للمستثمرين الأجانب (تتشارك الدولة معهم بل وتخضعهم لخططها وسياستها الاقتصادية) و20 % مستثمرين محليين تشاركهم الدولة أيضا في ادارة منشآتهم وشركاتهم ،وبالطبع يخضع قطاع المصارف لسيطرة الحكومة (فهي المتحكمة بسعر اليوان والبنك المركزي خاضع لسياسات الحكومة عكس ما ينادي به بنك النهب الدولي) والأراضي مملوكة للدولة ويمكن للفلاحين أن يزرعوا ما يشاؤون فيها (كما طبق بعد ثورة أكتوبر أو بعد الثورة الفرنسية الكبرى) https://spectrejournal.com/why-china-isnt-capitalist-despite-the-pink-ferraris/ .

إن الصين مثال حي على امكانية تجاوز الرأسمالية أو على الأقل تخطيط الاقتصاد بطريقة أخرى غير الطريق الفوضوي للرأسمالية ولعل هذا ما جنبها الأزمات المالية والاقتصادية التي أصابت العديد من الدول (أزمة النمور الآسيوية أو أزمة الديون 1982 والأزمات الاقتصادية في افريقيا وأمريكا اللاتينية إلخ ..) ،كان يمكن للبيرستريكا أن تلغي الـتأميم الأرعن للمنشآت الخدمية الصغيرة كالمحال التجارية مثلاً للتخفيف من الإختناق الإقتصادي ولحل مشكلة السوق السوداء (وغورباتشوف شرع السوق السوداء في آخر عهده لكن هذا السوق كان تحت سيطرة المافيا والعصابات الإجرامية المتحالفة مع العديد من شرائح البيروقراطية مدراء الشركات والمؤسسات الخ..) ،لكن المشكلة كانت في طبقة سطت على التجربة الثورية ووجهتها لغير ما قامت عليه ،كمثال من أكثر من 200 مليار مودعة في المصارف الروسية عام 1990 كان أكثر من نصف هذه الأموال في حساب 4 % من المودعين! ليست هذه دولة اشتراكية ولا عمالية أبداً .. مع هذا لايعني ذلك بتاتاً فاعلية النظام الرأسمالي ،فلقد ثبت فشل الرأسمالية في روسيا بعد تطبيقها في فترة حكم يلتسن ولم يكن يلتسن ديمقراطياً أيضاً على النقيض من أكاذيب الدعايات الغربية (فيلتسن كان ديكتاتورياً استخدم سلاح الدروع لقصف البرلمان!!!!) فبعد تجربة يلتسن عام 1999 ترك يلتسن سدة الحكم وقد انخفض الانتاج الصناعي بنسبة 60 % عما كان عليه الحال قبل انهيار الاتحاد السوفيتي بفترة وجيزة والناتج المحلي انخفض بنسبة 54 % ومعدل الأعمار انخفض 4 سنوات وكانت معدلات الفقر 2% عام 1989 ارتفعت الى 25 % 1999 (المال ضد الشعوب إريك توسان) .وبطبيعة الحال ليس هذا مستغرباً في حال دولة طرفية ترضخ وتسلم اقتصاداها للضباع الرأسمالية التي لاتعرف إلا أن تنهش وتمتص جهد العمال والفلاحين ..ويلتسن كان عضواً بالحزب الشيوعي! ومن مؤيدي البيريسترويكا إن هذا يوضح أن الطبقة البيروقراطية أبعد ما تكون عن كونها دولة عمالية تمهد للإنتقال الى المجتمع الاشتراكي الخالي من الطبقات ،فعلياً تبنى يلتسن سياسة العلاج بالصدمة shock therapy وهو أسلوب يتبناه البنك الدولي أو يسمى برنامج التكييف الهيكلي structral adjustment غورباتشوف تبنى هذا البرنامج جزئياً وتسبب في كوارث اجتماعية ! من خلال تحرير الأسعار ورفع الدعم والخصخصة الجزئية للمؤسسات ،أدت سياسات تحرير الأسعار ورفع الدعم إلى ظهور طوابير على محلات بيع السلع الأساسية (بعد ان كانت تباع بأقل من سعر التكلفة كسياسة دعم من الدولة) وارتفعت معدلات البطالة بعد أن كانت الدولة السوفيتية تمتلك تشغيل كامل ،سياسة غورباتشوف الرأسمالية تسببت بإنهيار التجربة بصورة مباشرة لكن ثقته العمياء بحلفائه من البيروقراطيين أدت فعلياً الى إزاحته وإخراجه من اللعبة ،بعد مجيء يلتسن تم خصخصة جميع مؤسسات الدولة كتطبيق لبرنامج التكييف الهيكلي الإجرامي وكمثال على نتائج تطبيق هذا البرنامج هناك العديد من الأمثلة على النتائج الكارثية لهذا البرنامج ،في التشيلي كانت تجربة النيوليبرالية الأولى ومع انقلاب عسكري بواسطة الجنرال بونشييه (كعربون من الديمقراطية الرأسمالية لشعوب العالم !!!!) كانت معدلات البطالة في فترة حكم سلفادور أليندي الاشتراكي 3 % لكنها ازدادت وأصبحت 35% في فترة حكم بونشييه ووصلت معدلا التضخم الى 341 % (بالرغم من دعاوي البنك الدولي النيوليبرالي لمجابهته للتضخم أو ارتفاع الأسعار بالدرجة الأولى من خلال تقليص الإنفاق الحكومي وفتح السوق أمام السلع الأجنبية) ومعدلات الفقر (المعلنة) كانت 41 % والحد الأدنى للأجر إنخفض 42 % مما كان عليه قبل وصول بونشييه والجوع كان منتشر والناتج المحلي أقل ب 12 % قبل الإنقلاب الدموي لبونشييه ،وما حفظ الاقتصاد من الانهيار هو الإبقاء على ملكية الدولة لشركة النحاس الوطنية التي كانت تستحوذ على 85 % من ايرادات الدولة وتسريح بونشييه لصبية شيكاغو (النيوكلاسيكيين) بعد هذه النتائج المرعبة في الاقتصاد ،أو في الهند حيث قدرت الاحصاءات الوطنية أن هناك 2011 680 شخص لايمتلكون الحاجيات الأساسية مايشكل 75 % من السكان آنذاك وارتفعت نسبة من يحصلون على أقل من 2100 سعرة حرارية (الحد الأدنى) الى 75% بعد أن كانت 58 % عام 1984 https://www.scribd.com/document/4307...el-The-Divide# (the divide jason hickel) (تجربة التشيلي من ص 163 والهند والتجارب الأخرى من ص 50 ) لهذا كانت سياسة البيرسترويكا هي المفجر والمسبب المباشر لانهيار الإتحاد السوفيتي بما تبنته من سياسات رأسمالية نيوليبرالية تحولت الى كارثة اجتماعية متكاملة الأركان في عهد يلتسن وعلى النقيض من إدعاءات الراسماليين السخيفة حول انهيار الاشتراكية!!

هذا الاستعراض التاريخي والتوضيحي يبغي أولاً الفصل بين الاشتراكية والتجربة البيروقراطية ورأسمالية الدولة كما طبقت في التجارب السوفيتية والآسيوية كنتاج لطبيعة هذه الدول الطرفية وتناقضاتها الاجتماعية ،إن الاشتراكية هي مشروع إنساني هي النقيض للعلاقات السلعية الرأسمالية التي تحول كل نشاط بشري أو قيمة بشرية الى سلعة تباع وتشترى ،إن الاشتراكية هي النقيض للطمع والجشع والأنانية التي يتسم بها المجتمع في ظل سيادة علاقات الانتاج الراسمالي ،لهذا الاشتراكية مشروع تحرري للخروج من الكابوس الرأسمالي المظلم الذي فجر الحروب العالمية والإقليمية بفعل أزماته المتتابعة والمتفاقمة ،والاستعمار فعلياً هو نتاج لأزمة الراسمالية وانخفاض معدلات الأرباح في دول المركز والحروب العالمية هي نتاج للصراع بين القوى الاستعمارية للاستحواذ على دول وأسواق الجنوب ،لهذا الاشتراكية هي طريق للتحرر الانساني وليست وصفة اقتصادية وإن طريق رأسمالية الدولة هو الوسيلة المباشرة لمعالجة مشكلة التراكم وانحلال وتدمير المجتمع الذي ينتج بفعل تطبيق سياسات البنك الدولي وصندوق النقد الدولي ومنظمة التجارة العالمية ،وبالطبع ينبغي أن تُطعم رأسمالية الدولة بشكل من التنظيم الاشتراكي على طريق الوصول لمجتمع اشتراكي تام.



#عبدالرحمن_مصطفى (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- تشويه توماس بيكتي لأفكار كارل ماركس
- مناقشة كتاب رأس المال في القرن الواحد والعشرين لتوماس بيكتي.
- النظرية العامة لكينز رؤية نقدية 2
- النظرية العامة لكينز رؤية نقدية
- التفسيرات المعاصرة للوعي
- (((علم))) الإقتصاد المعاصر بين الزيف والواقع4
- (((علم))) الإقتصاد المعاصر بين الزيف والواقع 3
- (((علم))) الإقتصاد المعاصر بين الزيف والواقع 2
- (((علم))) الإقتصاد المعاصر بين الزيف والواقع
- وحدة الوجود
- المجتمع والحداثة بين التفسير الماركسي والتفسيرات الأخرى
- النظرة الماركسية للمعرفة (ونسبية المعرفة والموضوعية المطلقة)
- نقد العقل المحض لكانط وتاريخية الأفكار الفلسفية
- برتراند راسل وماوراء المعنى والحقيقة (2)
- برتراند راسل وماوراء المعنى والحقيقة


المزيد.....




- غايات الدولة في تعديل مدونة الاسرة بالمغرب
- الرفيق حنا غريب الأمين العام للحزب الشيوعي اللبناني في حوار ...
- يونس سراج ضيف برنامج “شباب في الواجهة” – حلقة 16 أبريل 2024 ...
- مسيرة وطنية للمتصرفين، صباح السبت 20 أبريل 2024 انطلاقا من ب ...
- فاتح ماي 2024 تحت شعار: “تحصين المكتسبات والحقوق والتصدي للم ...
- بلاغ الجبهة المغربية لدعم فلسطين ومناهضة التطبيع إثر اجتماع ...
- صدور أسبوعية المناضل-ة عدد 18 أبريل 2024
- الحوار الاجتماعي آلية برجوازية لتدبير المسألة العمالية
- الهجمة الإسرائيلية القادمة على إيران
- بلاغ صحفي حول اجتماع المكتب السياسي لحزب التقدم والاشتراكية ...


المزيد.....

- مساهمة في تقييم التجربة الاشتراكية السوفياتية (حوصلة كتاب صا ... / جيلاني الهمامي
- كراسات شيوعية:الفاشية منذ النشأة إلى تأسيس النظام (الذراع ال ... / عبدالرؤوف بطيخ
- lمواجهة الشيوعيّين الحقيقيّين عالميّا الإنقلاب التحريفي و إع ... / شادي الشماوي
- حول الجوهري والثانوي في دراسة الدين / مالك ابوعليا
- بيان الأممية الشيوعية الثورية / التيار الماركسي الأممي
- بمناسبة الذكرى المئوية لوفاة ف. آي. لينين (النص كاملا) / مرتضى العبيدي
- من خيمة النزوح ، حديث حول مفهوم الأخلاق وتطوره الفلسفي والتا ... / غازي الصوراني
- لينين، الشيوعية وتحرر النساء / ماري فريدريكسن
- تحديد اضطهادي: النيوليبرالية ومطالب الضحية / تشي-تشي شي
- مقالات بوب أفاكيان 2022 – الجزء الأوّل من كتاب : مقالات بوب ... / شادي الشماوي


المزيد.....

الصفحة الرئيسية - ابحاث يسارية واشتراكية وشيوعية - عبدالرحمن مصطفى - الاشتراكية ورأسمالية الدولة