كنا في الماضي قلنا أن هناك دولا تحترم نفسها وسيادتها وقراراتها وهناك دولا أخرى لا تحترم نفسها ولا يحترمها أحد. ومن الدول التي تحترم نفسها نعطي مثالا فرنسا ووزير خارجيتها،فالأخير أصر على لقاء عرفات، والتقى به رغم احتجاجات وتهديدات الجانب الإسرائيلي وبالمقدمة منه شارون.
كما قام الوزير الفرنسي بزيارة خاصة لمخيم الأمعري قرب رام الله حيث رحبت به واستقبلته الجماهير الفلسطينية بشكل لائق،يليق بموقف فرنسا المبدئي من القضية الفلسطينية. أما العراف والعالم في السياسة والأعراف الدبلوماسية فأنه تيقن وعلم وفهم مغزى زيارة الوزير الفرنسي للمخيم. لأنها تعني أن هناك موضوع اللاجئين الذي يجب حله وعدم نسيانه وتجاهله. ولأنها رسالة للجميع،رسالة هامة يوجهها الأخير ومستقبلوه للقيادة الإسرائيلية،ومن خلفها للإدارة الأمريكية والاتحاد الأوروبي وكافة الأطراف المعنية بالصراع،حيث تقول تلك الرسالة أنه لا يمكن حل الصراع بدون حل قضية اللاجئين الفلسطينيين التي تنتظر منذ 1948.
هكذا كان تصرف وزير خارجية فرنسا الدولة التي تحترم نفسها وترفض الابتزاز الإسرائيلي،أما وزير خارجية بلغاريا الذي أجبرته تهديدات إسرائيل على إلغاء اللقاء المعد سلفا مع الرئيس عرفات،حيث كان متفقا عليه مع مكتب الرئيس الفلسطيني في رام الله. هذا الرجل لا يمكن أن نحترمه أو نحترم الدولة والحكومة التي يمثلهما. لأنه بكل بساطة أثبت أنه يمثل حكومة ليست ذات سياسة،أقل ما يقال عنها حكومة ذيلية تخاف إسرائيل وتهابها وتفكر بالمعونات الأمريكية التي يقوم بتحديدها اللوبي اليهودي في الولايات المتحدة الأمريكية أكثر من تفكيرها بحفظ ماء الوجه وكرامتها المشروخة.
إذ كيف يقدم هذا الوزير الذي يمثل دولة أوروبية تقول أنها ذات سيادة وحرة وتتصرف وفق إرادتها،على إلغاء لقاءه برئيس دولة أخرى،لمجرد تهديد وزير من دولة ثالثة برفض استقباله في حال التقى بالرئيس المذكور؟ هذا مضحك ومبكي في آن. مضحك لأن هذه الدول التي كانت رهينة الجيش الأحمر والاتحاد السوفيتي سابقا أصبحت الآن رهينة المساعدات الأمريكية واللوبي اليهودي والانحياز الكامل من أقصى اليسار إلى أقصى اليمين.هذه الدول هي نفسها التي اختارت هذا النهج السياسي وتلك التحالفات الدولية. فبدلا من أن تتعلم وتستفيد من التجربة السابقة في ظل الهيمنة والسيطرة السوفيتية عليها من خلال حلف وارسو المنهار. قامت بتبديل المهيمن والمسيطر أي انتقلت من سيطرة الروس إلى سيطرة الأمريكان ومن هيمنة الحزب الشيوعي إلى هيمنة الأحزاب اليمينية التي لا تعرف ماذا تريد والى أين تتجه. ومن التحالف الاستراتيجي مع المقاومة الفلسطينية إلى العداء العلني للطموحات الفلسطينية والى التبعية والذيلية بحيث أن إسرائيل أصبحت السيد القوي في تلك الدول العتيدة.
بصراحة دول أوروبا الشرقية التي لازال بعضها بقيادة الأحزاب الشيوعية القديمة والتي أكتفت فقط بتغيير الاسم (بولندا والحزب الحاكم)،يعتبر تحالف اليسار الاشتراكي الذي يحكم بولندا قطارا أحمرا يسير بالطاقة الأمريكية ويرفع العلم الأمريكي. حتى أن سياسة دولة مثل بولندا أصبحت سياسة وقحة ومخزية،تتبنى بكل صلف وبلا خجل الموقفين الأمريكي والصهيوني فيما يخص القضية الفلسطينية والقضايا العربية الأخرى،مثل مسألة العراق. فقد شاركت بولندا في الحرب بشكل فعال رغم أن استطلاعات الرأي أثبتت أن حوالي 80% من الشعب ضد الحرب.وأكثر من ذلك فأنها تحاول لعب دور أكبر من حجمها لكن بدعم أمريكي مباشر في القارة الأوروبية وفي حلف الناتو الذي قبل عضويتها قبل فترة غير بعيدة. المؤسف أن هذه الدولة لم تستفد أبدا من تاريخها المأساوي وتجربتها الغنية في النضال ضد الاستعمار والاحتلال الأجنبي،فقد عاشت بولندا الاستعمار المباشر(البروسي والروسي والنمساوي- المجري على ثلاثة دفعات الأولى 1772 والثانية 1793 والثالثة 1795 حيث غابت بولندا عن الخريطة لمدة 120 عاما كاملة) ومن ثم الاحتلال النازي المباشر في الحرب العالمية الثانية، حيث كانت بولندا أول دولة يجتاحها النازيون في الحرب العالمية الثانية،وقد أبدى الشعب البولندي مقاومة عنيفة استمرت أسبوعان كاملان قبل أن تتمكن النازية من احتلال البلاد. وكانت تجمع بولندا معاهدة صداقة ودفاع مشترك مع فرنسا وبريطانيا لكن كلاهما تركا بولندا تحترق ولم يقدما أية مساعدة لها. بينما تقدم الجيش الأحمر بناء على قرار ستالين وأحتل القسم المجاور للحدود السوفيتية وتقاسم السوفيت والنازيون بولندا المحتلة،لكن إلى حين. وإذا ما حسبنا السنوات التي قضاها البولنديون تحت الاحتلال فقد تصل حوالي 200 سنة. لأن سنوات الحكم الاشتراكي(حسب تصنيف المعارضة سابقا) لم تكن سنوات حكم حر بل كانت الحكومة وكان الحزب الحاكم تابعان لموسكو وسياستها.وكان الشعب تحت الاحتلال الشيوعي السوفيتي.والغريب هنا أن هذا الشعب الذي عانى كل تلك الويلات لم يستفد من التحالفات الخاطئة والرهان المتعثر على القوى الكبرى.وها هو من جديد يتحالف مع دولة عظمى هي أمريكا ويدير حكامه(الشيوعيون سابقا والاشتراكيون حاليا) ظهورهم للجيران والحلفاء القدامى. أما الإعلام في تلك الدول التي كانت اشتراكية فقد أصبح يتبنى بشكل رسمي الدعاية الإسرائيلية وفي أحيان كثيرة ومتكررة يوميا تقريبا،يردد الإعلام المذكور الدعاية الإسرائيلية الأمريكية،وغالبا ما يكون منحازا ضد العرب والى جانب الدعاية تلك أكثر من الإسرائيليين أنفسهم. كل هذا يجري لكي يكون الثمن الذي يتلقوه مرتفعا. نحن أمام تجربة فريدة في العلاقات الدولية وفي الحكم التابع والذيلي،حيث لا ضمير ولا كرامة ولا شرف ولا سيادة، عهر سياسي وعهر إعلامي.
على كل حال فأن الشعب الفلسطيني صاحب أقدس قضية وأكثرها صعوبة في العالم لن يستسلم لتلك الدعاية المغرضة ولن يقبل بان يكون ضحية من ضحايا سوق الهبات والقروض والدولارات الأمريكية الممنوحة للدول التي كانت اشتراكية وصارت تابعة للسياسة الأمريكية وحليفة للدولة الإسرائيلية.
فهذا الشعب المناضل صاحب قضية عادلة وصاحب حق لا يقبل التزوير والتبرير لأنه كان ولازال عرضة لمؤامرة تشارك فيها أطراف عدة من جميع جهات الدنيا الأربع.وسوف يقاوم من أجل حقوقه بكل الطرق التي تعيد له تلك الحقوق وترجعه سيدا حرا مستقلا على أرضه وفي دولته المستقلة.
أما هكذا وزراء على شاكلة وزير الخارجية البلغاري فعدم لقاءهم لا يقدم ولا يؤخر،وقد يكون من الأفضل للقيادة الفلسطينية في المستقبل،مراجعة الفائدة المرجوة من هكذا لقاءات مع هكذا وفود وهكذا وزراء لا تقاس الأمور عندهم بمقياس الكرامة والسيادة والاحترام والعقل والضمير المتحرر من عقد الماضي والحاضر. ورغم مرور 13 سنة على التغيير في دول شرق أوروبا إلا أنه لازال هناك وزراء يمثلون سياسة وثقافة الشرق الأوروبي التابع،وآخرون يمثلون سياسة و ثقافة الحريات في غرب القارة نفسها،حيث التبعية وألا سيادة أقل بكثير.