أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - مواضيع وابحاث سياسية - الحزب الشيوعي السوري - المكتب السياسي - المسار- العدد 71















المزيد.....



المسار- العدد 71


الحزب الشيوعي السوري - المكتب السياسي
(The Syrian Communist Party-polit Bureau)


الحوار المتمدن-العدد: 7477 - 2022 / 12 / 29 - 14:39
المحور: مواضيع وابحاث سياسية
    




العدد /71/ كانون الأولديسمبر2022
---------------------------------------------------------------------------------
الافتتاحية: مرة أخرى حول تحديد المراحل السياسية
(متابعة لافتتاحية العدد69)

في عام 1927 جرت بحار من الدماء بين القوميين الصينيين في حزب «الكيومنتانغ» والشيوعيين. في تموز1937 غزت اليابان الصين. وضع زعيم الحزب الشيوعي ماو تسي تونغ تلك الدماء على الرف، ودعا إلى تشكيل جبهة وطنية متحدة مع «الكيومنتانغ» ضد اليابانيين. من أجل تقديم التسويغ السياسي لهذا التحول الدراماتيكي، كتب ماو نصاً في شهر آب 1937 تحت عنوان «في التناقض»، يمكن أن يُعد، مع كتاب مكيافللي «الأمير» وكتاب ماركس «الثامن عشر من بروميرلويس بونابرت»، من أفضل النصوص لتعليم السياسة. يقول ماو في ذلك النص ما يلي: «عندما تشن الإمبريالية حرباً عدوانية على بلد... فإن الطبقات المختلفة في هذا البلد، باستثناء حفنة من الخونة، يمكن أن تتحد مؤقتاً كي تخوض غمار حرب وطنية ضد الإمبريالية، وحينئذ يصبح التناقض بين الإمبريالية وذلك البلد التناقض الرئيسي، فيما تصبح مؤقتاً جميع التناقضات بين مختلف الطبقات داخل ذلك البلد في مركز ثانوي وتابع». تشارك الشيوعيون والقوميون لثمان سنوات في مقاومة اليابانيين، وبعد هزيمة طوكيو عام 1945 ساهمت أجواء الحرب الباردة، بما فيها الدعم الأميركي لزعيم «الكيومنتانغ» شيانغ كاي شيك في عودة المواجهات المسلحة بين الشيوعيين والقوميين منذ كانون الأول من عام 1947 حتى استطاع الشيوعيون الانتصار بالربع الأخير من عام 1949 ودحر «الكيومنتانغ» الذي لجأ زعيمه ومعه ملايين من أتباعه إلى جزيرة تايوان.
في ذلك النص، يحدد ماو التناقض الرئيسي بحسب كل مرحلة: ضد الخارج الإمبريالي ثورة وطنية، ضد المرحلة ما قبل رأسمالية ثورة ديموقراطية، وضد السيطرة الرأسمالية ثورة اشتراكية.
في عامي 1863 ـ 1864 اعترض ماركس على سياسات زعيم الاشتراكيين الألمان فرديناند لاسال الذي اتجه إلى التحالف مع المستشار البروسي بسمارك والجيش والإقطاعيين (اليونكرز)، متوقعاً أن هذا سيقود إلى استحالة قيام ثورة ديموقراطية ألمانية تضم العمال والفلاحين والبورجوازيين الليبراليين من أجل ضرب العلاقات والبنى الما قبل رأسمالية في ألمانيا وإنهاء سيطرة الإقطاعيين والنبلاء على جهاز الدولة، ورأى أن وقوف الاشتراكيين وراء «الإقليم ـ القاعدة»، أي بروسيا، من أجل تحقيق الوحدة الألمانية سيقود إلى انسداد أفق الثورة الديموقراطية الألمانية على طراز ثورتي1688-1689و1789الإنكليزية والفرنسية، وبالتالي انسداد أفق الثورة الاشتراكية الألمانية التي يعتبرها أنها لا يمكن أن تتم إلا بعد استنفاذ المرحلة الرأسمالية، وهذا واضح عنده منذ عام 1848 في «البيان الشيوعي». صحيح أن ماركس رحب بالوحدة الألمانية عام 1871 واعتبر بسمارك «يقوم بجزء من عملنا»، إلا أن اعتراضاته على لاسال كانت تحوي تنبؤات عن مستقبل أسود ألماني كان تجسيدها الأكبر أدولف هتلر، أو كما عبر جورج لوكاتش في «تحطيم العقل»: «العلة المركزية هي، بعد عام 1848 كما قبله، ذهنية الخضوع التي هي ذهنية الألماني المتوسط، كما هي ذهنية أكبر مثقفي هذا البلد... بما أن الوحدة القومية لم تفتح بثورة، بل فرضت من فوق، فقد بقي هذا الوجه في سيكولوجيا وأخلاق الألمان، إن صح القول، بلا تغيير». في هذا الكتاب يحاول لوكاتش تفسير نشوء ديكتاتور وحشي عند الألمان، مثل هتلر، في بلد أفرز مفكرين إنسانيين كبار مثل غوته وفنانين عظام كبتهوفن، ويرى أن السيكولوجيا والثقافة كانا عاملين مساعدين على ملاقاته لأرضية اجتماعية قوية لحزبه النازي. على الأرجح لو كان إدراك لاسال مثل ماركس في إدراكه أن التناقض الرئيس ليس «الوحدة القومية» بل «الثورة الديموقراطية»، لكان من الممكن تحقيق الأولى بعد الثانية ولكان بالإمكان تفادي شلال دماء البشرية في الحربين العالميتين.
هنا، لم يكن عند الشيوعيين العرب ذلك الإدراك الذي كان عند ماو تسي تونغ لـ«التناقض الرئيسي»: في نيسان 1948 كان المراقب العام لجماعة «الإخوان المسلمين» في سوريا مصطفى السباعي ضمن قوات جيش الإنقاذ التي كانت تقاتل في معركة القسطل قرب القدس مع عبد القادر الحسيني ضد الصهاينة، بينما كان الشيوعيون العرب يصدرون بياناً بتأييد قرار تقسيم فلسطين، وهو ما رماه ظهير عبد الصمد عضو المكتب السياسي للحزب الشيوعي السوري عام 1971 بوجه خالد بكداش أثناء مداخلته في المجلس الوطني للحزب: «ليس صحيحاً ما قيل في التقرير السياسي الذي ألقي أمام المؤتمر الثالث للحزب عام 1969 من قبل الأمين العام أننا لم نؤيد التقسيم... هناك بيان موقع من أربع أحزاب شيوعية تؤيد التقسيم» («قضايا الخلاف في الحزب الشيوعي السوري»، دار ابن خلدون، بيروت 1972، ص272)، وذهب الشيوعيون العراقيون في يوم 11 حزيران 1948 في نص بعنوان «ضوء على القضية الفلسطينية» إلى القول «بأن لهذا الشعب الإسرائيلي الجديد الحق في تقرير مصيره» وإلى وصف منظمتي «الأرغون»، بزعامة مناحيم بيغن، و«شترن»، بزعامة إسحق شامير، بأنهما «منظمتان تقدميتان» (حنا بطاطو: «العراق: الكتاب الثاني...الحزب الشيوعي»، مؤسسة الأبحاث العربية، بيروت1992، ص 258-259). لم يكن ستالين معجباً بماو تسي تونغ، وضغط عليه كثيراً، ولكن ماو كان وطنياً ثم شيوعياً، واستخدم الماركسية لتحرير بلده من الأجنبي ثم لتحريرها من التخلف وإنهاضها وتحديثها، لذلك لم يكن خاضعاً لتوجيهات ستالين، بينما كان الشيوعيون العرب حتى عام 1947 ضد الصهيونية وضد قرار تقسيم فلسطين، وعندما استدار السوفيات وغيروا موقفهم يوم قرار تقسيم فلسطين في الجمعية العامة للأمم المتحدة في 29 تشرين الثاني 1947 قاموا بالاستدارة على الإيقاع السوفياتي. لم يدركوا ما أدركه الياس مرقص وقاله عام 1970 في كتابه «نظرية الحزب عند لينين والموقف العربي الراهن» عندما قام بتحديد إسرائيل ككيان وظيفي للإمبريالية العالمية للهيمنة على العرب، وهو عندما يقول بالوحدة العربية فإنه لا يربطها لا باللغة ولا بالثقافة المشتركة، كما يفعل القوميون العرب، أو يشرطها بالاقتصاد المشترك، كما فعل بكداش متأثراً بنظرية ستالين حول «الأمة»، بل يحددها، كوحدة عربية، مكتسبة لمضمون واحد تؤدي إن تحققت كهدف إلى إنجازه وهو «سقوط وضع التجزئة الإمبريالي...» من أجل كسر (مصالح الإمبريالية الثلاث: كيانات التجزئة، الهيمنة على البترول، إسرائيل)، (مرقص: «المرجع المذكور»، دار الحقيقة، بيروت 1970، ص301). هنا يقوم الياس مرقص بتحديد التناقض الرئيسي: «الإمبريالية ومظاهرها الثلاث".يمكن من خلال «التناقض الرئيسي» تحديد من هو «تقدمي» ومن هو «رجعي» بعيداً عن اصطفافات «اليمين» و«اليسار» وبعيداً عن معايير «الحداثة» و«التخلف»: وفق هذا المعيار عند الماركسيَّين، ماو تسي تونغ والياس مرقص، فإن مصطفى السباعي هو أكثر تقدمية في عام 1948 من خالد بكداش.
أيضاً ووفق هذا، فإن الشيوعيين العراقيين في فترة تموز 1958 ــ آذار 1959 لما أفشلوا انضمام العراق للوحدة السورية ــ المصرية، أو جعل بغداد في حالة اتحادية مع القاهرة وبغداد، كانوا رجعيين، وبالتأكيد كان أيزنهاور في واشنطن وماكميلان في لندن وشاه إيران وعدنان مندريس في أنقرة وبن غوريون في تل أبيب يصفقون لهم في قلوبهم، ولا يكفي هنا وقوف خروتشوف معهم لنفي ذلك ولا المنجل والمطرقة. لو حصلت عملية التقاء دجلة والفرات والنيل لما كانت حصلت عملية انفصال 1961 ولا هزيمة 1967 ولا حرب العراق وإيران في الثمانينيات ولا اجتياح الكويت ولا احتلال العراق، ولما كان هناك تنامياً لقوى الجوار العربي في طهران وأنقرة وأديس أبابا، وعلى الأرجح كانت إسرائيل ستنتهي أو على الأقل كان ظهرها سيكون للحائط، وكان الأكراد العراقيون سيستوعبون في الإطار الجامع. في حرب انفصال الجنوب اليمني عام 1994 كان على عبد الله صالح أكثر تقدمية من زعيم الانفصال الماركسي علي سالم البيض. هنا أيضاً لا يمكن قياس «حزب الله» في لبنان من خلال «عدم وجود كأس البيرة» أو «التنورة القصيرة» في الضاحية الجنوبية لبيروت بل من خلال بوصلة واحدة هي التناقض الرئيسي الذي اسمه إسرائيل. أيضاً لا يمكن فقط قياس السيد حسن نصر الله من خلال علاقته بإيران أو من خلال مذهبه الشيعي بل أساساً من خلال كونه أكثر عربي كان مؤلماً لإسرائيل منذ يوم الجمعة 14 أيار 1948 لما أعلن ديفيد بن غوريون قيام تلك الدولة. وعملياً فإن شخصية مثل سمير جعجع هي متفاعلة أكثر مع الثقافة الحديثة من كثير من المقاومين المتدينين في جنوب لبنان في فترة 1982 ـ 2006، إلا أن إدراك التناقض الرئيسي هو الذي يحدد أن أولئك المتدينين هم أكثر تقدمية من شخص عصري وحداثي كان في تنظيم «القوات اللبنانية» الذي كانت تربطه خيوط تحركه من تل أبيب منذ عام 1976، كما أن علمانيته ليست ناتجة عن إيمان من قبله بها بل عن وظيفية يمكن أن يستخدمها فيها لحماية طائفته أو لإضعاف الطوائف الأخرى، وهو ما يشاركه في تلك الوظيفية الكثير من طارحي العلمانية العرب الراهنين.
نعود هنا لتحديد أين التناقض الرئيسي في بلد مثل سوريا الراهنة حيث يوجد هنا بلد مشتعل بفعل أزمة قارب عمرها على دزينة من الأعوام وحيث توجد خمسة جيوش خارجية في البلد ،وميليشيات من جنسيات عديدة وتنظيمات متطرفة عابرة للحدود مثل تنظيم داعش وتنظيم القاعدة،وحيث توجد ثلاث مناطق منشطرة جغرافياً،وحيث هنا دمار للصناعة والتجارة،ونازحون داخليون يصلون إلى ستة مليون ومهاجرون للخارج بستة مليون،أي نصف السكان خارج بيوتهم التي كانوا بها في آذار2011- فلذلك،ووفق ماهو مذكور آنفاً، لايمكن أن نتكلم عن أن التناقض الرئيسي في الوضع السوري الراهن هو تناقض طبقي أوحداثي،بل هو تناقض وطني يتمثل بإطفاء الحريق السوري عبر تسوية للأزمة وفق القرار الدولي2254تقود البلد إلى نظام جديد ديمقراطي من خلال مرحلة انتقالية حددها القرار الدولي،ومن هنا نقول نحن بتمازج (الوطني)و(الديمقراطي)في المرحلة الراهنة،أما الحديث عن تناقض طبقي أوحداثي في المرحلة الراهنة ،ورغم أن هناك تسعون بالمئة من السوريين تحت خط الفقر ورغم أن الأزمة السورية قد قادت إلى تشكل رأسمالية جديدة عبر تراكم رأسمالي وحشي،فهو حديث لا ينتمي إلى السياسة التي تبنى على تحديد (أين التناقض الرئيسي وتوازنات القوى وأولويات المرحلة)،وهذا "ليس تسويفاً للمطالب الطبقية "،بل هذا ما تقوله الماركسية.
يظن بعض الماركسيين وعن جهل بأن الماركسي عندما يمارس السياسة فلايجوز له أن يقوم سوى بطرح القضايا الطبقية وإذا طرح قضايا أخرى مثل الوطنية أوالديمقراطية أوالحداثية فيجب أن ترافقها دائماً المسألة الطبقية.أمام هؤلاء نقول بأن هناك تناقض رئيسي تحدد فيه المراحل وعلى أساسه يبنى البرنامج السياسي.مثلاً،الحزبان الشيوعيان في فرنسا،مع الاحتلال الألماني لفرنسة بين عامي1940و1944،وفي فييتنام ،مع الاحتلال الأميركي للجنوب الفييتنامي بين عامي1964و1975،لم يطرحا برنامجاً طبقياً،بل اعتبرا أن التناقض الرئيسي هو تحرير البلد من الأجنبي وتوحيدها .
المعارضة الوطنية ودورها ومهامها
- نادر عازر -
تمثل مرحلة الركود السياسي إحدى أكبر التحديات التي تواجه الأحزاب والناشطين السياسيين. فهي تضعهم أمام اختبار كبير في الصبر والتحمل والتركيز على الخيار الأصح للبقاء، والاستعداد لما هو قادم. ويبرز هنا دور المعارضة الوطنية في إثبات أهمية الحفاظ على الذات، والاستقلالية، والعمل وفق متطلبات كل مرحلة.
في بلد مثل سوريا، تحمّل فيه الشعب والأحزاب والسياسيين الكثير عبر عشرات السنين، وخاصة منذ انقلاب البعث وحكم الاستبداد والسجون المرعبة وانتشار الفساد الذي نخر البلد خلال خمسين عاماً، حتى وصلنا إلى ما وصلنا إليه من دمار وقتل وتشريد وانقسام وجمود في العملية السياسية.
وأدى عدم تحقيق أي تقدم أو تحول ديمقراطي في البلد إلى عزوف العديد من الشباب وحتى المخضرمين عن أحزابهم ونشاطهم السياسي، ولو كان بحده الأدنى، في ظل الاستبداد وعدم وجود ديمقراطية أو انتخابات أو حياة سياسية أو حرية رأي وصحافة.
وتأثر الكثيرون بهذه الظروف التي أشعرتهم باليأس وعدم القدرة على التأثير في محيطهم، وأن جهودهم لا تؤدي للوصول إلى أهدافهم التي يطمحون إليها، وخاصة فئة الشباب المليئة بالطاقة والرغبة بالتغييرات السريعة.
إن أكثر الجهات تعرضاً للضغوط في مرحلة الركود السياسي هي المعارضة الوطنية والأحزاب التي لا تقبل الدعم المادي من أي طرف خارجي أو مشبوه، من أجل الحفاظ على استقلاليتها ومنع أي أحد من التدخل في سياستها أو الضغط عليها بأي شكل.
وذلك ينطبق على معظم بلدان العالم. فالأحزاب المنضوية تحت السلطة الحاكمة تتلقى دعماً مادياً وإعلامياً وتستطيع العمل والتحرك بحرية، أما أحزاب المعارضة التي تتلقى دعماً خارجياً تتوفر لها أيضاً الأموال ووسائل الإعلام وقدرة كبيرة على التحرك سواء في الداخل أو الخارج.
فيصبح صوت هذين الطرفين هو المهيمن والأكثر سماعاً بالنسبة للناس، ما يؤثر على معنويات العديد من أعضاء الأحزاب الوطنية والمستقلة، حتى يبدؤون بجلد الذات ولوم النفس، ناسين مهامهم الطبيعية والسياسية في المراحل الصعبة، وخاصة في سوريا.
فينتقدون عدم تأثير أحزابهم على الواقع، متجاهلين أن لا حزب له تأثير كبير على الواقع، حتى الحزب الحاكم، كون السلطة استبدادية مركزية مطلقة ولا تسمح بوجود حياة سياسية ولا انتخابات حقيقية، وكل شيء يأتي من "فوق".
المثير للاستغراب أن هناك جهات في المعارضة الوطنية والداخلية السورية ما تزال تظن أن الحل داخلي، وأنه يكفي عبر لقاءات وطنية والتقاط الصور وإلقاء شعارات حماسية وصياغة بيانات، لتنتهي الأزمة.
نفس الفئة من السياسيين فاتتهم قراءة السياسة وفق أبعادها الدولية والإقليمية والداخلية، ولم يعرفوا توازن القوى والمصالح جيداً، لا بين القوى الكبرى ولا الإقليمية ولا الداخلية في البلد.
وبما أن الأزمة السورية أصبحت دولية منذ أولى سنوات الصراع، وإصدار مجلس الأمن عدة قرارات تخص الوضع في سوريا، فعلى الكثيرين قبول الواقع بأن الحل دولي، وأنه يتطلب توافق جهات عديدة لكي يصبح حقيقياً ومستداماً.
ففي سوريا لا يمتلك أي طرف مفتاح الحل لوحده وبشكل منفرد، لا الدول الكبرى كالولايات المتحدة وروسيا، ولا الاتحاد الأوروبي والصين، ولا الأطراف الإقليمية كتركيا وإيران والسعودية ودولة الاحتلال الإسرائيلي، ولا الأطراف الداخلية كالسلطة الحاكمة والأحزاب الموالية أو المعارضة الوطنية أو الخارجية. لا يمكن لأي منها الوصول إلى حل بشكل فردي وارتجالي.
فالواقع يؤكد أن سوريا لن تصل إلى حل إلا بتوافق دولي بالدرجة الأولى، بين الدول الكبرى مثل الولايات المتحدة وروسيا وبالدرجة الثانية الدول الإقليمية مثل تركيا وإيران وبدرجات أقل كالدول العربية الأخرى والاحتلال الإسرائيلي والاتحاد الأوروبي والصين.
وبالتالي هناك مهام كبيرة على أحزاب المعارضة الوطنية في سوريا، وخاصة اليسارية والماركسية. ومنها مواصلة العمل على زيادة تحالفاتها والتقارب من القوى الأخرى الوطنية سواء كانت أحزاب أو منظمات.
وأيضاً تثقيف الأعضاء الذين يتوجب عليهم رفع مستواهم الفكري والسياسي والثقافي بشكل دائم وقراءة التاريخ ومتابعة الأحداث السياسة والاستعداد لما هو جديد.
إن العمل السياسي في مراحل الركود يتطلب صبراً كبيراً وعملاً بعيد المدى.
فالمعارضة الوطنية تكمن قوتها في ثباتها وصبرها وحفاظها على ذاتها واستقلاليتها وعدم تبعيتها لأحد. فهي لا تمتلك السلاح ولا تتلقى المال من الخارج. فحتى لو بدت للناس حلقة ضعيفة في الوقت الحالي، لكنها وجودها وحده هو ما يزعج قوى الاستبداد والأحزاب التابعة للخارج. ولو عملت المعارضة الوطنية بتكتيك صحيح لأصبحت حلقة قوية في المراحل القادمة.
------------------------------------------------------------------------------------------------

من الفقراء إلا نحن؟
عن تسويف المطالب الطبقية
- محمد أبوحجر -

جاءت افتتاحية العدد التاسع والستون من جريدة المسار الناطقة باسم الحزب الشيوعي السوري (المكتب السياسي) المعنونة كالآتي (من أجل تحديد المرحلة السورية الراهنة)، معلنةً وكما يبدو وعبر مقالٍ من القطع الصغير، ملامح المرحلة الراهنة في تصورات الحزب حيث التناقض الرئيسي هو تناقض وطني مقرون بالديمقراطي، ويسوف التناقض الطبقي والتحديثي "الاجتماعي" إلى غدٍ أخر وعلى أمل أن يصبح -والعلم عند الله-ذات يومٍ تناقضاً رئيسياً من جديد أو قد لا يصبح. ومن حيث المبدأ، فإن المبادرة الفكرية -وإن كانت مختزلة جداً-تبدو ضرورة ملحة لسائر الشيوعيين/ات في سوريا اليوم لكل يعاد الاعتبار للحركة ولتتمكن من لملمة شتات ذاتها.
جلياً أن الحركة الشيوعية السورية واليسار عموماً قد تبعثرا بشكل مؤلم بل وتشظيا خلال العقد المنصرم، فالدم والعنف الذي قد يبدوا عبثياً وهواجس أخرى ذاتيةً كانت أم موضوعيةً، أدت إلى ضياع وفقد البوصلة عموماً إبان ما يجري على الأرض السورية والمنطقة عموماً. وإن كانت ملامح ذلك الفقد قد بدأت تبرز بوضوح قبل ذلك بعقود -يمكن القول بإن الموقف من قرار تقسيم فلسطين كان أولها-فإن الانتفاضات الشعبية التي بدأت منذ العقد الثاني من القرن الحالي كانت أخر وأبرز تلك التمظهرات. لقد أبرزت تلك الانتفاضات عجز معظم القوى الماركسية عن صياغة تصور ثوري يمكنها من لعب دور على الساحة السياسية والاجتماعية، وتشظت معظم الأحزاب والقوى أو ارتهنت للعب أدوار تجميلية على هامش صراع القوى المحلية والإقليمية. ففي سوريا على سبيل المثال، تحالفت قطاعات من الاشتراكيين السوريين -كتياراتٍ أو فرادى-مع قوى إسلاميةٍ وطائفية وتيارات ليبرالية متنوعة تحت عباءة المجلس الوطني السوري أو الائتلاف الوطني لقوى الثورة والمعارضة لاحقاً. وتحت وطأة وراهنية الإطاحة بنظام الحكم، غيبت أو حيدت تلك القوى موقفها -المتراخي أصلاً-من المطالب الطبقية وكلت من "الإيمان بالاشتراكية، والعمل من أجل تحويل المجتمع باتجاهها" . وعلى المقلب الأخر، تحالفت قطاعات أخرى مع نظام الحكم وقوى إسلامية وطائفية أخرى بشكل أو بأخر فخسرت هي الأخرى مضمونها الثوري وفاعليتها كأحزاب وقوى اشتراكية مغيبة البعد الطبقي الطبقي لمشروعيتها في دهاليز تصورات ميكانيكية عن ماهية الإمبريالية والتحالفات اللازمة لمردغتها والانتصار عليها، أو خشية من الإسلاميين مختبئة منهم وراء معتقلات أمن الدولة متذرعةً بفهم ميكانيكي هو الأخر لماهية الحداثة ونطاقاتها. وبين حجري الرحا، غاصت كتل -غالباً فردية الطابع-في فلك المكاتبية الناتجة والمرتهنة للمنظمات الدولية الحكومية أو غير الحكومية -الممولة حكومياً هي الأخرى-وخسرت سرديتها ومحتواها الطبقي بشكل تام أو جزئي أمام سردية الممول "الدونر" ونزعته التنموية و"الريادية" وسعدت بمكتسبات فردية ساهمت في عبورها الطبقي فردياً نحو الأعلى ومبررة ذلك لذاتها عبر "إنجازات" بلاغية تحاول من خلالها إقناع الممول صاحب الكلمة الفصل في مصيرها، وحولت المهمشين إلى مادة خام لتقرير أو مقترح عطاء "بروبوزال".
ويبقى القاسم المشترك الأوحد بين الجميع بل وسمة المرحلة، إغفال أو تغييب الأبعاد الطبقية للصراع وتحييدها. للجميع أولويات أخرى سواء وطنية كانت، تنموية، تحديثية أم ديمقراطية. ورغم أن الجميع منخرطون تماماً في نشاطهم "اليومي" لتحقيق "منجز" ما على أي من تلك الصعد، وبعيداً عن مجموعة من الشعارات الديماغوجية والمشحونة عاطفياً في أغلب الأحيان، يبدو أن الجميع عاجزون عن التسويغ المنهجي لتصوراتهم أو عن الإتيان بآليات استنباط تلك التصورات، فتبدو بمعظمها فراغاً اعتباطياً فيما لو تم تأريضها من تلك الشحنات العاطفية. ما أقصده هنا بآليات الاستنباط، هو السلسلة المعقدة من العمليات والبحوث المعرفية بالمعنى المخبري أو الإكلينيكي، والتي يتم عبرها ومن خلالها إسقاط نظرية ما تؤمن الجهة الباحثة بقدرتها على تفسير ظاهرة ما، فتقوم بإسقاط المقولات المعرفية لتلك النظرية على المادة موضوعة البحث، يتم ذلك عموماً عبر مجموعة منهجيات وطرائق بحثية تمكن الجهة الباحثة من استنباط مقولات أو نتائج تنشرها الجهة الباحثة بوصفها نتاج تفاعل النظرية المتبناة مع
المادة موضوعة البحث بالإضافة إلى مجموعة اعتبارات لا بد من إرفاقها وتتعلق بموقعية وتموضع جهة البحث فيما يخص القضية أو المادة موضوعة البحث وهامش ما للخطأ أو حدود للبحث يصعب قياسها. وحتى هذه اللحظة، فإنه وعبر تلك الآلية فقط يمكن للجهة الباحثة تحقيق مشروع بحثي ناجز. هكذا تخاض غمار البحث العلمي الممنهج في كل المؤسسات البحثية. وإن كان ذلك كله يبدو مضماراً جَلفاً لا يعوزه الجفاف، بل وقد يبدو للوهلة الأولى عاجزاً عن استيعاب "المشاعر الإنسانية المتضاربة" وقد تعرض مرات عديدة للنقد من قبل العديد من المفكرين/ات متهمين/ات إياه بمحاباة النتاج المعرفي الأوروبي القائم على "علمنة" و "قولبة" المتغير الإنساني الأكثر تعقيداً من أن تحيط به نظرية ما. فإننا هنا نتحدث عن جملة من العلوم التي تسعى لإيجاد ترياق للأوبئة وحلول للكوارث البيئية والأزمات البنيوية في الاقتصاد والمجتمع لا عن شطحات غنوصية لمترفي/ات الطبقات العليا والفوق المتوسطة، هذا ودون إغفال دور الاستحواذ الرأسمالي على عملية البحث العلمي في القطاعات الإنتاجية منذ أمد الرأسمالية أو التعامي عن دور مراكز البحث الغربية بتعزيز المركزية الاستعمارية.
أما بالعودة لمعرض حديثنا ها هنا، فإن النظرية في فكر الحزب الشيوعي وبشكل رئيسي هي الماركسية أو ما أطلق عليه فريديرك إنجلز تسمية "الاشتراكية العلمية"، وأما أدوات التحليل الخاصة بالماركسية فهي المادية الديالكتيكية -الجدلية-والمادية التاريخية -والتي هي بشكل أو بأخر نتاج إسقاط المادية الجدلية على سيرورة التاريخ-، والمادة موضوعة البحث هنا هي الواقع السوري ذات نفسه بما في ذلك اشتباكاته وتشعباته الإقليمية والدولية وعلاقات وروابط الإنتاج داخله. ونظرياً، يمكن للفاعل/ة الماركسي/ة سواء جماعات أو أفراد وفقط من خلال إسقاط الماركسية واستخدام المادية الجدلية والمادية التاريخية استنباط المقولات التي تعكس رؤى الفاعل/ة في مرحلة ما، وكذلك الممارسة اللازمة لتحقيق تلك الرؤى.
وبناء على ما سبق، وعند محاولة قراءة تصورات الحزب الشيوعي السوري (المكتب السياسي) كما وردت في افتتاحية العدد المذكور، يبدو لي وبعد قراءة الافتتاحية لمرات عدة، بأن عملية تحديد الأولويات كما ظهرت -وإن كانت محاولة جيدة للخروج من مستنقع "الفكر اليومي" حسب توصيف شهيدنا مهدي عامل-، فإن ما يعوزها هو فعل بحثي يسوغ مقدماتها النظرية والمنهجية وفقاً للاشتراكية العلمية التي يتبناها الحزب كنظرية ممارسة. عملية تمنهج استدعاء الاقتباسات الواردة في الافتتاحية من"البيان الشيوعي" وفهمه المغاير للتناقضات في كل من بريطانيا وألمانيا. أو تصورات المؤتمر السادس و من ثم السابع للكومنترن، وكل الاستدعاءات الأنفة الذكر تنتمي إلى مرحلة قبل ترسخ الإمبريالية و نموذجها الفكري و الاستهلاكي نموذجاً عالمياً طغى حتى على دول الكتلة الاشتراكية السابقة في جمهورية الصين الشعبية و دول الاتحاد السوفياتي السابق والتي ترسملت جميعها، تنتمي كل تلك الاستدعاءات إلى مرحلة ما قبل استقلال الدول عن الاستعمار و نشوء الدول ما بعد الاستعمارية وتضخم أجهزتها بعد أن تموضعت في أيد تحالف العسكر والبيروقراط بنزعته البورجوازية والذي أثرى عبر الفساد قبل أن يباشر بعملية خصخصة وسائل الإنتاج المؤممة ذاتها التي صنعته.
تعزل قراءة الرفاق/الرفيقات في افتتاحية المسار التصورات "الوطنية" في سوريا عن البنية التحتية أو علاقات الإنتاج المسؤولة عن نشوب الاختناق الحاصل في مسار عملية التسوية التاريخية. تأتي قراءة الرفاق/الرفيقات دونما تعريف واضح للبعد النظري لعملية التسوية، فالسؤال هو أي تسوية نريد؟ فللتسوية أشكال عدة، فما شكل التسوية الممكن إنجازها إذا ما تم تغييب الأسئلة الطبقية في بلد يعيش تسعون بالمئة من سكانه تحت خط الفقر؟ التصور الوحيد الممكن لتسوية دون الحديث عن الحاح المطالب الطبقية هو تسوية "بورجوازية" تمكن محدثي النعمة وأمراء الحرب من تقنين ثرواتهم عبر صياغة اتفاق طائف سوري يمهد ل "سوليدير" سوري يمنح رواده/ رائداته حصانة "شرعية" ضد أي مساءلة حول ثروات ومقدرات المساحة السورية التي تتعرض لنهب ممنهج بوسائل عدة بدأ حيث بدأت الدولة السورية المعاصرة وتفاقمت حدته منذ مطلع القرن الحالي مع سياسات الخصخصة والتوجه نحو اقتصاد السوق ومن ثم تكثف بشكل حدي مع اقتصاد الحرب. وعليه فيقع على عاتق الشيوعيين دون غيرهم مهمة إعادة الألق لمقولة "ليست تسوية أو لا تسوية، بل منظور رؤوس الأموال ومنظور الفقراء"، والبعد الوطني دونما ذلك لا يعدو عن كونه دوغما مهيمنة بيد الطبقة المسيطرة. هذا لا يعني بشكل من الأشكال عدم انخراط التشكيلات الشيوعية في تحالفات مرحلية مع تشكيلات أخرى، إنما يحتم عليها الإصرار على أن تكون المطالب الطبقية هي الإضافة النوعية التي يمكن للشيوعيين/ات إضافتها على التحالفات المخاضة.
قد يسوغ البعض مبررات نظرية لتسوية دونما مطالب طبقية بأن تسوية كهذه يمكنها أن تنقل سوريا إلى موقع ديمقراطي أو في أوسع الشطحات عرضاً بأن هذه التسوية قد تبدأ تحولاً "ليبرالياً" بالمعنى الإنتاجي أو التنموي والذي كان من الممكن إنجازه تاريخياً عبر تحالف تحت قيادة البورجوازية الوطنية، ولكن هل يمكن تقفي أي أثر للبورجوازيات الوطنية في زمن الرأسمالية المعولمة المعاصر؟ في عصر الاقتصاد المالي المدول؟ فإن كان تحقيق إنجازات من هذا القبيل ممكن تاريخياً، فإنه وضمن شروط تدويل عجلة الإنتاج الرأسمالي بنسختها المالية لم يعد ممكناً إلا لينتج مستهلكاً محلياً كما تبدو الحالة في مصر منذ عهد السادات أو سيريلانكا التي قض حيلها مؤخراً أو لبنان الغارق في ظلماته ولا يرى بصيص أمل ضمن المساحات التي تتيحها عملية الإنتاج الرأسمالية، فالفترة التي شهدت بزوغ عبورات معينة عبر "رأسمالية الدولة" أو "البورجوازية المحلية" انتهت مع بداية الحرب الباردة على أوسع تقدير.
إن أي تسوية تتطلب تسويف المطالب الطبقية، لا تعدو عن كونها تسليم طوعي لكافة مقاليد الأمور للنخب المثرية حديثاً بتحالفها مع البورجوازيات الرجعية والتقليدية لتصيغ مستقبلاً سورياً يرزح بكامل ثقله على كاهل المُفقَرين والمُجَوعين. فبرغم الأزمة الوطنية الخانقة، فإن رواد النهب والسلب ومراكمي الثروات لم يستريحوا بل وضاعفوا من حدة حربهم الطبقية ضد الفقراء، الخاسر الوحيد في هذه الحرب. نعم، قد يبدو بث الروح في المطالب الطبقية عملية شبه مستحيلة ضمن الظروف الموضوعية، وخاصة وأن معظمنا يفكر كانعزاليات معرفية متشظية دونما سياق جامع. ونعم، ينبغي على الماركسيين في المنطقة أن يمارسوا جهداً جهيداً في محاولة إعطاء روح جديدة لتعريفات "الطبقة" و "الدولة" و "المجتمع" و "الوطن"، ونعم قد ينقصنا الظرف الذاتي حالياً نتيجة التشرذم وفقدان البوصلة، ولكن التخلي عن الهوية الطبقية أو تسويفها لن يمكننا من لعب أي دور حتى في حماية وجودنا إلا إذا أطلقنا على هذا الوجود المترهل المتشائم تسمية الوجود. ترهل بعضنا في المكاتب وبعضنا الأخر في المراكز البحثية الممولة دولياً مع حالة من الرهاب الاجتماعي هو شيء يشابه الوجود ولا يحياه. نعم فإن تبدو مهماتنا صعبة و معقدة ولا يمكن خوضها فرادى، ولكني لا أجد بديلاً عن الإلحاح على راهنية و أهمية المطالب الطبقية، وفي الأساس فإن الفصل بين المهمات الطبقية والوطنية والاجتماعية و الديمقراطية في نموذج الدولة المابعد استعمارية يبدو فصلاً قسرياً، فمن أبرز خصائص هذا النموذج أن البورجوازية المحلية لا تمتلك إمكانية لعب أي دور ريادي في القضايا الوطنية أو الاجتماعية و الديمقراطية، بل غالباً ما تسارع للتحالف مع الاستعمار أو الديكتاتوريات أو كلاهما، قانعة راضية بدور "السمسار" محصلة ما يمكن تحصيله، فلا تشابه البورجوازيات المنجزة في شيء خلا كونها كما أقرانها، ترتخي بكامل وزنها على كاهل الفقراء.
----------------------------------------------------------------------------------------

ثلاثية احتجاجات مهسا أميني في إيران

تواجه السلطة الدينية في إيران بزعامة المرشد الأعلى علي خامنئي الذي تجاوز عمره (٨٣) عاما أكبر تحدي بتاريخ السلطة الإيرانية منذ قيامها في عام ١٩٧٩، وجاء هذا التحدي على خلفية الاحتجاجات التي انطلقت في ١٦ أيلول 2022بسبب اعتقال الشابة مهسا أميني (٢٢) عاما في ١٣ أيلول ووفاتها بسبب التعذيب على أيدي شرطة أخلاق إيران على خلفية عدم تقيدها بقواعد اللباس المفروضة على النساء فتحولت جنازتها من منزل ذويها إلى تظاهرة احتجاجية سرعان ما تطورت إلى حركة احتجاج واسعة في أغلب المدن الإيرانية.
اعتادت السلطات في ايران على إخماد معظم الاحتجاجات التي انطلقت خلال العقود الماضية في أيام معدودة ولم تشكل حينها أي تحدي أو قلق عند السلطة الحاكمة في طهران ، إلا أن احتجاجات ١٦ أيلول من هذا العام اعتبرت حالة نوعية مختلفة عن سابقاتها من الاحتجاجات كونها لاتزال مستمرة وهي في توسع ، ،فقد شملت شريحة واسعة ومتنوعة من الشعب وكان الدافع الأساسي لها مزيجاً من المطالب السياسية والاجتماعية والاقتصادي لذلك نجد النظام قد جابهها بوحشة غير مسبوقة ، كما أن عدم استعداد السلطة الدينية لإجراء أي إصلاحات للأخطاء المتراكمة خلال العقود الماضية اعتبر أيضاً سببا أخر في استمراريتها وشمولها لشرائح اجتماعية جديدة وتحديدا المرأة وطلاب المدارس وخريجي الجامعات ومشاهير فنية وثقافية وفقراء المجتمع و الطبقة الوسطى التي ازداد افتقارها من جراء
الاستبداد وفساد العديد من مؤسسات الدولة وهيمنة السلطة الحاكمة وقيادات الحرس الثوري على مفاصل الحياة السياسية والاقتصادية.
لقد أطلق أغلب المراقبين والسياسيين على احتجاجات ١٦ أيلول بثورة مهسا أميني ، لأن مقتلها شكل الشرارة التي أشعل غضب الشارع الإيراني فأصبحت رمزاً وأيقونة لكل معارض لسلطة الاستبداد الديني وكان دافعا للمرأة الإيرانية للمشاركة الواسعة في الاحتجاجات ومنحها الشجاعة لتتصدر واجهة الاحتجاجات بشعارها الذي حملته ( المرأة، الحياة ، الحرية ) ومطالبة بحقوقها وحريتها بالحياة الاجتماعية والثقافية وفي الملبس متحديا القمع الوحشي الذي مورس عليها من قبل شرطة الأخلاق التابعة للسلطة الدينية و مواجهتها لإطلاق الرصاص الحي واستعدادها للموت من اجل نيل تلك الحقوق المحرومة منها منذ عام ١٩٧٩ بعد سيطرة القوى الدينية بزعامة أية الله الخميني على الثورة والسلطة في ايران فأحرقت الحجاب المفروض عليها فأعطى ذلك بعداً حقوقياً واجتماعياً وإنسانيا وثقافياً إضافة للبعد السياسي المميز الأمر الذي ساهم إلى حد كبير في نيل الاحتجاجات الدعم الداخلي والخارجي عن سابقاتها .
لقد تميزت تلك الاحتجاجات عند المراقبين لها ولأول مرة بتلاقي ثلاثية أهدافها السياسية والاقتصادية والاجتماعية فسميت عندهم أيضاً بانفجار الأزمة الثلاثية في أيران ، فسياسياً هتف جميع المحتجين رجالاً ونساءً بسقوط النظام وسلطة المرشد الأعلى وتغيير النظام السياسي وبموت الديكتاتور وإحراق صور المرشد الأعلى ، والقصد هنا المرشد الأعلى أية الله خامنئي ،كما لوحظ ولأول مرة في تاريخ الاحتجاجات المشاركة الواسعة للعمال وللفئات الفقيرة وللطلاب والشباب وخريجي الجامعات و للطبقة الوسطى في عديد المدن والبلدات ، فتم إضراب الجامعات كما أغلق أغلب التجار محلاتهم التجارية بما فيه البازار الكبير الشهير في طهران وكذلك في مدن كرمان وشيراز ويزد ومدن أخرى ، ويؤكد المراقبون أن الاحتجاجات عمت أكثر من مئة مدينة وبلدة تضامناً مع المتظاهرين واحتجاجاً على القمع وانتهاكات حقوق الإنسان و استخدام الرصاص الحي وازدياد عدد القتلى والمعتقلون والمعتقلات والمحكومون بالإعدام وعلى قطع وسائل الاتصال الحديثة وتعبيراً عن الحالة الاقتصادية المتردية وسوء الأحوال المعيشية لشرائح واسعة في ايران وعلى عدم تطبيق العدالة في توزيع الثروة وعلى هيمنة السلطة الدينية ورموزها من الشرطة والأمن وقادة الحرس الثوري على ثروات الدولة وبسبب السياسات الفاشلة الداخلية والخارجة التي جلبت العقوبات على إيران منذ أكثر من أربعون عاماً ومن جراء تبنيها لمبدأ تصدير الثورة وتدخلها في الشؤون الداخلية لدول الجوار كما هو في العراق وسوريا واليمن ولبنان ، كما تميزت ثورة مهسا أميني بعدم المراهنة على ما سمي بالتيار الإصلاحي داخل السلطة الدينية وأنهت فكرة أن الصراع الدائر في ايران هو بين إصلاحين ومحافظين وهذا خلافاً لما حدث في احتجاجات ٢٠٠٩ التي تميزت بطابعها السياسي فقط عندما نزل الشعب الإيراني إلى الشوارع على أثر الانتخابات الرئاسية تأييداً للتيار الإصلاحي وحظيت بدعمه، كما أنها تختلف عن احتجاجات ٢٠١٩ التي اندلعت لأسباب اقتصادية فقط بعد رفع أسعار المحروقات والعديد من المواد الرئيسية وطالبت بتحسين الوضع المعيشي ، أما في هذه الثورة فلم يكن للتيار الإصلاحي أي دور فيها وبقي مراقبا أو ناصحاً للسلطة من تداعياتها في المجتمع الإيراني كما هو عند خاتمي الوجه البارز في التيار الإصلاحي الذي تعامل بنجاح مع الاحتجاجات السابقة ، فقد حذر السلطات الإيرانية من الانهيار الاجتماعي الذي يمكن أن تفضي إليه موجة الاحتجاجات والعنف المتصاعد بسبب القمع منذ وفاة الشابة مهسا أميني ويقترح لمنع تدهور الوضع بإعادة الثقة بين النظام والمحتجين عبر تصحيح ذاتي للنظام السياسي سواءً لجهة تركيبته أو لجهة تصرفه واحترام الحريات الأساسية وفي ذلك إشارة إلى وجوب احترام الحريات المدنية وحقوق الإنسان وإلى التعامل بحكمة مع مسألة الأمن القومي أو فيما يتعلق بالتحديات القومية – الأمنية والمذهبية بين منطقة وأخرى وكما يجري حالياً التمييز بين قلب أيران الفارسية وبين الأطراف السنية العربية منها والكردية وأيضاً مع البلوشية والسيستانية ومع عشائر التركمان إضافة إلى وقف حملات الافتراء والتحريض ضد الأكراد تحت عنوان التطرف القومي حيناً والإرهاب التكفيري حيناً أخر ، كما يرى حول الاتهامات العقيمة للاحتجاجات ( بالتآمر الخارجي ) فهو يرى ( أنه يجب البحث في جذور الأزمة الإيرانية عنها في داخل البلاد وهي ناتجة عن ألية حكم تشوبها أخطاء والطريقة الخاطئة في الحكم وأنه يجب الاعتراف بالحقيقة وعدم التهرب من تحمل المسؤولية بذريعة وجود تدخلات وخارجية تدفع نحو حرب أهلية )
لقد أكد العديد من الصحفيين ولمراقبين بأن احتجاجات مهسا أميني شملت العديد من المطالب السياسية والاقتصادية والحقوقية ،حيث قالوا أنه لأول مرة في تاريخ الاحتجاجات هتف المتظاهرون بالموت للديكتاتور والمقصود هنا أية الله خامنئي كما هتفوا بأسقاط سلطة المرشد الأعلى وتغير النظام السياسي وإنهاء حكم رجال الدين القائم منذ عام ١٩٧٩ كما أحرقوا صور خامنئي ورموز النظام مثل قاسم سليماني ، وأحرقت النساء الحجاب احتجاجاً على القيود الاجتماعية المفروضة عليهم في اللباس أو على سلوكهن في الأماكن العامة أو على حرياتهن الخاصة .
لقد أظهرت احتجاجات بهسا أميني الواسعة والشاملة عمق الأزمة الإيرانية ، ونجد تعبيرات ذلك من خلال استقطابها لشرائح عديدة من المجتمع الإيراني التي عبرت عن مدى الاستياء المتنامي لديها وعن عجز السلطة عن تلبية حاجياتها الأساسية فنزلت الطبقة الفقيرة للمرة الأولى في مدن عديدة من ايران متحدية كافة أساليب القمع الوحشي والاعتقال والموت ، تلك الطبقة التي شكل عدد كبيراً منهم سابقاً وقبل الاحتجاجات قاعدة النظام الاجتماعي أو موالون له وهذا يعبر عن تدهور حالتهم الاجتماعية والاقتصادية وكان ذلك دافعاً قوياً لهم ليأخذ احتجاجهم طابعاً سياسياً استهدف جميع مكونات السلطة الدينية بجناحيها الإصلاحي والمتشدد ، إضافة للتنديد بالحرس الثوري ورموزه الذي احتكر مع رموز السلطة الدينية السلطتين السياسية والاقتصادية .، كما لوحظ أيضاً في تلك الاحتجاجات تضامنا كبيراً بين مختلف الأثنيات الإيرانية والعديد من المشاهير من الفنانين والكتاب والمثقفين مما أعطاها طابعاً وطنياً وهذا ما يفسر وحشية النظام الإيراني ضدها والسعي للقضاء عليها وإخمادها في أسرع زمن ممكن .
لا يمكن اعتبار الانفجارات الإيرانية المتتالية مستقلة أو منعزلة عن الأزمات السياسية والاقتصادية والاجتماعية في منطقة الشرق الأوسط والخليج العربي والدول الإفريقية ، فجميعها بما فيها انفجار بركان مهسا أميني الإيراني كان المحرك الأساسي فيها هو استمرار الاستبداد والفساد في أنظمة الحكم وتعميم القمع الوحشي لشعوب المنطقة وصعوبة الحصول على رغيف الخبز ولقمة العيش والحرمان من الحقوق والحريات العامة والخاصة ، لذلك ليس غريبا أن يشبه المراقبين والمحللين السياسيين احتجاجات ١٦ أيلول في ايران بثورة محمد البوعزيزي في تونس عندما اقدم هذا الشاب على إحراق نفسه احتجاجا على الأوضاع الاقتصادية والمعيشية المتردية وعدم تمكنه من تأمين قوت عائلته وبسبب إهانته من الشرطة التونسية أثناء عمله ، وفي هذا السياق ، فايران حينها كانت تعتبر من أوائل الدول الإقليمية لتي رحبت بما سمي بالربيع العربي وحينها أشادت بالاحتجاجات التونسية والمصرية والجزائرية والتطورات اللاحقة من إسقاط أنظمة وإقامة أنظمة جديدة واعتبرت تلك التطورات امتداد للثورة الإيرانية عام ١٩٧٩، والمستوحاة منها كما عبر حينها المرشد الأعلى علي خامنئي في خطبة يوم جمعة في ٢٠١١ واعتبر ما حادث في تونس ومصر دليل على قوة تأثير الثورة الإيرانية الإسلامية ، أما قاسم سليماني قائد فيلق القدس والحرس الثوري الإيرانية فقد اعتبر ما حدث في مصر إيرانيات جديدة وكبرى في المنطقة، لم تدرك السلطة الدينية في أيران إلا مؤخراً من أنه لا يمكن أن يستمر احتكار السلطة والاقتصاد وممارسة القمع على الشعب وحرمانه من الحريات عشرات السنيين ، فشعرت بخطورة امتدادات الاحتجاجات في جميع الأراضي الإيرانية وتأثير الشعارات التي تبنتها وفي مقدمتها سقوط النظام والسلطة وموت الديكتاتور ومحاربة الفساد والرشوة والمطالبة بمنح الحريات العامة والخاصة وتحقيق العدالة والقضاء على الفقر والبطالة ، كما أن رفض أغلبية الشعب الإيراني للسياسة الخارجية وتدخلها في شؤون دول الجوار وتقديم الدعم غير المحدود للنظام السوري لقمع الشعب السوري الثائر ضد الاستبداد والفساد قد رفع الغطاء عن الحجة التي يسوقها النظام من أنه داعماً للمستضعفين ويحارب الاستكبار وأن سياساتها مع الثورات انتهازية ، كما أن ازدياد التأييد الداخلي والدولي للاحتجاجات أصبح يشكل هاجسا عند السلطة من أنه سيمنحها قوة وإمكانية تغير النظام ، لذلك قررت السلطة الدينية عدم تقديم أي تنازل للمتظاهرين واتهمتهم بالعملاء والخونة واعتبرت الاحتجاجات بفعل من الخارج وخاصة أمريكا وبريطانيا والسعودية واتجهت إلى تبني سياسة متشددة في التعامل مع الاحتجاجات أو أية دعوة للتظاهر واستعملت القمع المفرط في مواجهة المتظاهرين وأنزلت أشد العقوبات بحق رواد التظاهر ، وقد وصلت أحكام الإعدام إلى أكثر من ٣٠ حكماً ، كما فرضت قيود شديدة على وسائل الاتصال الحديثة وفرضت الإقامة الجبرية على زعيمي الحركة الإصلاحية مير حسين موسوي ومهدي ركوبي .
مع دخول الاحتجاجات الشهر الثالث دون أن تنجح في احتوائها أو إخمادها فان طهران فوجئت بنجاحها وتجاوز كل الأسباب التي أدت إلى إنهاء الاحتجاجات السابقة وفي زمن قصير لا يتجاوز العشرة أيام وهي تخشى من استمرارها خلال المرحلة القادمة ولاسيما مع المشاركة الواسعة لجيل الشباب الذي أصبح يشكل القسم الأكبر من المتظاهرين ، جيل يحمل تطلعات تتباين مع توجهات النظام الإيراني وخاصة ما يتعلق بالموقف من القيود الاجتماعية والثقافية المفروضة وما يعاني من هواجس يعيشها حول مستقبله الغامض ، فمع التطور التكنولوجي الهائل والمتسارع خلال العقود الماضية من عمر الثورة الإيرانية ، إضافة لما وقع من متغيرات دولية وإقليمية وثورات أمم وشعوب تطالب بالديموقراطية وبالحقوق والحريات وتحقيق العدالة وإنهاء الاستبداد والفساد والفقر ، فقد أصبح يرى الشبا ب الإيراني أنه أن الأوان لأحداث تغير جوهري في المجتمع والسلطة وتجاوز ثوابت السلطة الدينية في السياسة وفي الاقتصاد وفي الحياة الاجتماعية .
رغم مخاوف السلطة الإيرانية من استمرار الاحتجاجات وتداعياتها في المجتمع الإيراني، إلا أنه ولغايته لم تبدي السلطة الإيرانية أي استعداد لتلبية مطالب المشعب الإيراني الذي أصبح يعرف إلى حد بعيد ماذا يريد وهو مصمم في الاستمرار لتحقيق مطالبه في تغير الوضع القائم وإنه يمكن القول إن الشعب الإيراني اجتاز مراحل صعبة ومهمة في مسيرته الاحتجاجية، ويبقى السؤال الأهم، هل الاحتجاجات لوحدها تنهي نظام مستبد لا يزال يملك الكثير من عوامل القوة الداخلية والخارجية. ؟
------------------------------------------------------------------------------------------------
العلاقة العربية – الكردية
محمد سيد رصاص
" وكالة نورث برس"-11122022
تتجاور أربع قوميات في أربع دول: العرب والترك والفرس والكرد في إيران وتركيا والعراق وسوريا. خلال قرن من الزمن ، أومايقرب من القرن ، على نشوء هذه الدول الأربع كان هناك علاقة تناحرية بين الفرس والكرد في ايران تجسدت في جمهورية مهاباد الكردية بالأربعينيات وفي ثورة 1979بكردستان ايران ضد الخميني ،ومثيل لهذه العلاقة التناحرية بين الأتراك والكرد في تركيا من خلال ثورة الشيخ سعيد بيران ضد مصطفى كمال أتاتورك عام1925وفي ثورة الجنرال إحسان نوري باشا 1927-1930في منطقة آرارات وفي ثورة منطقة ديرسيم عام1937ثم في الثورة المسلحة التي يخوضها حزب العمال الكردستاني في كردستان تركيا منذ يوم15آب1984.في العراق كانت العلاقة تمازجية بين العرب والكرد منذ نشوء الدولة العراقية عام1921ثم بدأ الصدام مع ثورة أيلول1961التي قادها الملا مصطفى البرزاني ضد حكم عبد الكريم قاسم والتي هدأت باتفاق11آذار1970ثم عادت عام1974قبل أن يتم تسكينها باتفاق الجزائر بآذار1975بين شاه ايران وصدام حسين ولتعود بانتفاضة آذار1991بكردستان العراق قبل أن يتم التزاوج القلق بين عرب وكرد العراق عبر دستور2004والمشاركة بالسلطة . في سوريا كانت العلاقة بين العرب والكرد أفضل من الدول الثلاث المذكورة حيث وجد رؤساء جمهورية من الكرد، مثل حسني الزعيم وأديب الشيشكلي ورؤساء وزراء مثل حسني البرازي ومحسن البرازي ومحمود الأيوبي ووجد زعماء سياسيون كبار مثل خالد بكداش، وشخصيات دينية كبرى مثل الشيخين أحمد كفتارو ومحمد سعيد رمضان البوطي.
على الأرجح،هنا،أن طبيعة القوميتين الفارسية والتركية هي التي قادت للعلاقة التناحرية مع الكرد في ايران وتركيا حيث توجد بالبلدين قوميتان هي أقرب للقومية العرقية – السلالية ،فيما عند العرب القومية هي هوية ثقافية – حضارية ارتبطت بالإسلام ،الذي كان رحم العروبة رغم كون الإسلام هو دعوة أممية وليست قومية، ولم ترتبط العروبة كقومية بالعرق أوالدم والسلالة ويمكن لتعريف الجاحظ وهو غير عربي من حيث الأصل الدموي ،أن يكون هو الأقرب لتعريف العربي: "العربي هو من كان عربي الهوى واللسان "،لهذا نجد أناس من أصول عربية قحة مثل سعيد عقل وهو من قبيلة عربية يمانية سكنت في منطقة زحلة بلبنان،لايعتبر نفسه عربياً بل فينيقياً،فيمانجد أناساً من أصول غير عربية مثل ساطع الحصري وهو أحد مؤسسي الاتجاه القومي العروبي الحديث ولم يكن يتقن العربية جيدا يعتبر نفسه عربيا وكان هناك الكثير من الشخصيات من أصول غير عربية انتسبوا لاتجاهات قومية عروبية بالقرن العشرين.لانجد هذه الحالة عند شخص هو مؤسس للقومية التركية الحديثة مثل مصطفى كمال أتاتورك ،ولاعند الاتجاه القومي التركي الطوراني الذي يمد القومية التركية لحدود عالم تركي يمتد من بحر إيجة حتى تركستان الصينية بخلاف أتاتورك الذي يحصر القومية التركية في حدود تركيا ،حيث عند كلاهما القومية ذات طابع دموي سلالي- عرقي وهو الحال أيضاً عند القوميين الفرس فيما العروبة عند العروبيين تختلط بالاسلام،وتذوب فيه،وهو ما حصل بعد سقوط الدولة الأموية التي كانت دولة "عربية "فيما الدولة العباسية هي دولة إسلامية أممية وهذا ما ينطبق على الدولة العثمانية ولم تنشأ العروبة الحديثة إلابعد الطلاق التركي- العربي الذي جسده حكم حزب الاتحاد والترقي بين عامي1908و1918ثم مع جمهورية أتاتورك التركية في عام1923.لاينفي هذا أنه كانت هناك حالات من القومية الشوفينية عند عرب مثل صدام حسين ولكنه حتى وهو يضطهد الكرد كان لا ينطلق من نفي قوميتهم كمافعل أتاتورك،فهو الذي وقع اتفاق 11آذار1970مع الملا البرزاني الذي يقول بالحكم الذاتي لكردستان العراق،بل كان صدامه معهم أقرب للصدام المسلح بين سلطة ومعارضة مسلحة،وحتى بعد انتفاضة آذار1991جاء مسعود البرزاني وجلال الطالباني لبغداد وتفاوضا معه مطولاً،وهو الذي استنجد به مسعود ضد جلال في آب1996بأربيل،فيما حال الشيخ سعيد بيران مع أتاتورك ، والقاضي محمد مع شاه ايران في مهاباد وعبدالرحمن قاسملو مع السلطة الاسلامية الايرانية ،كان مختلفاً حيث لايوجد حلاً وسطاً.
إذا ابتعدنا عن طبيعة القوميات،فإن هناك تلاقي للمصالح بين العرب والكرد،حيث كلاهما في حالة استهداف من قبل نزعتين توسعيتين فارسية وتركية،تأخذ عند الفرس اتجاهاً للهيمنة على دول عربية عدة وتتبيع سلطاتها لايران عبر استغلال وتحريك حركات اسلامية شيعية تصل أوتهيمن على السلطات في بلدان عربية معينة،مثل العراق واليمن ولبنان،فيما عند الأتراك هناك اتجاهات للسيطرة على "خطوط حدودية أمنية"في سوريا والعراق مع اتجاهات عند حزب أردوغان،يعبر عنها بعض مسؤوليه،نحو نفض اليد من معاهدة لوزان بعد انقضاء مئة عام على التوقيع عليها في 24تموز1923وهي المعاهدة التي أقيمت الدولة التركية الحديثة عليها وتم فيها الاعتراف والاقرار بالحدود القائمة مع الدول المجاورة لها،وهو مايوحي بأن هذه الخطوط الأمنية التركية الحدودية ستكون مثل خط اقليم دونباس الذي أقامه بوتين في أوكرانيا بعام2014ثم قام بضمه لروسيا في 30أيلول2022.
هذا التلاقي للمصالح بين العرب والكرد ،وهو تلاقي سيتم تشجيعه في القاهرة والرياض وواشنطن وفي بروكسل عاصمة الاتحاد الأوروبي فيما موسكو بالضفة الأخرى،هو ناتج عن أن صعود القوتين الايرانية،بعد غزو واحتلال أميركا للعراق وتمدد طهران عبر البوابة البغدادية لعموم اقليم الشرق الأوسط ، والتركية ،بعد اعتماد واشنطن على ظاهرة أردوغان إثر ضربة 11سبتمبر2001كمحاولة لاستخدام تلاميذ حسن البنا ضد أسامة بن لادن ، سيكون على حساب العرب والكرد،ولكليهما مصلحة في وقف وانهاء التمددين الايراني والتركي في المنطقة سواء أخذ هذا أوذاك شكل هيمنة أوشكل نزعة توسعية . يمكن أن يساعد على ذلك،أن الحزبين الكبيرين في كردستان العراق،أي الحزب الديمقراطي الكردستاني والاتحاد الوطني الكردستاني،يريا المستقبل في بغداد عاصمة العراق الجديد وليس في أربيل والسليمانية،وأن القوة الأساسية عند الكرد السوريين،أي حزب الاتحاد الديمقراطي- pyd،ترى مستقبل سوريا ليس عبر الانفصال الجغرافي بل عبر "سوريا ديمقراطية"ضمن حدودها القائمة.

عن الطائفية و الدولة المملوكية
- مازن كم الماز -
يجد الإنسان من الصعوبة بمكان الاقتناع أن الطائفة بما تعنيه من مواقف مسبقة من شخصيات تاريخية ، أو مجرد أسماء ، تشكل ذلك الأساس الصلب الذي يشار إليه اليوم كوحدة أساسية لمجتمعاتنا … ماذا تعني أسماء كعائشة أو زينب ، عمر أو أبو بكر ، معاوية أو علي أو الحسين ، بالنسبة لمن يعيشون اليوم في مطلع الألفية الثالثة ؟ هل يستحق البشر أن يقتلوا ، يذبحوا ، يهددوا بالإبادة الجماعية ، يهمشوا و يقمعوا ، فقط لأنهم لا يعتقدون بأولوية أحد هذه الشخصيات التي عاشت قبل قرون ، بالنسبة للإله مقابل شخصيات أخرى تعتبر أقل أهمية و مرتبة إن ليس نقيضها الشرير ، شيء أشبه بمضاد المسيح … يبدو الموضوع أقرب إلى الهراء ، لكن ليس بالنسبة لأولئك المستعدين للقتل و للموت ، للذبح حتى الإبادة الجماعية ، على الهوية الطائفية …
الحقيقة أن الهوية الطائفية هي أعقد من ذلك ، لكنها ليست أكثر واقعية و جدية مما تبدو عليه في التساؤل السابق الذي يطيح بها من جذورها ، يبدو أنها منتج معقد اجتماعي عقيدي سياسي يهدف في الأساس لتنظيم الصراع على السلطة ، لإنتاج و إعادة إنتاج هذه السلطة … إنها حالة مجتمع محتبس تاريخيًا في لحظة ما و لا يستطيع تجاوزها ، يدور و يدور حول نفسه دون أن يبلغها لأنه لا يريد بلوغها من الأساس ، إنه يبحث عن منطق ما لصراعاته ، و هو هنا يصارع نفسه و أشباحه دون أن ينتصر … تبدو الهوية الطائفية على تهافتها ، السلاح الأمضى في الصراعات السياسية اليوم و بالتالي في فهم و تموضع السلطة السياسية في مجتمعات تحكمها العصبية بقصد مواجهة السلطة القائمة و تغييرها ، استبدالها بنقيضها ، نقيضها الشبيه ، نقيضها و نظيرها الطائفي في نفس الوقت
لنعود إلى القصة منذ بدايتها … على الرغم من أن الحكم الأموي قدم نفسه كحكم عربي إسلامي أو مسلم في مواجهة الخصوم التقليديين للدولة العربية الإسلامية الصاعدة خاصة البيزنطيين الذين حملوا لواء المسيحية الشرقية ، لكن علاقته بالمؤسسة الدينية الإسلامية نفسها بقيت متوترة … كان موقف أغلب رجال الدين الأوائل ، حتى أولئك الذين ابتعدوا أو تحاشوا الخلافات السياسية التي بدأت بالفتنة الأولى ، فضلوا الابتعاد عن السلطة الأموية بينما تعرض سلوك الخلفاء الأمويين الدنيوي لانتقادات واسعة و لو ضمنية من المؤسسة الدينية الناشئة ، صحيح أن هذه المؤسسة انشغلت بتنظيم الأسس اللاهوتية للدين الجديد عن التدخل المباشر في الصراعات السياسية تاركة عبء مواجهة السلطة الأموية لفرق المعارضة التي كانت في غالبيتها فرق معارضة مسلحة و لو أنها كانت في نفس الوقت فرقًا تنتج أفكار لاهوتية خاصة مستنبطة من القرآن لكن في مواجهة السلطة الأموية و نزعتها الاستبدادية و ممارساتها القمعية و الدنيوية … بينما انشغلت المؤسسة الدينية بالفقه أولا ثم بعلوم التفسير فالحديث ، تولت فرق المعارضة تأسيس نظرية سياسية للسلطة انقسمت بين فكرة التوريث الأرستقراطية الشيعية و فكرة الانتخاب و إلزام الإمام بالعدل عند الخوارج و أوائل القدرية و المعتزلة … حتى المرجئة الذين اتهموا بأنهم موالون للسلطة خرج من بينهم معارضون شكلوا تهديدا جديًا للسلطة الأموية … إذا استثنينا الشافعي ، كان مالك بن أنس و أبو حنيفة من معارضي السلطة و تعرضوا للتعذيب عقابًا على معارضتهم … لم يكن الفقه قد بلغ مرحلة من التراكم بحيث أنه لم يكن قد أنتج مرجعياته التي ستصبح المذاهب الفقهية في وقت متأخر ، كانت السيولة و الجرأة الفكرية هي سمة المرحلة … كانت الفرق تظهر و تموت بسرعة ، تحت وطأة هزائمها أمام السلطة لكن كانت سرعان ما تستبدل بأخرى أكثر تطورًا ، على صعيد النظرية السياسية و نقد السلطة القائمة … ليس فقط اللاهوت الخاص بالفرقة ، كانت عضويتها أيضًا سائلة ، فردية ، و لا تورث كما سنرى مع الانتماء الطائفي لاحقًا … لنأخذ المعتزلة كمثال ، رغم اتفاق المعتزلة على الأصول الخمسة المعروفة لكنهم طوروا هذه الأصول باستمرار و أضافوا إليها أبعادًا جديدة باستمرار ، و ناقضوا بعضهم البعض و اختلفوا في الكثير من القضايا الرئيسية ، الأمر الذي سيختفي تمامًا عندما ستتحول الفرق إلى طوائف ، لا يمكن أبدًا مقارنة المعتزلة و لا الخوارج و لا حتى الشيعة التي كانت يومها عنوانًا عريضًا يجمع تحته متناقضات يفرقها أكثر مما يجمعها ، بالطوائف كما اكتملت في وقت متأخر و كما نراها اليوم … و زاد الطين بلة مع انتصار العباسيين الذين تعود أصولهم إلى الشيعة الكيسانية إضافة إلى الدور الرئيسي الذي لعبه الموالي أو الفرس ، في انتصار حركتهم مما أنتج حركة إحياء للمعتقدات الفارسية القديمة ، ما سمي وقتها بالحركة الشعوبية ، و التي قابلها رد فعل سلطوي على يد المهدي و أولاده … وصلت السيولة الفكرية إلى ذروتها و كانت الحركة الارتدادية على الأبواب ، كان قمع السيولة و معها الفكر و سجنه ضمن حدود صارمة و تجريده من قدرته على النقد و جرأته على تجاوز السائد على الأبواب … يجب أن نعترف للمأمون بأنه أول من حاول ربط السلطة بمذهب معين ، لقد أدرك الرجل بعد احتدام الصراع بين العباسيين و أولاد عمومتهم العلويين ، الحاجة إلى مذهب رسمي للدولة ، تفرضه الدولة بالقوة ، تقمع خصومه ، و دفع تنور الرجل لأن يختار الاعتزال كمذهب ، كدين رسمي للدولة ، و بدأ المأمون بالفعل فرض الاعتزال على المؤسسة الدينية و عرض خصوم الاعتزال لمحنة خلق القرآن ، لكننا كنا قد وصلنا إلى مرحلة تاريخية ، حضارية ربما ، عقيدية ، فكرية ، و اجتماعية بالتأكيد ، أخذت فيها السيولة و الجرأة الفكرية تتراجع و تنحسر و الفكر يجد نفسه مدفوعًا أكثر فأكثر إلى دوغمائيات تستنفذه و تسد الطرق عليه ، جاء انقلاب المتوكل ليؤسس أخيرًا للمذهب السني السائد اليوم ، كمذهب للسلطة ، كدين رسمي للدولة … كان المذهب الأشعري أول مذهب لاهوتي عقيدي متكامل ، نهائي ، منجز ، غير قابل للتعديل أو التطوير ، خلافًا للاعتزال الذي حاول نقضه ، و جاء ابن حنبل بمذهب أكثر انغلاقًا : نهاية تنفي كل ما بعدها ، لأنها تزعم العودة إلى البدايات ، و من البداية تصنع نهاية ، طريقًا مسدودًا ، لكن هذا الانسداد الحنبلي يبدو أقرب للنتيجة منه أن يكون سببًا ، لقد وصل التفكير إلى أقصاه و حبس نفسه ضمن دوغمائياته الأخيرة الحاسمة ؛ لقد بدأ عصر الانحطاط ، عصر التكرار و الشرح و الاجترار … كان تأثير الغزوات الخارجية ، الصليبية فالمغولية ، مدمرًا ، ليس على العمران فقط ، تزلزلت الأرض فجأة و بدلًا من ذكريات الإمبراطورية الغابرة حلت المصائب تباعًا ، استبيحت بغداد فالقدس و حلب و دمشق و حواضر الشرق مرارًا ، بدا المرتزقة الأيوبيون فالمماليك في وضعية المخلصين ، سيتحمل المجتمع فساد المماليك لقرون تالية و سيغفو على هدهدة التراتيل الصوفية و يستسلم لرقاده ضمن حدوده التي تضاءلت و تضاءلت قبل أن يقتحمها نابليون بونابرت … سيستكمل الصفويون و العثمانيون ما بدأه المأمون و المتوكل و ابن حنبل ، سيصبح للتنافس العثماني الصفوي عنوانًا واحدًا : صراع سني شيعي ، سيحول إسماعيل الصفوي العراق إلى المذهب الاثني عشري بالقوة المفرطة ، نفس القمع الذي سيلاحق فيه خصمه سليم الأول الشيعة في كل مكان … لقد تشكلت الطوائف أخيرًا ، اختفت الفرق السائلة دائمة التحول و المعارضة في معظمها ، لصالح طوائف منغلقة ، نهائية ناجزة ، ذات بعد سياسي مباشر مرتبط بسلطة ما ، و لاهوت مغلق يقوم على إنكار الآخر و تكفيره ، لقد أغلقت أبواب "العلم" ، نهائيًا ، و أصبح أي نقد يطاول لاهوت الطائفة يستوجب حكمًا واحدًا لا ثاني له ، هو الحرمان ( الكنسي ) و القتل ؛ الإلغاء التام …
كان بناء الدولة الحديثة في الشرق عملية معقدة ، كانت من جهةٍ استجابة لضغوط الخارج الأقوى ، عسكريًا و تكنولوجيًا و اقتصاديًا ، كانت أيضًا خيار الجزء "المتنور" من النخبة الحاكمة و الاجتماعية أمام الضغوط الهائلة لذلك الخارج ، و عنت هذه العملية تحطيم البنى التقليدية ، الاجتماعية و العقيدية ، و التراتبية الهرمية و الامتيازات السابقة لصالح أخرى ، أكثر "حداثة" مرتبطة بالحكومة المركزية و بواقعها السياسي الاجتماعي الجديد … طبقة الأعيان التي كانت تضم رجال الدين التقليديين و رجال الإقطاع و شيوخ الكار تلقت ضربات متلاحقة ، حل التعليم "الحديث" مكان التعليم الديني التقليدي كأساس لتدريب و صعود البيروقراطية الجديدة ، و اضطرت الدولة تحت ضغط التيارات الليبرالية الداخلية و الخارجية إلى إعلان المساواة بين "رعاياها" الأمر الذي أثار حفيظة الغالبية السنية و دفعها للانتقام من تدهور أوضاعها من الأقليات ، خاصة الأقلية المسيحية الصاعدة … تمثلت الدولة الحديثة في نظر "مواطنيها" بالتجنيد الإلزامي الذي قاومه الناس بشدة لدرجة إلحاق الأذى الجسدي بأنفسهم للتهرب منه ، و بالضرائب و أعمال السخرة التي فرضتها الحكومات المركزية و "بالمساواة" أمام القانون مع الأقليات المقموعة و المهمشة سابقًا الأمر الذي استجلب مقاومة شديدة في كثير من الأحيان ضد إجراءات الحكومة المركزية و تدخلها السافر و المتنامي في حياة الأفراد و سعيها الدائم لفرض تغييرات تتناقض مع معتقداتهم و ممارساتهم التقليدية … كانت أهم ثورات بلاد الشام في القرن التاسع عشر هي الثورات التي قامت في وجه إبراهيم باشا و إصلاحاته أما عامية جبل لبنان فسرعان ما تلتها مجازر ١٨٦٠ … على الرغم من محاولات تحديثها ، لم تحضر الدولة المركزية فقط كعامل تدمير للبنى العقيدية و الاجتماعية ، و في نظر الكثيرين من رجال الدين : الأخلاقية أيضًا ، بل أيضًا كحالة لتوزيع المنافع و الامتيازات في الدولة الناشئة و اقتصادها المزدهر … بلغ الصراع على توزيع هذه الامتيازات أشده بعد الاستقلال ، كانت النخب المتنافسة ، المدينية و التقليدية ، تزج في هذا الصراع بكل أسلحتها ، و كذلك مشاريع النخب الصاعدة من الطبقات الوسطى في الريف و المدينة التي رأت في الحراك السياسي فرصة لها للصعود الاجتماعي و زيادة حصتها من الامتيازات المتأتية عن مركزة السلطة و الاقتصاد … احتفظت الدولة العربية الحديثة بسمات عدة من الدولة المملوكية : نخبة تتحكم بالاقتصاد و تفرض "أتاوات" على المجتمع بينما تعتمد على تأكيد "شرعيتها" على قاعدتين ، لاهوتية و حماية البلاد من الأخطار الخارجية … هذا طبعًا إلى جانب سماتها الحديثة ، الخدمات التي تقدمها و التي تتفاوت سويتها صعودًا و هبوطًا و المؤسسات الحديثة التي تستعين بها في ممارسة حكمها و تسلطها … زاد هذا الشبه بين الدولة العربية الحديثة و بين الدولة المملوكية مع استيلاء العسكر على السلطة في كثير من الدول العربية ، بينما تحدث العسكر كثيرًا عن تحديث المجتمعات و الدول و أنهم الأحق بهذا باعتبارهم الجزء الأكثر ارتباطًا بالحداثة من النخبة السياسية و الاجتماعية ، فإنهم في الواقع كرسوا الشكل المملوكي من الحكم و السلطة الذي يزاوج بين الطبيعة العسكرية للحكام و بين لاهوت سلطوي و اقتصاد ريعي مستباح و علاقة قمع مباشرة و عارية للمجتمع بدون رتوش معاصرة أو مؤسساتية … و كما حدث في الصراعات السابقة التي واجهت صعود الحكومات المركزية ، فإن من تكفل بمواجهة الأنماط الأحدث منها هم أيضًا دعاة الحفاظ على البنى العقيدية و الاجتماعية التقليدية التي تريد إما إيقاف الزمن و العودة إلى الوراء أو القفز على الدولة المركزية و التحكم بها و بالمجتمع من خلالها كمؤسسة لتوزيع الامتيازات و الغنائم … تتشابه الأنظمة العربية ، المملوكية ، بشدة ، التوريث ظهر فجأة في كل مكان كنتيجة "لتطور" هذه الأنظمة ، التغول الأمني ، تزواج الخصخصة النيوليبرالية مع القمع العاري … في الحقيقة إن نظامي "البعث" في سوريا و العراق أكثر هذه الأمثلة نموذجية ، لدينا نظامان شبه متطابقين ، صورتان بالنيجاتيف عن بعضهما البعض : القرداحة مقابل العوجة و تكريت ، برزان التكريتي مقابل رفعت الأسد ، قصي و عدي صدام حسين مقابل باسل و بشار الأسد ، سيطرة خاصة للضباط العلويين على مفاصل الجيش و الأمن مقابل سيطرة خاصة للضباط السنة على نظرائها في العراق ، قمع استثنائي في حدته ضد الإسلاميين من الطائفة الأكبر و قوى طائفية معارضة تستخدم مظلومية الطائفة الأكبر لتبني سلطتها الخاصة ، كما شاهدنا في العراق حتى الآن على الأقل ، مع دور مركزي للخطاب الطائفي في المعارضة السورية … بالنسبة للباحثين عن بديل خارج الأنظمة القائمة و خارج إعادة توزيع الغنائم و الامتيازات بنسب معكوسة مع الحفاظ على بين النظام المملوكي كما هو ، فإن درس ليبيا و تونس و العراق ما بعد القذافي و بن علي و صدام تستحق الدراسة و التوقف على الأقل ، طبعًا هذا يتعارض مع رغبة القوى التي حلت محل الطاغية و مع حاجتها لإخفاء عجزها و فشلها في السلطة … لقد شاهدنا كيف عجزت "المعارضة" العراقية في الحكم عن حل أبسط مشاكل العراق الخدمية و كيف فاق فسادها فساد النظام الذي قاومته و كيف ردت على الحراك الشبابي المعارض لها ، الشيعي بدرجة كبيرة ، بنفس أساليب نظام صدام … في ليبيا أدى إسقاط نظام القذافي إلى استبدال الديكتاتور بسلطة أمراء الحرب ، أما في تونس فقد استطاع شخص لا يملك خبرة و لا دعمًا سياسيًا وازنًا من الإطاحة بالمؤسسات التي تعتبر نفسها ديمقراطية و من التحكم بمفاصل الدولة دون أية مقاومة جدية أو وسط لامبالاة كاملة من المجتمع … هنا يأتي دور تعرية الخطاب الطائفي كوعي زائف ، إذا أمكن لنا هنا استعارة المصطلح الماركسي ، وعي يلوي عنق الواقع الاجتماعي بهدف إنجاز تحول باتجاه الوراء ، تحول لكن دون تحول حقيقي ، تغيير في الوجوه المتسلطة و المتحكمة دون أي تغيير حتى في نمط هذا التسلط و الاستبداد ، كيلا يتوقف الأمر عند أمير مملوكي يسقط الأمير السابق فقط ليبني قصره على أنقاض قصور من سبقوه.


كيف تعاملنا نحن السوريين مع هويتنا الوطنية حتى الآن؟

(مقال كتب قبل سبع سنوات)
د. حبيب حداد
قبل ست سنوات ومنذ الأيام الأولى لإنطلاق انتفاضتهم الشعبية من اجل الحرية والكرامة والمساواة عبر السوريون عن هويتهم الوطنية بصورة عفوية وجماعية عندما كانوا يؤكدون في هتافاتهم، وعلى الدوام، ان الشعب السوري شعب واحد واحد، وان وحدته كانت خلال حقب التاريخ المتعاقبة أمضي سلاح امتلكه في مواجهة كل التحديات. غير أن مواقف السوريين وفهمهم لمقومات وحدتهم وبالتالي لمضمون وما هية هويتهم الوطنية قد تباينت واختلفت إلى حد كبير، كما اتضح ذلك بصورة جلية عبر المسار الدامي الذي قطعه شعبنا طوال السنوات الماضية للخلاص من حياة القهر والعسف والاستبداد وبناء دولة ديمقراطية عصرية. البعض منا ارجع كيان الشعب السوري الواحد، أو لنقل الموحد، إلى مجموعة شعوب تبعا لتعدد المكونات القومية والأثنية والثقافية التي يضمها نسيج الوحدة الوطنية، وبعض هذا البعض ذهب ابعد من ذلك بأن فسر أن حق تقرير المصير الذي ينص عليه ميثاق الأمم المتحدة بما في ذلك الحق في الانفصال والاستقلال وتكوين دولة خاصة يمكن أن ينطبق على كل من المكونات الأقوامية وربما المذهبية والثقافية لفسيفساء الوحدة
المجتمعية الوطنية للشعب السوري. .
والبعض رأى أن الهوية الوطنية السورية تتعارض مع الرابطة أو الهوية العربية للشعب السوري، وذهب ابعد من ذلك أيضا، بإصراره على معارضة التسمية الدستورية الحالية لسورية أي الجمهورية العربية السورية والاكتفاء بتسمية الجمهورية السورية أو الجمهورية السورية الاتحادية أو الديمقراطية، وهذا البعض الذي يجهل كيف جاءت هذه التسمية في أعقاب انهيار الجمهورية العربية المتحدة من
قبل حكم الانفصال، يدرك بالتأكيد أن قضية التسمية ليست قضية شكلية أو ثانوية وإنما هو يتمسك
بذلك لانطلاقه من فهم خاص به للهوية الوطنية السورية ومن تصور خاطئ يتعارض مع حقائق الواقع ومعطيات التاريخ المديد.
وبالمقابل نجد بعضا آخر ما يزال يرى في التأكيد على الهوية الوطنية السورية اتجاها يعزز الحالة القطرية والتجزئة والانكفاء أو
التخلي عن تحمل مسؤولية القضايا المركزية أوالتزامات وأعباء المصير المشترك للأمة العربية , فكأن هذا البعض ما يزال يعيش في مرحلة الصراع الإيديولوجي والعقائد الشمولية التي اثبت مسار التطور العالمي إخفاقها وانتهاء وظيفتها كما اثبتت مختلف تجارب حركة التحرر الوطني العربية خلال نصف القرن الماضي أن الوصول إلى أي شكل من أشكال توحيد الأقطار العربية لا بد أن تكون قاعدته الأساسية استكمال مقومات الاستقلال الحقيقي لكل من تلك الأقطار بإقامة أنظمة وطنية ديمقراطية حقيقية , أنظمة تجسد إرادة شعوبها وتحرر وتنمي طاقاتها وقدراتها الذاتية وتوفر ظروف التعاون والتكامل فيما بينها في كل الميادين السياسية والاقتصادية والثقافية والعلمية والدفاعية انسجاما مع ما كان يكرره عبد الناصر في اكثر من مناسبة بعد الانفصال , بان وحدة القوة وقوة الوحدة هما سبيل العرب إلى التقدم والنهضة . أما تيار الإسلام السياسي , وكذا الإسلام الجهادي المتمثل اليوم بالمجموعات التكفيرية المسلحة فقد اعتى كل منهما للهوية الوطنية السورية مضمونا خاصا يعتمد على مقوم واحد هو المرجعية الدينية فالأمة بالنسبة لهذا التيار هي الأمة التي يوحدها الدين الواحد وهو الإسلام وان تجسيد إرادة هذه الأمة وصنع المستقبل الذي تنشده يتطلب العودة إلى الماضي الزاهر واستعادة دولة الخلافة , ولذا فلم يكن مستغربا أن نجد التنظيمات الإسلامية الجهادية تتحاشى دوما ذكر اسم سورية في منشوراتها وبياناتها وتستبدلها بتسمية الشام أو بلاد الشام تمشيا مع الأدبيات والمرجعيات السلفية التي تعتمدها وتسير على نهجها . ,
السؤال الكبير الذي يطرح نفسه في هذا الصدد حيث ازمه الهوية الوطنية السورية تواجهنا باعتبارها انعكاسا أو وجها من أوجه الأزمة الشاملة والمتفاقمة التي تمر بها بلادنا اليوم ,’والتي أخذت بأبعادها الكارثية حالة المأساة المهددة لوجودنا الوطني , السؤال الذي يطرح نفسه علينا جميعا هو لماذا أصبحت هويتنا الوطنية السورية في هذا الوقت بالذات موضع تساؤل عن ماهيتها وموضع تشكيك في مقوماتها وموضع تنكر لها , ولماذا يمضي البعض في محاولة اصطناع وتركيب هويات بديلة عنها تطعن في الصميم وحدة شعبنا وتتجاهل حقائق التاريخ وتضحيات أجيالنا وتجهض بالتالي مشروعنا الوطني الديمقراطي السوري الواحد ؟؟؟
في محاولتنا الإجابة على هذا السؤال نرى من المناسب أن نبدي ملاحظتين أساسيتين: أولها أن ازمه مجتمعنا السوري اليوم. والتي تلتقي في معظم مظاهرها وأسبابها مع أزمات العديد من المجتمعات العربية الأخرى، هذه الأزمة الشاملة هي من وجهة نظرنا ازمه وعي وثقافة بالدرجة الأولى، ازمه النخب الفكرية والسياسية وحركات الإصلاح والتجديد بصورة عامة. حيث يتجلى اليوم على ارض الواقع
إضافة إلى القصور في وعيها ومما رساتها القصور الفاضح في تكوينها البنيوي الوطني، والارتداد إلى روابطها العصبوية والفئوية ما قبل الوطنية برغم تأكيدها المتواصل على التزامها بقيم العقلانية والديمقراطية والعلمانية في سلوكها وفي حياتها الداخلية، الأمر الذي أدى من حيث النتيجة إلى تقاعسها وتخلفها عن أداء دورها الوطني والعجز عن إنجاز المهمات المرحلية التي تطرحها في برامجها السياسية. أما الملاحظة الثانية فهي أن ما نواجهه اليوم من مشاكل أو إشكاليات سواء على صعيد بنائنا الوطني اعلى طريق استكمال تحررنا وصنع غدنا في مسار التقدم الإنساني الشامل، هذا الواقع هو حصاد حقبة كاملة من التراجعات والهزائم والخيبات التي منيت بها شعوبنا العربية، ونعني بذلك الحقبة التي أعقبت مرحلة المد التحرري الوطني والقومي في خمسينات وستينات القرن الماضي. ففي تلك المرحلة وبرغم ما عرفه كفاح الشعوب العربية من نكسات وهزائم وفي مقدمتها نكسة الانفصال وهزيمة حزيران عام 1967 غير أن
إرادة شعوب الأمة العربية لم تنكسر كما أن إيمانها بمصيرها المشترك لم يتزعزع أو يضعف، هذا الأمر الذي وجدنا نقيضه يسود في مرحلة التراجع والانهيار الوضع الذي أدى بأحد حكام الخليج أن يعلن في حرب الخليج الثانية بعد غزو الكويت: لقد تأكد لنا أن وجود امه عربية هو أسطورة !!!. نعم كان الحصاد المر لتراجع وإخفاق الشعوب العربية في كفاحها طوال العقود الثلاثة الأخيرة من القرن الماضي هو المحنة الوطنية والقومية التي تعيشها بلداننا الأن نتيجة تفاقم أوضاع التخلف والتجزئة والتبعية ., فاذا كان المجال لا يسمح لنا هنا أن نبحث في أسبابها , واذا كان الحكم الموضوعي لا يبرر لنا رد هذه الأسباب كلها اومعظمها إلى المشروع الصهيوني والعوامل الدولية الخارجية , فلا بد من الاعتراف هنا بالمسؤولية التي تتحملها القوى الوطنية والتقدمية في تلك الفترة سواء ما كان منها في السلطة في مصر وسورية والعراق والجزائر واليمن أو ما كان منها في المعارضة تلك القوى التي فرطت بفرص عديدة تاريخية كان يمكن فيها تحقيق إنجازات نوعية على مستوى التكامل والعمل العربي المشترك بما في ذلك تحقيق خطوات وحدوية صحيحة تتوفر لها كل شروط الاستمرار والنجاح , أو على صعيد القضية الفلسطينية باعتبارها القضية المركزية لجميع شعوب الأمة . كان ذلك هو المنحى والمسار الذي حكم حقبة تراجع مجتمعاتنا حتى وصلنا إلى ما نحن عليه اليوم حيث أصبحت أحوال بلداننا العربية تمثل وضعا استثنائيا متخلفا في عالم اليوم. أن نظرة إلى هذا الوضع واسترجاع ما كانت عليه طموحاتنا وأحلامنا نحن الجيل الذي عايش مرحلة النهوض والمد الوطني التحرري إنما تذكرنا بصحة ما كان قد طرحه هيغل، ولو قد يرى فيه البعض نوعا من المبالغة التي لا تتعدى في رأينا نطاق
الموضوعية، (: إن كل أمة لا تستفيد من الفرص التاريخية المتاحة لها، في تجسيد وحدتها وتحقيق نهضتها فإنها غالبا ما ترتد إلى عهود بربرتيها).


من زوايا الذاكرة لشيوعي مدمن
- الدكتور جون نسطه -
من الذكريات النادرة التي لن أنساها مدى الحياة، إنني خرجت من البيت وفي جيبي خمسة ليرات سورية لا أملك غيرها فقد نضبت مدخراتي التي وفرتها من عملي السابق في المستشفى الإيطالي في مدينة حلب وبحكم عملي البعيد عن المنزل (طبيب مجند) في مستشفى المزة، اضطررت لإخذ سيارة أجرة لإيصالي إلى مشفى المزة العسكري.
دخلت إلى قسم التخدير وإذ بالعقيد الدكتور مصطفى سلاخو يسألني بلطف فيما إذا كنت اليوم مستعدا للعمل في قسم الأذن والأنف والحنجرة، دون أن يستخدم لغة الأمر ‚وهذا ما كان يميز هذا الإنسان المهذب اللطيف. فقلت له طبعا سأقوم بذلك. كان قسم الأذنية يقع في بناء آخر، فأخذت معي أحد المساعدين من صف الضباط، ممرض تخدير مختص وتوجهت إلى هناك. كان يعمل هناك طبيب أذنيه برتبة عقيد يدعى عبد الرحمن عفان، وهو يملك عيادة خاصة يعمل فيها بعد انتهاء الدوام في المستشفى العسكري.
وهذا الطبيب كان لا يتقن من الطب سوى عملية استئصال اللوزتين، حيث يطلب من المريض مبلغ مئة ليرة سورية فقط لقاء كل من الفحص الأولي واستئصال اللوزتين وزيارة المريض في بيته في المساء، هذا الأجر يعتبر منخفضا جدا مقارنة ببقية العيادات في تلك الحقبة لذلك كان يدعى بطبيب الفقراء. كان يقوم في كل يوم بعد الظهيرة بإجراء ما يقارب ثمانية إلى عشرة عمليات، وكان يساعده ممرض يعمل أيضا في المشفى العسكري يدعى محمد حمامة من حلب، شاب شديد الذكاء والنباهة، يملك طاقة مميزة وسرعة ودقة في العمل ويعطيه الطبيب عن كل عملية مبلغ خمسة ليرات، ويعطي طبيب التخدير مبلغ خمسة وعشرين ليرة على كل عملية.
وكما ذكرت في البداية خرجت من البيت ولم يكن معي سوى خمسة ليرات، ولم أكن أدرى كيف سأطعم زوجتي وولدي الصغار منى وفايز على الغداء. وبالمناسبة أروي لكم بأنني كنت شابا متعصبا جدا لمبادئي وأفكاري، فقد كنت قد نذرت على نفسي عدم الاستدانة وطلب أي مساعدة مادية من أحد، مهما كانت الظروف. وكانت عيادتي مجانية وغير مستعد للتنازل عن هذا المبدأ الذي وضعته اختيارياً بنفس الوقت.
خدرت أول مريض لعملية لوزات للدكتور عبد الرحمن عفان وثاني مريض وثالث ورابع الخ وكنت في كل مرة أقوم بالتخدير بطريقة حديثة وغير معروفة من قبل أطباء التخدير السوريين، تعلمتها في المانجا وتدعى بالألمانية
Neuroleptic Analgesie.
وهي طريقة تعتمد على إزالة الألم وتثبيط الوعي دون إزالته بالمطلق عن طريق المخدرات الطيارة مثل الأيسر أو الهالوتان اوغيرهم. فكان المريض يستيقظ فور انتهاء العملية دون الشعور بالألم. وكان قادرا أيضا على الكلام مباشرة.
لاحظ الدكتور عفان هذه الظاهرة وشد على كتفي قائلا كيف بعثك الله لي؟ أنت ستذهب في نهاية الدوام معي إلى عيادتي حيث ينتظرني عشرة مرضى.
كانت غرفة عملياته صغيرة تضم طاولة عمليات وبجانبها أريكة نوم لا غير.
يدخل المريض ويستلقي على طاولة العمليات وأباشر بقياس ضغطه وعد نبضه وسماع دقات قلبه خلال لحظات ثم أقوم بعمل نقل ملحي بسيط عن طريق احدى اوردته، وأبدأ بتخديره ويبدأ الدكتور عبد الرحمن بعملية استئصال اللوزتين بسرعة خيالية ثم نضع المريض على الأريكة، بينما يدخل المريض الذي بعده لأجراء العملية الثانية وقبل أن تنتهي العملية الثانية كان على المريض الأول مغادرة غرفة العمليات للذهاب إلى بيته مع مرافقه طبعا.
كنا في الساعة الواحدة نقوم بإجراء ثلاثة عمليات.
وخلال ثلاث ساعات ونصف أنهينا عشرة عمليات بالتمام والكمال. عند الانتهاء قام الدكتور عبد الرحمن بتقديم جزيل شكره وامتنانه لطريقتي الجديدة في التخدير والتي وفرت الكثير من الوقت في إيقاظ المريض، وقبضت منه مئتان وخمسون ليرة في ذلك اليوم مع الأخذ بعين الاعتبار أن راتبي في الشهر من قبل مستشفى المزة العسكري حوالي مئة وعشرين ليرة لا غير وأجرة منزلي ثلاثمئة وعشرون في الشهر.
وفي نهاية ذلك اليوم عرجت على مطعم شهير في شارع العابد يقوم بشوي اللحوم وابتعت ما يكفي لطعامنا في البيت مرفوع الرأس.
وقبل أن أنهي هذه الحادثة، أقول عندما وقفت على رأس طاولة العمليات قرأت على الحائط المقابل ضمن برواز زجاجي أنيق أية قرآنية كريمة نصها التالي.
(ومن يتقي الله يجعل له مخرجا ويرزقه من حيث لا يحتسب)
فقلت في نفسي هذه الآية الكريمة أنزلها الله من أجلي. (أستغفر الله).
ولا أزال إلى اليوم أردد هذه الآية الكريمة.
حدث ذلك في بداية العام ١٩٧٤.
استمريت في العمل مع الدكتور عبد الرحمن عفان حتى سفري إلى ألمانيا، وكنت أقوم بتخدير بعض المرضى صباحا في مستشفى نعسان أغا، كما أذكر، رغم نسياني الاسم الصحيح.
وهكذا تطور دخلي الشهري إلى حوالي خمسة أو ستة آلاف ليرة، كنت أنفقها في دعوتي المستمرة لمعارفي وأصدقائي إلى المنزل أو المطاعم العامة، وأنفق بعض منها في مساعدة المرضى الفقراء بدفع ثمن الدواء الذي أقوم بوصفه لهم ولا يستطيعون دفع ثمنه.
أصبح لدي عدد كبير من الأصدقاء والمعارف من كل الاتجاهات السياسية.
وكان صديقي المقرب واليومي الدكتور سعد النابلسي، المثقف البعثي قديما والماركسي حديثا، يساعدني بالتعرف على العديد من القيادات البعثية السابقة والمعارضة لحافظ الأسد أمثال أبو نسرين، رئيس الشرطة العسكرية سابقا والعديد من الشخصيات الرئيسية السابقة أيضا والذين نسيت أسمائها.
وكان يساعده في ذلك شاب ذكي رقيق من الرقة كان يسكن معي في بيتي خلال كل فترة غياب زوجتي بقصد الدراسة في المانجا. وقد جمعتنا علاقة صداقة واحترام قوية وهو يعمل صحفيا في القيادة القومية لحزب البعث، حيث يدخل أروقة القيادة القطرية، وينقل لي أخبار القيادتين في تلك الفترة، وقد قام بتعريفي بأحد الشخصيات العراقية وهو عضو القيادة القومية عن القطر العراقي في سورية، والذي نسيت اسمه الأن أيضا، الذي زارني فيما بعد لأكثر من مناسبة.
سعد النابلسي عرفني على السفير اليمني في دمشق، وأصبحنا أصدقاء حميمين، وصار يبعث المرضى من موظفي وعمال سفارته إلى عيادتي للعلاج.
وكان يدعوني مع سعد النابلسي إلى بيته، وخلال احدى هذه الدعوات، رن هاتف منزله وبعد مكالمة ليست قصيرة، التفت إلينا السفير اليمني قائلا معي على الخط العقيد علي أبو اللحوم، وهو ضيف على حافظ الأسد، باعتباره أيضا من زعماء عشيرة عبس، وهو أي على أبواللحوم يصر على دعوتنا جميعا إلى بيته للعشاء معه فما رأيكم؟ تدارست الأمر مع سعد وقلنا للسفير موافقين، وهو بدوره أبلغ العقيد علي على موافقتنا، وتوجهنا فورا بسيارة السفير إلى منزل العقيد علي أبو اللحوم.
منزل يقع في المزة الغربية، واسع جدا، جلسنا في صالونه الكبير الذي على شكل حرف ال بالإنكليزية في القسم الصغير من الصالون، شربنا أعداد من كؤوس الويسكي مع الحديث الودي والترحيب، وكان الهدوء التام يسيطر على أجواء الصالون، ولم نسمع صوتا ولا حسا، وفجأة يدعونا العقيد علي أبو اللحوم إلى الطعام في الجزء الطويل من الصالون، وإذ نحن أمام طاولة طويلة جدا تتسع لحوالي أربعة وعشرين شخصا، وعليها صحون عديدة مليئة بكل أنواع اللحوم وبصحون معدنية كبيرة مليئة بالأرز. وقد أثار الأمر دهشتنا.
أولا لأننا لم نسمع أي صوت خلال إعداد هذه المائدة الضخمة من قبل أهل بيته ولم نسمع أي صوت يخبره بجهوزية الطعام، أكلنا حتى شبعنا، ورغبت بإعداد مقلب لصديقي سعد، عندما طلبت منه أن يسأل العقيد علي عن مصدر كلمة أبو اللحوم، اسم عائلته، وعند سؤاله قلت لسعد بصوت عالي هل أنت مصاب بالعمى ألا ترى هذه الكمية الهائلة من اللحوم على المائدة. عندها تبسم العقيد وقال بالفعل اكتسبنا الاسم لان موائدنا كانت عامرة باللحوم دائما.
في هذا العام أيضا أي ١٩٧٤جرى إعلامنا من قبل قيادة الحزب الشيوعي السوري (المكتب السياسي) عن مشروع القرض الوطني، وهو مشروع يسعى للحصول، من خلال التبرعات والاستدانات على مبلغ كبير يوظفه الحزب في مشروع صناعي أو تجاري، يدر على الحزب دخل ثابت يكفي لمزاولة نشاطه.
فقمت بالتبرع بمبلغ كبير وصل إلى خمسة عشرة ألف ليرة سورية وكذلك قام الرفيق بسام العبيسي بتقديم مبلغ خمسة وعشرين ألف ليرة.
كان عدد زواري ومرضاي، وأغلبهم من الفلسطينيين، قد بلغ أعدادا كبيرة وفي أغلب التي الأيام كانت زوجتي تدعوا الجميع لتناول الطعام ظهرا أو مساءا.
وكنت أقوم بالعمل في مستوصف الجبهة الديمقراطية لتحرير فلسطين مرتين بالأسبوع بعد الظهر، بناء على دعوتي من قبل قيادة حزبنا الشيوعي (المكتب السياسي).
سعد اوسعيد النابلسي صديقي الدائم رجل متزن ومثقف رصين، يقول لي أثناء انتعاشي وفرحي بزيادة أعضاء الحزب وأصدقائه، أنتم لا تزالون سوى مشروع حزب قد ينجح وقد لا ينجح. وعندما أتذكر إلى أين وصل حال (حزب الشعب الديمقراطي)، الذي أسسه رياض الترك في عام2005، أستعيد كلماته بكل وضوح.








زوروا صفحتنا على الفايسبوك للاطلاع و الاقتراحات على الرابط التالي
http://www.facebook.com/1509678585952833- /الحزب-الشيوعي-السوري-المكتب-السياسي
موقع الحزب الشيوعي السوري- المكتب السياسي على الإنترنت:
www.scppb.org

موقع الحزب الشيوعي السوري-المكتب السياسي على (الحوار المتمدن):
www.ahewar.org/m.asp?i=9135



#الحزب_الشيوعي_السوري_-_المكتب_السياسي (هاشتاغ)       The_Syrian_Communist_Party-polit_Bureau#          



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- المسار- العدد 70
- المسار- العدد 69
- المسار- العدد 68
- المسار- العدد 67
- المسار- العدد 66
- المسار- العدد 65
- المسار- العدد 64
- المسار- العدد 63
- المسار- العدد 62
- المسار- العدد 61
- المسار- العدد 60
- المسار- العدد 59
- المسار- العدد 58
- المسار- العدد 57
- المسار- العدد 56
- المسار- العدد 55
- المسار- العدد 54
- المسار- العدد 53
- المسار- العدد 52
- المسار- العدد 51


المزيد.....




- هل قررت قطر إغلاق مكتب حماس في الدوحة؟ المتحدث باسم الخارجية ...
- لبنان - 49 عاما بعد اندلاع الحرب الأهلية: هل من سلم أهلي في ...
- القضاء الفرنسي يستدعي مجموعة من النواب الداعمين لفلسطين بتهم ...
- رئيسي من باكستان: إذا هاجمت إسرائيل أراضينا فلن يتبقى منها ش ...
- -تهجرت عام 1948، ولن أتهجر مرة أخرى-
- بعد سلسلة من الزلازل.. استمرار عمليات إزالة الأنقاض في تايوا ...
- الجيش الإسرائيلي ينفي ادعاءات بدفن جثث فلسطينيين في غزة
- علييف: باكو ويريفان أقرب من أي وقت مضى إلى اتفاق السلام
- -تجارة باسم الدين-.. حقوقيات مغربيات ينتقدن تطبيق -الزواج ال ...
- لأول مرة.. الجيش الروسي يدمر نظام صواريخ مضادة للطائرات MIM- ...


المزيد.....

- الفصل الثالث: في باطن الأرض من كتاب “الذاكرة المصادرة، محنة ... / ماري سيغارا
- الموجود والمفقود من عوامل الثورة في الربيع العربي / رسلان جادالله عامر
- 7 تشرين الأول وحرب الإبادة الصهيونية على مستعمًرة قطاع غزة / زهير الصباغ
- العراق وإيران: من العصر الإخميني إلى العصر الخميني / حميد الكفائي
- جريدة طريق الثورة، العدد 72، سبتمبر-أكتوبر 2022 / حزب الكادحين
- جريدة طريق الثورة، العدد 73، أفريل-ماي 2023 / حزب الكادحين
- جريدة طريق الثورة، العدد 74، جوان-جويلية 2023 / حزب الكادحين
- جريدة طريق الثورة، العدد 75، أوت-سبتمبر 2023 / حزب الكادحين
- جريدة طريق الثورة، العدد 76، أكتوبر-نوفمبر 2023 / حزب الكادحين
- قصة اهل الكهف بين مصدرها الاصلي والقرآن والسردية الاسلامية / جدو جبريل


المزيد.....


الصفحة الرئيسية - مواضيع وابحاث سياسية - الحزب الشيوعي السوري - المكتب السياسي - المسار- العدد 71