أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - عبدالله رحيل - نـزهة المشـتاق إلى رحـاب مكـة المكـرمـة















المزيد.....

نـزهة المشـتاق إلى رحـاب مكـة المكـرمـة


عبدالله رحيل

الحوار المتمدن-العدد: 7444 - 2022 / 11 / 26 - 11:51
المحور: الادب والفن
    


يأتي الطريق مغربا نحو الحجاز، والحجاز هو الذي يحجز البحر عن صحراء نجد بجبال تهامة العالية، الممتدة على ساحل البحر الأحمر الغربي، وعلى طرفيه البيد تسبح بالرمال، والغضا مُنشّرات في المدى، والريح تلفح بالهجيرة عنق السماء، وهناك تغدو الغيوم الصامتة الراتعة تركض في حنين، تودّع الأصيل مسرعة الخطا نحو البديل الآمن في حضن غابات النخيل، فيما الشمس تحث النهار نحو المغيب، مودِّعة عيون الورى، متلحّفة الليل البهيم، والرحمة مُنشّرة في كل فضاء، وفي كل أديم، والكثيب متموضع في صمت محرق لهيب، كثبان وراء كثبان، لانهاية لها، صوت تنقُّلها يضفي بالنعاس، فيغشى العيون المرتقبة نهاية الطريق، الذي يبدو أفعى عملاقة متلويّة في متون الدهناء وتيماء، والسموم تعبثُ بآثار القدم، ومساحل الحيوان، فيبدو أديم الأرض زجاجا ممدودا صقيلا، ويتراءى الفراغ مستوحشا مقفرا غريبا، يتأوّه في لهيب الشمس المحرقة، غير النجوم مرصّعة في السماء البعيدة، فيخترق الصمت، والصدى صوت حِدَاء أجشَّ، ينتزع الوحشة من قلوب إبل نشيطة، والنبت في الصحراء يصارع الموت والحياة، يسائل الغيم ماء مترعاً مُسالاً.
ترتفع هامات سحب سوداء كثيفة مجهولة من بعيد، أهي جبالٌ في مدينة، أم أشباح مُخيّلة؟ ترتفع فوق سطح المدى سرابا مليئا بالمياه، يخدع الرائين والعُطاش، يقودهم أمل قطر الماء نحو الهلاك المميت، كمداعبة الجن للظمئين، فيخترق الصمت الكئيب صوت آذان من جهات الفجر المضيء، كلمات مؤذّن فتيٍّ نبيل، بدّد الوحشة الغريبة الملقاة في قارعة البيد والطرق، يترنّم مبدئا يوماً جديداً، ورحمة الربّ المرسلة مع شعاع الفجر المنير، سامحا للقلب نبض الحياة على إثر عابد، قد آلمه انتظار نهاية المدى والطريق، متغلغلا ذهن مستمع، أضنته وحشة الوادي السحيق، ورماه السير إلى بلدة باركها الإله عبر السنين.
أناخ النظر عيون المدينة، ولوّحت بشارة من السماء، لون عمود أخضر مرتفع رفيع، وسط جبال وراء جبال ممتدة عالية، واقتربت ملامح الأبنية الرتيبة، ثم بدا الآل في طرقات ضيقة متعرّجة طويلة، وتبدّى النهار، طاردا عتمة الليل المدلهم، يُشمّ عبق الإيمان من بعيد بهبوب رياح السلام، فيعتري الأنوفَ شمُّ النسيم العليل، وتحدق الأنظار رويدا رويدا، بحجارة الطريق التي اعترضت الخلجات لمرأى البيت العتيق، والحمائم في أسرابها الآمنة، ترفُّ ما ترفُّ فوق المآذن الجليلة المُهابة، غَردة كفعل المنعم الكريم المُهاب، مآذن كلّما طال الزمان بها جُددُ، يزينها اتساق الرتل والقِدم، وجناح الصبح محمول بخافقة، يزيده الشوق إلى الساحات والركن، مثل الأمم المنسيّة التي أفاقت من رقدة العدم.
سويداء القلوب مجهشة بلقاء عذب مقدّس نبيل، تتسوّر بسور المدينة القريب، الذي طلّ من عمق الزحام والبعد، تروّت حين ظهرت بوابة ضخمة موشّاة بالحجر الرمادي المائل للسواد، والبلاط الأبيض اللامع المثلّج، يعكس أشعة الإيمان والشمس، فيلفح الوجوه نسيم الروح السَّكنى، رويدا رويدا نحو البيت العتيق، الذي لاح من بين التلال، وبين الدروب، والأنفاق الضخمة، وانحناءات الدروب الكثيرة، فيأتي الدليل باسما في الثغور، التي تشرّبت تقوى اللقاء الفرد الأول الجميل، تتهادى الأقدام سراعا نحو الكعبة المكعّبة الشريفة، عظّمها نظر المحبين، وأقشعّرت الأنفس خاشعة، ترتّل" قل هو الله أحد" بصوت رخيم.
وعلى الساحات والردهات بريق لامع لطيف، لاح في الفضاء الرّحب، بيت جليل مُهاب مرتفع شامخ عالٍ، والحمائم تحطّ في دعة وسكينة في مداخله، وقد ساد صمت رهيب، ورجفة بين الضلوع، وخفق فؤاد ملأه البعد عشقا، جلال من السواد خارجه، وحروف من ذهب رُنّق مقدمه وأوساطه، وتعشّق القلب حبائله، يتوسّط ساحة البياض الأملس الدائري، حجيج تجرّدوا من براثن الدنيا حتى المخيط، يطوفون بالبيت العتيق، والنور مشعٌّ في الأفق، يطّرد الشكّ، ويثبت العلم اليقين، راحة النفس ركعة أولى قبالة الركن اليماني، وعلى خط الحجر الأسود العظيم، علّ الإله غافرٌ للذنب القديم." وليطّوّفوا بالبيت العتيق"
بناء مسنّم مهيب، مكسو بالحرير الأسود الناعم الأنيق، وعلى الزوايا حلقات مثبتة بالحجارة الملساء من أكفّ الخلائق المعتذرة، يحفّهم باب الرجاء، المستطيل بالبناء، مزيّن بالنضار الأصفر الثمين، وعلى جنبه الأيمن حجر مبارك قد أرسله الله رحمة وصفحا للذنوب، والدوائر ترصّ العابدين بترتيب محوريّ رصين، والروح تلمس الإيمان، بينما اللطف الإلهي في محفل شريف، قد ودعت آثامها، وتحلقت حول مزراب الرحمة والمقام المقدّس، فيتنسّك الرحل حوله صامتين داعين، بتضرّع للخالق القدير، ووجوههم سَمَحى مشرقة بنور الدين القويم، ومن برد زمزم يتلذّذون شراب عذب طهورا، يزيل الآثام والذنوب، ويرفع الأسقام، وشفاء للعليل، في الأثر النبوي" ماء زمزم لما شُرب له" و "طعام طعم، وشفاء سقم" وقد تبرّأ الخلق مما لقوا من آثام وسوء.
وعلى الجانب الأيمن من الطريق إلى مكة، يعلو بوجهك الصفا والمروة، جبال الرحمة والمغفرة، فهي من الشعائر، فلا جناح إن زير البيت العتيق، أن يُطَّوّف بهما" إِنَّ ٱلصَّفَا وَٱلۡمَرۡوَةَ مِن شَعَآئِرِ ٱللَّهِۖ فَمَنۡ حَجَّ ٱلۡبَيۡتَ أَوِ ٱعۡتَمَرَ فَلَا جُنَاحَ عَلَيۡهِ أَن يَطَّوَّفَ بِهِمَاۚ وَمَن تَطَوَّعَ خَيۡرٗا فَإِنَّ ٱللَّهَ شَاكِرٌ عَلِيمٌ".
وفي مكة لا يظلم صغير أو كبير، ومن يظلم يلق مختلف الشرور، وتهفو القلوب إليها من أصقاع الأرض كلّها، وكم من هائم مستهام، باع الأملاك والمتاع؛ ليلقى نظرة الكعبة المشرفة، فهي وادٍ غير زرع، محفوف بالنعم كلّها، ليقيموا فيه الصلوات، ويفعلوا الخير الجمّ الوفير.
وقد تناغى الخلق، شعراؤهم وكتابهم، في الحنين والوصف لأرض طيبة، والحجون، ومن ذلك شعر عبد الرحيم البرعي:
" فقف المطيَّ ولو كلمحــة ناظـرٍ
بربا المُحصِّبِ أو منىً يا حادي
وأعــد حديثــكَ عـن أبـاطـح مكة
وعـن الفريــق أرائـحٌ أم غـادي
ومســرةً للنــاظـرين بـــدت لـنـا
ما بين سوق سويقة وجـيــاد "
لكن مكة تموّج الصبح في مرابعها، وشعشع القمر في أنواره على جبالها وشعابها، وزهت الشمس فوق بطاحها، ونغّم الليل فيها أبهى الصور، فاتشحت جبالها بوشاح أوديتها، كما نثر الإيمان ميزانه في الأرض وفي الإنسان، وراح الملأ يقدمون الهدي وصنوف النسك؛ رغبة وأملا في قبول الخالق لأعمالهم، وقد طلبوا غفرانها في الحال.
وعند مشعر منى ومزدلفة، يتروّى الحجيج من رشفات الإيمان، غاسلين أبدانهم بماء الطهر الرباني، متجهين إلى صعيد عرفات، وقد بُشّروا بالحج الأعظم، وهناك يقضون رفثهم ويغتسلون، ليبارك الله لهم مقدمهم وذهابهم، ثمّ ينفروا نحو منى مخلّفين آثام الدنيا وراءهم، وقد زمُّوا ركابهم، واعتلوا ظهر رواحلهم، ليودّعوا البيت العتيق، قافلين إلى الديار، التي غودرت منذ حين، وجدت بهم السير قوافلهم:
ولما قضينا من منىً كل حاجةٍ
ومسح بالأركان من هو ماسح
أخذنا بأطراف الأحاديث بيننا
وسالت بأعناق المطي الأباطح
قلوب الأنام إلى لقياك ذائبة، فيتجدّد الشوق وثابا لرباك، ما إن حدا الركب مودعين رحابك، إلا وقد اشتاقوا، مجددين الشوق للقياك، وعلتهم في ذلك تعلّق أفئدتهم بأستار لا تنسى، وببيت جُعل للورى قبلة ومهوى، فكأنهم طيور قصت أجنحتها، عاجزين عن ترك أرض البلد الحرام، الذي جعل الله آمنا مطمئنا من الآثام، والأخطار والفتن كلها، فهو طيبة، طيبة الرياح والمعشر، وقد رقت حنجرة شاعر هذا المشهد:
هتف المنادي فانطلق يا حادي
وارفق بنا إن القلوب صوادي
تتجاذب الأشواق وجد نفوسنا
ما بين خافٍ في الضلوع وباد



#عبدالله_رحيل (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- القاعدة النحوية بين الجدلية والخلاف
- - في المنفى- لجورج سالم، و-المحاكمة- لفرانز كافكا. أوجه الشب ...
- عبد الله الفاضل تغريبة الصحراء وجور بني القربى
- قصيدة لميس نجد
- الحب نبض الحقيقة
- الأمنيات التي بددتها القوارب
- بدر شاكر السياب شاعر الحب والاغتراب
- العباءة زي الموروث وألفة الموضة
- الصعاليك في متون الصحارى
- المتنبي مالئ الدنيا وشاغل الناس
- الأثافي الثلاث
- أمل في سفر المحال
- الملاحم اليونانية تناغم الإنسان بالطبيعة
- ورقاء تغرد من نجد
- الجمال سيد الرؤية وسبر العقول
- الجنة والنار في رسالة الغفران
- سنابل الحصاد
- الربيع
- خلف نافذة صغيرة
- حديث السنابل


المزيد.....




- المخرج الفلسطيني رشيد مشهراوي: إسرائيل تعامل الفنانين كإرهاب ...
- نيويورك: الممثل الأمريكي أليك بالدوين يضرب الهاتف من يد ناشط ...
- تواصل فعاليات مهرجان بريكس للأفلام
- السعودية تتصدر جوائز مهرجان هوليوود للفيلم العربي
- فنانون أيرلنديون يطالبون مواطنتهم بمقاطعة -يوروفيجن- والوقوف ...
- بلدية باريس تطلق اسم أيقونة الأغنية الأمازيغية الفنان الجزائ ...
- مظفر النَّواب.. الذَّوبان بجُهيمان وخمينيّ
- روسيا.. إقامة معرض لمسرح عرائس مذهل من إندونيسيا
- “بتخلي العيال تنعنش وتفرفش” .. تردد قناة وناسة كيدز وكيفية ا ...
- خرائط وأطالس.. الرحالة أوليا جلبي والتأليف العثماني في الجغر ...


المزيد.....

- صغار لكن.. / سليمان جبران
- لا ميّةُ العراق / نزار ماضي
- تمائم الحياة-من ملكوت الطب النفسي / لمى محمد
- علي السوري -الحب بالأزرق- / لمى محمد
- صلاح عمر العلي: تراويح المراجعة وامتحانات اليقين (7 حلقات وإ ... / عبد الحسين شعبان
- غابة ـ قصص قصيرة جدا / حسين جداونه
- اسبوع الآلام "عشر روايات قصار / محمود شاهين
- أهمية مرحلة الاكتشاف في عملية الاخراج المسرحي / بدري حسون فريد
- أعلام سيريالية: بانوراما وعرض للأعمال الرئيسية للفنان والكات ... / عبدالرؤوف بطيخ
- مسرحية الكراسي وجلجامش: العبث بين الجلالة والسخرية / علي ماجد شبو


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - الادب والفن - عبدالله رحيل - نـزهة المشـتاق إلى رحـاب مكـة المكـرمـة