|
يُمنى العيد في (أرق الروح): سيرة امرأة .. ذاكرة وطن
حسن مدن
الحوار المتمدن-العدد: 7432 - 2022 / 11 / 14 - 11:48
المحور:
الادب والفن
يلفتنا أن غلاف الطبعة الأولى ل"أرق الروح" ليمنى العيد حمل وصف "السيرة" وحدها، فيما حمل غلاف الطبعة الثانية صفة "سيرة روائية". وهذا يطرح سؤالاً عما إذا كانت الكاتبة قد استدركت، وهي تعدّ كتابها للطبعة الثانية، خطأ وقع في تصنيف الكتاب عند صدور الطبعة الأولى منه، فهو، بالنسبة لها، وربما بالنسبة للقارىء أكثر من سيرة، وأنه، بما ينطوي عليه من سرد شائق ومن غور في دواخل نفس كاتبته سيرة روائية.
أياً كان الأمر فإننا نقع في هذا الكتاب على حياة المؤلفة مذ كانت طفله اختار لها والدها اسما ذكراً هو "حكمت" وهي تعزو الأمر إلى واحد من سببين أو إليهما كليهما.
الأول هو أن أمها كانت قد فقدت صبياً جميلاً قبل أن تحمل بها، هو أخوها عبدالحليم الذي ثكلت الأم برحيله المفاجىء، فأراد زوجها، والد يمنى، "أن يُعوضها بالاسم ما لم يكن تعويضا لها بالمسمى"، فاسم حكمت ملتبس "يحمل وهماً بالذكورة كأنما حين يعطى لأنثى يراد الإيحاء بندية لها مع الذكر".
أما السبب الثاني، والذي يبدو لنا مرجحاً أكثر، هو في ما أشارت إليه الكاتبة من أن حكمت مثل عصمت وشوكت ودولت اسم تركي، وكان والدها ولد في زمن الحكم العثماني وتعلّم في صغره اللغة التركية قبل أن يلتحق بالجيش التركي في السنة الأخيرة من الحرب العالمية الثانية، وعاد مهزوماً بعد هزيمة العثمانيين في تلك الحرب، ليعيش خزينا في ظل الانتداب الفرنسي، ولعله كان يوم ولادتها، "ورغم مضي الزمن ما زال يحن إلى أصداء تلك اللغة فسماها حكت تعبيراً عن هذا الحنين".
لم تجد الكاتبة نفسها في الاسم الذي اختاره لها والدها، وإنما في الاسم الذي عرفناها به، يمنى العيد، الذي لم جمع في أذهاننا بين يمنى الإنسانة ويمنى الكاتبة، وهو ما سنتعرف عليه في "أرق الروح"، فنحن في هذا الكتاب إزاء سيرة الكاتبة بمحطاتها المختلفة وعلى ذاكرة المكان في صيدا، مسقط رأسها وبيروت وأماكن أخرى، وانما على محطات من تاريخ لبنان الحديث المثقل بذاكرة الحروب والصراعات التي اخذت في الكثير من الحالات طابعاً طائفياً، رغم أنها، في الجوهر، تعبر عن تناقضات اجتماعية عميقة، تتداخل فيها عوامل اقليمية ودولية قد لا يكون للبنانيين أنفسهم كشعب، يد فيها. يأخذنا الكتاب برشاقة كتابة مؤلفته وجمال روحها، إلى زمن لبناني أجمل، زمن واعد ومليء بالأحلام في مستقبل أفضل، رغم ما كان يعانيه البلد من صعاب، فالحنين كما تقول يمنى العيد "قد لا يكون للمكان وحده بل إحساساً راسخاً في خلايانا، نستعيده ونرسم صورة جميلة للمكان تطغى على كل ما فيه من عيوب"، مستعيرة من باشلار قوله إن جمالية المكان لسيت في ظواهره، بل هي في هذا الداخل الذي يشعرنا بالطمانينة ويشدّنا الحنين الوردي إليه.
الحنين إلى المكان الأول يزداد كلما أبعدتنا الحياة قسراً عنه. من عاشوا مثل هذه التجربة، وأنا واحد منهم، يدركون ذلك جيداً ويحسون به بعمق، وفي حال يمنى العيد زاد من ذلك الحنين "الإبحار في فضاءات المدن الكبرى التي يتغرب فيها الإنسان عن ذاته، وكلما طالت معاناتنا من هذا الوسط الآلي الذي يهمش إنسان المدينة ويجلد في خفاء علامات التواصل الأولى، وطبيعي أن يبدو هذا الحنين وردياً عندما تسلب هذه الأماكن منا، كأن تهدمها الحروب أو يحتلها الغزاة أو نكره بأكثر من سبب على هجرها".
تنجح يمنى العيد في الجمع بين الذاتي جداً في سردها لسيرتها وسردها لسيرة بلدها، وتنتقل بين السردين برشاقة واتقان، حتى لا نكاد نفصل بين ما هو ذاتي وشخصي جداً، وما يمكن ان نطلق عليه بالموضوعي المتصل بتحولات البلد العاصفة في ديناميكيته الاجتماعية والثقافية والسياسية التي عرف بها لبنان.
الكاتبة التي تشربت في صباها بالأفكار الوطنية والقومية، وجدت نفسها مهيئة لقبول الفكر اليساري، خاصة من خلال علاقتها مع عدد من المثقفين اللبنانيين المنتمين لليسار، ومن ثم كتابتها في الصحف والمجلات الصادرة عن الحزب الشيوعي اللبناني، وطبيعي أن تكون الكاتبة بتكوينها هذا نابذة للطائفية ونائية بنفسها عنها، حيث رأت في الفكر اليساري "خلاص لبنان من طوائفيته، دون أن يعني ذلك مساساً بالإيمان الديني، فالناس أحرار في ما يؤمنون به، أما كمواطنين فهم مدعوّن للقبول بالاختلاف وبسنن مدنية تساوي بينهم وتحقق لهم جميعا عيشا حراً عادلاً كريماً".
وعندما أصبحت يمنى العيد مديرة لمدرسة ثانوية بمدينتها صيدا، رفضت كل ما يوقظ الإنتماء الطائفي ويفضي به إلى العصبية والتفرقة، حتى أنها رفضت بصفتها مديرة للمدرسة أن تملأ خانة في لوائح يتعين رفعها لوزارة التربية بأسماء التلميذات يشار فيها إلى الطائفة التي تنتمي اليها التلميذة، حرصاً منها على تجاوز هذه التقسيمات بين التلميذات على أسس مذهبية أو طائفية، وتعميق حس الانتماء الوطني الجامع المتجاوز للعصبيات.
"أرق الروح" عمل متميز في كتابة السيرة الذاتية العربية، ويجب أن نعود أكثر من مرة إليه وكذلك إلى الجزء الثاني من سيرتها الموسوم "زمن المتاهة" لكي نتعرف على يمنى العيد الإنسانة والمرأة والأكاديميّة والمنخرطة في الشان العام، خاصة في الشق الثقافي منه، وأيضاً كي نتعرف على يمنى العيد الكاتبة والناقدة التي استوقفتها في البدايات سيرة أمين الريحاني الذي وصفته في عنوان كتاب أصدرته عنه ب "رحالة العرب"، كما استوقفها قاسم أمين مؤلف "تحرير المرأة" و"المرأة الجديدة" الذي عنه ألفت كتاب "إصلاح قوامه المرأة"، قبل أن تتالى دراساتها في النقد الأدبي وبينها "في معرفة النص" (1983)، و"الكتابة، تحوّل في التحوّل" (1993)، و"في مفاهيم النقد وحركة الثقافة" (2005)، و"حول نظرية الرواية: الراوي، الموقع والشكل" (1986)، و"تقنيات السرد الروائي" (1990)، و"فن الرواية العربية" (1998)، و"الرواية العربية: التخيّل وبنيته الفنيّة" (2011)، وترينا كل هذه العناوين حجم العطاء الذي قدمته يمنى العيد لا للمكتبة العربيى من كتب ومؤلفات وانما لحركة النقد الادبي العربية إن على صورة دراسات في التنظير النقدي أو في الدراسات التطبيقية على نصوص بعينها.
#حسن_مدن (هاشتاغ)
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
من هو المثقف
-
متى يبدأ الحاضر؟
-
سيلفا يُلوّن البرازيل بالوردي
-
شيخوخة المنظومة السّياسيّة الغربيّة
-
الترجمة أم التأليف؟
-
ما القذارة؟
-
تصنيع (كورونا) أشدّ فتكاً
-
هل دخلنا القرن الحادي والعشرين؟
-
الثّقافة العالمة والثّقافة الشّعبيّة
-
التّحليل النفسي للتاريخ
-
الحديقة والأدغال
-
الحقيقة في مكانٍ ما
-
أهواء جائزة نوبل
-
أوروبا التّائهة
-
حتى الصور غير محايدة
-
إلى اليمين دُر
-
اللا أمكنة
-
التمييز حتى في الإنترنت
-
كل أربع ثوانٍ
-
(شانغهاي) تقول كلمتها
المزيد.....
-
دواين جونسون بشكل جديد كليًا في فيلم -The Smashing Machine-.
...
-
-سماء بلا أرض-.. حكاية إنسانية تفتتح مسابقة -نظرة ما- في مهر
...
-
البابا فرنسيس سيظهر في فيلم وثائقي لمخرج أمريكي شهير (صورة)
...
-
تكريم ضحايا مهرجان نوفا الموسيقى في يوم الذكرى الإسرائيلي
-
المقابلة الأخيرة للبابا فرنسيس في فيلم وثائقي لمارتن سكورسيز
...
-
طفل يُتلف لوحة فنية تُقدر قيمتها بخمسين مليون يورو في متحف ه
...
-
بوتين يمنح عازف كمان وقائد أوركسترا روسيا مشهورا لقب -بطل ال
...
-
كيلوغ: توقيع اتفاقية المعادن بين واشنطن وكييف تأخر بسبب ترجم
...
-
عرض موسيقي مفاجئ من مانو شاو وسط انقطاع الكهرباء في برشلونة
...
-
مسقط.. أكثر من 70 ألف زائر بيوم واحد للمعرض الدولي للكتاب
المزيد.....
-
طرائق السرد وتداخل الأجناس الأدبية في روايات السيد حافظ - 11
...
/ ريم يحيى عبد العظيم حسانين
-
فرحات افتخار الدين: سياسة الجسد: الديناميكيات الأنثوية في مج
...
/ محمد نجيب السعد
-
أوراق عائلة عراقية
/ عقيل الخضري
-
إعدام عبد الله عاشور
/ عقيل الخضري
-
عشاء حمص الأخير
/ د. خالد زغريت
-
أحلام تانيا
/ ترجمة إحسان الملائكة
-
تحت الركام
/ الشهبي أحمد
-
رواية: -النباتية-. لهان كانغ - الفصل الأول - ت: من اليابانية
...
/ أكد الجبوري
-
نحبّكِ يا نعيمة: (شهادات إنسانيّة وإبداعيّة بأقلام مَنْ عاصر
...
/ د. سناء الشعلان
-
أدركها النسيان
/ سناء شعلان
المزيد.....
|