أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - أوراق كتبت في وعن السجن - عصمت منصور - بخطى طليقة - إضراب















المزيد.....

بخطى طليقة - إضراب


عصمت منصور

الحوار المتمدن-العدد: 7360 - 2022 / 9 / 3 - 10:54
المحور: أوراق كتبت في وعن السجن
    


بخطى طليقة
إضراب
لم يكن أحد يعلم أن سجن عسقلان المركزي والواقع في مدينة عسقلان جنوب الساحل الفلسطيني وإلى الشمال من غزة، والذي كان في عهد الانتداب مقرا لقيادة الجيش البريطاني في المجدل/ عسقلان ومحيطها وصولا الى قيساريا، وقد خصص لاستقبال الوفود البريطانية الرسمية، سيشهد أول إضراب عن الطعام في تاريخ الحركة الفلسطينية الأسيرة، ليعد أهم حدث عاشته الحركة الاسيرة وتكونت بناء عليه.
في تموز 1970 وبينما رطوبة البحر تنخر عظام الأسرى وتتجمع فوق جلدهم تحت لباس السجن السميك، حدث الانفجار الاول، وشهدت ساحة عسقلان أول مواجهة منظمة بين الأسير والسجان، والتي استخدم فيها سلاح الأمعاء الخاوية لأول مرة.
من لم يكن يعرف أو يعترف بغير السلاح الناري كأداة للمنازلة، اضطر بعد سنوات قليلة من الإذلال والعيش في ظروف قاهرة الى البحث عن سلاح آخر، يعيد إليه بعض التوازن وينتشله من ربقة الاستعباد والإذلال التي وضعه أسره فيها.
سجن عسقلان هو أكبر وأول سجن اففتحه الاحتلال في نهاية الستينات من أجل احتواء الأعداد المتزايدة من المقاتلين والفدائيين الذي التحقوا بالثورة وحملوا السلاح.
تجريدك من سلاحك لحظة اعتقالك لم يكن عملا جسديا فقط، بل عملية مستمرة لا تنتهي إلا لحظة سقوطك بشكل كامل وإعلانك الاستسلام.
عملية طويلة يجري تنفيذها على مراحل، تبدأ عند محاصرتك وأسرك، وغالبا حين تكون مصابا أو دون ذخيرة بعد ساعات من الاشتباك، وتمر بمرحلة التحقيق وإعدادك لدخول السجن ب"حفل استقبال" تجرد فيه من ملابسك العسكرية ويتم رشك بعدها ببودرة للتعقيم، لتنظيفك ليس من الأمراض المعدية والجراثيم، بل من الأنفة والندية، ومن ثم تترك عاريا لبعض الوقت قبل ان ينهال عليك الجنود بالضرب المبرّح والشتائم، ثم يطلب منك ان ترتدي زي السجن السميك فاقع اللون، لتمكث منفردا عدة ايام.

بعدها يزجّ بك في زنزانة جماعية داخل السجن، لتنام على الارض، وتنصهر بين الأجساد الملقاة مثل حطب المحارق بجانب بعضها البعض.
لا داعي لأن تسأل ما المسموح وما الممنوع، فكل شيء ممنوع، ومفقود وغائب.
لا حبر ولا أقلام ولا أوراق أو كتب او إذاعات، لا فرشة، او لباسا نظيفا أو شمسا وهواء نقيا ولقمة لها مذاق أو طعم، حتى الحوار مع زميلك كان ممنوعا، ومسموح لك فقط ان ترتب مكان مبيتك عند العدد الصباحي الذي يكون في الساعة السادسة يوميا وان ترد بكلمة "سيدي" عندما يتم ذكر اسمك من قبل السجان.
مثل قطيع معد للذبح كان السجان يأتي كل يوم ليختار مجموعة من الأسرى، ويسوقهم أمامه للعمل في "السخرة" وخياطة خيام ومظلات الجنود الذين كنت تحاربهم وتشهر السلاح في وجههم عندما كنت انت والسلاح شيئا واحدا.
هل يقتلك أكثر أنك تعمل بالسخرة مثل رقيق مباع؟ أم أن عملك يخدم الجيش الذي كنت تحاربه وما زال يصب نيران مدفعيته المظللة بالخيمة التي نسجتها لقتل رفاقك؟
لن تعرف الجواب، لكنك ستكتشف أن الإنسان لا يمكن ان يتحول الى آلة، وان أشد لحظاته ضعفا هي أكثر لحظاته التي تتجلى فيها قوته الداخلية وإبداعاته.
سيرد اسم عمر القاسم في كل سيرة تكتبها عن السجن، وسيلمع نجمه في ظلمة الزنازين ودهاليز السجون وساحاتها، لكونه، الى جانب أنه ملاكم مفتول العضلات، مدرّس يتقن فن الإقناع والخطابة، ومقاتل يأبى الاستسلام، بل في كونه مفكرا وأول من حاول أن يصوغ قوانين تنظم حياة الحركة الاسيرة ووجودها.
من الإرهاصات التي مهدت للإضراب الأول البكر الذي شكل الرحم الذي ولدت منه الحركة الوطنية الأسيرة، التمرد ورفض العمل بالسخرة في سجن الرملة.
يكفي أن تتمرد مرة، أن ترفض وتكسر النمط، حتى تعرف لا محدودية القوة الكامنة داخلك، وحدود القوة لدى عدوك.
عندما تتمرد وتنتصر، لا يكتشفك عدوك، ولا تعيد صياغة الواقع بشكل مختلف وأكثر إنصافا وانسانية فقط، بل تكتشف ذاتك، ويكتشفك زملاؤك، وتصبح القائد الذي يدل على السلاح، ويعيد تسليح المجموعة التي يحررها من صفة القطيع، فقط لمجرد انه اكتشفه.
في المعارك التي تحدث في الظل، دون استعراض أو قوانين أو ضجيج، والتي تحكمها غريزة البقاء وبذرة الانسانية، والتي تكون فيها أسلحة الطرفين خلف الجفون وبين الضلوع، من الصعب أن تحكم من الذي انتصر ومن الذي هُزم، كما أن من الصعب أن ترسم خطّاً وتاريخا واضحين للمعركة، وكل ما يمكن ان تخرج به هو: قائد.
تكون مهمة هذا القائد ان يدير اللعبة ويخلق حالة من التوازن بين فائض الثقة والقوة التي اكتسبها من زملائه، وما بين فائض العداء والاستهداف الذي يوجهه عدوه نحو الجماعة من خلاله.
إنه سير خطر على حبل دقيق فوق حقل ألغام، ذلك أن انكسارك او تخاذلك او عدم معرفتك طبيعة وموعد الخطوة التالية، سيعني الارتداد إلى ما قبل الصفر وانتظار مخاض قد لا يأتي ليولد فيه ظرف ينتج قائدا، يكون مطالبا ان ينسي تجربة مرة أولا ، ويشق طريقا وعرا مليئا بالحفر ثانيا.
التمرد ضد عمل السخرة أوقف العمل لدى الجيش المحتل كليا، وهذا لم يحدث دون عقاب وقمع وعض على الاصابع، وقد يكون اهم ما أسفر عنه، انه انتج لأول مرة افكارا صلبة، انبثقت مثل أفق، واشرقت على أكبر عدد من الأسرى، وهي فكرة ان تحدي قوانين السجان ممكنة وانها غير ابدية وقابلة للكسر. كما انه انتج فكرة الاحتكام الى قائد او مجموعة قادة وتسليمهم دفة القيادة، والأهم من ذلك انه بهّت فكرة الاحتكام للأقوى عضليا او للأعلى رتبة عسكرية، او من كنت تعرفه بحكم السكن (الشللية والبلدية) والبحث من خلال الاحتماء به عن الحماية من الأسرى وصراعاتهم الداخلية.
هذه الظروف مجتمعة أنضجت سجن عسقلان كونه السجن الوحيد المركزي والذي تجمع فيه ما لا يقل عن 800 أسير من أصحاب الأحكام العالية.
سجن عسقلان شكلا مختبرا ومعملا لإنتاج الحركة الأسيرة، فهو كان كبيرا ومستقرا، ومن يدخله لا يخرج منه لأنه يضم أسرىً محكومين بأحكام عالية، وهو بذلك وفر كل العوامل المطلوبة لان يتأهل للقيام بالقفزة النوعية وخوض اول تجربة اضراب استمرت سبعة ايام فقط لكنها مثلت عملية انتقال بين حقبتين وعهدين.
في شهر تموز 1970 دخل الأسرى الفلسطينيون في سجن عسقلان أول إضراب جماعي عن الطعام ضد مديرية السجون.
كان الإضراب الأول مثل كل البدايات، دون ضجيج ومن دون تنظيم محكم، ومع كثير من التردد، ودون إعلان او أهداف واضحة، وكأنه تحول الى هدف بحد ذاته، ومع ذلك فأنه ورغم مشاركة ما نسبته ثُمن الأسرى تقريبا فقط، رسم معالم واضحة في تاريخ الأسرى وأرسى قوانين اصبحت مثل مرساة تشد الأسرى الى أرض صلبة هم من أنتجها.
سيقول من عايش تلك التجربة، اننا كنا في ذات الوقت الممثلين والجمهور والمتفرجين، ولم ندرك أننا نصنع معجزة صغيرة مخفية عن العالم في دهاليز سجن قريب من شاطئ البحر المتوسط.
سقط في ذلك الإضراب أول شهيد وهو عبد القادر ابو الفحم، وكأنه اراد ان يعمّد هذه اللحظة بدمه وان يقدم جسده ليحول هذه اللحظة الى ارتباط شخصي وعهد ممهور بالدم بين كل من شارك فيها بعدم التراجع.
لو لم يكن عبد القادر أبو الفحم المصاب برصاصات في الصدر، والمعرض للموت في كل لحظة، والذي أصرّ على خوض الاضراب، فلربما كان الاضراب حدثا عاديا.
فقد خلق عبد القادر من لحظة استشهاده أثناء تغذيته بشكل قسري عبر انبوب تغذية ادخل عنوة في رئتيه من قبل طواقم مديرية السجون، صدمة أربكت مديرية السجون، وهالة اسطورية وغضبا عارما ودعوة للثأر لدى كل الأسرى.
لم يسبق ان قتل أسير في معركة قبل ابو الفحم، وهذا الحدث الذي تحول الى أسطورة لم يضمن نجاح الإضراب بل صدم مديرية السجون التي ادركت ان آخر الحبل الذي تشده بيدها الحديدية، انما يلتفّ حول عنقها ويرتد عليها، وان اية حركة قوة زيادة، ستخلق حالة ضعف لا نهوض بعدها، وان حدود القوة المدججة بالفولاذ والقسوة والحقد تنتهي عند انفجار الإرادة الجماعية المدججة بالتضامن وروح التضحية والفداء.
وكأن الاساطير تأبى ان تحدث دون قرابين.
انتهى الاضراب مع ولادة أسطورته.
سبعة أيام حققت للأسرى الغاء كلمة سيدي التي كانوا ملزمين بقولها كلما خاطبهم السجان بهراوته او لسانه، كما انه وفّر لهم جلدة رقيقة بديلا عن البلاط العاري ليبيتوا فوقها ويقضوا ليلهم القلق والمضطرب، وتخفيف بعض الازدحام في الزنازين، والأجمل من ذلك كله هو إطلاق أقدامهم من القيد الخفي الذي حصر حركتهم في الساحة بالسير أسيرين أسيرين، دون التفات الى أي اتجاه عدا النظر الى الأمام.
الاختلاط في الساحة، وروح ابو الفحم التي بقيت تحلق فوق رؤوس الأسرى، وبروز أسماء قادة فرضتهم المعركة، جعل الساحة تبدو أوسع وتمارس وظيفة جديدة، هناك بدأت تنشأ العلاقات وتتكون بذرة العمل الجماعي والانتقال الى المحطة التالية التي شهدت انتكاسة، ودخول فترة مظلمة وطويلة اطلق عليها الاسرى اسم فترة "الانفلاش".



#عصمت_منصور (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- بخطى طليقة.. أزمة التكيف.
- التنافس على ضمّ آيزنكوت في الانتخابات الإسرائيلية القادمة
- حقول الغاز الإسرائيلية اللبنانية المشتركة: فرص ومخاطر
- معايير صفقات تبادل الأسرى وفيديو هشام السيد
- محاولات قتل الشهود في قضية شيرين أبو عاقلة
- إسرائيل والتعامل مع نتائج التحقيقات في اغتيال شيرين أبو عاقل ...
- شيرين ابو عاقلة واختراق الجدار الحديدي
- وهم الفصل بين الساحات
- تهديد الطائرات المُسيّرة وأثرها على المواجهات القادمة
- قانون تجنيد المتدينين مشكلة ائتلافية أم أزمة مجتمع؟
- بعد زيارة جانتس: الأبعاد الأمنية والاستراتيجية للعلاقات المغ ...
- دور المنظمات اليمينية في تصنيف منظمات حقوقية فلسطينية على ان ...
- خطة -الاقتصاد مقابل الأمن في غزة- هل تملأ فراغ غياب الاسترات ...
- سيف القدس وتقنية الجيل الرابع 4G
- الانسحاب الأمريكي من أفغانستان من منظور إسرائيلي
- انفجار عقود من الكبت والتحريض
- -جائزة إسرائيل- ...لليمينين فقط!
- إعادة إنعاش السلطة الفلسطينية مع تقليص وظيفتها
- هل حل الدولتين هو الحل الوحيد الممكن؟
- من السلام الآن الى اللا سلام...تلاشي اليسار في اسرائيل


المزيد.....




- مسؤول في برنامج الأغذية: شمال غزة يتجه نحو المجاعة
- بعد حملة اعتقالات.. مظاهرات جامعة تكساس المؤيدة لفلسطين تستم ...
- طلاب يتظاهرون أمام جامعة السوربون بباريس ضد الحرب على غزة
- تعرف على أبرز مصادر تمويل الأونروا ومجالات إنفاقها في 2023
- مدون فرنسي: الغرب يسعى للحصول على رخصة لـ-تصدير المهاجرين-
- نادي الأسير الفلسطيني: الإفراج المحدود عن مجموعة من المعتقلي ...
- أمريكا.. اعتقال أستاذتين جامعيتين في احتجاجات مؤيدة للفلسطين ...
- التعاون الإسلامي ترحب بتقرير لجنة المراجعة المستقلة بشأن الأ ...
- العفو الدولية تطالب بتحقيقات دولية مستقلة حول المقابر الجما ...
- قصف موقع في غزة أثناء زيارة فريق من الأمم المتحدة


المزيد.....

- في الذكرى 103 لاستشهادها روزا لوكسمبورغ حول الثورة الروسية * / رشيد غويلب
- الحياة الثقافية في السجن / ضرغام الدباغ
- سجين الشعبة الخامسة / محمد السعدي
- مذكراتي في السجن - ج 2 / صلاح الدين محسن
- سنابل العمر، بين القرية والمعتقل / محمد علي مقلد
- مصريات في السجون و المعتقلات- المراة المصرية و اليسار / اعداد و تقديم رمسيس لبيب
- الاقدام العارية - الشيوعيون المصريون- 5 سنوات في معسكرات الت ... / طاهر عبدالحكيم
- قراءة في اضراب الطعام بالسجون الاسرائيلية ( 2012) / معركة ال ... / كفاح طافش
- ذكرياتِي في سُجُون العراق السِّياسِيّة / حـسـقـيل قُوجـمَـان
- نقش على جدران الزنازن / إدريس ولد القابلة


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - أوراق كتبت في وعن السجن - عصمت منصور - بخطى طليقة - إضراب