أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - مواضيع وابحاث سياسية - سعيد الوجاني - الهزيمة التاريخية















المزيد.....



الهزيمة التاريخية


سعيد الوجاني
كاتب ، محلل سياسي ، شاعر

(Oujjani Said)


الحوار المتمدن-العدد: 7303 - 2022 / 7 / 8 - 16:31
المحور: مواضيع وابحاث سياسية
    


الهزيمة التاريخية La défaite historique
أمر ما يسمى ب ( النخبة ) المغربية التي هي جزء من النخبة العربية ، لأمر محير ويحير .. والحيرة ليست فقط في النجاح في بيع الأوهام وفي كثرة ( التنظير ) الخارج عن جادة الصواب ، تلك الجادة التي كان يعكسها الواقع اليومي المعاش للشعب الذي رفعوه بالشعارات عاليا ، لكن بسبب الإخفاقات المتوالية والمسترسلة ، انزلوه الى قاع البئر ، الى اسفل درك .. وحين اشتدت الازمة فرّ من كان يطلق على نفسه اسم النخبة ، وليسقط بالشراء في حضن من نظر لإسقاطه ، ولو بالكلام . بل والانقلاب والتنكر لما تم الترويج له طيلة عقود خوالي ، وبقدرة قادر تحول الجميع للدفاع عن مشروع نظام لم يغير جلدته . بل اضحى اصلب مما كان ..
فإذا كانت النخبة تقاس بالإنجازات ، وبالاختراعات في الحقل الإنساني ، وفي العلوم الإنسانية . فماذا حققت النخبة باتجاهاتها المختلفة من قومية ، الى يسار قومية ماركسية ، الى إسلامية .. وحين نقر بالإفلاس البارز للعيان ، نحكم بفشل النخبة ، وبفشل أجيال نشطت باسم النخبة ، في حين انها كانت تكرر الواقع بأسلوب زاد من تأكيد هذا الواقع .. فأحسن وصف يمكن ان نسمي به ( النخبة ) المغربية التي كانت تعتبر نفسها جزءا من النخبة العربية ، هو الهزيمة ..
ان مصطلح ما يسمى ب ( النخبة ) ليس وليد اليوم . بل يرجع الى ما اسموه واطلقوا عليه ( العمل الوطني ) ابّان الحماية الفرنسية ، وبالضبط في ثلاثينات القرن الماضي .. وعند اطلاقهم هذا الوصف الذي لم يكن يرقى لتعريف النخبة ، من خلال نوع الشعارات والكتابات ، فذلك لتمييز جماعة ( العمل الوطني ) بقيادة أحزاب ذاك الزمان ، وعلى رأسهم علال الفاسي خريج القرويين ، وبين جيش التحرير المنتمي الى الجبال والبادية .
ورغم ان به ، أي الجيش من يستحق التسمية البرجوازية للنخبة ، فهم ظلوا في تصنيف جماعة ( العمل الوطني ، او الحركة الوطنية ) بعيدين عن ان يكونوا نخبة . بل ان القول بعنوان الحركة الوطنية لم يكن بريئا ، بل كانت له حمولات سياسوية ترجمتها شعارات " المغرب لنا لا لغيرنا " .. وهو ما يفسره الموقف الخياني لعلال الفاسي من جيش التحرير ،عندما اعتبر في كتابه الحركات الاستقلالية ، انّ زمن النضال المسلح لجيش التحرير قد ولى وفشل ، وان الفترة هي ( لجماعة العمل الوطني ) التي فرشت التربة للسيطرة على المغرب ، عندما سيحل الاستقلال بطريقتها التي تمت ترجمتها باستقلال Aix-les-Bains ، الذي وحد ( الحركة الوطنية ) مع الإدارة الكلونيالية في تدبير شؤون المغرب ، واتخاذ موقف معارض لحركة المقاومة وجيش التحرير . فريبة علال الفاسي و آل الفاسي من جيش التحرير ومن المقاومة ، ترجمته في دولة الاستقلال العمليات الانقلابية للجيش ، حيث قاد ضباط وطنيون أحرارا انقلاب 1971 ، وانقلاب 1972 البرابرة سليل القبائل البربرية ، وترجمه العروبيون في انتفاضة 16 يوليوز 1963 ، وفي الانتفاضة المسلحة في 3 مارس 1973 رغم وجود مناضلين برابرة ضمنها .. فأصل الخلاف كان الدولة ولم يكن الحكومة .. لذا فالقول ( بالحركة الوطنية ) هو دليل على انّ من لا ينتمي لها ، لا علاقة تجمعه بالوطن . والمقصود هنا من سياسة علال الفاسي وامثاله ، القبائل البربرية التي ثارت ضد الدولة المركزية السلطانية ، وضد خدامها الذين اطلقوا على نفسهم اسم ( الحركة الوطنية ) .
فعندما تسمي ( جماعة العمل الوطني ) ( الحركة الوطنية ) نفسها بالنخبة التي تشتغل بالفكر وبالسياسية ، وتنبذ العمل المسلح الذي قاده جيش التحرير والقبائل البربرية ، فهي كانت تعمل على فصل المدينة ( فاس ) عن الجبال والبادية ، وفصل البرابرة والعروبيين ، عن الفاسيين .. ومن يومها تكون قد أسست لطبقية عرقية يعلوها آل الفاسي المتحالفين مع السلطان ، للتحكم في المغرب بعد خروج فرنسا من النافدة ، وعودتها من الباب الكبير ..
فهل منْ يشتغل بالفكر البرجوازي العقيم والمحافظ ، هو حقا نخبة .. ام ان النخبة بمفهوم المصطلح الدقيق ، هي من ينتج الأفكار ، ويطرح المشاريع التي تخدم الشعب ، ولا تقتصر خدماتها على خدمة فئة دون أخرى ، او خدمة طائفة دون غيرها ..
اذا رجعنا لتلمس ما يطلق عليه بالنخبة ، فهذه لكي تكون كذلك ، يجب ان تكون مثقفة . والجمع بين النخبة وبين الثقافة ، يعني ان هناك قضية توظف النخبة الثقافة لخدمتها .. فكلما كانت النخبة مثقفة ، كلما كان الإنتاج غزيرا ، لان العلاقة الجدلية بين النخبة والثقافة ، هي علاقة طردية متداخلة يستحيل التفريق بينهما . أي لا يمكن تصور ثقافة من دون نخبة ، ولا يمكن تصور نخبة من دون ثقافة ، لان الجميع يصب في المشروع الكبير الذي هو خدمة القضية .
انطلاقا من هذه الطرح نطرح السؤال . من يعتبر نخبة ؟ ما هي اوصاف النخبة ؟ وما مدا مشروعها الذي لن يكون غير تصادميا ، لأنه يرفض الجمود ، ويرفض البرك الآسنة ، و لأنه مشروع تغييري وتحوّلي ، وهو كذلك وباستمرار ، والاّ سقطنا في شعارات عنصرية تؤسس لنوع من المغرب ، كما تم الترويج الى ذلك منذ عشرينات القرن الماضي ، وحتى منتصف الثلاثينات ، لتنظيم العزل ، ولتهيئي العائلات التي ستبسط يديها على المغرب عند حصوله على ( استقلاله ) ، وهم المهادنون للإدارة الكلونيالية ، حين ادانوا حملة السلاح ، وادانوا وتبرؤا من المجاهدين ، ومن المقاومين بدعوى عرقلة المشروع الاثني لجماعة ( العمل الوطني ) بسيطرة ممتازة لآل الفاسي .. والمقصود البربر والعروبيون الذين ( يجهلون ) العمل السياسي والدبلوماسي الذي تتقنه فقط جماعة ( العمل الوطني ) . اي آل الفاسي الذين سيطروا بعد ( الاستقلال ) على المغرب ..
لقد تأثرت ( النخبة ) التي ملئت الساحة طيلة الستينات والسبعينات ، وحتى النصف الأول من الثمانينات ، بمدراس آثرت الانتساب اليها ، لِمَا كانت تشغله تلك المدارس من تأثير إيجابي في خضم الصراع العربي الإسرائيلي ، الذي كان يعد رأس الحربة لقلب الأوضاع ، بما يؤسس للدولة ( الديمقراطية ) المنتظرة . هكذا ستستعمل القضية الفلسطينية سلاحا ذو حدين .
-- الحد الأول مثلته الأنظمة السياسية الاستبدادية التي وظفت فلسطين لتصفية الحسابات السياسية مع معارضيها . واستغلت القضية وظروف الاستثناء التي فرضها الوضع بالشرق الأوسط ، لتركيز أنظمة شمولية بمسميات شتى ، تقودها جبهات كرتونية هشة ، كالجبهة الوطنية التقدمية الديمقراطية ، التي كان يرأسها ويستحوذ عليها الحزب الحاكم ، وأحزاب ذيلية لهذا الحزب باسم الاشتراكية ، والشيوعية ، والتقدمية ، والناصرية .. دون ان ننسى " جبهة الصمود والتصدي " التي ما صمدت امام احد ، ولا تصدت لآخر ..
-- والحد الثاني مثلته الحركات السياسية التي تكونت من النخبة ، التي استعملت القضية الفلسطينية للانقضاض على الحكم ، وعند خوضها الصراعات الأيديولوجية والداخلية التنظيمية ، والتي استعملت فيه لغة الرصاص الذي ذهب ضحيتها شهداء في لبنان ، وفي فلسطين ، ونقوصيا ، وباريس ولندن ( حنظلة / ناجي العالي ).. الخ .
ان اول مصدر استقت منه النخبة المغربية افكارها المَا فوق وطنية ، كانت حركة القوميين العرب التي رفعت شعارات الوحدة المركزية ، دون الوحدة الديمقراطية . وعلى هذا الأساس خاضت النخبة صراعها مع نظام ، اعتبرته نقيضها وعدو قضيتها . واخذ الصراع اوجها كثيرة ، توزعت بين النضال السياسي ، والنضال الأيديولوجي ، ووصل الى التصادم المسلح في عدة محطات سجلها تاريخ الصراع بين النخبة العروبية ، وبين النظام البطريركي ، الكمبرادوري ، القروسطوي ، الثيوقراطي ، الرعوي ، الاميري ، ونظام الامامة الرجعي ... الخ . فهذه الاوصاف والنعوت السياسية ، كافية لرسم الشرخ الكبير بين توجهين متناقضين ، استعملت فيه القضية الفلسطينية ، والانتساب الى العروبة لخوض الصراع ، ولتصفية الحسابات الداخلية بين رفاق نفس التنظيم ...
عندما فشلت الحركة القومية العروبية في تحقيق الوحدة ، وفشلت في تحرير فلسطين ، وغيبت الديمقراطية بتغليبها النظم المركزية . وعندما حصلت النكسة التي احتلت فيها إسرائيل اكثر من ثمانين الف كلومتر مربع من الأراضي العربية في ستة أيام ، حتى بدأ افراز جديد يطفو على مسرح الاحداث ، وأصبحت الساحة السياسية العربية ترفل بشعارات تدين الهزيمة التي اعتبرتها هزيمة طبقة برجوازية ، استنفدت دورها ابّان النضال ضد الاستعمار العثماني والغربي ، وانّ الظرف قد حان للتصحيح لتجاوز ازمة النكسة ، وتجاوز الإحباط الذي كان له الوضع البليغ على نفسية المثقفين ، ومِنْ هم النخبة التي لم تستوعب الدرس ، ومضت في تنظيرات عكست نفس الشعارات المرفوعة قبل النكسة ، لكنها كانت مغلفة بثوب جديد ، سيأخذ شكل يسار الحركة القومية العربية ، او اليسار الجديد الذي نهل من الماركسية ، وفسر أسباب النكسة بطبيعة الأنظمة التي خاضت الحرب ، ومنها اعتبر ان الهزيمة كانت هزيمة للطبقة البرجوازية التي خاضت الحرب ، والتي وظفت الاستقلال لخدمة طبقتها ، وتحولها من ثم الى طبقة معادية للشعب وللعمال .. ففي نظرهم ان سبب الهزيمة كان في منْ حارب ، وليس الشعب . بل ان من حارب هي الجيوش النظامية للأنظمة السياسية القومية .. لكن ما غاب عن هذا التحليل المبسط ، ان الجيش الصهيوني الذي ربح الحرب في رمشة عين ، وسبّب في النكسة ، كان اكثر انضباطية من جيوش الأنظمة القومية العربية .. في حين ان سبب الهزيمة كان ميوعة النخبة التي كانت تنظر خارج واقعها ، وفي انعدام جاهزية الحرب عند الجيوش العربية ، ومتناسين الدور الأمريكي والغربي في دعم إسرائيل ، وخيانة الاتحاد السوفياتي الذي كان يسلم الأنظمة القومية أسلحة خردة ، وطائرات من الجيل القديم Mig .. وكلنا لا نزال نتذكر في حرب أكتوبر التي كانت حرب تحريك أوراق المفاوضات ، ولم تكن حرب تحرير لمّا سافر الرئيس الجزائري هواري بومدين للتوسط للحصول على الطائرات التي دمرتها إسرائيل ، والأسلحة المطلوبة . وقد أدى ثمن تلك الأسلحة فورا . لكن بعد فوات الأوان ، وبعد تراجع انوار السادات واستعداده للارتماء في الحضن الأمريكي ، الذي انتهى باتفاقية كمب ديفيد المهينة ، مثل اتفاقية وادي عربة مع النظام الأردني ..

هكذا سيكون الرافد الثاني لفكر النخبة التي كانت متغربة ، وهي ازدواجية غير مقبولة ، هو الرافد الماركسي الذي اعترف بالقرار الاممي في سنة 1947 ، القاضي بتقسيم فلسطين .. أي اعتراف مباشر بالدولة الإسرائيلية التي يعتبرونها في نفس الوقت عدوا رئيسيا ..
لقد غرق هذا الرافد في الثقافة وفي التنظيرات ، التي لم تكن تعكس الواقع ، ولم تكن مستوعبةً لمكانيزمات التحكم في القرار السياسي للأنظمة المحلية ، وللأنظمة التي خسرت الحرب . فكانت اسباب الحكم بإفلاس فكر حركة القوميين العروبيين وبإفلاس طبقتها ، هي نفس الأسباب التي افلست المشروع الذي رفع شعارات الشعب ، في حين كان يتصرف ضد مصالح الشعب الغير مدركة من قبل الشعب .. فكان الغرق في التنظير ، وفي الترويج للفكر العلمي البديل ، وبمعزل عن طبقات الشعب الرئيسية ، وعلى راسها الطبقة البرجوازية الصغيرة ، وما فوق الصغيرة ، والمتوسطة .. وأمام امية وجهل الشعب / الرعية ، والتقوقع في الحلقية الضيقة ، وباسم تحصين الذات .. كان كل ذلك من اهم أسباب ، وعوامل افلاس نفس المشروع الذي فرض نفسهم كبديل منقد ، عن مشروع وفكر الحركة القومية العربية الذي انهزم عند حصول النكسة في سنة 1967 ..
اما الرافد الثالث الذي استقى منه بعض ( المثقفون او بعض النخبة ) افكراهم لبناء المشروع العقائدي وليس المشروع الأيديولوجي ، فكان الفكر الإسلامي عندما اعتبروا ان الحل في الإسلام ، ومن دون الصراع الحضاري بين الغرب المسيحي ، الكاتوليكي ، البروتستاني ، واليهودي لن تقوم للامة قائمة ، وسيظل الجميع اسفل درك كما هو مخطط من قبل الدوائر المناهضة للمشروع القومي العروبي ، والمشروع الإسلامي ..
ستفشل جمع هذه الروافد ، وستتعطل جميع هذه المشروعات لأسباب منها ، جهل كيفية استيعاب مكانزمات الصراع . فهي هزيمة ( نخبة ) ، وافلاس طبقات وليس فقط طبقة واحدة .
فما هي الأسباب :
1 ) تحديد العدو بدقة . هل الصراع داخلي ام صراع خارجي ؟
اعتقد ان المهمة الأولى لأية جماعة تعتبر نفسها نخبة مثقفة ، ولها مشروع تتبناه ، وتدافع عنه ، هو في كيفية انتاج الأفكار الإيجابية التي تخدم الصراع الدائر بين مختلف اطراف النزاع ، وعلى رأسهم إسرائيل ، وحليفها الغرب المتصهين .
فهل الأفكار التي انتجتها ( النخبة ) المفروض فيها انها مثقفة ، كانت تعبيرا عن طبيعة وحقيقة الصراع . وهل كانت تعبيرا عن مشاعر المجتمع ، وحاجاته الروحية التي اساء اليه التحالف الصهيو- امبريالي .. ؟
ان الأفكار إمّا ان تكون تعبيرا لاحقا عن مشاعر وحاجات متجددة ومتغيرة باستمرار ، او تكون دافعا مبادرا في صنعها وتجديدها . فهما يتواكبان بدرجة او بأخرى ، في مجتمع يتجدد ، ويتغير ، ويتقدم . وفي مجتمع متخلف تكون الأفكار امّا متخلفة عن تقدم حاجات المجتمع ، او تكون كابحة لها .
والمجتمع الذي تتوالد بناه وتكرر نفسها ، من دون تجديد ، مجتمع عاجز ، ذلك ان العالم يتغير ويتقدم باستمرار ، ومسيرة التقدم لا تمهل أحدا . ومن لا يتقدم ومن لا يتغير يموت ..
المجتمع العاجز عن التقدم ، ينتهي الى العزلة والدوران حول نفسه ، لأنه يخالف سنن وقوانين الكون والعالم . والعزلة والدوران حول الذات ، يقودان الى المنفخة والتباهي بالذات ، من دون ان تكون هناك مسوغات موضوعية لذلك . وهذا معناه فقدان التوازن ، والخفة ، والضعف ، أي الهزيمة امام كل هزة تصيب المجتمع ، وامام كل هجوم يواجهه .
فأيهما احق واجدر . هل الصراع الداخلي ، ام الصراع الخارجي الذي يكون الانتصار فيه طريقا سهلا لحسم الصراع الداخلي ؟
اعتقد اننا غير منعزلين ، واننا نعيش في مجتمعات مغلفة ومنغلقة ، ويستقوي فيها الإسلام .. ومع ذلك فان ما يسمى ( بالنخبة / المثقفة ) ، لم تستوعب هذه الحقيقة التي وحدها تضفي طابع التمايز على المجتمعات العربية الإسلامية .. واعتقد ان اول سورة مكتوبة في القرآن هي سور " اقرأ " ، وهي سورة آمرة الزامية واجبارية ، لأنها تجسد سلطة الامر حين تدعو المسلمين الى القراءة .. لكن للأسف فان امة اقرأ التي لها اية في القران تحث وتدعو بصيغة الجبر ان تقرأ ، فهي لا تقرأ . وحين لا تقرأ امة اقرأ تكون المصيبة حين يصبح التنظير في واد والواقع في آخر . وعندما يذب الشرخ ، ويفقد التوازن بين النظرية وبين الممارسة ، وبين الواقع ، فالنتيجة هي الفشل . وعندما يتكرر ، وهو سيتكرر ، تكون النتيجة الهزيمة ، وما اقبح شرور الهزائم ..
قبل ان يتم النبي محمد سيطرته على شبه الجزيرة ، فرض على اتباعه الهجرة من شبه الجزيرة العربية الى العالم الخارجي . فالهجرة ليست فقط الانتقال من مكة الى المدينة ، انها المعنى الاوسع والاشمل . هجرة من النطاق المحلي الى الكوني L’internationalisme . فالهجرة الى العالم الخارجي معناها ، إعطاء الأولوية للصراع الخارجي على الصراع الداخلي ، وهو ما تفطنت له منظمة الى الامام حين كانت تدعو الى الاستعداد لمواجهة التدخل الفرنسي ، عند اسقاط النظام البطريركي ، الكمبرادوري ، الرعوي .
فالصراع الخارجي هو ما يوحد الامة ، ويخفف آثار التناقضات الداخلية ( الحرب انْ وقعت بين النظامين المغربي والجزائري لإبعاد الهزيمة ) ، وهو ما يحقق الصلة بين الامة والكون الخارجي . وعندما قيل لمحمد ان هناك عددا من المنافقين ، استمالهم بإغداق الرشاوى عليهم ، أي العطاءات . وبدل ان يستنزف النبي جهود الامة في صراعات داخلية ضد المنافقين ، وجه اتباعه لخوض حروب خارجية ضد ( الكفار ) . هذا كان البند الأساسي في مشروعه لبناء دولة موحدة ومجتمع جديد .
اما الآن ، فالاسلاميون ( المعاصرون ) ، يعطون الأولوية للصراع ضد المنافقين في الداخل ، على الصراع ضد ( الكفار ) في الخارج . فمنظمات الإسلام السياسي كالجهاد مثلا ، تكرس كل جهودها لتطبيق الشريعة . أي للصراع ضد المنافقين الذي يكاد ينسى الصراع ضد إسرائيل ، وضد هيمنة الغرب الامبريالي . وبدل ان يكون لديه عداء سياسي للغرب ، نجده يركز جهوده على العداء الثقافي للغرب ، ويهادنه سياسيا بحجة مكافحة عملاءه في الداخل .
اما الجيل السابق للاسلامويين بمختلف منظماتهم ، ومن ثوريين ، قوميين كانوا ام يساريين ، فكان يحاكم عبدالناصر على أساس الأوضاع الداخلية ، متناسيا انه يخوض حربا فعلية متواصلة ضد إسرائيل ، وضد الغرب الامبريالي . فكان ذاك الجيل يحكم سلبيا على عبدالناصر ، على أساس ان نظامه إصلاحي وغير ديمقراطي . هكذا كان الثوريون القوميون ، واليساريون الماركسيون أيضا ، يعطون الأولوية للصراع الداخلي ، ومتغافلين الصراع الخارجي سبب الازمة التي خلقت الصراع الداخلي . ولو كان لهم حدس من التفكير لاقتنعوا ان كسب الصراع الخارجي ، هو ما يشد لحمة الامة لقلب الأنظمة الدكتاتورية الاستبدادية المتسلطة . أي لحسم الصراع الداخلي ..
ومن جهة أخرى نجد الإسلاميين الأصوليين الآن ، مثل الثوريين قبلهم ، غير قادرين على استخدام النص استخداما عقلانيا واعيا . فكلاهما قاصر عن فهم مغزاه التاريخي ، او معناه المطلق ..
الثوريون القوميون العرب ، استخدموا مفاهيم سياسية مثل الامة ، والوحدة ، والعروبة ، وعملوا من اجلها . لكن بقيت على رغم صحتها وضرورتها ، عناوين هشة ضحلة المضامين . فالأمة في نظرهم ليست مجتمعا ذا تاريخ ، وسيرورة مستمرة ، وتجدد وتغير دائمين . ولذلك لم تستطع احزابهم ، ولا منظماتهم رسم برامج تؤدي الى نتائج مرضية ، ولم يستطيعوا تحقيق أي من أهدافهم على رغم التأييد الشعبي الواسع لهم في فترة من الفترات . وما نسمعه يتردد على لسان العموم ، ان برامج الأحزاب التي رسمها الثوريون كانت خاطئة ، لأنها صدرت عن وعي شقي قاصر غير تاريخي ، والعجز في التطبيق كان نتيجة حتمية لذاك ..
وعندما احس الثوريون القوميون العرب بفشلهم وعجزهم ، لجأوا الى الماركسية ، واساؤوا استخدام نصوصها إسوة بغيرهم من الماركسيين القدماء .. الم يكن خروج الديمقراطية عن الشعبية خطأ تنظيميا وسياسيا ( حبش / حواتمة ).. الم يكن خروج منظمة الى الامام ، ومنظمة 23 مارس ، وفي ذلك الابان ، خطأ عرت عنه النهاية التي وصلت اليها المنظمتان ، خاصة عند ارتماء الأغلبية تدافع عن مشروع الدولة السلطانية ، التي جندت نفسها لأسقاطها ، فبقيت الدولة وسقطت تلك المنظمات سقوطا مدويا عند الانقال من جهة الى أخرى ، دون طعم أيديولوجي او تنظيمي .. فبقيت تلك المنظمات مجرد أسماء سموها في وقت من الأوقات ، لتثبيت الذات الحاملة معها لفيروسات الهزيمة ..
فالماركسية بالنسبة لليسار الجديد ه، ي مجموعة استنتاجات مفرغة من سياقها التاريخي . هم لم يجدوا في الماركسية انتاجا فكريا غربيا نبع من تراث اوربة ، واستند الى النتائج العلمية التي كانت متاحة آنذاك . وبالتالي فهي ، أي الماركسية ، يمكن تجاوزها في ضوء المستجدات العلمية في مختلف العلوم الإنسانية والمادية . والاهم من ذلك ، كانوا ومن بقي منهم القليل ، يستخدمون الشعارات والنصوص ، لرؤية واقع الأمور من دون ان يحاولوا دراسة التاريخ الفعلي ، واستخراج النتائج والعبر منه لاستخدامها في برامج تنفيذية ، تفيد الشعب والأمة . فالماركسية عندهم كانت مجرد اسقاطا دون ضوابط ،على واقع ومجتمع لا علاقة له بأوربة قلعة الماركسية ، ولا بالمجتمعات التي تخضع وتسيطر عليها التقاليد المرعية ، والطوباوية ، والقروسطوية ، والميّالة الى المحافظة الاعمى التي كانت تتناقض مع نوع الشعارات المرفوعة ، وتجهل نوع المصطلحات المستعملة . فكان الابتعاد ، وكان النفور . بل كان العداء الذي جعل الحلقية تخنق ما تبقى من وهج الانشاء عند التأسيس .. فالنص عندهم ليس مسألة ، وليس تعبيرا عن إشكالية تاريخية . لذلك كان فكرهم غير نقدي ، وهناك فرق بين النقد وبين الحقد .. وكل ذلك يناقض المبادئ الأساسية للنظرية التي يعتنقونها ، وهي التي قامت على اعتبار النظرة التاريخية ، والموقف النقدي منطلقين اساسين . فالربط بين النظرية والممارسة كانت للتغني ، ولم يكن يعمل به قط ..
في المقابل نجد منظمات الإسلام السياسي الآن ، يجعلون النقطة المركزية في دعوتهم تطبيق الشريعة . وهم أيضا ينكرون التاريخ والتغيير ، على رغم انهم يقرون بالناسخ والمنسوخ ، ولا يستطيعون تقديم التفسيرات الوافية عن أسباب الاختلافات الفقهية ، على رغم وحدة النص القرآني ، وينكرون ان هذه الاختلافات نجمت عن اختلافات في الظروف التاريخية ، والأوضاع الاجتماعية للفقهاء وللمفسرين ، ويصرون على ان يروا النص بمعزل عن السياق التاريخي للامة . بل ينكرون التاريخ برمته ، ويعلنون ذلك اعلانا واعيا .. حتى تفرقوا الى اكثر من سبعين فرقة ، والحرب بينهم حول الفرقة الأحق بدخول الجنة ..
الدين وايّ دين بمعنى ما ، هو دليل عمل ، والشريعة تعكس الاطار الروحي للروحية الدينية ، وليست مجموعة قوانين محددة . هي اطار روحي ، وذهني ، ومنهجية معينة تعطينا نتائج مختلفة في ظروف مختلفة . وقد عجز الإسلاميون الاصوليون عن صياغة برنامج سياسي للامة ، لان منهجيتهم غير تاريخية ، ووعيهم غير نقدي ، بل وعي حقد . وما يمنعهم من ذلك ، هو اعتبارهم لقدسية النص في الوقت الذي يضطرون فيه لممارسات غير قدسية ( سكزوفرانيا ) .. فهم لا يستطيعون الفصل بين النظرية والممارسة ، ولذلك فان فكرهم يخلو من التنظير ، وصولا الى الغاء الفكر عينه .
ان إشكالية النص والتأويل ، واشكالية النظرية والممارسة ، غائبتان عن تفكيرهم . فلأنهم يهملون التناقضات ، يجدون انفسهم مضطرين لإنكار التغيير ، وبالتالي لإلغاء التاريخ .
ان شعار تطبيق الشريعة الذي يطرحه الاصوليون الأن ، هو تكريس لمبدأ إعطاء الأولوية للصراع الداخلي ، على الصراع الخارجي . ويكونون بذلك بمن ينصر ويقوي عضد إسرائيل ، وحليفتها الامبريالية الغربية ، على حساب فلسطين ، وعلى حساب الحقوق العربية المشروعة التي تعرضت لمؤامرة الدفن والاقبار ..
ان هذا الشعار الذي يوظفه الإسلام السياسي ، الى جانب خدمته لمخططات الصراع المُعدّة امبرياليا ، فهو يُستخدم لقمع الناس ، وتغيير نمط عيشهم رغما عنهم ، ومن دون اقناع منهم . فالشريعة عندما تؤخذ من زاوية وحيدة الجانب ، وتفرض على الناس مسلمين وغير مسلمين يعيشون في بلاد الإسلام ، والذي لا غبار على ايمانهم ( المنافق ) ، وتعلقهم رغما عنهم بالإسلام ، تكون مجرد شعار قمعي ، وضوابط فاشية للإرغام ، وللإذلال ، والإساءة لشخص الناس ..
ان المقصود من تطبيق الشريعة في نظرهم ، ليس فهم النص الإسلامي واستيعابه كي يكون دافعا روحيا واخلاقيا . بل هو اجبار الناس كي يعيشوا حسب النمط الذي يفرضه أصحاب الشعار . بل ان الامر اكثر من ذلك . فهم عندما يدعون تمثيل الإسلام والحديث باسمه ، وبدعوة أولية ، يفعلون ذلك بطريقة حصرية ، فيتماهون مع الإسلام ، ويصبحون هم المسلمين الوحيدين والحقيقيين ، ويواجهون المجتمع كله بمختلف معتقداته وايديولوجياته ، بحاكمية ومحكوميه باعتبارهم جميعا موضع تهمة ، وينبغي فرض اسلامهم بالقوة على الآخرين .. وهذه فاشية ، وجبرية ، ودكتاتورية مرفوضة ، ويجب مقاومتها بكل السبل والوسائل ..
2 ) القمع الذاتي . L’autocensure :
قلنا أعلاه ان ما يسمى ( بالنخبة )L’élite في البلاد العربية ، وضمنها ( النخبة ) المغربية ، لم تقد الامة بنجاح للوصول الى القصد المبتغى ، والدليل هو الهزيمة الأكثر وقعا من الفشل .. وانها لم تستطع ان تنتج فكرا ابداعيا مجددا . بل كانت تكرر نفسها باستمرار ، وإنّ طابع فكرها يرتكز على إعطاء الأولوية للممارسة ، ويرفض التنظير . ونحن نعتقد بان وراء هذه العلل والمثبطات علة أخرى ، تشكل كابحا لنمو النخبة ، وصقل وعيها الزائف المُكلّس ، وهي القمع الداخلي للذات وللنفس L’autocensure ..
عندما يجري الحديث عن القمع في مجتمعنا ، وفي المجتمعات العربية ، يكون المقصود عادة الدولة وأجهزتها البوليسية الفاشية ، ونقصد بذلك الدولة النيوبتريمونيالية ، والنيورعوية ، والنيوبطريركية ، الدولة الكمبرادورية ، الثيوقراطية ، التقليدانية التي تتماهي حد الغرق مع التقاليد المرعية السلطانية .. الخ . صحيح ان الدولة في مجتمعنا هي دولة استبدادية ، طاغية ناهبة للثروات ، ومهربة لها خارج البلاد لتكدسها في الابناك الاوربية وتبييضها بشراء القصور ، والفيلات ، والاشياء الثمينة النفسية ، من مجوهرات ، ويختات ، وساعات مرصعة بالماس وبالذهب الأبيض ... لكن ليست الدولة القامعة وحدها من تمارس قمعها المرضي ، الصادي ، البسيكوباطي لا خراص أصوات المعارضة الناقدة والسلمية .. لكن هناك قمع اشد وادهى ، وهو القمع الذي تقوم به النخبة على نفسها ، ومن تلقاء نفسها ، وضد نفسها .. فما يسمى ( بالنخبة ) تقمع نفسها قبل ان تقمعها الأنظمة ، لان القمع الذاتي هذا ، تعبير عن سيادة مرض المازوشية وسطها ، وهو دليل أدى الى نشوء أنظمة تمارس القمع على النخبة وعلى الشعب ، وعلى بقية الناس .. فعندما يكون القانون الأساسي لمتصرفي وزارة الداخلية يمنع بالحرف الانتماء الى النقابة ، لكنه ينص ( الفصل 15 ) على ان من حق المتصرفين والمتصرفين الممتازين انشاء جمعية للدفاع عن حقوقهم .. ورغم وضوح القانون ووضوح الفصل ، تخاف الأطر من تطبيقه ، بدعوى ممارسة الحضر والقمع الذاتي خوفا من غضب وسخط الوزير واعوانه ، على من دعا فقط الى تطبيق ما ينص عليه القانون ظهير ( 1 مارس 1963 ) .. هنا يكون هذا الموقف الاستسلامي والانهزامي ، سببا من أسباب تقوية الجهاز السلطوي الذي يتصرف ضد القانون .. وكم عانينا عندما حاولنا تنزيل مقتضيات ظهير 1963 من قبل المتصرفين الذين هربوا ، ومن قبل طاقم الوزير الذي بعث اليّ عاملا كان ملحقا بمديرية الشؤون العامة ، وهو عبدالخالق بنجلون المدعو قميحة قائلا لي : اسمع مزْيانْ . قالْ ليك الوزير أيْ ادريس البصري . تريد انشاء نقابة في وزارة الداخلية .. باغي تدير عْليّ انقلاب .. واسمع أولدي راكْ غادي تبقى فيها وحدك " .. وبالفعل بقيت فيها لوحدي لان الجميع هرب .. وهؤلاء الذين هربوا منهم من يحمل دكتوراه ، ومنهم من يحمل شواهد عليا ..
كذلك عندما يكون ظهير المتصرفين والمتصرفين الممتازين لا يمنع رجال السلطة من النشر والكتابة ، ومن الانتماء الى الجمعيات .. ويمارس هؤلاء حضرا ذاتيا على انفسهم ، بدعوى ان المبادرة ستغضب الوزير وطاقمه .. فكيف سيتصرف الوزير وديوانه مع هؤلاء الذي يمارسون المازوشية على انفسهم .. طبعا ان الخضوع ، والخوف ، والتردد ، هو من يقوي الدكتاتورية ، ويحول المجتمع الى مجتمع عبيد . وهناك طرائف كثيرة حصلت في هذا الباب ليست هذه الدراسة مجال عرضها ..
ان ارتكاز النخبة على الممارسة ، والاقلاع عن التنظير ، يخفي وراءه اقتناعا بان النظرية الجاهزة ، هي الفكر الموروث ، وفي حالة متصرفي وزارة الداخلية التي ذكرت ، يكون الموروث تقاليد السلطنة التي هي دار المخزن .. فالتراث له قدسية ابدية Eternelle متمكنة من اذهان النخبة . وهذا ما يجعل النظر الى التراث ممكنا في حدود الاحياء والنقد . وكثيرون مِن مَن يسمون بالنخبة ، يعتقدون بان احياء التراث ، هو مسألة جميع المخطوطات وطبعها ، بعد تحقيقها ، ونشرها كي يقرأها الناس ويستنيروا بهديها ، ان احياء التراث بهذه الطريقة ، يعتبر ضروريا من اجل تعميق الهوية العربية الإسلامية المغربية ..
لكن ذلك يوقعنا في مأزق ، لان احياء التراث من دون تجديده يعني قتله . فالحياة عملية نمو مستمرة ، والاحياء غير ممكن من دون التجاوز ، والتجاوز غير ممكن من دون النقد ، والنقد غير ممكن من دون فهم واستيعاب . ان احياء التراث بنقله كما هو من دون فهمه نقديا مجددا ، يعني إيقاف الزمان وقتل إمكانات النمو . بل قتل التراث نفسه ، علما بان التراث ذاته نشأ حصيلة تطور، وفهم ، ونقد ، واستيعاب وتجاوز ..

ان النخبة التي يطربها تعبير احياء التراث ، هي نفسها غير مطلعة على التراث . بل انها تتجنب ذلك . فدراسة التراث في نظرنا تنظير لا لزوم له ، والمطلوب هو الممارسة . هكذا تنقلب الممارسة الى هدف ومثل اعلى ، وتلغي النظرية ،لمّا كانت النظرية لا يمكن استنباطها وفهمها سوى على أساس التاريخ ( التطورات السابقة ) ، والوعي التاريخي ، فالمؤدى هو الغاء التراث كأداة وعي متجددة ، ونحن ما نزال نقرأ تراثنا من خلال المستشرقين من فرنسيين وانجليز .. نتيجة عجز مثقفينا وكتابنا عن مضاهاتهم .
النخبة المهزومة تعتبر التاريخ سلسلة حوادث مشبوهة ، فتلغي التاريخ . الإسلام المتنور صنع امجاد الامة العربية ، ومرحلة الفتوحات هي المثل الأعلى ، وهي محط عواطفنا واعتزازنا . لكن ثلاثة من الخلفاء المُسمّون بالراشدين ماتوا قتلا . والسلالات العربية التي حكمت بعد ذلك ، اغتصبت الحكم وكانت مشبوهة في شرعيتها . وبعد ذلك جاءت سلالات غير عربية فحكمت ، وكانت أيضا مشبوهة لدرجة اكبر في شرعيتها . التاريخ يصبح انحطاطا لمرحلة مجيدة زاهية ، فلا يمكن التعامل معه بعقل معطوب بارد ، لذلك يتم تجنبه .
تراثنا هو تراث قومي ، وطني ، وديني في آن . وهذا الامر يكمن في أساس المشكلة . فما دام التراث ذا طابع ديني ، لا يمكننا ان ننظر اليه من دون اعتبارات دينية . أي الحلال والحرام . والقدسية التي تُضفى عليه ، تجعل من الصعب فهمه واستيعابه بمنهجية نقدية . لذلك يغلب على وعي النخبة العاقرة الاتجاه النقلي ، وليس العقلي . وربما برر البعض ذلك في هيمنة الاتجاه النقلي على وعي الامة ، في ظروف كانت الامة فيها تخضع لهجمات وتهديدات خارجية مستمرة ، وكان عليها ان تحافظ على ما لديها من دون الخوض في حوارات وصراعات داخلية ، وانّ الامة ما تزال على هذه الحالة ، لكن بشكل اسوء حتى اليوم .. لكن هذا التبرير المحافظ يخفي حقيقة انّ الاكتفاء بما لدينا من أفكار ووعي ، يجعلنا نزداد تخلفا في وقت يسير فيه العالم بسرعة . والهزائم التي اصابتنا حتى الآن برهان على خطأ هذا التقدير .
ما زالت النخبة العاقر المهزومة ، ترتطم بحاجز القدسية الذي يحجب عنها الرؤية التاريخية ، ويجعلها تكتفي بالممارسة من دون نظرية . ترسخ القدسية التراثية الاستسلام الفكري المرتاح . وهي تحول دون ظهور نزق فكري يخرج عن المألوف ليجدد ويبدع . نقول النزق الفكري ولا نظن اننا مغالون . ولو كان العرب المسلمون الأوائل من دون نزق في الرؤية ، لاستسلموا للمألوف ، ولم يخرجوا من شبه الجزيرة العربية ويقتحموا العالم ، علما بان ميزان القوى العسكرية آنذاك لم يكن في صالحهم .
ان غياب النزق الفكري ، هو تعبير آخر عن إعادة تكرار وتوالد البنى الفكرية من دون تجديد . ألا نلاحظ اننا ما زلنا منذ اكثر قرنين نراوح مكاننا نتلقى الهزيمة تلو الأخرى ؟
وما يدعو للسخرية اننا نعتبر القرن الماضي قرن نهوض فكري ، ونقرأ العديد من الكتب والمقالات حول عصر النهضة هذا . ويطرح هؤلاء الكتاب امامنا أفكار الطهطاوي ، والافغاني ، ومحمد عبدو ، ورشيد رضا ، والكواكبي ، وصروف ، واليازجيين ... وغيرهم . ولا نجد لديهم سوى أفكار مكررة ومبتورة ، وعلى رغم ذلك نسميهم عصر نهضة . وبعد اكثر من مئتي عام من النهضة ما زلنا نقرأ اهم الكتابات عن مجتمعنا وتاريخنا ، على يد الفرنسيين ، والانجليز ، والالمان ، والهولنديين .. ، وما زلنا عاجزين عن انتاج ما نستهلك ، ونلهث وراء الدول الكبرى لحل امورنا الداخلية ، او لرد يهود إسرائيلي عنّا .
ان القمع الذاتي L’autocensure الذي مارسته وتمارسه النخبة على نفسها ، يجعلها عاجزة عن امتلاك القدرة على تكوين وعي شمولي كوني . لقد كان الإسلام مشروعا كونيا اخرج الامة العربية من قوقعتها على نفسها ، لتنفض عن نفسها الوعي المحلي الشقي ، واثبات كونه مشروعا كونيا يتجلى في انه سعى الى تأسيس مجتمع جديد ، ودولة على مدى العالم . كانت لدى الأوائل آنذاك روح إقتحامية بدأت على صعيد الوعي ، وامتدت الى الممارسة . فالأوائل حملوا لواء الدعوة التي كانت بمثابة برنامج التنفيذ ، للوعي الجديد الذي تكوّن لديهم .
فالنخبة عندما تغرق في تفاصيل الحياة اليومية ، وتكتفي بالمحاولات المحكوم عليها بالفشل سلفا ، لامتلاك التكنولوجيا الحديثة من دون تحديث روحي ( عبدالله العروي / الأيديولوجية العربية المعاصرة ) ( الاختيار الثوري / المهدي بن بركة ) ( سلامة موسى ) .. وقيام وعي جديد ، فهذه النخبة تضطهد نفسها ، وتتخلى عن المهمة التي لا مسوغ لوجودها الاّ من اجلها . انها لا تترك المجتمع من دون قيادة وحسب ، بل تلغي دورها بنفسها .
لقد درج الكثيرون على اعتبار الالتزام ، التزام المثقف بمجتمعه ، مجرد التزام سياسي بهذا الاتجاه او ذاك . هذا جانب هامشي من المسألة . المسألة الأساسية هي ان التزام النخبة بمجتمعها لا يكون حقيقيا ، من دون ان تكوّن النخبة وعيا جديدا يعيد تشكيل الامة ويدفعها الى الامام . واذا كانت المعرفة خيرا مطلقا ، فان الالتزام بالمعرفة يكفي لتكوين ذلك الوعي ، ولا شك في ان كل معرفة سلطة . لكن السلطة المعرفية تختلف نوعيا في سائر المجتمعات عن السلطة السياسية . وقد انصب اهتمامنا في هذه الكلمة على بيان الأوهام التي سيطرت على النخب في مجتمعنا منذ اكثر من قرن ونيف : انها أوهام السلطة الثقافية المستندة الى أوهام ، حول طبيعة الثقافة ، ودورها الاجتماعي والسياسي . وستبقى المسلمات الخاطئة ، والاوهام النخبوية بين المثقفين النخبويين ما بقيت ضياعات الامة وانحطاطاتها ، وما بقي مشروعها القومي الكبير ، رهينة الخوف، والتردد ، والشرذمة ، وجدل الهوية، والتوازنات الدولية والإقليمية .
ان تجديد المشروع التاريخي للامة ، رهن بقدرة النخبة العربية على رفض الأيديولوجيا التقنوية الخالية من أي مدلول أيديولوجي ، امتلاك نظرية شمولية تقرأ تاريخ الامة والعالم .. ورهن بقدرة النخبة على التجديد الروحي والثقافي ، وإنتاج الأفكار الكبرى . فما دامت النخبة العاقر المهزومة عاجزة عن انتاج أفكار كبرى ، ستبقى أسيرة توالد الأفكار المتكررة المألوفة ، وستبقى عاجزة عن اقتحام المستقبل ، وستكون مضطرة الى ممارسة القمع الذاتي تجاه نفسها ، لأنها لن يكون لديها شيء تقوله .. يعني الهزيمة لا غير ..



#سعيد_الوجاني (هاشتاغ)       Oujjani_Said#          



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)

الكاتب-ة لايسمح بالتعليق على هذا الموضوع


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- موسم الهجرة من بلاد قابلة للنسيان ...
- محكوم على زيارة ستيفان دوميستورا بالفشل .
- صناعة القرار السياسي في الدولة السلطانية .
- ماذا نقصد بالبطريركية والرعوية السياسية ، في الامبراطورية ال ...
- نزاع الصحراء الغربية بين الحكم الذاتي ، وتقرير المصير ..
- هل تم استبدال منتدى - كرانس مونتانا - الفاشل بمدينة الداخلة ...
- آخر ملك
- قضية زكرياء المومني ، وقضية فريد بوكاس
- خطاب احياء العقل ، وخطاب قتل العقل / الفرق بين العقل الفلسفي ...
- المدير العام للبوليس السياسي عبداللطيف الحموشي يزور واشنطن
- هل سينزل رعايا السلطان ، ضد السلطان ، الى الشارع في 17 يوليو ...
- بيدرو سانشيز اليتيم .
- النظام الجزائري يخوض حرب وجود ضد النظام المغربي وبالمكشوف .
- النظام الجزائري يهدد بالاعتراف بالجمهورية الريفية . النظام ا ...
- ماذا ينتظر نزاع الصحراء الغربية المغربية خلال السنتين القادم ...
- من له مصلحة في اشعال الحرب بالمنطقة ؟
- موت ثقافة التغيير .. لا مثقف جماهري ولا مثقف نخبوي
- ويستمر نظام السلطان في الكذب على الرعايا . هل حقاً انّ الجمه ...
- مجلس النواب الاسباني
- هل يُحضّر النظام السلطاني المغربي ، لتنزيل الحكم الذاتي من ج ...


المزيد.....




- شاهد ما كشفه فيديو جديد التقط قبل كارثة جسر بالتيمور بلحظات ...
- هل يلزم مجلس الأمن الدولي إسرائيل وفق الفصل السابع؟
- إعلام إسرائيلي: منفذ إطلاق النار في غور الأردن هو ضابط أمن ف ...
- مصرع 45 شخصا جراء سقوط حافلة من فوق جسر في جنوب إفريقيا
- الرئيس الفلسطيني يصادق على الحكومة الجديدة برئاسة محمد مصطفى ...
- فيديو: إصابة ثلاثة إسرائيليين إثر فتح فلسطيني النار على سيار ...
- شاهد: لحظة تحطم مقاتلة روسية في البحر قبالة شبه جزيرة القرم ...
- نساء عربيات دوّت أصواتهن سعياً لتحرير بلادهن
- مسلسل -الحشاشين-: ثالوث السياسة والدين والفن!
- حريق بالقرب من نصب لنكولن التذكاري وسط واشنطن


المزيد.....

- 7 تشرين الأول وحرب الإبادة الصهيونية على مستعمًرة قطاع غزة / زهير الصباغ
- العراق وإيران: من العصر الإخميني إلى العصر الخميني / حميد الكفائي
- جريدة طريق الثورة، العدد 72، سبتمبر-أكتوبر 2022 / حزب الكادحين
- جريدة طريق الثورة، العدد 73، أفريل-ماي 2023 / حزب الكادحين
- جريدة طريق الثورة، العدد 74، جوان-جويلية 2023 / حزب الكادحين
- جريدة طريق الثورة، العدد 75، أوت-سبتمبر 2023 / حزب الكادحين
- جريدة طريق الثورة، العدد 76، أكتوبر-نوفمبر 2023 / حزب الكادحين
- قصة اهل الكهف بين مصدرها الاصلي والقرآن والسردية الاسلامية / جدو جبريل
- شئ ما عن ألأخلاق / علي عبد الواحد محمد
- تحرير المرأة من منظور علم الثورة البروليتاريّة العالميّة : ا ... / شادي الشماوي


المزيد.....


الصفحة الرئيسية - مواضيع وابحاث سياسية - سعيد الوجاني - الهزيمة التاريخية