مصطفى العبد الله الكفري
استاذ الاقتصاد السياسي بكلية الاقتصاد - جامعة دمشق
الحوار المتمدن-العدد: 7201 - 2022 / 3 / 25 - 12:06
المحور:
الادارة و الاقتصاد
لا يزال توحيد الوطن العربي في كيان سياسي واحد مطلباً جماهيرياً تتطلع إليه جماهير الأمة العربية لمواجهة تحديات داخلية وخارجية عديدة (سياسية واقتصادية واجتماعية). وكان هذا المطلب ولا يزال يسيطر على تفكير معظم الجماهير والنخب المثقفة والسياسية منذ أواخر القرن التاسع عشر.
تجارب وحدوية جزئية عربية:
دخلت بعض الدول العربية في تجارب وممارسات وحدوية جزئية خاصة في النصف الثاني من القرن العشرين. ورغم تعثر هذه التجارب أو إخفاقها، فإن المحاولات الوحدوية لا تزال مستمرة، وهو الأمر الذي يدل على حيوية هذا المطلب الجماهيري وعمقه لمواجهة التحديات الخارجية والداخلية التي يواجهها الوطن العربي منذ أكثر من قرن من الزمان.
الاستطراد في ذكر المقومات الطبيعية والإنسانية والثقافية والتاريخية والاقتصادية والاجتماعية وتعدادها، التي تؤكد أن العرب من المحيط إلى الخليج هم أمة عربية واحدة، ذات حضارة واحدة، وتاريخ مشترك واحد، وآمال ومآس واحدة مع ما قد يوجد بينها من تنوع وخصوصية في إطار النسق العام، والتعرض لها هنا يكون تكراراً مملاً في تزويد البديهيات والكلام عن المسلمات. مع أن هذه الأمور قتلت بحثاً ودراسة وكثر فيها الكلام خلال الخمسين عاماً الماضية، من قبل الأفراد والأحزاب والحكومات.
الذي يهمنا في هذا المقام، هو الإسهام في تقديم إجابة عن السؤال المستمر منذ أكثر من قرن: إذا كان العرب أمة واحدة، وإذا كان لدى معظم الجماهير العربية هذا المطلب في التوحد طوال هذه المدة، فما العوامل والأسباب التي عرقلت ولا تزال تعرقل قيام الدولة العربية الواحدة؟ وإذا كانت الوحدة السياسية التي تشمل كل العرب أمرا صعباً في الوقت الحاضر، فلماذا لم تتكامل الدول العربية اقتصادياً؟ وما العوامل التي أعاقت، أو لا تزال تعيق خطوات التكامل الاقتصادي العربي؟ ولماذا لم تتمكن الدول العربية من تحقيق السوق العربية المشتركة والأهداف المرجوة منها؟ وما إشكاليات السوق العربية المشتركة؟ وإقامتها مستقبلاً؟
عوامل التفكير بمستقبل الوطن العربي:
عوامل عديدة تدعو الإنسان العربي للتفكير بمستقبل الوطن العربي ونحن في العقد الأول من القرن الواحد والعشرين، ومن أهم هذه العوامل: أن التفكير في المستقبل وتحديد معالمه يسهم في عملية صناعة هذا المستقبل، وتحفيز الإنسان على صنعه، وعندما يفكر الإنسان بهذا المستقبل ويُنَاقَشُ من قبل المفكرين وغيرهم سيجد من يوافق على ذلك أو يعترض أو يضيف أو يحذف، وهذا يؤدي في النهاية إلى المقارنة والمفاضلة بين البدائل واختيار الأنسب أو التفكير في المستقبلِ يجعلُ كّلاً منا حسب موقعه في المجتمع العربي ينظر إلى الغد البعيد وليس الاكتفاء بتدبير حاجات الغد المباشر وهذا يعني اتخاذ إجراءات لتأمين حاجات الغد المباشر، والغد البعيد، مما يساعد على تأمينها وتسهيل الحصول عليها. والتفكير بالمستقبل والتخطيط لمواجهة متطلباته هو ما يميز الإنسان المعاصر لأن الكائن الوحيد في هذه الطبيعة الذي يفكر بالمستقبل ويخطط له ويسهم في صنعه هو الإنسان والإنسان فقط، لهذه الأسباب وأسباب أخرى أقل أهمية لا بدَّ من البحث في مستقبل الوطن العربي.
الحقيقة التي لابدَّ من الإقرار بها هي أننا لا نستطيع أن نتحدث عن مستقبل الوطن العربي دون أن نتذكر أن الوطن العربي ينتسب إلى مجموعة الدول النامية، ومن ثمَّ فهو يعاني من المشكلات والصعوبات كلّها التي تعاني منها دول الجنوب، فضلاً عن مشكلة إضافية أخرى يعاني منها الوطن العربي فقط وهي مشكلة التجزئة، وبناءً عليه فإن مستقبل الوطن العربي يرتبط:
• بالقضاء على التخلف عن طريق التنمية.
• والقضاء على التبعية عن طريق الاعتماد الجماعي على الذات.
• والقضاء على التجزئة عن طريق الوحدة.
المشكلات التي يواجهها الاقتصاد والمجتمع في الوطن العربي:
ساد المجتمعات العربية في المرحلة القريبة الماضية، سلوك يتسم بالراهنية يهتم بحل القضايا الآنية في الاقتصاد والمجتمع من خلال التركيز على سلسلة من الإجراءات والسياسات الإصلاحية التي تهتم بالدرجة الأولى بمعالجة المشكلات التي يواجهها الاقتصاد والمجتمع دون أن يحكمها بالضرورة (أفق إستراتيجي واضح حول أساليب النهوض الاقتصادي، وتحديداً الانتقال من مرحلة الإصلاح الاقتصادي إلى مرحلة التطوير الاقتصادي والتنمية الشاملة. إذ لا يكفي معالجة قضايا الواقع الراهن فحسب من خلال حل سلسلة من المشكلات الآنية، مثل السيطرة على معدلات التضخم، وتثبيت سعر الصرف، وتخفيض حجم العجز في الموازنة، أو في ميزان المدفوعات، وبقدر أهمية مثل هذه الإجراءات وضرورتها إلا أنها تظل سياسات منقوصة وقاصرة إذا لم يتم ربطها وتوظيفها في إطار إستراتيجية مستقبلية واضحة المعالم للنهوض والتطور الاقتصادي).
(والقضية الجوهرية هنا أن هناك العديد من التوجهات المستقبلية ذات الطابع الاستراتيجي يصعب على آليات السوق وحدها الاضطلاع بها ومثال ذلك:
• نمط التحولات الأساسية في البنية الإنتاجية.
• اتجاهات التطور التكنولوجي وفي أي مجالات. ما النشاط الذي سوف يحقق قفزة تكنولوجية.
• توزيع الكتل العمرانية من خلال رؤية مستقبلية للتوزيع الجغرافي المتوازن للسكان.
• إستراتيجية النفاذ إلى الأسواق الخارجية في ظل التنافسية المتزايدة للعديد من البلدان النامية.
تلك نماذج للقضايا الإستراتيجية الكبرى التي تحتاج إلى بوصلة هادية وجهد تخطيطي إرشادي هائل.. لأنها تحتاج إلى أسواق مستقبلية غير موجودة أصلا ولأن الأسواق الحاضرة محدودة الكفاءة في حل المشكلات المتعلقة برفاهية الأجيال القادمة، فالرؤية المستقبلية هي في جوهرها بمنزلة عقد تضامن بين الأجيال المختلفة التي تتعاقب على أرض الوطن، لكي لا يستأثر جيل واحد أو جيلان برغد العيش وتدفع الأجيال القادمة من الأبناء والأحفاد أعباء الاستدانة الداخلية والخارجية.. من قوت أبنائها).
التداخل والترابط في مستويات العلاقات الاقتصادية الدولية:
في عالمنا اليوم وبعد توقيع اتفاقيات الغات (GATT) وقيام منظمة التجارة العالمية (W T O) التي تسعى إلى تحرير التجارة الخارجية يتزايد التداخل والترابط بين ثلاثة مستويات في العلاقات الاقتصادية الدولية:
1. المستوى الوطني (داخل حدود الدولة الواحدة).
2. المستوى الإقليمي، ويمكن تعدد المستويات الوسيطة تحت الإقليمية التي تؤدي في النهاية إلى المستوى الإقليمي (ففي البلدان العربية نلاحظ أن نموذج المستويات الوسيطة تحت الإقليمية يتمثل في مجلس التعاون الخليجي أو اتحاد دول المغرب العربي أو دول إعلان دمشق أو مجلس التعاون العربي المعطل. أمَّا المستوى الإقليمي فيتمثل بالوحدة الاقتصادية العربية.
3. المستوى العالمي (على صعيد الاقتصاد العالمي) حيث يسعى العالم كلّه إلى عولمة الاقتصاد.
وأي مستقبل للتعاون بين الدول العربية يجب أن يراعي هذا التداخل بين المستويات الثلاثة المذكورة.
السياسات القطرية الضيقة والتكتل الاقتصادي العربي:
ينظر العالم إلينا اليوم بوصفنا أمةً عربية واحدة لها حضارة عريقة ورغبة في بناء مستقبل أجيالها. ولابدَّ من التكتل الاقتصادي العربي لمواجهة التكتلات الاقتصادية العالمية الأمريكية والأفريقية والآسيوية والاميركالاتينية بدلاً من تعميق السياسات القطرية الضيقة. ولابدَّ من اغتنام الفرصة لوضع أسس التعاون الاقتصادي العربي للدخول في النظام العالمي الجديد (العولمة)، ونحن في بداية الألفية الثالثة للميلاد ومن أهمها:
• دعم الإصلاحات الاقتصادية في الدول العربية وتأهيل الاقتصاد العربي للدخول في القرن الحادي والعشرين ضمن التكتلات الاقتصادية العالمية العملاقة.
• قيام سوق عربية لرأس المال وحركته في إطار الوطن العربي، وضع إطار قانوني وتشريعات جديدة تتلاءم والمتغيرات الحاصلة في الأسواق العالمية.
• حرية انتقال عناصر الإنتاج والإنتاج وقوة العمل والأشخاص ورأس المال فيما بين الدول العربية. فضلاً عن حرية التملك والإرث.
• توحيد السياسات النقدية والمالية والجمركية والنقل والترانزيت والتجارة الخارجية.
• خلق مرصد عربي اقتصادي اجتماعي مهمته اقتراح السياسات الاقتصادية العربية تقييمها، وتحديد الاختلافات وعوامل تلافيها. وهذا يتطلب خلية استشارية تضم الخبراء العرب تكلف بالتفكير في السياسات الاقتصادية العربية في ظل المتغيرات الدولية. ويمكن أن يكون لجامعة الدول العربية دور مهم في إنجاز مثل هذا الأمر.
• لا بدَّ من استشراف آفاق المستقبل ووضع تصور مستقبلي لموقع الوطن العربي في المحيط الإقليمي والدولي، وتصوّر مفهوم محدد للأمن القومي العربي، وتوقع مدى إمكانية قيام السوق العربية المشتركة وما يرتبط بها من قضايا الحماية والدعم والمنافسة والحرية الاقتصادية.
• وضع إستراتيجية بناء القدرة التنافسية التي تعدُّ جزءاً لا يتجزأ من إستراتيجية عليا للتنمية الشاملة في الوطن العربي.
• الارتقاء بالقدرات البشرية على مستوى الوطن العربي.
الخاتمة، التجربة الصينية في تعاملها مع العولمة تجربة تقتدى:
يمكن أن يكون الدرس الذي تقدمه التجربة الصينية في تعاملها مع العولمة درساً مهماً للدول النامية عامة والدول العربية خاصة. إذ تمكن هذا البلد من إطلاق عملية التنمية بجناحيها الاقتصادي والاجتماعي فنجح، واعتمد على إمكاناته وطاقاته الذاتية بالدرجة الأولى، كما حاول إصلاح بنى اقتصاده الاشتراكي من دون أن يدمرها فأصلح وأراد أن يتعامل مع العولمة بعقل مفتوح ومن موقع قوة الاقتصاد الصيني فأضحت سوقه جاذبة للاستثمارات الخارجية الخاصة والعامة.
عالم المستقبل هو عالم التكتلات الاقتصادية، عالم الشركات والاستثمارات الكبرى، عالم التقانة والمعلوماتية، عالم الإدارة القادرة والقرار النافذ. لذا يتوجب على البلدان العربية أن تخطو خطوات حاسمة في استمرارية لا رجعة فيها لتحقيق هدف التكامل الاقتصادي العربي والوحدة الاقتصادية العربية، التي من دونها لن يستطيع العرب بناء اقتصاد عربي قادر على البقاء والمنافسة في عالم الاقتصاد المعاصر.
كلية الاقتصاد - جامعة دمشق
#مصطفى_العبد_الله_الكفري (هاشتاغ)
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟