أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - عبدالله بير - العودة إلى البيت















المزيد.....

العودة إلى البيت


عبدالله بير

الحوار المتمدن-العدد: 7126 - 2022 / 1 / 4 - 00:36
المحور: الادب والفن
    


قارب الشتاء على الانتهاء يجر عباءته المثقلة بالبرد والرطوبة و الظلام، تنفست الأرض الصعداء. خرجت الشعيرات من العشب الناعم هنا و هناك، كانت لفحات البرد في الليل اخف، تعلل نسمات الصباح محملة بالندى و أرسلت الشمس موجات من الدفء على كل شيء . جفت الأغصان شجرة البلوط الكبيرة، ومزقت وريقات صغيرات أغلفة البراعم لتخرج غلى الحياة ناعمة وطرية، ملأ ضجيج ولادتها المكان صخباً. عادت زقزقة العصافير على أغصانها لاختيار أماكن أعشاشها. بدأت الأشجار تتبادل الابتسامات وتتحدث عن جمال الطقس و معاناة الشتاء القارس. بدأت رحلة حياة جديدة.
كانت هناك في أعالي إحدى الأشجار على حافة الوادي وريقة لم تكتمل نموها بعد، تسال باقي الأوراق عما يجري في الوادي، تثرثر كثيراً، تملئ المكان بضجيج ضحكاتها، وكانت الأوراق التي أكبرها سناً كثيراً ما تنزعج لكثرت أسئلتها، سمعت الورقة الكبيرة بالقرب منها تقول لها:
- مازال الوقت مبكراً إلى الخريف، لذا يجب عليك أن تكبري بسرعة و العمل لتحيا شجرتنا الأم العظيمة و اترك سفيهات الكلام.
كانت الوريقة ما تزال بضة نظرة، لم تكن تملي اهتماماً لكلامهن، بمجرد مرور نسمة هواء محملة بالندى في الصباح حتى تغازلها الوريقة الصغيرة أو ترقص معها حتى التعب، كانت تهتم فقط باللعب و الضحك و الرقص. ذات ليلة، قالت لها الورقة الكبيرة التي كانت على الغصن المقابل لها:
- أنت تذكرني بطفولتي، لما كنت بعمرك، كنت أتصرف مثلك و لكن لما كبرت بدأت المسؤوليات تتقاطر عليّ و العمل اصبح مرهقاً يوماً بعد يوم.
فأجابت الوريقة:
- سأتمتع بطفولتي، و عندما اكبر سأعمل بجد و نشاط.
اكتملت الشجرة نموها، وأصبحت اكثر اخضراراَ، و أخذت كل ورقة دورها في العمل، اكتملت نمو الوريقة و عملت بجهد، فتمتص أشعة الشمس تارة و ثاني أوكسيد الكاربون تارة أخرى، و تطرح أوكسجين النقي عند الحاجة، ولكنها بقيت شقية، تداعب الحشرات المنهكة التي تمر بقربها و تغازل نسمات الهواء، كلما كبرت الوريقة كلما اصبح العمل اصعب و كثرت المسؤوليات.
انتهى الربيع، والتحق الوريقة بالعمل بعد أن أصبحت ورقة كاملة مع باقي الأوراق، وترسبت الخشونة سطحها رويداً رويداً و نضجت بالكامل، لم يعد لها كثير من الوقت للعب و الضحك، ففي النهار تجمع ما تقدر عليه من شعاع الشمس و ثاني أوكسيد الكاربون، في الليل تطرح فضلات خلايا شجرة الأم من الأوكسجين و بخار الماء، كانت تسامر صاحباتها و تتبادل معهم الاحاديث و تتذكر طفولتها و تنظر إلى الوادي بحسرة، حيث اصفرّ كل شيء و لم الاخضرار موجوداً إلا على حافتي الجدول الذي يشق الوادي.
- إلى متى نظل نعمل؟
سالت الوريقة احدى جارتها التي كانت تكبرها سناً.
- إلى الخريف، إلا أن تدخل أمنا العظيمة في سباتها الشتوي.
- أكلت حشرةَ جزاً مني، كنت أظنها صديقة، لكنها قطعت بعض من جانبي السفلي، حاولت أن امنعها و لكنها قالت بأنها جائعة.
- لا تهتمي كثيراً، ما دمت خضراء و جذعك مخضّر.
- لماذا؟!!!!!
سالت الوريقة بتعجب. فأشارت الورقة الكبيرة إلى ورقة أخرى جفت أطرافها و كانت تئن و تفافا من الوجع.
- هل ترين تلك الورقة، هناك.
أشارت إلى غصن غير بعيد عنها.
- نعم.
- أصابت علة جذعها، و ها هي تلفظ أنفاسها الأخيرة و ستسقط الليلة أو غداً.
- تسقط؟!! أين؟!!! و أين ستذهب؟!!
- ستعود إلى البيت.
- أليس هذا بيتنا؟! وهذه أمنا العظيمة؟
- لا اعرف كثيراً من هذه الأمور، أعطتني ورقة أخرى في الأعلى هذه المعلومة و قالت يجب طرحا لكي تعود إلى البيت و لا تنتقل العدوى إلى الأوراق الأخرى.
سادت الصمت، شغلت مسالة العدوى بالها، بدا الحزن يتغلغل إلى أعماقها و تفكر في كلمات التي سمعت بها من هسهست الأوراق الأخرى، في الصباح استيقظت على صرخات و تنهدات الأوراق الأخرى لم تكن قد نامت جيداً ليلة البارحة لذا تخليت في البداية كأنها حلم كئيب ثم تيقنت أنها الحقيقة فسألت:
- ماذا جرى، لماذا كل هذا النحيب و البكاء؟!
- رحلت أولى الأوراق.
- أين؟
- إلى البيت.
- متى؟
- منذ الصباح و كنا في وداعها.
- ولماذا هذا البكاء و النحيب؟ سوف ترتاح على الأقل من هذه الحياة.
ونظرت إلى الورقة العليلة، التي كانت تئن منذ البارحة ووجدتها في مكانها، و مازالت تئن، فقالت:
- مازالت في مكانها ويمكن يشفها الأم بحكمتها.
- لم تكن هذه، قد ترحل هذه اليوم أو الليلة، لكن كانت هناك أخرى سليمة فجاءة سقطت منذ الصباح الباكر ولم نعرف السبب و استيقظنا على صياح اقاربها، سياتي الدور علينا و لكن متى و كيف هذا ما لا نعرفه.
- أين يرحلون، و هل عادت احدها من تلك الرحلة؟
اقطب الورقة عيناها، ثم قالت بعصبية:
- ماذا تقولين؟ هل أنت مجنونة؟! لم يعد أحدٌ من تلك رحلة، لا احد يعرف ماذا هناك؟، يقولون بان هناك ربيع دائم، لا عمل و جهد بل راحة تامة.
فقالت الوريقة:
- الم يغامر إحداهن بالسفر و العودة لتخبرنا ماذا هناك؟
فنهرها ورقة أخرى في الغصن المقابل:
- اسكت وإلاّ ستغضب شجرة الأم، لا يجب أن تناقش هكذا أمور.
كانت هذه الحادثة من أولى الحوادث التي مرت بها الوريقة، أخذت تقلق مضجعها، تكدر صفوة حياتها.
وعندما اقترب الصيف على النهاية، كانت الأوراق تودع بعضها البعض، منها ما تهيء نفسها مسبقاً لتلك الرحلة المجهولة النهاية.
ما أن حل الخريف حتى جردت الشجرة من كل أوراقها إلا ما ندر، و بقيت الوريقة في مكانها وأصابها الاصفرار و الذبول، لكنها كانت موصولة بالشجرة و لم تسقط بعد، كانت تفكر في كل ما يدور حولها ولم تكن تفهم شيئاً.
استقبل الأرض أولى قطرات المطر في الخريف، وأصبحت الأشجار عارية تماماً، بقيت الوريقة عالقة بالشجرة، صامدة و أصابها بعض النخر في أطرافها لكنها كانت باقية في مكانها صامدة تتحدث مع نفسها:
- لم يبقى ممن كنت اعرفهم، رحلوا جميعاً، ترى متى سياتي دوري لأرحل أيضا.
كانت تتحدث مع نفسها وحيدة معلقة في غصنٍ في أعالي الشجرة الكبيرة، كانت تنوح مع الريح أحيانا و تغني في أحيان أخرى، و تحاول أن ترقص في مرات أخرى لكن بسبب جفاف جذعها و أوردتها و خشونة سطحها لم تقوى على الحركة كثيراً.
رحلت الشتاء بعباءتها الثقيلة و المحملة بالبرد و الثلج، لكن الوريقة بقيت في مكانها، وقد اكل دهر منها و شرب، حيث لم تعد أطرافها مرسومة بعناية مثل قبل، لم تعد الطراوة في جسمها بل تخشن كل جزء منها ولم تعد تعرف شكلها الحقيقي الذي كانت عليه في طفولتها و شبابها، كانت تنوح كثيراً مع الهواء، وتتذكر ماضيها كحلم غريب عليها، جميع أصدقائها رحلوا منذ زمن بعيد، كانت تتمنى في داخلها بان ترحل هي أيضا، حيث أصبحت غريبة في المكان و لم تعد تعرف شيئاً.
ظهرت تباشير قدوم الربيع، و بدأت البراعم الجديدة بالنمو و تنبثق من هنا و هناك، علا ضحكات وريقات الصغيرات و الشابات شئياً فشيئاً، طرية نظرة، وكانوا ينظرن إلى الوريقة بذهول، لشكلها و لونها لأنها أصبحت مصفرة مائلة إلى بنية، كانوا يتناقشون فيما بينهن عمرها و لونها و عن سبب بقائها كل هذا الوقت، فمن بين معجبة و كارهة و غير مبالية، شعرت الوريقة بغربة قاسية، ووجدت كل شيء غريباً عليها لغتهن و حديثهن و تصرفاتهن، ولم تكن تعرف لماذا بقيت كل هذا الوقت؟ لم تعد تتذكر شيئاً عن ماضيها، كانت غريبة فعلاً بشكلها المصفر المائل إلى البني، عن تلك الأوراق الخضراء الطرية، في نهاية الربيع هبت عاصفة ممطرة و قوية ولف الوريقة في الهواء قاذفة بها بعيدا عن شجرة الأم.



#عبدالله_بير (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- قصة قصيرة : بائعو الهوى
- توظيف السيرة و الاسطورة في القصة القصيرة قصص -باندورا - للكا ...
- التيه بين اغتراب الواقع و ماض مغترب قراءة في مجموعة قصائد ( ...
- قراءة في كتاب - تأسيس ميتافيزيقا الاخلاق -
- عودة إلى السماء
- المحاكاة
- ذكريات سرور
- صديقي لم يكن ارهابيا
- قراءة في كتاب السيميولوجيا و التواصل
- فتاة من طينة الذهب
- ندم اللقاء
- قد لا يأتي الأمل أبداً
- الذي لي ليس لي دائماً
- الخير يأتي اولاَ
- العباءة
- افتح قلبك لتسمع روحك
- الظل
- لا تدع الديدان تقترب
- قراءة في رواية - الخيميائي - لباولو كويلو Paulo Coelho -.
- قراءة في قصيدة (كلما أنَّ الجسدُ من أسره رَفرَفت الروح) للشا ...


المزيد.....




- طريقة تنزيل تردد قناة توم وجيري الجديد 2024 نايل سات لمتابعة ...
- نتنياهو عن إصدار مذكرة اعتقال ضده من الجنائية الدولية: مسرحي ...
- كرنفال الثقافات في برلين ينبض بالحياة والألوان والموسيقى وال ...
- ما الأدب؟ حديث في الماهية والغاية
- رشيد مشهراوي: مشروع أفلام -من المسافة صفر- ينقل حقيقة ما يعي ...
- شاهد الآن ح 34… مسلسل المتوحش الحلقة 34 مترجمة.. تردد جميع ا ...
- مصر.. تأييد الحكم بالسجن 3 سنوات للمتسبب في مصرع الفنان أشرف ...
- بعد مسرحية عن -روسيات ودواعش-.. مخرجة وكاتبة تواجهان السجن ف ...
- بقضية الممثلة الإباحية.. -تفاصيل فنية- قد تنهي محاكمة ترامب ...
- مصر.. القبض على فنان شهير بالشيخ زايد بتهمة دهس سيدتين


المزيد.....

- أبسن: الحداثة .. الجماليات .. الشخصيات النسائية / رضا الظاهر
- السلام على محمود درويش " شعر" / محمود شاهين
- صغار لكن.. / سليمان جبران
- لا ميّةُ العراق / نزار ماضي
- تمائم الحياة-من ملكوت الطب النفسي / لمى محمد
- علي السوري -الحب بالأزرق- / لمى محمد
- صلاح عمر العلي: تراويح المراجعة وامتحانات اليقين (7 حلقات وإ ... / عبد الحسين شعبان
- غابة ـ قصص قصيرة جدا / حسين جداونه
- اسبوع الآلام "عشر روايات قصار / محمود شاهين
- أهمية مرحلة الاكتشاف في عملية الاخراج المسرحي / بدري حسون فريد


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - الادب والفن - عبدالله بير - العودة إلى البيت