أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - سعد محمد موسى - فراديس الأهوار / الجزء الثاني















المزيد.....

فراديس الأهوار / الجزء الثاني


سعد محمد موسى

الحوار المتمدن-العدد: 7049 - 2021 / 10 / 16 - 11:40
المحور: الادب والفن
    


مقامات الحزن والغناء
ما بين مقام نبيّ بنيّ إسرائيل (العُزير) الذي تحيط أسواره المطلة على ضفة نهر دجلة شجيرات (الصفاف والعوسج والغَرَب وأشواك الصريم) وبين إيشانات وأطلال ممالك ومعابد ورميم القبور التي طمرها طوفان نوح، كان نعيق البوم ينآى بعيداً في أعماق الظلام، بينما القمر المتخفي خلف أجمة البردي يسترق السمع الى حكايات النسوة المتشحات بالسواد والجالسات على حصائر سعف النخيل وبواري القصب، أما المرأة الاكبر سناً والأهم مقاماً بينهن فكانت (زايرة عگيدة) التي تتوسط النسوة وتبدو منشغلة بتفقد طلاسمها الروحية العالقة في أطراف شيلتها، من (العلوگ) أشرطة القماش الخضراء المزكاة من المزارات والاضرحة المقدسة أضافة الى (التمائم، والحروز، وتراب الجروة).
بحثت بين ممتلكاتها عن صرة صغيرة داخل صندوقها الخشبي الثقيل الموشى بنقوش فضية وذهبية الذي توارثته عن جدتها التي عثرت عليه مع لقى أثرية قديمة أخرى في إحدى أيشانات (المجر الكبير) المتاخمة لمملكة مياة المستنقعات، حاولت العجوز فك عقدة (النشوگ) وأخرجت منها مسحوق بني داكن اللون مستخلص من عشبة (الرمث) مع أوراق التبغ المطحونة، ثم مزجته مع ماء فاتر في إناء فخاري صغير وقبضت عليه بكفها الأيمن الذي ما زالت تبدو عليه آثار وشماً مرت فوق تضاريسه الهرمة حكايات كثيرة، ثم أدنت العجوز أرنبة أنفها من الجرة تحاول شم المزيج وأغلقت إحدى منخريها بابهامها بعد أن أغمضت عينيها وجعلت منخرها الاخر يستنشق السائل السحري بعمق حتى شعرت بنشوة خدر (البرنوطي) يتصاعد في رأسها، ثم أدارت بوجهها نحو جليساتها وأطلقت حسرة عميقة وتنهدت :هل تعلمن أن طعم مياه الأهوار والرافدين في الازمان الغابرة منذ بدء الخليقة كان أعذب من حلاوة العسل لكن بسبب نواح وغزارة دموع الثكالى والأرامل فيما بعد على المصائب والنكبات والحروب المتعاقبة والكثيرة بات مذاق الماء مالحاً، فاتشحت النسوة الثياب السواد وبات موروث الاحزان المتجذرة والمستمرة منذ مرثيات قارىء العزاء وتراتيل الكاهن النداب والبكَّاء، ونحيب الناعيات وهنَّ يواسيّن (إنانا) على فقدان (ديموزي) الى نعيّ الملاّيات واللّطامات والمعزيات في ليالي عاشوراء الموحشة، والى ثغيب الامهات المفجوعات بقفد أولادهن في الحروب والسجون والمنافي وكأن قدر العراقيين أن تكون أرواحهم مسكونة بأشباح اللعنات والرَزايا!!
وما كان تبادل نواح وغناء الأبوذية في حلقات مجالس (الكيف) لدى أعراس الجنوب (يعبر على الطيب ونيّنيّ) إلاّ تواصل من المغني (گالا) السومري منشد الاغاني الشجية والمطربة وعازفة القيثارة (أور نانشي) الى مغني (الأبوذية والعتابة) الحالي لا سيما في الأرياف والأهوار وهم ما أنفكوا يرددون مفردات الألم والتشكي المجبولة بالشجن والحسرة مثل: (ياويلي.. أحا بويه.. أحا منك زماني .. أنا الياويل .. أحو يا نار گـلبي.. ويلاه .. ويلاه .. وذباهم زماني) أنه الشجن السومري منذ خسارات وخيبات (گـلگامش) حين سرقت الأفعى منه عشبة الخلود بعد رحلته الطويلة ومغامراته ثم بكائه وخذلانه على موت خله وصاحبه (إنكيدو) حين بقيّ بعد فقدانه لسبعة أيام بلياليها لا ينفك عن النواح واللطم، ورجوعه الى أوروك التي مات فيها بعد غيابه ورحلته المضنية، فأقام شعبه سرادق الحداد، ساد الغم الحزن حينها حول أسوار أوروك هناك... الى مأساة ديموزي ورحلة العذاب وبكاء وعويل قومه في مواكب كانت تجوب طرقات (الوركاء) تبدأ من موسم القحط في شهر تموز حين ينزل المظلوم والمعذب ديموزي قسراً الى عالم الاموات السفلي مودعاً الحياة حتى ظهوره مرة أخرى في بدايات الربيع، فتعم الافراح والاحتفاء في موسم الخصب والجنس والتكاثر.
على مر الحقب التأريخية يبقى أهل العراق مخلصين لويلاتهم مبايعين لسلطان الاحزان حتى في طقوس ومناسبات الفرح وهم لا يتوانوا عن تقديم الولاء والطاعة له، وكذلك كان لمفهوم الموت في معتقداتهم نصيب كبير فهم يولوه أهمية أكثر من الحياة ذاتها لا سيما حين يشرعون بتحضير أكفانهن ويحجزون مساحات أرض تتسع لبناء قبورهم وهم أحياء، ويذهبون في مناسبات زيارة قبور الموتى لتفقد تراب لحودهم وكذلك يدخروا أمولاً كي يمنحوها قبل أن توافيهم المنية الى الوكيل والوسيط الذي يختار فيما بعد مؤتمنين ومحلفين تكون مهمتهم هي القيام بالصلاة والاستغفار على أرواح الاموات !!
يبدو أن السومريين حين أكتشفوا الكتابة الصورية والمسمارية جال في بالهم حينذاك أن يجسدوا ملحمة عذاباتهم وقلقهم وأحزانهم وشعرهم وعشقهم بشجنه الجنوبي أيضاً أضافة لبقية طقوسهم الاخرى، وحفروها فوق الالواح الطينية، فمفهوم الحزن لديهم كان يتوشح القدسية، لانهم مجبولين على الأسى الذي يلامس شغاف القلب والروح، كي يبقى تردده الأجيال في كل المراحل الزمنية حتى أن أحد الشعراء السومريين المجهوليين نقش بيت شعر فوق إحدى الالواح كان يندب فيه حظه وقدره مدوناً: ( في اليوم الذي وزعت به الأنصبة كانت الحصة المخصصة لي الألم والعذاب). ثم توارث بعده أحفاده من الشعراء فعتقوا الشجن والاحزان التي باتت ثيمتهم الاساسية في بناء القصيدة وتوظيف الصور الشعرية التراجيدية وجدلية الشقاء عبر الازمنة وصولاً الى مرحلة الشعر العراقي المعاصر والحديث الذي يمتاز بملامح الشجى والاغتراب الروحي والوحشة أيضاً.
أما الغناء الحزين لدى سكان الأهوار الأوائل فلربما كان مستوحى من أنين القصب المعمد بالماء أو من حنين الريح وهفيفها حين يتسلل في حنايا مملكة القصب التي تتمايل على أنغام النايات ... مثلما جسدت نقوش الألواح الطينية والاستدلالات حول معاني صورية لرأس (ابن آوى) الذي كان يرمز للمغني السومري والبوح الشجي فعواء ابن آوى كان يوحي بالشكوى والعويل والألم.
قبيل أفول قرص الشمس وهجيع أسراب الطيور الى أعشاشها في (الأهوار الجنوبية) سجرت النسوة تنانير الطين وتصاعد الدخان من بين الصرائف وحضائر الجاموس الطافية فوق جزر القصب العائمة، ثم عبرت زفة عرس يتقدمها مشحوف كان يتربع وسطه مطرب ويرافقه ضارب آلة (الخشبة) فصدح بغناء طور (المحمداوي) ثم أردفها ببستة غنائية، وبعد أن بات التفاعل مع نشوة الطرب وإيقاع الخشبة متجلياً أخذ المغني يضرب طرف كاحله الايمن بقاع القارب المفروش بالسجاد وينقر سبابته اليمنى على إصبعه الوسطى من الكف الايسر ليحدث إيقاع الأصابع المتناغم مع الخشبة ولحن الاغنية ثم يكمل المقطع الغنائي بصوته الشجي واضعاً باطن كفه الأيمن على أذنه اليمنى وكأنه يحاكي بتلك الحركة مؤذن المسجد أو منشد القرآن، أما الشختورتان فكانتا مكتظتان بالنسوة والاطفال وهم يرقصون على إيقاع الدفوف والدنابك تصاحبهم إهزوجة الزفة : (لو أدري تمر مناه... رشيت الدرب ريحان) ... فينساب صدى الأهزوجة بعيداً في أعماق الاهوار تصاحبه هلاهل الفتيات !!
ولكن يبقى هنالك ثمة شعور وانطباع يتجلى حتى في غمرة الفرح والطرب يوحي بالشجن واللوعة التي تنساب من روحية أغانيهم وأهازيجهم ودارمياتهم، يبدو أن سكان الاهوار والارياف مدمنين على الاحزان فهم يشعرون بمتعة في الحزن أكثر من بهجتهم بالفرح وتبقى للشجون طقوس ومقامات تصالحوا معها وباتت ترافقهم في حلهم وترحالهم، لكن في نفس الوقت تبقى قدرية الحزن ووجوده الازلي لن يثني طموحاتهم في التعايش والاستمرار والتحدي والبقاء والتغني بالحياة رغم قساوتها وأقدارها المجهولة، فالشجن يسود بطابعه الايجابي والابداعي أكثر من الحزن التشاؤمي والسلبي، ورغم تراكمات رماد الاحزان لكن يبقى الجمر متوهجاً في موقد الوجود.



#سعد_محمد_موسى (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- فراديس الاهوار
- أوريكة
- مقامات المدن والموسيقى
- مقامات الموسيقى والمدن
- مدينة الرياح وأساطير البحر
- مراكش/ رحلة في أروقة الگناوة
- مراكش وهارمونية الاطياف الحضارية / الجزء الاول
- حكايات من جزيرة الواق واق / الجزء 5
- حكايات من جزيرة الواق واق الجزء/ 4
- حكايات من جزيرة الواق واق / الجزء / 3
- حكايات من جزيرة الواق واق/ الجزء /2
- حكايات من جزيرة الواق واق
- مكابدات الرحّال / الجزء الأخير
- مكابدات الرحّال / الجزء السابع عشر
- مكابدات الرحال / الجزء السادس عشر
- مكابدات الرحال / الجزء الخامس عشر
- مكابدات الرحال / الجزء الرابع عشر
- مكابدات الرحال/ الجزء الثالث عشر
- مكابدات الرحّال/ الجزء الثاني عشر
- مكابدات الرحّال/ الجزء الحادي عشر


المزيد.....




- “اعتمد رسميا”… جدول امتحانات الثانوية الأزهرية 2024/1445 للش ...
- كونشيرتو الكَمان لمَندِلسون الذي ألهَم الرَحابِنة
- التهافت على الضلال
- -أشقر وشعره كيرلي وحلو-..مشهد من مسلسل مصري يثير الغضب بمواق ...
- الإيطالي جوسيبي كونتي يدعو إلى وقف إطلاق النار في كل مكان في ...
- جوامع العراق ومساجده التاريخية.. صروح علمية ومراكز إشعاع حضا ...
- مصر.. الفنان أحمد حلمي يكشف معلومات عن الراحل علاء ولي الدين ...
- -أشقر وشعره كيرلي وحلو-..مشهد من مسلسل مصري يثير الغضب بمواق ...
- شجرة غير مورقة في لندن يبعث فيها الفنان بانكسي -الحياة- من خ ...
- عارف حجاوي: الصحافة العربية ينقصها القارئ والفتح الإسلامي كا ...


المزيد.....

- لا ميّةُ العراق / نزار ماضي
- تمائم الحياة-من ملكوت الطب النفسي / لمى محمد
- علي السوري -الحب بالأزرق- / لمى محمد
- صلاح عمر العلي: تراويح المراجعة وامتحانات اليقين (7 حلقات وإ ... / عبد الحسين شعبان
- غابة ـ قصص قصيرة جدا / حسين جداونه
- اسبوع الآلام "عشر روايات قصار / محمود شاهين
- أهمية مرحلة الاكتشاف في عملية الاخراج المسرحي / بدري حسون فريد
- أعلام سيريالية: بانوراما وعرض للأعمال الرئيسية للفنان والكات ... / عبدالرؤوف بطيخ
- مسرحية الكراسي وجلجامش: العبث بين الجلالة والسخرية / علي ماجد شبو
- الهجرة إلى الجحيم. رواية / محمود شاهين


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - الادب والفن - سعد محمد موسى - فراديس الأهوار / الجزء الثاني