أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - سعد محمد موسى - مراكش/ رحلة في أروقة الگناوة















المزيد.....

مراكش/ رحلة في أروقة الگناوة


سعد محمد موسى

الحوار المتمدن-العدد: 6967 - 2021 / 7 / 23 - 11:28
المحور: الادب والفن
    


الجزء الثانی
حين عرجنا نحو (الحومة) التي يتواجد بها (محمد الگناوي) ويلقب بالسوداني أيضاً ذلك المنشد والعازف لموسقى الگناوة والمقامات الصوفية وساجر النار فی الحمام الشعبي الذي توارثه عن أبيه في (زاوية الحضر)، أعترض سيرنا عربة خشبية متهالكة محملة بأواني الطاجين والفخاريات يجرها حمار كسول بينما الحوذي العجوز كان يغني جذلاً بأغنية أماريغية قديمة، أنعطفنا الى الزنقة الضيقة حتى عبور العربة ثم سلكنا أزقة ضيقة أخرى متعرجة قادتنا الى مكان (محمد الگناوي) ، وهو يقيم في صومعته التابعة للحمام وكان الرواق أشبه بتكية أو خان أثري عتيق يبدو وكأنه مشيداً منذ عدة قرون، دلفنا نحو زاوية الزاهد عبر البوابة الخشبية التي مرت من خلالها أزمنة غابرة تركت على واجهتها المتآكلة حكايات وذكريات كثيرة، كان متربعاً أمام موقد النار مسنداً آلته الموسيقية الوترية (السنتير) الى الجدار وتعود أصول هذه الآلة التي تسمى الهجهوج أيضاً الى أقوام (الطوارق) فرسان الصحراء الكبرى، والهجهوج جاءت تسميته من هيجان اعماق عازفه وهو مكون من قاعدة مصنوعة من جذوع أخشاب الجوز أو الصفصاف ویمتد منها مقبض بطول المتر يحمل ثلاث أوتار مصنوعة من أمعاء الماعز وواجهة القاعدة مغطاة بجلد الابل، وبجانبنها كانت آلة الايقاع الطعريجة المزينة بالنقوش المغربية ملقاة فوق سجادة تطرزها زخارف أفريقية.
وهنالك ثمة مصباح ناعس يتدلى من السقف يضيء قليلاً عتمة المكان، قام الرجل مرحباً بنا وصافحنا بعد أن عرفنا الصديق المراكشي (محمد لحضر) الى بعضنا ثم قدم لنا (أتاي) شاي النعناع المغربي التقليدي من أبريقه الذي يتوسط آنية فضية تحيطها أقداح موشاة بزخارف أندلسية مذهبة، ثم أحتضن آلته أستعداداً للعزف، وبجانبه في الزاوية كان يجلس أحد تلامذته من ضاربي (الصناجات) كي يلازمه في ضبط الايقاع الموسيقي.
ساد الصمت في فناء الزاوية وتأمل الگناوي في الفضاء وكأنه يتحضر للولوج الى عالمه الروحاني ثم تطلع الى كوة صغيرة في الجدار كان ينفذ من خلالها ضوء الشمس، تغيرت ملامح سحنته السمراء فأخذ يهز رأسه طرباً وبدأ بالعزف على أوتار الهجهوج بأطراف أصابعه الطويلة الخشنة التي وشم عليها الزمن تضاريس التعب والعمل الدؤوب، تمالكه الوجد وهو يصدح بالغناء ويشرأب بعنقه الطويل مردداً الابتهالات في حب النبي محمد والمدائح التي تشيد في مناقب وكرامات الاولياء الصالحين متوارياً عن العالم الملموس مردداً (الاوراد والإذكار) المستوحاة من الطريقة (القادرية) وتجليات التصوف عن العشق الإلهي وهو يتمايل مرتدياً الدرعية الحمراء التقليدية ومعتمراً عمامة بيضاء (شان) وتخللت الابتهالات قبل الختام أبيات أنشدها عن شجن واقعة كربلاء ومأساة عاشوراء أيضاً.
توقف الگناوي عن العزف والغناء وأستفاق من غيبوبته ووضع الهجهوج جانباً وشكرناه على ما قدمه لنا من وصلة موسيقية گناوية وأبتهالات دينية وروحية، ثم قام تلميذه بصب الشاي الاخضر المحلى والمنعش وقدمه بكل أدب أمامنا، بینما المعلم أخذ يمسد على السنتير ويسرد على مسامعنا حول دلالاته وأهميته في (ليلة الحضرة الگناوية الدردبة) والتي تقام عادةً في منتصف شهر شعبان من كل عام وكيف كانت تمنح هذه الآلة بأنغامها الحزينة التاثيرات السحرية والقدرة على تحويل العدد الى أيقاع والايقاع الى لون واللون الى ملك والملك الى أسم والاسم الى جسد والجسد الى كتابة راقصة... وأسترسل بحديثه عن دور الهجهوج في طقوس أقامة تلك الليلة بايقاعاتها ومقامامتها وقدسيتها التي تدعو الى ترويض الجسد وتخليصه من طاقته السلبية ومن الجشع والشهوات واللعنات !!
وذكر لنا أيضاً بان موسيقى الگناوة تعتمد على عدة آلات موسيقية تصاحب الصوت والحركة والرش التصفيق الايقاعي وأهمها: الكانكاه (الطبل الكبير) والگمبري والطعريجة والهجهوج والطبيلات والقرقب (الصناجات) والدربوكة والغيطة (المزمار)... أما الالوان في ملابسهم وطاقياتهم المزدانة بالاصداف البحرية فلها حضور صارخ بدلالاتها التي ترتبط عادةً بالالوان السبعة الموزعة على عشرة مقامات أو محلات ولكل لون رمزيته وعبيده وأناشيده ومريديه وبخوره أيضاً مع ملوك الجن وأرواح الاولياء الصالحين، وتبدأ من اللون الابيض، الاسود، الازرق، الاحمر، المبرقش، الاخضر والاصفر.
الابيض يرمز الى (الشيخ عبد القادر الگيلاني) والاحمر الى (سيدي حمو) والازرق الى (سيدي موسى) والاسود الى (ميمونة) والاصفر الى (لالة ميرة).
موسيقى الگناوة ترتبط بالعقائد والانتماء الصوفي الشعبي والروحاني والايمان بعالم الجن والارواح والماورائيات، إنها طقوس يلفها الغموض مفعمة بالاسرار والغنوصيات والايحاءات الرمزية وتوجد في طقوسهم أيضا بقايا من الموروثات المتأصلة من معتقدات الديانات الوثنية الافريقية القديمة... تسعى موسيقى الگناوة في ممارساتها أثناء ليلة الملوك الدردبة الى التفاوض مع ملوك الجن لغرض نزولهم والتوسل لهم من أجل الاستشفاء من لعنات السحر الاسود ومس الشياطين ورفع البلاء.
وتتجلى المعتقدات الگناوية بانعتاق الروح من شرنقة الجسد والتسامي في سماء العشق والفيض الإلهي حتى فقدان الوعي حين يصل المريد الى أعلى درجات الوجد والحلولية بواسطة اللون والايقاع والرقص وسطوة الابتهالات والروائح المنبعثة من مجامر البخور في الفضاء المسكون بالارواح والجن وصولاً الى مرحلة (الجذبة) والتي هي مشابهة للطقوس الروحية التي يمر بها الدرويش حين يدور حول ذاته مثلما تدور الشمس حول نفسها او المجرات حول الشمس بتنورته التي تتطاير في الفضاء وتدور لتعبر عن حركة الفصول الاربعة في الطبيعة حتى يفقد الاحساس بالعالم المادي ويشعر بأنه بات مركز إستقطاب لوحدة الوجود التي تحل في كيانه.
تم جلب أجداد الگناوي من الصحراء الأفريقية الكبرى وبالتحديد من غانا ومالي وربما تسمية گناوة أو غناوة جاءت من بلاد غينيا، بعد أن نزحوا قسراً من القارة السمراء حاملين معهم قصصهم وتراثهم وعذاباتهم وموسيقاهم الاسطورية المدهشة وموروثاتهم المتجذرة في عمق التأريخ الافريقي، فجاؤا مع قوافل السبايا والعبيد الى جنوب المغرب مع تجارة الذهب والعاج وصبغة النيلة التي تستعمل في صباغة الملابس، لا سيما أثناء هيمنة الامبراطورية المغربية في العصر الذهبي منذ حكم المرابطين ثم الموحدين وبعدهم السعديين أصحاب الثراء والتجارة.
ولد محمد الگناوي سليل الافارقة الذين حطت رحالهم في مدينة (زاكورة) قبل بضعة قرون ... فعاش طفولته في أقاصي جنوب المغرب بين واحات النخيل، ثم هاجر في صباه الى مراكش وحمل معه المقامات الصوفية وجمع شتاته في ثنايا جلبابه الصحراوي ما بين الموروث الأفريقي والثقافة المغربية والعربية والتراث الاندلسي والتقاليد الامازيغية في مدينة مازالت تراهن على أصالتها وتحافظ على تاريخها ومورورثها الحضاري.
وقبل أن نبرح الگناوي وحومة الحضر ونودعه قدم لنا دعوة لتناول غداء (الطنجية المراكشية) الشهيرة في صومعته، فساجر النار أيضا يعد طباخاً ماهراً لهذا النوع من الطعام التقليدي ويستخدم كوة النار المتقدة لتسخين مياه الحمام الشعبي في عمله اليومي وتدفن تحت جمر الكوة ورمادها الأنية الفخارية (الشقف) والتي تشبه الى حد ما شكل الجرة الفخارية، بعد أن يحشى جوفها بلحم الدجاج أو الضأن مع توابل خاصة منتقاة وتغلق فوهتها جيداً ... وجبة الطنجية التي يدللها المغاربة وينعتوها (بنت الرماد) يعود تأريخها الى زمن (السعديين) وتكون مهمة تحضيرها وطهيها حصراً على الرجال فقط ذلك هو التقليد المتوارث والمتعارف عليه في المطبخ المغربي، وكان الاتفاق أن يكون يوم الجمعة القادم موعدنا... فالجمعة هو اليوم السابع من الاسبوع ويبقى رقم سبعة يحمل رمزية مباركة ومقدسة لدى الگناوة لا سیما أنها عطلة المسلمين في أنحاء المعمورة ويستمدون من هذا الرقم أيضاً عدد الوانهم كما ذكرنا سالفاً وبخورهم المنتقاة تتحدد بسبعة روائح وكل ملك في طقوسهم كان يفضل نوع معين من تلك الروائح ومدينة مراكش مؤوسسيها وحراسها الروحانيين كانوا من الأولياء وعددهم سبعة وأضرحتهم سبعة ولهذا سميت بمدينة الرجال السبعة والطنجية تقام موائدها في اليوم السابع من كل الجمعة بعد صلاة الظهر أيضا!!



#سعد_محمد_موسى (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- مراكش وهارمونية الاطياف الحضارية / الجزء الاول
- حكايات من جزيرة الواق واق / الجزء 5
- حكايات من جزيرة الواق واق الجزء/ 4
- حكايات من جزيرة الواق واق / الجزء / 3
- حكايات من جزيرة الواق واق/ الجزء /2
- حكايات من جزيرة الواق واق
- مكابدات الرحّال / الجزء الأخير
- مكابدات الرحّال / الجزء السابع عشر
- مكابدات الرحال / الجزء السادس عشر
- مكابدات الرحال / الجزء الخامس عشر
- مكابدات الرحال / الجزء الرابع عشر
- مكابدات الرحال/ الجزء الثالث عشر
- مكابدات الرحّال/ الجزء الثاني عشر
- مكابدات الرحّال/ الجزء الحادي عشر
- مكابدات الرحّال/ الجزء العاشر
- مكابدات الرحّال / الجزء التاسع
- مكابدات الرحال/ الفصل الثامن
- مكابدات الرحّال ظ
- مكابدات الرحّال/ الجزء السابع
- مكابدات الرحّال / الجزء السادس


المزيد.....




- الان Hd متابعة مسلسل صلاح الدين الايوبي الحلقة 23 مترجمة عبر ...
- تابع حلقات Sponge BoB تردد قناة سبونج الجديد 2024 لمتابعة أق ...
- من هو الشاعر والأمير السعودي بدر بن عبد المحسن؟
- وفاة الشاعر الأمير بدر بن عبد المحسن
- بتهمة -الغناء-.. الحوثيون يعتقلون 3 فنانين شعبيين
- دراسة تحدد طبيعة استجابة أدمغة كبار السن للموسيقى
- “أنا سبونج بوب سفنجة وده لوني“ تردد قناة سبونج بوب للاستمتاع ...
- علي بن تميم: لجنة جائزة -البوكر- مستقلة...وللذكاء الاصطناعي ...
- استقبل الآن بجودة عالية HD.. تردد روتانا سينما 2024 على الأق ...
- -انطفى ضي الحروف-.. رحل بدر بن عبدالمحسن


المزيد.....

- السلام على محمود درويش " شعر" / محمود شاهين
- صغار لكن.. / سليمان جبران
- لا ميّةُ العراق / نزار ماضي
- تمائم الحياة-من ملكوت الطب النفسي / لمى محمد
- علي السوري -الحب بالأزرق- / لمى محمد
- صلاح عمر العلي: تراويح المراجعة وامتحانات اليقين (7 حلقات وإ ... / عبد الحسين شعبان
- غابة ـ قصص قصيرة جدا / حسين جداونه
- اسبوع الآلام "عشر روايات قصار / محمود شاهين
- أهمية مرحلة الاكتشاف في عملية الاخراج المسرحي / بدري حسون فريد
- أعلام سيريالية: بانوراما وعرض للأعمال الرئيسية للفنان والكات ... / عبدالرؤوف بطيخ


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - الادب والفن - سعد محمد موسى - مراكش/ رحلة في أروقة الگناوة