أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - ساطع هاشم - حاسة السمع وانفجارات العراق















المزيد.....

حاسة السمع وانفجارات العراق


ساطع هاشم

الحوار المتمدن-العدد: 7036 - 2021 / 10 / 3 - 14:35
المحور: الادب والفن
    


شاهدت مرة لقاءاً على احدى القنوات التلفزيونية مع رجلاً عراقياً أصم أصيب بالصمم عندما كان في العشرين من عمره بسبب احد الانفجارات في بغداد ولم يتعلم أبدًا استخدام لغة الإشارة ولكنه كان قادرًا على قراءة الشفاه.

وفكرت بالاحياء لا بالموتى بعد هذه الانفجارات وكم عددهم ياترى؟ الاحياء المعوقين جسديًا او نفسيا وبمعاناتهم الهائلة، باولئك الاشخاص الذين فقدوا حاسة السمع تحديداً، الذين فقدوا طبلة الأذن الداخلية، تلك التي لا يمكن إصلاحها والتي لن يعيدها شيء إلى الحياة مرة أخرى ابداً.وفكرت بمن قبلهم من الذين تعرضوا للتعذيب الوحشي في اقبية وزنزايين البعثين وسجونهم الرهيبة، وبالذين قُطعت آذانهم، كيف عاشوا سنوات عمرهم بعد ذلك؟
وفكرت بالجيل الجديد بعدهم، وبثلاثين الف شابة وشاب تم اختطافهم واعتقالهم وتعذيبهم في سجون الميليشيات الدينية الاسلامية الحاكمة بالعراق خلال ستة اشهر فقط من الأول من تشرين الأول (أكتوبر) 2019 وحتى شهر نيسان 2020 وكم واحد منهم فقد احدى حواسه الخمسة او اكثر، كيف سيستمر هؤلاء بالحياة؟
تبادرت الى ذهني هذه الوقائع التي غالباً ما يتحدثون عنها بالاذاعات والصحف وذكرتني بتقرير صحفي قديم عن عدد الانفجارات التي هزت ودمرت العراق في السنوات السبعة الأولى فقط من الاستعمار الأمريكي/ البريطاني/الايراني للعراق، وعلى ما أتذكر فقد بلغت حوالي الخمسة والستين الف انفجار، هل تصدق؟ خمسة وستين الف قنبلة تنفجر على مدى سبعة أعوام يعني بمعدل خمسة وعشرين انفجار باليوم، اما القتلى فقرابة النصف مليون، ولا استطيع التأكد من الأرقام التي جائت بعد هذا التقرير وحتى يومنا هذا لاني لم اعثر على مصدر توثيقي واحد قد جمعها.

يقال إن الصمم هو أكثر أنواع الحرمان الحسي إثارة للصدمة، إنه يحبس الضحية داخل قفص، لا يمكنه من التواصل مع الاخرين لغوياً ، وهذا النقص قادر على ان يهدد حياته ويحولها الى جحيم والى الشعور بانه صارغبي أحمق او ما هو اسوء، ومع اختفاء أحد الحواس ، فينبغي على بقية الحواس ان تبذل قصارى جهدها للتعويض عن الخسارة، وفي هذه الحالة سيجهد الجسم كله لالتقاط الأصوات التي حُرمت منها الأذنين.

ولكن كيف لي أن أعرف ما يعنيه ألصمم وما يعانيه الاصم؟
هل يحلمون بصوت اندفاع وحفيف الأمواج المتكسرة على صخور الشاطئ؟ هل يحلمون بنبح الكلاب أو عزف الموسيقى وقرع الطبول ؟ هل يستمعون إلى الأصوات التي تتحدث إليهم ويستيقظون مع الاعتقاد بأن قوة السمع قد عادت اليهم بأعجوبة؟ أم أنهم يستيقظون ثم يبكون ويعودون ليحلموا مرة أخرى؟

هل يمكن أن تشعر باطن القدمين عندهم بدل الاذنين بصوت قذائف المدفعية وهي ترتد على احياء المدينة ، اوصوت حشد هائل من الناس بصوت واحد او بصوت الرعد، هل يمكنهم الاستماع إلى حشرجة رجل مشنوق على يد رجل دين مؤمن باليوم الاخر ، وطفل مرعوب ، ومعتقل يحبس أنفاسه.
هل يمكن للعينين التعويض عن الاذن وتسمع الحركة الجميلة لطائر يطير ، وامرأة تبتسم ، وتناثر أوراق الشجر في النسيم.

تصبح كل صورة اراها هنا وانا اتقمص شخصية الأطرش مشبعة بالرنين مثل انغام لحن يأتي من بعيد، فأغمض عينيّ وأصاب بالعمى ، لكن عندما أخلد إلى النوم أستطيع أن أبصر مجددًا، وأغمض عيني مرة أخرى وأنا أعمى ، واترك أفكاري تتجول في وجوه الأشخاص الذين عرفتهم او زرت منازلهم او التي عشت فيها معهم ، فتظهر المناظر الطبيعية التي مررت بها أمام عيني زاهية مثل ضوء النهار او لحن جميل، وهذا يعني ان عليك أن تستخدم عينيك مثل المصباح في الظلام، وأن تتعلم قراءة الحقيقة مما تراه وليس مما يُقال لك سمعياً أن تراه، وإذا ما أصبح الصمت الذي يحيط بك مرعبًا لانك لا تسمعهم ويظهر اليك الناس الكثير من الإيماءات والاشارات حتى يفهمونك بما يجري حولك، فستعلم بانك دخلت مكانًا بدون أصوات العصافير أو موسيقى الشجر، دون أن تقترب او تبتعد خطوات اقدام المارة منك، أو تنبح الكلاب من مسافة بعيدة، فكل ما يمكنك فعله هنا هو الانسحاب إلى كيانك وذاتك المفردة وانتظار مرور العاصفة.

كان بيتهوفن عندما فقد حاسة السمع يمسك أحد طرفي عصا بين أسنانه ويضع الطرف الآخر في الجزء العلوي من البيانو بحيث تكون بمثابة قناة توصل الذبذبات الصوتية وتوجهها مباشرة إلى جمجمته عند العزف، وهكذا كتب الحانه وسيمفونياته بالعشرين سنة الأخيرة من حياته، وهذا ماجلب له نقداً حاداً من الروائي الروسي ليف تولستوي الذي لم يعترف بما انتجه بتهوفن بعد ان اصبح اطرش بانها موسيقى او فن وقد كتب يقول:

(عندما تقدم (بتهوفن) بالعمر وهو اطرش، ولا يسمع، بدأ في كتابة أعمال مخترعة غير مكتملة، وكنتيجة لهذا فهي غالبًا ما كانت بلا معنى وغير مفهومة من الناحية الموسيقية.
أنا أعلم أن الموسيقيين يمكنهم تخيل الأصوات بوضوح كافٍ، ويمكنهم تقريبًا سماع ما يقرؤونه، لكن الأصوات المتخيلة لا يمكن أبدًا أن تحل محل الأصوات الحقيقية، وعلى كل ملحن أن يسمع إنتاجه من أجل تدقيقها وتهذيبها.
وبيتهوفن لم يتمكن من سماع عمله، وبالتالي لم يستطع إتقان أعماله، ونتيجة لذلك فقد نشر إنتاجات لم تكن إلا هذيانًا فنيًا. لكن النقد، بعد أن اعترف به ذات مرة على أنه مؤلف موسيقي رائع، يستغل هذه الأعمال غير الطبيعية بحماسة خاصة، ويبحث عن الجمال غير العادي فيها).
وفي مكان اخر يشن هجوماً على السيمفونية التاسعة ويعتبرها من اعمال الفن السيء (سواء أحببته أم لا، فأنا مضطر لاستنتاج أن هذا العمل ينتمي إلى مرتبة الفن السيئ).
ومن حس الحظ ان الموسيقي العظيم فريد الأطرش لم يكن اطرشاً ولا يوماً واحداً في حياته.

ثم اعود الى ذلك الشاب الذي فقد سمعه، وارسم صورته بالخيال، فأستطيع أن أراه الآن جالسًا على كرسي عتيق في مقهى او شارع ، منحنياً وصامتًا ومنغلقًا على نفسه ، مثل طائر جارح جاثم في قفص، استعاد قوته ببطء ، لكنه ظل أصم لبقية حياته، أصم مثل المنزل ، أصم مثل الحجر ، أصم مثل الرجل الميت الذي لن يستيقظ من نومه البارد مهما صرخت بصوت عالٍ.
وليس عندي ما أقول سوى: السلام لبلد السلام



#ساطع_هاشم (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- ماهي الفوضى الخلاقة؟
- الغرق
- الموظفة
- حروب الثقافتين
- رجال في الخفاء
- رسالة الفنان
- استعمار متجدد
- الحركة والرؤية
- الابتكار والتجديد
- ذهبي الذي ضاع
- حركة الحياة
- الواقعية والشكلية والفن الحديث
- انحطاط الثقافة البصرية العربية
- الملابس والعري
- عام الفأر
- اغتراب
- مشياً بالمطر
- اللون الابيض
- احتفالا بالوداع
- دعونا نصاب بالجنون


المزيد.....




- يتصدر السينما السعودية.. موعد عرض فيلم شباب البومب 2024 وتصر ...
- -مفاعل ديمونا تعرض لإصابة-..-معاريف- تقدم رواية جديدة للهجوم ...
- منها متحف اللوفر..نظرة على المشهد الفني والثقافي المزدهر في ...
- مصر.. الفنانة غادة عبد الرازق تصدم مذيعة على الهواء: أنا مري ...
- شاهد: فيل هارب من السيرك يعرقل حركة المرور في ولاية مونتانا ...
- تردد القنوات الناقلة لمسلسل قيامة عثمان الحلقة 156 Kurulus O ...
- مايكل دوغلاس يطلب قتله في فيلم -الرجل النملة والدبور: كوانتم ...
- تسارع وتيرة محاكمة ترمب في قضية -الممثلة الإباحية-
- فيديو يحبس الأنفاس لفيل ضخم هارب من السيرك يتجول بشوارع إحدى ...
- بعد تكذيب الرواية الإسرائيلية.. ماذا نعرف عن الطفلة الفلسطين ...


المزيد.....

- صغار لكن.. / سليمان جبران
- لا ميّةُ العراق / نزار ماضي
- تمائم الحياة-من ملكوت الطب النفسي / لمى محمد
- علي السوري -الحب بالأزرق- / لمى محمد
- صلاح عمر العلي: تراويح المراجعة وامتحانات اليقين (7 حلقات وإ ... / عبد الحسين شعبان
- غابة ـ قصص قصيرة جدا / حسين جداونه
- اسبوع الآلام "عشر روايات قصار / محمود شاهين
- أهمية مرحلة الاكتشاف في عملية الاخراج المسرحي / بدري حسون فريد
- أعلام سيريالية: بانوراما وعرض للأعمال الرئيسية للفنان والكات ... / عبدالرؤوف بطيخ
- مسرحية الكراسي وجلجامش: العبث بين الجلالة والسخرية / علي ماجد شبو


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - الادب والفن - ساطع هاشم - حاسة السمع وانفجارات العراق