أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - مظهر محمد صالح - الكراسي الموسيقية















المزيد.....

الكراسي الموسيقية


مظهر محمد صالح

الحوار المتمدن-العدد: 6977 - 2021 / 8 / 3 - 02:05
المحور: الادب والفن
    


الكراسي الموسيقية
مظهر محمد صالح
الإنسان مخلوق، وظيفته أن يتحرك، وإن كل تصرف إنساني منطقي، شريطة ألا يكون التحرك عبثياً يؤدي إلى قتل الوجود، تحت ذريعة محاربة العدم ،ولاسيما عندما يأخذ التحرك أشكالا مستمرة، قوية العبثية، يؤازر بعضها بعضاً من خلال اندفاع كل منها.
ولا يواجه ذلك إلا شيء يقابله، يسمى التصرفات الحركية، التي يدفع بها منطق الحكمة والعقل، الذي يحقق الوجود الإنساني، وهو أمر يبلغ أقصاه حينما تنسجم تلك التصرفات مع لعبة الحياة التنافسية، التي تواجه جيوش العبث، تلك الجيوش التي تقيم وظيفتها في السير نحو الأمام، ولكنها تحارب خداعاً، اسمه العدم.
ابتدأت لعبة طفولتي، في أول رياض أطفال أنشأتها مشاريعُ الخمسينيات لإعمار العراق، في ترسيخ الحياة عبر لعبة تنافسية، هي لعبة الكراسي الموسيقيةmusical chairs ، لتكرس الوجود وتبعد العبث، عندما بدأت عوائدُ نفط العراق يذهب جلها إلى الإعمار وبناء الإنسان، وبنسب بلغت أكثر من 70% لتلك المهمات في الاستثمار البشري والمادي.
فكانت ثمة مفارقة بين تنشئة الجيل وإرساء أسس البلاد المادية في التقدم والازدهار.اذ ظلت الحياة تنسجم ومسارات لعبة الكراسي الموسيقية المذكورة ،بطبيعتها التنافسية، وحصرية أدائها في رياض طفولتنا، لما كانت توفره من مجسات حركة و نمو وإعداد أجيال المستقبل لبلاد اسمها العراق .
وطأت قدمي أول رياض أطفال في العام 1953.
وكانت تلك الروضة الجميلة قد جُهِّزت بمختلف التجهيزات، والتي كان أجملها جهاز مونوغراف، أي جهاز موسيقى الاسطوانات اليدوي، الذي كانت تستعمله معلمة مدرستنا كي نمارس، نحن الصغار، لعبة الكراسي الموسيقية، وهي لعبة غير سياسية، بالتأكيد، وتنافسية، يكون فيها عدد الكراسي أقل من عدد التلاميذ، الذين يمارسون الدوران، وبكرسي واحد أقل من عدد التلاميذ اللاعبين، وهكذا.
وطالما أن الموسيقى مستمرة ويعلو صوتها بسلم موسيقي واحد متجانس، نهرع إلى إشغال كراسينا، جميعاً، عند توقف الموسيقى، ليجلس كلنا على كراسيهم ،باستثناء خاسر واحد، يكون خارج اللعبة. ويستمر الحال بين الحركة، والدوران، والتوقف، والجلوس على بقايا الكراسي، حتى تنتهي اللعبة في آخر الشوط باثنين من الصغار، يلعبا على كرسي واحد، يكون شاغله بطلاً بديلاً لأي شاغل كرسي في ذلك الزمن ،حتى وإن كان ملك العراق وقتذاك، وهو تلميذا رمزياً، أيضاً، لصغر سنه في صورته التي كانت تعلو جدران مدرستنا، مدرسة رياض الأطفال.
اللافت أنه، و بمرور أكثر من ستين عاماً، تحولت تلك المدرسة في مدينتي، التي قضيت طفولتي فيها، إلى أرض فارغة ومكب للنفايات، ولسنوات طويلة.
ولكن، يقال إنه بنيت فوقها مدرسة، وبالتأكيد، حل محل جهاز مونوغراف جهاز آخر، لكي يمارس طلابها اليوم لعبة الكراسي الموسيقية، ولكن غير التنافسية ، أو المتطرفة، والتي تسمى في بلاد الغرب بلعبة عصف الرياح الباردة.
و بالتأكيد، فإن عصف رياحها حار جداً في بلادنا.
إنها لعبة الكراسي نفسها، باستثناء أمر خطير مهم جرى عليها، هو أنه كلما يتوقف صوت الموسيقى، يهرع جميع الأطفال نحو كراسيهم، وبدلاً من أن يخرج تلميذ واحد خاسر في اللعبة، يتم إخراج كرسي واحد، ويبقى الأطفال بنفس أعدادهم، ولكن بكرسي واحد ناقص إلى نهاية الشوط.
وفي النهاية، لا بد أن يهرع العدد نفسه من الأطفال على كرسي واحد لإشغاله، وهو كرسي الكارثة، أو الكرسي المنكسر، الذي يبغي الجميع إشغاله في آن واحد.
لقد تغيرت الحياة، عندما تحرك العبث، بجدية عالية، وانقلبت اللعبة التنافسية في روضتنا إلى ما يسمى (لعبة الكراسي الموسيقية المتطرفة extreme musical chairs)، وهي لعبة غير تنافسية، شديدة الاحتكار، اجتاحت مدارس بلادي ورياض أطفاله، تدريجياً، وعلى مدى أكثر من خمسة عقود من الزمن، لتنسجم مع شدة انقلاب مذاهب التصرف بعوائد النفط، ونشوء توجهات نخب معادية للتنمية والتقدم الاقتصادي والاجتماعي، والدخول في لعب الحرب، والاستبداد، والتخطيط للاستثمار السالب برأس المال البشري، الذي أجبر عوائد نفطنا، بقلتها أو كثرتها، على أن تذهب للتبذير والصرف العبثي، بنسب مقلوبة عما أسسه الآباء الأوائل، ليصبح مثل هذا التبدل، في المعادلة الاقتصادية والاستثمار في فرص الحياة، مصدرَ قوتنا، ولكن في ميادين الإبادة، والفناء الجمعي، والاستثمار السالب بالأجيال في حرب التصدي للعدم.
إن تدفق سيول النفط الهادرة لا بد من أن تماثلها حالة شديدة الهبوط في الجدية، وسيول قوية من الدماء، في معركة مستمرة ضد العدم أو المجهول، فمعادلة النفط والدم هي المعادلة المركزية في سلم قانون الإبادة المستمرة ومكوناتها الراسخة والقوية، وهما السائلان اللذان يسيران معا في أمم البداوة الريعية، وفي برزخ لا يبغيان، ويتناسبان طردياً مع شدة تفتتنا في ساحات الحرب مع المجهول ومواجهتنا الشديدة الهمجية في بحر البداوة في مواجهة عدو، اسمه العدم.
وبهذا، تتهالك، اليوم، كتل بشرية من اللاعبين، على ذلك الكرسي الوحيد، الذي لا يستوعب جميع صغارنا من غير المتنافسين.
وقد تطورت حياتنا سلباً، وتراجعت خلال ستين عاماً، وتحولت، من لعبة كراسي موسيقية تنافسية، إلى لعبة كراسي موسيقية أخرى غير تنافسية، فالكل يبغي الكرسي نفسه، في صراعات تحولت فيها الحياة السياسية، والاقتصادية، والاجتماعية، إلى أشبه ما يكون بالقبائل المتناحرة، التي لم تبتعد عن بطون بداوتها، طالما أن عائدات البلاد، من ريوع النفط، تتحرك على وفق سلم موسيقي يتلاءم مع اللعبة اللاتنافسية، وإن جوهر الحراك هو الاستهلاك والتبذير، أولاً وآخراً، وإن الاستثمار والتنمية هما زاد الحرب في محاربة العدم وسحق الوجود الإنساني. وبهذا، وجدت العبثية مناخاً خصباً لها، لتتحرك، بجدية عالية، للهبوط بالحياة إلى أخاديد الصحراء، ومن ثم، تشتت المدنية، بعد التيه في صحارى شاسعة في مساحاتها، ولكن، ضعيفة في بلوغ غاياتها في البحث عن مصادر المياه للعيش والكلأ، بعد أن ركد ماء الشباب في وجوه أجيالها.
تكاثرت مصائبنا، وأخذ بعضها يمحو البعض الآخر، وبدأنا ،حقاً، نتذكر السيئ منها، ونمتدحه، ونخلده، لأن القادم هو الاسوأ، لا محال.
وهكذا، استمرت دواليب الحياة في بلادنا على مدار العقود الماضية، نتقلب فيها على أحلام الهدم الأقل ومحاسن الظلم الأيسر سوءاً، ونحن نسلك في ممرات داكنة نحو المجهول، ونعده بناءً، ونسير باندفاع إلى محاربة العدم، ونراه هو الواقع الأمثل، الذي لا بد من أن نفني حياتنا من أجله.
إنها قصة نفط العراق في صحارى البداوة السياسية، التي ابتدأت منهجاً موسيقياً صحياً في رياض أطفالنا، أحاطته تقاليد بناء سلم موسيقي متماسك، ليكون سلماً للتقدم والازدهار، رسم رموزه ومعالمه، في الوقت نفسه، الآباء الأوائل، من قبيل ضياء جعفر، وإبراهيم كبة، وغيرهما، ليشيدوا تقدم العراق على بركان الوجود ،معالمه الكفاح من أجل الإعمار، قبل أن تتغير لعبة موسيقى الكراسي إلى لعبة متطرفة عديمة التنافسية، كرست تدريجياً حالاً سلبياً، حصدنا معالمه المبهمة، التي هي الشبه براسب من الرواسب الميتة في حرب السراب الدامية ضد العدم.
إن السلم الموسيقي، الذي بات مضطرباً، اليوم، في مدارس روضاتنا، هو اليوم بأمس الحاجة إلى من يعيد ترتيب رمزياته، ليوفر لنا لحناً، يحقق للعبة الكراسي الموسيقية دورها التنافسي، الذي غاب منذ زمن بعيد، ويؤكد لنا الوجود ثانيةً في معركة واضحة، اسمها بناءُ الأمة، لا غير،. بعد أن حل محلها سلم موسيقي آخر للعبة كراس تناحرية، يلائم طراز معركة مبهمة، مستمرة إلى أمام، في مواجهة عدو واحد لا غير، هو العدم.



#مظهر_محمد_صالح (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- رئيسان صينيان في دفاتر ذاكرتي الشخصية.
- أشياء لا تموت!
- #الكلمة_شرف
- السيولة العامة ومشكلات الائتمان في العراق
- باتيل صانعة الجوارب: الحب الدامي
- قسمة ضيزى:
- الاشكالية والنقد في الفكر العراقي المعاصر
- الاهداف الذكية :بين النجاح والفشل.
- الذات: بين مرايا الفلسفة و الضمير...!
- الى السيد علي عباس الخفيف /المشرف الاداري على موقع ملتقى الم ...
- المفارقة في حاضنة الفكر العراقي
- لينين:همس عراقي في ذكرى وفاته
- مستجدات المالية العامة في العراق: من التقشف (الثنائي )الى ال ...
- حوار السلطة الموازية في الفكر العربي :بين مرتسم (الدولة ) وق ...
- بذور العراق تبحث عن منبت : مأزق الأبداع !
- ثروة الامم :
- العائلة المقدسة
- العجز المالي وتنقيد الدين:الموازنة العامة الاتحادية ٢& ...
- العراق بوابة الفكر ومفتاح المعرفة.
- الاجوبة في حوارات الفكر


المزيد.....




- NOW.. مسلسل قيامة عثمان الحلقة 154 مترجمة عبر فيديو لاروزا
- لماذا تجعلنا بعض أنواع الموسيقى نرغب في الرقص؟
- فنان سعودي شهير يعلق على مشهد قديم له في مسلسل باللهجة المصر ...
- هاجس البقاء.. المؤسسة العلمية الإسرائيلية تئن من المقاطعة وا ...
- فنانة لبنانية شهيرة تكشف عن خسارة منزلها وجميع أموالها التي ...
- الفنان السعودي حسن عسيري يكشف قصة المشهد -الجريء- الذي تسبب ...
- خداع عثمان.. المؤسس عثمان الحلقة 154 لاروزا كاملة مترجمة بجو ...
- سيطرة أبناء الفنانين على مسلسلات رمضان.. -شللية- أم فرص مستح ...
- منارة العلم العالمية.. افتتاح جامع قصبة بجاية -الأعظم- بالجز ...
- فنانون روس يسجلون ألبوما من أغاني مسلم موغامايف تخليدا لضحاي ...


المزيد.....

- لا ميّةُ العراق / نزار ماضي
- تمائم الحياة-من ملكوت الطب النفسي / لمى محمد
- علي السوري -الحب بالأزرق- / لمى محمد
- صلاح عمر العلي: تراويح المراجعة وامتحانات اليقين (7 حلقات وإ ... / عبد الحسين شعبان
- غابة ـ قصص قصيرة جدا / حسين جداونه
- اسبوع الآلام "عشر روايات قصار / محمود شاهين
- أهمية مرحلة الاكتشاف في عملية الاخراج المسرحي / بدري حسون فريد
- أعلام سيريالية: بانوراما وعرض للأعمال الرئيسية للفنان والكات ... / عبدالرؤوف بطيخ
- مسرحية الكراسي وجلجامش: العبث بين الجلالة والسخرية / علي ماجد شبو
- الهجرة إلى الجحيم. رواية / محمود شاهين


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - الادب والفن - مظهر محمد صالح - الكراسي الموسيقية