أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - مواضيع وابحاث سياسية - محمد عبد الكريم يوسف - حرب العقول















المزيد.....



حرب العقول


محمد عبد الكريم يوسف
مدرب ومترجم وباحث

(Mohammad Abdul-karem Yousef)


الحوار المتمدن-العدد: 6909 - 2021 / 5 / 26 - 01:51
المحور: مواضيع وابحاث سياسية
    


يقول تشارلز ديكنز في مقدمة رائعته الخالدة ” قصة مدينتين ” : كان من أفضل الأوقات . كان من أسوأ الأوقات . كان عصر الحكمة . كان عصر الجنون . كان حقبة من الإيمان . كان حقبة من الإلحاد .كان فصلا من النور. كان فصلا من الظلام. كان ينبوع أمل . كان شتاء من اليأس. بالتأكيد كان ديكنز يصف عصرا من العصور شهدته فرنسا ثم انقضى . ولكن أن يستمر هذا العصر منذ بدء التاريخ الإسلامي إلى العصر الحديث بتلك مسألة بحاجة للبحث والتمحيص والدراسة . وإذا قرأت لك سطور ديكنز وحجبت اسم قائلها عنك سيخطر ببالك أننا نتحدث عن العصر الاسلامي والعربي منذ بدايته وحتى اليوم .
هناك حرب شعواء ضد الفكر والعلم والفلسفة عبر التاريخ . ولم يكن هناك تصالح بين رجال السلطة ورجال العلم في أي حقبة من الحقب. وهذا ما يفسر حرب العقول والاغتيال والتضييق على رجال العلم والمعرفة والفكر والفن في لدى الحضارات السابقة ومنها الحضارة الاسلامية التي ننتمي إليها . فما قصة حرب العقول في الحضارة الإسلامية كنموذج ؟ اليكم أشهر الاغتيالات العلمية في التاريخ الاسلامي :
الامام علي بن أبي طالب ( كرم الله وجهه) :
الامام علي بن أبي طالب كرم الله وجهه ( 599م -661م) غني عن التعريف في تاريخ الفكر الإسلامي والإنساني . هو العالم والفقيه والحكيم والإمام وصاحب نهج البلاغة وابن عم الرسول العربي محمد بن عبد الله صلى الله عليه وسلم وصهره لفاطمة عليها السلام ووالد الحسن والحسين . قتل غيلة وهو يؤم المسلمين في الكوفة بسبب علمه وفكره وبعد نظره وتفكيره الإنساني المستقبلي العميق . قال عنه الرسول العربي الكريم صلى الله عليه وسلم :” أنا مدينة العلم وعليّ بابها، فمن أراد العلم فليأت الباب ومن أحب أن ينظر إلى إسرافيل في هيبته و إلى ميكائيل في رتبته وإلى جبرائيل في جلالته وإلى آدم في سلمه وإلى نوح في خشيته وإلى إبراهيم في خلته وإلى يعقوب في حزنه وإلى يوسف في جماله وإلى موسى في مناجاته وإلى أيوب في صبره وإلى يحيى في زهده وإلى يونس في سنته وإلى عيسى في ورعه وإلى محمد في حسبه وخلقه فلينظر إلى علي. فإن فيه تسعين خصلة من خصال الأنبياء جمع الله فيه ولم يجمع لأحد غيره.”
وقال فيه : ” هذا علي مني بمنزلة هارون من موسى .” وقد بايع الإمام علي راضيا الخلفاء الراشدين بدءا من أبي بكر الصديق مرورا بالفاروق عمر وصولا إلى عثمان رضي الله عنهم وأحبوه واستشاروه في كل صغيرة وكبيرة في شؤون الحكم والافتاء وتفسير النصوص والحكمة وها هو الفاروق عمر يقول في علي : ” لولا على لهلك عمر، ولا مكان لابن الخطاب في أرض ليس فيها ابن أبي طالب” . وكان اغتيال الإمام علي كرم الله وجهه اغتيالا للفكر والمعرفة وليس اغتيالا للجسد .
الجعد بن درهم :
يعود الجعد بن درهم (667م- 724م) إلى خراسان ؛ أسلم أبوه وصار من موالي بني مروان. وقد ولد في خراسان وهاجر بعد ذلك إلى دمشق وعاش فيها . تأثر الجعد بن درهم بالآراء الفلسفية التي كانت تثار حول طبيعة الإله. وكان يكثر من التردد إلى وهب بن منبه أحد كبار التابعين ، وكان كلما راح إلى وهب يغتسل ويقول: “اجمع للعقل” وكان يسأل وهباً عن صفات الله عز وجل وكان وهب ينهاه عن ذلك. وقد أُعجب محمد بن مروان به وبعقله وفكره فقربه منه واختاره ليكون معلماً لابنه مروان بن محمد آخر خلفاء بني أمية.
أراد الجعد أن يبالغ في توحيد الله وتنزيهه مما دفعه إلى القول بنفي الصفات التي توحي بالتشبيه وتأويلها ومن بينها صفة الكلام مما أدى به إلى أن يقول بخلق القرآن . وقيل أنه تأثر في قوله هذا بإبان بن سمعان الذي كان أول من قال بخلق القرآن من أمة الإسلام. وكان ينفي أن يكون الله كلم موسى تكليماً وأن يكون قد اتخذ إبراهيم خليلاً فطلبه بنو أمية فهرب إلى الكوفة.



أخذ الجعد ينشر تعاليمه بالكوفة فتعلم منه الجهم بن صفوان الترمذي الذي تنسب إليه الجهمية وفي عام 724 م وصل هشام بن عبد الملك إلى الحكم في دمشق وعين خالد بن عبد الله القسري والياً على الكوفة فقبض على الجعد ابن درهم وفي أول يوم من أيام عيد الأضحى من ذلك العام قال خالد وهو يخطب خطبة العيد: “أيها الناس ضحُّوا تقبل الله ضحاياكم، فإني مضحٍّ بالجعد بن درهم؛ إنه زعم أن الله لم يتخذ إبراهيم خليلا ولم يكلم موسى تكليما ثم نزل فذبحه في أصل المنبر”.
عبد الله بن المقفع :
قُتل عبد الله بن المقفع وهو في مقتبل العمر ولم يتجاوز السادسة والثلاثين عند موته (724م ـ 759م) . عاش ابن المقفع في كنف والده بفارس زمنًا، فاشتغل بالثقافة والترجمة عن الفارسية ثم رحل إلى البصرة وكانت تعج يومئذ بالعلم والعلماء زاخرة بالأدب والمتأدبين والشعراء والمتكملين وكان فيها سوق المربد الذي يعتبر منتدى لهؤلاء جميعًا. عاش ابن المقفع في المدينة مولى لآل الأهتم وهم يومئذ أهل الفصاحة والبيان فتهيأ له الاتصال بأمراء من العرب يحسنون العربية وأخذ العربية كذلك من الأعراب الوافدين من البادية. ولم يمض زمن يسير حتى تم تكوين الرجل ونضج عقله بأسرع مما تنضج به العقول عادة. وحيث أن الفرس كانوا أصحاب علم في البلاد العربية وأرباب قلم فيها، استعانت بهم الدولة الأموية وأفادت من أقلامهم واستغلت بمعارفهم وعلومهم التي لم يكن يعرفها العرب في ذلك الوقت .
كان عبد الحميد بن يحيى يكتب بالشام لمروان بن محمد آخر خلفاء بني أمية وكان ابن المقفع يكتب لداود بن هبيرة في العراق . ولما قامت الدولة العباسية وقَتَلَ الخليفةُ المنصور داود بن هبيرة نجا ابن المقفع من سيفه . ثم خدم أعمامَ السفاح الثلاثة سليمان وعيسى وإسماعيل أبناء علي بن عبد الله بن عباس وترجم لأبي جعفر المنصور كتبًا في المنطق عن الفارسية. وكتب لعلي بن عيسى أيام ولايته على كرمان وأسلم على يديه.



ابن المقفع كاتب حكيم تغلب عليه الحكمة وكل ما وصل إلينا من آثاره لا يخرج عن موضوعات الحكمة والمعرفة والفلسفة والوعظ يصوغها في قالب محكم من اللفظ والمعنى والبلاغة وقد قيل فيه : “ما رُزِقَت العربية كاتبًا حبب الحكمة إلى النفوس كابن المقفع، فإنه يعمد إلى الحكمة العالية فلا يزال يروضها بعذوبة لفظه ويستنزلها بسلاسة تراكيبه حتى يبرزها للناس سهلة المأخذ بادية الصفحة، فهو من هذه الجهة أكتب الحكماء وأحكم الكتاب”. يقول عنه الراغب الأصفهاني: ” كان ابن المقفع كثيرًا ما يقف إذا كتب ، وعندما سُئل ذلك قال: إن الكلام يزدحم في صدري فأقف لتخيره.”
اتسم أسلوب ابن المقفع بالسهولة والوضوح والجري مع الطبع وعدم التعقيد والإغراب والمتعة والروح الخفيفة الظل . وقد عرّف البلاغة تعريفًا بارعًا حين قال: ” البلاغة هي التي إذا سمعها الجاهل ظن أنه يحسن مثلها.” وقال لبعض الكتاب:” إياك والتتبع لحُوشي الكلام طمعًا في نيل البلاغة، فإن ذلك هو العي الأكبر.” وكما كان ابن المقفع يتجنب التقعر و يكره الابتذال والإسفاف. قال يوصي كاتبًا: “عليك بما سهل من الألفاظ ، مع تجنب ألفاظ السفلة.”
“كليلة ودمنة ” أشهر كتب ابن المقفع، وضعه باللغة السنسكريتية فيلسوف هندي يدعى بيدبا للمك دبشليم الذي حكم الهند بعد فتح الإسكندر لها وجعل فيه الفيلسوف بيدبا حِكَمَه ومواعظه ونصائحه جارية على ألسنة الحيوان والطير. ثم كان أن نُقِلَ الكتاب من السنسكريتية إلى لغات عدة، ومنها اللغة الفهلوية التي نقل ابن المقفع الكتاب عنها إلى العربية، ثم فقد الأصل الهندي والفهلوي ولم يبق من التراجم الأولى غير الترجمة العربية لابن المقفع وعنه نقلته الأمم إلى لغاتها. وقد كان لهذا الكتاب أثر كبير في الثقافة الإنسانية حيث عكف عليه الدراسون بالبحث والتحقيق من العرب والغرب والشرق وللمستشرقين به عناية كبيرة .وهو من الكتب المهمة في التراث الثقافي الإنساني .



“الأدب الصغير” كتاب في الأدب والحكم والمواعظ، صيغ بأسلوب رائق ، وليس كل ما فيه من الحكم من نتاج ابن المقفع لأنه يقول فيه: “وقد وضعت في هذا الكتاب من كلام الناس المحفوظ حروفًا فيها عون على عمارة القلوب وصقالها وتجلية أبصارها ، وإحياء للتفكير وإقامة للتدبير ودليل على محامد الأمور ومكارم الأخلاق. ” وقد كان لابن المقفع الفضل في حسن صياغة ذلك كله وتقريبه للقلوب. والكتاب يتكون من (مقدمة) فيها حديث عن حاجة العقل إلى الأدب وتأثير هذا الأدب في إنماء العقول بالإضافة إلى الحكم والأمثال التي ألمح إليها في هذه المقدمة.
“الأدب الكبير” كتاب في الأخلاق والنصائح والآداب والحكم، وقد قسمه إلى قسمين: كتب في القسم الأول عن علاقة الراعي بالرعية ، وكتب في الثاني عن علاقة الرعية بعضها ببعض. وقد كان في هذا الكتاب صاحب نزعة مثالية مفرطة فهو حين يكتب عن السلطان يذكر ما يجب أن يكون عليه السلطان الكامل في حكمه وسياسته وأخلاقه وحسن سيرته كأن يقول مثلا: ” ليس للملك أن يغضب، لأن القدرة من وراء حاجته ، وليس له أن يكذب ، لأنه لا يقدر أحد على استكراهه على غير ما يريد، وليس له أن يبخل لأنه أقل الناس عذرًا في تخوف الفقر. وليس له أن يكون حقودًا لأن خطره قد عَظُمَ عن مجاراة كل الناس” ، فكأنه إنما يصف بذلك المثل الأعلى. وهو بحق من الكتب الجديرة بالقراءة . يقول ابن المقفع “الكياسة ترك السياسة»، وهي عبارة يجدر بالمرء أن يؤمن بها ويتخذها منهجًا حين يقف على ما جرى لابن المقفع ، فقد أسهب الرجل في كتابه الأدب الكبير ينصح الناس ويعلمهم كيف يتعاملون مع الملوك فيقول “إذا أصبت عند الوالي لطف منزلة لغناء يجده عندك أو هوى يكون له فيك فلا تطمحن كل الطماح ولا تكونن صحبتك للملوك إلا بعد رياضة منك لنفسك على طاعتهم في المكروه عندك، وموافقتهم فيما خالفك، وتقدير الأمور على ميلهم دون ميلك فإنك لا تأمن عقوبتهم إن كتمتهم، ولا تأمن غضبهم إن صدقتهم ولا تأمن سلوتهم إن حدثتهم. إنهم إن سخطوا عليك أهلكوك وإن رضوا عنك تكلفت من رضاهم ما لا تطيق .” بل إنه بالغ كثيرًا في القول بطاعة السلطان ووجوب مداراته بقوله: “جانب المسخوط عليه والظنيين عند السلطان ولا يجمعنك وإياه مجلس ولا منزل ولا تظهرن له عذرًا ولا تشن عليه عند أحد .”



أما قصة مصرعه واغتياله فيحكى أنه كان أوغر عليه صدر الخليفة المنصور وذلك حين خرج عليه عمه عبد الله بن علي والي الشام فحاربه المنصور بجيش على رأسه أبو مسلم الخراساني فهزمه أبو مسلم وفر العم فلاذ بأخويه الشقيقين سليمان وعيسى وكانا بالبصرة فآوياه وطلبا له الأمان من الخليفة فأمَّنَه، وعُهد إلى ابن المقفع كاتب عيسى بن علي بكتابة الأمان لعبد الله. ويقال إن ابن المقفع كتب الأمان وبالغ في الاحتراس من كل تأويل يقع عليه فيه وأسرف في توكيد الأمان فلم يتهيأ للمنصور إيقاع حيلة فيه لفرط احتياط ابن المقفع ومن ذلك قوله: “ومتى غدر أمير المؤمنين بعمه عبد الله فنساؤه طوالق ، ودوابه حبس وعبيده أحرار والمسلمون في حل من بيعته.” وكتب في الأمان كلامًا كثيرًا لا يتفق وعزة الملوك وهيبتهم وكرامتهم فلما قرأه المنصور امتلأت نفسه غيظًا وسأل عمن كتبه فقيل له ابن المقفع كاتب عيسى بن علي . فقال أبو جعفر: “فما أحد يكفيني إياه.”
وكان سفيان بن معاوية بن يزيد يكره ابن المقفع لأشياء كثيرة منها أن ابن المقفع كان يسخر منه ويتندر عليه لأن أنفه كان كبيرًا، فكان إذا دخل عليه قال:” السلام عليكما .” وكان يسأله عن الشيء بعد الشيء، فإذا أجاب قال له (أخطأت) ويضحك منه ، فلما كثر ذلك على سفيان غضب واشتد غيظه منه ، وكان ابن المقفع قال له يوما في معرض السب والسخرية : “يا ابن المُغْتَلِمَة والله ما اكتفت أمك برجال أهل العراق حتى تعدتْهم إلى أهل الشام.” وكثرت داوعي الحقد والحنق على ابن المقفع فأضمر سفيان في نفسه أن يعمل على قتله إذا أمكنته من ذلك فرصة.
وقد حانت تلك الفرصة بحادثة الأمان هذه. فما كاد المنصور يقول: “فما أحد يكفيني إياه” وكان سفيان حاضرًا، حتى أجابه إلى ذلك وظفر منه بإذن في قتل ابن المقفع. فلما قبض عليه سفيان بالحيلة قال له:” قد وقعتَ والله”، فقال ابن المقفع: “أنشدك الله أيها الأمير.”، فقال سفيان: ” أمي مغتلمة كما ذكرتَ إن لم أقتلك قتلة لم يُقتل بها أحد قط.” وأمر بِتَنُّور فأُسْجِر، ثم أمر بابن المقفع فقطع منه عضو ثم ألقي في التنور وابن المقفع ينظر حتى أتى على جميع جسده، ويجبره على أكل جسده مشويًا حتى لفظ آخر أنفاسه ومات. لقد أطبق عليه التنور.
جابر بن حيان
جابر بن حيان بن عبد الله الأزدي عالم مسلم عربي( 737-815م). برع في علوم الكيمياء والفلك والهندسة وعلم المعادن والفلسفة والطب والصيدلة ، ويعد جابر بن حيان أول من استخدم الكيمياء عمليًا في التاريخ.
وصفه ابن خلدون في مقدمته في حديثه عن علم الكيمياء فقال:” إمام المدونين جابر بن حيان حتى إنهم يخصونها به فيسمونها علم جابر و له فيها سبعون رسالة كلها شبيهة بالألغاز.” قال عنه أبو بكر الرازي في “سر الأسرار” إن: ” جابراً من أعلام العرب العباقرة وأول رائد للكيمياء” ، وكان يشير إليه باستمرار بقوله الأستاذ جابر بن حيان. وذكر ابن النديم في الفهرست مؤلفاته ونبذه عنه، وقال عنه الفيلسوف الإنكليزي فرانسيس بيكون: “إن جابر بن حيان هو أول من علّم الكيمياء للعالم، فهو أبو الكيمياء”، وقال عنه العالم الكيميائي الفرنسي مارسيلان بيرتيلو في كتابه “كيمياء القرون الوسطى” إن ” لجابر بن حيان في الكيمياء ما لأرسطو في المنطق”.



ومن أهم الإسهامات العلمية لجابر في الكيمياء إدخال المنهج التجريبي إلى الكيمياء وهو مخترع القلويات المعروفة في مصطلحات الكيمياء الحديثة باسمها العربي (Alkali) وماء الفضة وهو كذلك صاحب الفضل فيما عرفه الأوربيون عن ملح النشادر وماء الذهب والبوتاس ومن أهم إسهاماته العلمية كذلك أنه أدخل عنصرَيْ التجربة والمعمل في الكيمياء وأوصى بدقة البحث والاعتماد على التجربة والصبر على القيام بها . يُعَدُّ جابر من رواد العلوم التطبيقية . وتتجلى إسهاماته في هذا الميدان في تكرير المعادن وتحضير الفولاذ وصبغ الأقمشة ودبغ الجلود وطلاء القماش المانع لتسرب الماء واستعمال ثاني أكسيد المنغنيز في صنع الزجاج. وقد عرَف ابن حيان الكيمياء في كتابه ” العلم الإلهي” بأن الكيمياء هو الفرع من العلوم الطبيعية الذي يبحث في خواص المعادن والمواد النباتية والحيوانية وطُرق تولدها وكيفية اكتسابها خواص جديدة.
وقد وضع جابر نظرية رائدة للاتحاد الكيميائي في كتابه “المعرفة بالصفة الإلهية والحكمة الفلسفية”، حيث قال: “يظن بعض الناس خطأً أنه عندما يتحد الزئبق والكبريت تتكون مادة جديدة في كُلِّيتها. والحقيقة أن هاتين المادتين لم تفقدا ماهيتهما، وكل ما حدث لهما أنهما تجزَّأتا إلى دقائق صغيرة، وامتزجت هذه الدقائق بعضها ببعض، فأصبحت العين المجردة عاجزة عن التمييز بينهما. وظهرت المادة الناتجة من الاتحاد متجانسة التركيب، ولو كان في مقدرتنا الحصول على وسيلة نفرق بين دقائق النوعين، لأدركنا أن كلاً منهما محتفظ بهيئته الطبيعية الدائمة، ولم تتأثر مطلقًا”.
وقد قسم جابر المواد حسب خصائصها إلى ثلاثة أنواع مختلفة هي : الأغوال (الكافور وكلور الألومنيوم ..) والمعادن ( الذهب والفضة والرصاص) والمركبات ( المواد التي يمكن أن تحول إلى مساحيق) وكان جابر ابن حيان من أول من استعمل الميزان في قياس مقادير المحاليل المستعملة بتجاربه الكيميائية، حيث كانت عنده وحدات قياس خاصة به. و توصَّل جابر بتجاربه إلى حقيقة أن المواد القابلة للاحتراق عندما تشتعل بالنيران تطلق إلى الجوّ الكبريت وتخلِّف وراءها الكلس. وتمكن جابر من اختراع نوع مضيء من الحبر ليساعد على قراءة المخطوطات والرسائل في الظلام. كما اخترع بطلبٍ من الإمام جعفر الصادق نوعاً مضاداً للاحتراق من الورق، حيث كتب بهذا الورق كتاب جعفر الذي وضع في مكتبة دار الحكمة. كذلك اكتشف نوعاً من الطلاء إذا دهن به الحديد يصبح مضاداً للصدأ، وإذا دهنت به الملابس تصبح مضادَّة للبلل بالماء. كما وقد اكتشف طرقاً لتحضير مركَّبات عديدة، مثل الفولاذ وكربونات الرصاص وكبريت الزئبق وحمض الأزوت.
وقد كان جابر بن حيان أحد أشهر علماء الإسلام الذين اتهموا بالزندقة والكفر، والتاريخ يشير إلى أنه اتهم بهذه التهمة استنادًا لعلاقة والده مع الحكام ؛ حيث إن والده عمل في الكوفة صيدليًا وبقى يمارس هذه المهنة مدة طويلة وعندما ظهرت دعوة العباسيين ساندهم، فأرسلوه إلى خراسان لنشر دعوتهم، وعندها استشعر الأمويون خطر نشاط حيان بن عبد الله الأزدى في بلاد فارس فألقوا القبض عليه وقتلوه وهو ما جعل الحكام في عصر أبو الكيمياء يخشون من استخدام جابر لعلمه فيما يضر مصلحة حكام ذلك الوقت.



ثم استغل حكام عصره حرص العامة على الحفاظ على الدين الإسلامي في تضليل المواطنين بحجة الدفاع عن الإسلام وصاروا يشيعون أن الكيمياء علم محرم ومن يعمل به كافر ولا يجوز الاستماع له أو تصديق ما يقول وحبذا لو تم قتله حتى يأمن الجميع من شره.
كان فقيه الدين ابن تيمية أحد العلماء الذين استغلوا مؤامرة تكفير جابر بن حيان . قال ابن تيمية عن الكيمياء ” ما يصنعه بنو آدم من الذهب والفضة وغيرهما من أنواع الجواهر والطيب وغير ذلك مما يشبهون به ما خلقه الله من ذلك ؛ مثل ما يصنعونه من اللؤلؤ والياقوت والمسك والعنبر وماء الورد وغير ذلك…هذا كله ليس مثل ما يخلقه الله من ذلك ؛ بل هو مشابه له من بعض الوجوه وليس هو مساويا له في الحد والحقيقة . وذلك كله محرم في الشرع بلا نزاع بين علماء المسلمين الذين يعلمون حقيقة ذلك. ومن زعم أن الذهب المصنوع مثل المخلوق فقوله باطل في العقل والدين”. ويكمل ابن تيمية فتواه قائلًا: ” وحقيقة الكيمياء إنما هي تشبيه المخلوق وهو باطل في العقل والله تعالى ليس كمثله شيء لا في ذاته ولا في صفاته ولا في أفعاله. وكل ما أنتجته الكيمياء من منتجات هي مضاهاة لخلق الله، وبالتالى هي محرمة”. اختص ابن تيمية عالم الكيمياء جابر بن حيان بالحديث قائلًا: ” وأما جابر بن حيان صاحبُ المصنفات المشهورة عن الكيماوية، فمجهولٌ، لا يُعرف، وليسَ له ذكرٌ بين أهل العلم، ولا بين أهل الدين.” وفي الوقت الذي اتهمه ابن تيمية بالكفر، وصفه معاصروه بأنه كان كثيف اللحية مشتهرًا بالإيمان والورع وقد أطلق عليه العديد من الألقاب ومن هذه الألقاب ” الأستاذ الكبير ” و” شيخ الكيميائيين المسلمين ” و” أبو الكيمياء”.
هذه الفتوى لابن تيمية وغيره أدت إلى اعتقال جابر بن حيان في خضم الفوضى السياسية القائمة والخلاف بين القادة المسلمين في تلك الفترة وفشل البرامكة في عهد هارون الرشيد بسبب الاتهامات الباطلة ويرمى به في السجن ويهتك داخله ويبقى فيه إلى ساعة وفاته .
ترك جابر أكثر من مائة من المؤلفات في موضوع الكيمياء منها كتاب السبعين وهو أشهر كتبه ويشتمل على سبعين مقالا يضم خلاصة ما وصلت إليه الكيمياء عند المسلمين في عصره، وكتاب الكيمياء ، وكتاب الموازين ، وكتاب الزئبق ، وكتاب الخواص ، وكتاب الحدود ، وكتاب كشف الأسرار ، وكتاب خواص أكسير الذهب ، وكتاب السموم ، وكتاب الحديد ، وكتاب الشمس الأكبر ، وكتاب القمر الأكبر ، وكتاب الأرض ، وكتاب إخراج ما في القوة إلى الفعل .
الإمام أحمد بن نصر الخزاعي :
أحمد بن نصر بن مالك بن الهيثم الخزاعي المروزي ، اغتيل من قبل المعتزلة بسبب خلاف في الرأي ، رافق الامام أحمد بن حنبل وعاش معه فتنه خلق القرآن ووصول المعتزلة للحكم . كان من أهل العلم والدِّيانة والعمل الصَّالح والاجتهاد فِي الخير، وكان من أئمَّة العلم ، قويَّ النفس، ثابت الجنان، شجاعًا، يقول كلمة الحق دون وجل ولا تردد، لا يخاف في الله لومة لائم، ينتهي نسبه إلى قبيلة خزاعة الكبيرة صاحبة التاريخ الكبير خاصة فيما يتعلق بالحرم المكي وأحداثه الكبرى.
نشأ في بيت فضل وعلم ورئاسة وعلاقات مذكورة بالبيت العباسي والدولة العباسية، فقد كان جده مالك بن الهيثم أحد نقباء بني العباس في ابتداء الدولة العباسية، وكان له الأثر الكبير في قيام الدولة، وأبوه هو نصر بن مالك من وجهاء الدولة ومن رجالاتها، وهو أيضاً من أهل الحديث وسماعه، وكان له رحبة يسمى سويقة نصر بن مالك في بغداد، وفي هذا الجو المحتشم من الرئاسة والعلم والفضل نشأ الإمام أحمد بن نصر.
أما عن علمه فقد تلقى العلم من كبار العلماء وسمع منهم الحديث وحمله عن كبارهم، فسمع من آدم بن أبي إياس، إسماعيل بن أبي أويس، إسماعيل ابن علية، سفيان بن عيينة ، سليمان بن صالح المروزي، عبد الله بن المبارك، عبد الرزاق بن همام، على بن الحسن بن شقيق، على بن الحسين بن واقد، على ابن المديني، وكيع بن الجراح، يزيد بن هارون.
كان أحمد بن نصر الخزاعي من أهل العلم والديانة والعمل الصالح والاجتهاد في الخير وكان ممن يدعون إلى القول بأن القرآن كلام الله منزل غير مخلوق. كما لم يكن الإمام أحمد بن خزاعة من العلماء المنعزلين عن الواقع بل كان رجل احتكاك بالعامة، وكهف يأوي إليه الناس وقت النوازل لمعرفة الحق من الباطل، والخير من الشر.
وقد ورث الإمام أحمد هذه الوجاهة الاجتماعية والمكانة الشعبية عن أبيه نصر بن مالك الذي بايعه أهل بغداد بيعة خاصة سنة 201 هـ عندما اضطربت الأمور في الخلافة العباسية بسبب وإجراءات الخليفة المأمون الثورية التي قام بها وزلزلت البيت العباسي عندما اختار خلع السواد شعار الدولة واتخذ اللون الأخضر بدلاً منه وواكب هذه الإجراءات خروجه إلى خراسان فاضطربت الأوضاع الأمنية في بغداد وانتشر العيارون والسراق وقاطعي السبيل، وعمت الفوضى، فلم يجد العامة أفضل من نصر بن مالك، ورجل آخر اسمه (سها بن سلامة) لمبايعتهما على الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فضبطا العاصمة ومنعا اللصوص والمفسدين وقطاع الطرق حتى عاد الخليفة المأمون سنة 202هـ من خراسان وألغى قراراته السابقة.
كانت عقيدة الإمام أحمد هي عقيدة أهل الحديث يثبتون الصفات الواردة في الكتاب والسنة من غير تأويل ولا تعطيل ولا تحريف ولا تشبيه وكان يدعو لذلك ليل نهار فلما وقعت فتنة القول بخلق القرآن في أواخر عهد المأمون لم يخضع لسلطة المأمون ومن خلفه المعتزلة في ذلك الوقت .
فتنة خلق القرآن :
انشغل الناس في عهد المعتصم بالأحداث الكبيرة التي وقعت في الدولة مثل ثورة بابك الخرمي، واعتداء الدولة البيزنطية على الحدود في الشمال، وبناء المدن الجديدة، وبالتالي لم ينشغل المعتصم بفتنة القول بخلق القرآن التي أثارها المعتزلة في أواخر عهد أخيه المأمون إلا في بداية عهده بسبب وصية المأمون له بذلك، فلما وقعت الأحداث انشغل عنها بالجهاد ضد أعداء الإسلام
وعندما جاء الواثق بالله بن المعتصم بالله ورث ملكاً ثابتاً واستقراراً عن أبيه جعله يلتفت إلى كلام المعتزلة بوجوب حمل الناس على القول بخلق القرآن فكان الواثق من أشد الناس في القول بخلق القرآن يدعو إليه ليلاً ونهاراً سراً وعلانية اعتماداً على ما كان عليه أبوه قبله وعمه المأمون وبلغ درجة عظيمة من الغلو في هذا الباب تمثلت في عدة إجراءات قام بها من أبرزها:
تعيين كل قضاة الدولة من المعتزلة وخلع أي قاضٍ يقول بعدم خلق القرآن.
إلزام المدرسين والمعلمين في الكتاتيب بتلقين الطلبة والأطفال عقيدة المعتزلة ومفاهيم خلق القرآن.
اختيار الولاة وموظفي الدولة من محتسبين وأئمة ومؤذنين بعد اقرارهم بخلق القرآن.
التضييق على كل العلماء الرافضين للقول بخلق القرآن ومنعهم من التدريس والتحديث
رفض الإمام أحمد بن نصر الخزاعي أراء المعتزلة جملة وتفصيلا فوقع الخلاف واشتد وأوغل صدر الخليفة الواثق ضده فأمر باعتقاله واحضاره .
تم إحضار الإمام أحمد مقيداً بالحديد إلى مجلس الواثق الذي عقده في مدينة سامراء خشية ثورة أهل بغداد لو علموا بما آل للإمام أحمد و استدعي الواثق رؤوس المعتزلة وأئمتهم لاستفتائهم فيما يفعله مع الإمام.
فلما أُحضر الإمام أحمد أمام الواثق لم يتوجه إليه بسؤال عن سبب إحضاره ولا قصة البيعة الخاصة ولكن دار بينهما هذا الحوار العجيب:
قال الواثق‏: ‏ ما تقول في القرآن‏؟ ‏
فقال‏ الإمام: ‏ هو كلام الله‏. ‏
قال‏ الواثق: ‏ أمخلوق هو؟ ‏
قال‏ الإمام: ‏ هو كلام الله‏. ‏
وكان الإمام أحمد بن نصر قد استقتل وباع نفسه وحضر وقد تحنط وتنور وشد على عورته ما يسترها فقال له‏: ‏ فما تقول في ربك، أتراه يوم القيامة‏؟ ‏
فقال‏: ‏ “يا أمير المؤمنين‏ ‏لقد جاء القرآن بذلك، قال الله تعالى في كتابه العزيز : ‏(‏وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ *إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ‏) ، وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم :‏ ‏”‏إنكم ترون ربكم كما ترون هذا القمر لا تضامون في رؤيته‏ ” ونحن على الخبر‏.
‏وذكر الخطيب البغدادي في تاريخه أن الواثق بالله قال ‏:‏ “ويحك!‏ أيرى كما يرى المحدود المتجسم‏؟‏ ويحتويه مكان ويحصره الناظر‏؟‏ أنا أكفر برب هذه صفته”‏.‏ وقال “‏إن قلب ابن آدم بأصبعين من أصابع الله يقلبه كيف شاء‏”.‏ وكان النبي صلى الله عليه وسلم يقول: “يا مقلب القلوب ثبت قلبي على دينك‏”.
فقال له إسحاق بن إبراهيم‏:‏ ويحك ‏!‏ انظر ما تقول‏.‏
فقال‏:‏ أنت أمرتني بذلك‏.‏
فأشفق إسحاق من ذلك وقال‏: ‏ أنا أمرتك‏؟ ‏
قال‏: ‏ نعم ‏! ‏ أنت أمرتني أن أنصح له‏. ‏
فقال الواثق لمن حوله: ما تقولون فيه؟ فأكثروا فقال عبد الرحمن بن إسحاق وكان قاضياً على الجانب الغربيّ وكان حاضراً وكان أحمد بن نصر ودّاً له من قبل: “يا أمير المؤمنين !هو حلال الدّم”.
وقال أبو عبد اللّه الأرمّني صاحب رأس الفتنة أحمد بن أبي دؤاد: ” اسقني دمه يا أمير المؤمنين.”
أجاب الواثق: “القتل يأتي على ما تريد .”
قال أحمد بن أبي دؤاد: ” يا أمير المؤمنين كافر يستتاب لعلّ به عاهة أو تغيّر عقل .”
فقال الواثق: إذا رأيتموني قد قمت إليه فلا يقومنّ أحد معي فإني أحتسب خطاي إليه. ودعا بالصمصامة سيف عمرو بن معد يكرب الزبيدي فأخذ الواثق الصمصامة فمشى إليه وهو في وسط الدار، ودعا بنطع فصير في وسطه وحبل فشد رأسه وضرب عنقه وقطع رأسه. قطع رأس الإمام أحمد وعلق في مكان على جسر بغداد كما علق جسده مدة طويلة قرابة ست سنوات وجمع بين رأسه وجثته بأمر من الخليفة المتوكل على الله، ودفن بالجانب الشرقي من بغداد بالمقبرة المعروفة بالمالكية في جنازة مهيبة حضرها معظم أهل بغداد. وكان اغتياله مثالا لحرب العقول والتضييق على العلماء وعدم قبول الاختلاف السياسي.
الحسين بن منصور الحلاج (858-922م ):
يعتبر الحسين بن منصور الحلاج من أكثر الرجال الذين اختلف في أمرهم وهناك من وافقه الرأي وفسروا مفاهيمه. وهو من أهل البيضاء . نشأ في مدينة واسط التي تبعد ب180 كيلومترا جنوب بغداد في العراق وصحب أبا القاسم الجنيد وغيره.
نشأ الحسين الحلاج في واسط ثم دخل بغداد وتردّد إلى مكة واعتكف بالحرم فترة طويلة وأظهر للناس تجلدًا وتصبرًا على مكاره النفوس من الجوع والتعرض للشمس والبرد على عادة متصوفة الزرادشتيين وكان قد دخلها وتعلم وكان الحلاج في ابتداء أمره فيهِ تعبد وتأله وتصوف.
كان الحلاج يظهر للغوغاء متلونًا لا يثبت على حال، إذ يرونه تارة بزي الفقراء والزهاد وتارة بزي الأغنياء والوزراء وتارة بزي الأجناد والعمال، وقد طاف البلدان ودخل المدن الكبيرة وانتقل من مكان لآخر داعياً على طريقته، فكان لهُ أتباع في الهند وفي خراسان وفي بغداد وفي البصرة وقد اتهمه أعداؤه بأنه كان مخدومًا من الجن والشياطين ولهُ حيل مشهورة في خداع الناس ذكرها ابن الجوزي وغيره، وكانوا يرون أن الحلاج يتلون مع كل طائفة حتى يستميل قلوبهم وهو مع كل قوم على مذهبهم إن كانوا أهل سنة أو شيعة أو معتزلة أو صوفية.
لم يلبث الخلاف أن بدأ ينشب بين الحلاج وبين أعلام الصوفية في عصره فقد كانوا يبيتون أمرهم على كتم مشاعرهم ووجدهم وأفكارهم وأسرارهم وكانوا يؤثرون العزلة على الناس تاركين أمر تدبير الخلق لله. أما هو فقد تملكته نشوة التعبير فجهر بأفكاره ومشاعرة في الأسواق ولعامة الناس.
تملكت الحلاج نزعةٌ إصلاحية حملته على أن يطرح أفكار الصوفية وأن يكثر من التنقل في البلاد يلقى الناس ويسمع منهم ويتحدث إليهم بكلامٍ مفهوم حينًا وغير مفهومٍ في كثيرٍ من الأحيان . ولكنهم افتتنوا به افتتانًا كبيرًا جعل البعض منهم يرفعه عن أن يكون إنسانًا عاديًا إلى حد أنهم عندما قتل لبثوا ينتظرون رجعته زاعمين أن أعداءه لم يقتلوه هو بعينه وإنما شبه لهم.
كان الحلاج ينتقد الأوضاع السائدة في عصره فأوغر ذلك عليه الصدور ودُبرت له المكيدة وحُوكم محاكمةً صوريةً سريعة بتهمة الزندقة والإلحاد وصدر الحكم في شأنه بالإعدام وقُتل بأبشع الصور.
خاطب الحلاج قضاته قائلا : ” ظهري حمي، ودمي حرام، وما يحل لكم أن تتهموني بما يخالف عقيدتي ومذهبي السنة ولي كتب في الوراقين تدل على سنتي فالله الله في دمي” .
دامت محاكمة الحلاج تسع سنوات قضاها في السجن يعظ السجناء ويحرر بعض كتاباته. كما أطلق نظريته في تقديس الأولياء التي اعتبرها خصومه ضربًا من الشرك وبعض أقواله التي حملوها على محمل التجديف.
وفي عام922 أُخرج الحلاج من محبسه وجلد جلدًا شديدًا، ثم صُلب حيًا حتى فاضت روحه إلى بارئها. وفي اليوم التالي قطع رأسه وأحرق جسده ونثر رماده في نهر دجلة وقيل أن بعض تلاميذه احتفظوا برأسه.
ومن المعروف أن القاضي أبو عمر المالكي هو من حكم بقتل الحلاج بعد أن رأى كفره ومروقه وتماديه في الضلال وقد أمر الخليفة بإنفاذ الحكم. وباغتياله أضيف مفكر جديد إلى قائمة ضحايا الفكر .
بعض أفكار الحلاج:
قاد الحلاج منهجًا جديدًا في التصوف يرى أن التصوف جهادٌ في سبيل إحقاق الحق وليس مسلكًا فرديًا بين المتصوف والخالق فقط كما طور النظرة العامة إلى التصوف فجعله جهادًا ضد الظلم والطغيان في النفس والمجتمع ونظرًا لما لتلك الدعوة من تأثير على السلطة السياسية الحاكمة في حينه.
قضى الحلاج فترة من حياته في مكَّة معتزلاً في الحرم المكي حيث عرف الناس عنه أنه إذا جلس لا يغير جلسته أو موقعه في الليل أو في النهار في الحر والبرد كما عُرف بقلة طعامه وزهده في كل شيء وكان له مريدون يتبعونه يحفظون عنه.
كان يصطدم دائما المشايخ المتمسكين بالنقل والنص ومن ابرزهم الجنيد البغدادي الذي لم يكن راضيًا عن فكر الحلَّاج وفلسفته فكان أن قال له ذات مرة : “أي خشبةٍ ستفسدها”، كناية عن خشب الصليب لكن الجنيد مات قبل أن يشهد نبوءته قد تحققت بصلب الحلَّاج.
عرض الحلَّاج للمحاكمة بتهمة الزندقة والكفر حيث جادله الفقهاء والقضاة في آرائه حتى وصل أمره إلى يد الخليفة المقتدر بالله عن طريق وزيره حامد بن العباس فوافق الخليفة على إهدار دمه وصادق على حكم إعدامه فتم إعدامه بطريقةٍ دموية حيث أراد وزير الخليفة أن يجعل منه عبرةً لكل الصوفيين.
لاحق الوزير حامد بن العباس أتباع الحلاج وأصدقاءه فمن لم يعد عن مذهب الحلاج دُقَّ عنقه وقد ذكرت هذه التفاصيل في الكامل لابن أثير وتاريخ مختصر الدول لابن العبري والتنبيه والإشراف للمسعودي والمنتظم لابن الجوزي.
للحلاج قصائد كثيرة أغلبها في العشق الإلهي والتصوف كما للغته مميزاتٌ خاصة تتسق مع لغة الصوفية عند اللاحقين كابن الفارض والجيلاني من حيث التعبير الرقيق وتمجيد الآلام في سبيل العشق الكبير كما عبر في شعره عن فلسفته الوجودية أنَّ الله في كل مكان.
يذكر لويس ماسينون وبول كراوس في أخبار الحلاج :” لما أتى بالحسين بن منصور ليصلب رأى الخشبة والمسامير فضحك كثيرا حتى دمعت عيناه . ثم التفت إلى القوم فرأى الشبلي فيما بينهم فقال له : يا أبا بكر هل معك سجادتك؟ فقال: بلى يا شيخ. قال: افرشها لي . ففرشها فصلى الحسين بن منصور عليها ركعتين وكنت قريبا منه. فقرأ في الأولى فاتحة الكتاب وقوله تعالى : ( لنبلونكم بشيء من الخوف والجوع ) وقرأ في الثانية فاتحة الكتاب وقوله تعالى : ( كل نفس ذائقة) فلما سلم عنها ذكر أشياء لم أحفظها وكان مما حفظته : اللهم إنك المتجلي عن كل جهة المتخلي من كل جهة . بحق قيامك بحقي فإن قيامي بحقك وقيامي بحقك يخالف قيامك بحقي. فإن قيامي بحقك ناسوتية وقيامك بحقي لاهوتية، وكما أن ناسوتيتي مستهلكة في لاهوتيتك غير ممازجة إياها فلاهوتيتك مسؤولة عن ناسوتيتي غير مماسة لها. وبحق قدمك على حدثي وحق حدثي تحت ملابس قدميك أن ترزقني شكر هذه النعمة التي أنعمت علي حيث غيبت أغياري عما كشفت لي من النظر في مكنونات سرك وهؤلاء عبادك قد اجتمعوا لقتلي تعصبا لدينك وتقربا إليك . فاغفر لهم فإنك لو كشفت لهم ما كشفت لي لما فعلوا ما فعلوا ولو سترت عني ما سترت عنهم لما ابتليت بما ابتليت. فلك الحمد فيما تفعل ولك الحمد فيما تريد.. ثم سكت وناجى ربه سرا . ”
كان اغتيال الحلاج خطوة أخرى في حرب العقول عبر التاريخ الإنساني.
وقد كان العلماء المتضرر الأول من شريعة العقل عبر التاريخ وعلى الرغم من أن نداء الله هو الاحتكام للعقل والله وحده من يقرر العقاب والثواب والإيمان بالله هو سوية معرفية يقررها الكائن البشري وبحرية كاملة ، فالله هو القائل: ( وقل الحق من ربكم فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر ) صدق الله العلي العظيم .
الحوار والجدل هما البيئة الفيزيائية الأنسب من أجل مواكبة التطور والتقدم الاجتماعي والجدل والحوار مبارك ومشروع في النص القرآني وهو هيولى الصيرورة للانتقال بالجنس البشري إلى سوية معرفية إنسانية عليا يقول الله في كتابه العزيز 🙁 ولقد صرفنا هذا القرآن للناس من كل مثل وكان الإنسان أكثر جدلا.) صدق الله العلي العظيم .
الجدل والحوار هما من يحول الدفق الحيوي البشري إلى رصيد معرفي إنساني يتعاظم ولا ينتهي.
هذا غيض من فيض ما عرفناه في حرب العقول إذ يصعب على العالم العارف أن يحصيها في سطور قليلة . فما رأيكم ؟



#محمد_عبد_الكريم_يوسف (هاشتاغ)       Mohammad_Abdul-karem_Yousef#          



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- ماذا لو..؟
- الحب هو
- الحصانة السيادية للدول وشرط التنازل عنها في القانون الدولي
- عندما يناديني الحب
- إليك مع حبي
- وزن الكأس
- الإرهاب العابر للحدود
- فكر بالتميز ...
- نهاية البداية للكاتب ري برادبيري
- المفاوضات في الشرق الأوسط خلال مئة عام
- مشروعية استخدام القوة في ميثاق الأمم المتحدة
- تطبيق اتفاقية القضاء على جميع أشكال التمييز ضد المرأة في الق ...
- موزارت عاشقا
- هناك خلف صمتي ...للشاعرة شيري ديركابرشيد
- القانون مثل الحب للشاعر ويستان هوغ اودن
- من دونك للشاعر ادريان هنري
- هذا الليل عند الظهيرة للشاعر أدريان هنري
- الجاسوسية في دائرة الضوء
- قرابين بشرية
- مرحبا! أنا الهندباء البرية


المزيد.....




- ماذا كشف أسلوب تعامل السلطات الأمريكية مع الاحتجاجات الطلابي ...
- لماذا يتخذ الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة إجراءات ضد تيك ...
- الاستخبارات الأمريكية: سكان إفريقيا وأمريكا الجنوبية يدعمون ...
- الكرملين يعلق على تزويد واشنطن كييف سرا بصواريخ -ATACMS-
- أنطونوف يصف الاتهامات الأمريكية لروسيا حول الأسلحة النووية ب ...
- سفن من الفلبين والولايات المتحدة وفرنسا تدخل بحر الصين الجنو ...
- رسالة تدمي القلب من أب سعودي لمدرسة نجله الراحل تثير تفاعلا ...
- ماكرون يدعو للدفاع عن الأفكار الأوروبية -من لشبونة إلى أوديس ...
- الجامعة العربية تشارك لأول مرة في اجتماع المسؤولين الأمنيين ...
- نيبينزيا: نشعر بخيبة أمل لأن واشنطن لم تجد في نفسها القوة لإ ...


المزيد.....

- في يوم العمَّال العالمي! / ادم عربي
- الفصل الثالث: في باطن الأرض من كتاب “الذاكرة المصادرة، محنة ... / ماري سيغارا
- الموجود والمفقود من عوامل الثورة في الربيع العربي / رسلان جادالله عامر
- 7 تشرين الأول وحرب الإبادة الصهيونية على مستعمًرة قطاع غزة / زهير الصباغ
- العراق وإيران: من العصر الإخميني إلى العصر الخميني / حميد الكفائي
- جريدة طريق الثورة، العدد 72، سبتمبر-أكتوبر 2022 / حزب الكادحين
- جريدة طريق الثورة، العدد 73، أفريل-ماي 2023 / حزب الكادحين
- جريدة طريق الثورة، العدد 74، جوان-جويلية 2023 / حزب الكادحين
- جريدة طريق الثورة، العدد 75، أوت-سبتمبر 2023 / حزب الكادحين
- جريدة طريق الثورة، العدد 76، أكتوبر-نوفمبر 2023 / حزب الكادحين


المزيد.....


الصفحة الرئيسية - مواضيع وابحاث سياسية - محمد عبد الكريم يوسف - حرب العقول