أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع - عبدالله محمد ابو شحاتة - الانحطاط والتقدمية كصراع باطني















المزيد.....


الانحطاط والتقدمية كصراع باطني


عبدالله محمد ابو شحاتة

الحوار المتمدن-العدد: 6857 - 2021 / 4 / 2 - 16:31
المحور: الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع
    


إن فكرة وحدة وصراع الأضداد هي أكثر إبداعات ماركس ثورية ، تلك الفكرة المبدعة التي سبق أن طرحها هيروقليطس بشكل أكثر إبهاماً هي التي تلقاها ماركس فطورها وجعل منها أحد أركان فلسفته ، تلك الفكرة التي من خلالها الآن أحاول أن أبني تصوراً عن صراع الانحطاط والتقدمية. فمحاولة تشريح هذا الصراع للكشف من طبيعته الباطنية هي مهمة هذا الطرح ، والتي سأحاول جاهداً كعاشق للوضوح أن أجعل فهما مهمة يسيرة على القارئ .

إن الانحطاط والميل التقهقري المضاد للحضارة ليس إلا صورة لصراع باطني يتمثل في صراع الدافعية الغريزية ضد الإرادة المستنيرة بالمعرفة ، إنه الصراع الذي لا يكون له صدى واضح سوى في الإنسان دون بقية الكائنات، بفعل تطور فسيولوجيا دماغه ، هذا التطور الإدراكي الذي يُمكن الإنسان من المعرفة في صورها المختلفة ( تحليل الماضي ، فهم الحاضر ، واستشراف المستقبل ) ، تلك المعرفة التي مكنت الإنسان من الفهم المتجاوز للإدراك اللحظي الذي يعيش وفقاً له الحيوان ؛ فالحيوان لا يدرك أنه سيموت إلا يحين يموت، كما لا يدرك أنه سيهرم إلا حين يهرم ، أما الإنسان فبمقدوره أن يعلم كل هذا قبل إن يحدث بفضل ملكة المعرفة التي تميزه. وتلك هي مكمن معاناته كما أنها أيضاً في أحيان كثيرة منبع لذته ، وهي كذلك منبع الميتافيزيقيا والفلسفة والعلوم ، إنها تلك الملكة التي مكنت الإنسان من تسيد هذا الكوكب ، وهي أثمن ما وصل إليه التطور البيولوجي بعدما سار الطريق الطويل من الخلية الأولى إلى الإنسان العاقل .

لقد ظلت الحياة على هذا الكوكب تتقدم للأمام منذ نشأتها بفعل التطور البيولوجي الذي يُنمي البنية الفسيولوجية الخارجية لملائمة أكثر مع البيئة ، كما يُنمي الغرائز الأساسية التي تحافظ بدورها على بقاء النوع ( إرادة البقاء ) في صورة غريزة المحافظة على الذات ، غريزة الجنس ، غريزة الأمومة... وغيرها من الغرائز البدائية والتي تُعد في النهاية صورة لقوة دافعة رئيسية وهي إرادة البقاء في الفرد والنوع. لقد ظل التطور البيولوجي يسير في اتجاه واحد وهو اتجاه تطوير غرائز الحياة التي تضمن البقاء للأنواع ، ولكنه كما طور تلك الغرائز فقد طور القوة المضادة لها وهي ملكة المعرفة، والتي تجلت فاعليتها بوضوح في الأنسان حصراً كرأس الشجرة التطورية. وبالرغم من أن ملكة المعرفة العقلية كانت في بادئ الأمر تعمل لصالح إرادة البقاء كسائر أجزاء الكائن الحي، من خلال مساعدته على تجنب الأخطار وتطويع البيئة ؛ إلا أنها في مرحلة ما من تطورها أصبحت ذات سيادة ، إنها السيادة التي مكنتها من منافسة الدافعية الغريزية وإرادة البقاء، وكذلك أصبح للإنسان حصراً القدرة على إنهاء حياته بالانتحار متحرراً من إرادة البقاء في الفرد ، كما أصبح للإنسان حصراً القدرة على تبني اللاإنجابية كتحرر من إرادة البقاء في النوع. وهذا الصراع بين الدافعية الغريزية وملكة المعرفة العقلية قائم منذ أمد بعيد ولكنه في هذا العصر لأصبح أكثر وضوحاً كما سيصبح أيضاً أكثر وضوحاً في المستقبل ، إنه الصراع الأساسي الذي تتفرع منه كل صراعات الإنسانية الاقتصادية والسياسية والثقافية ، هو الصورة الأعم والأشمل لصراع التقدمية والانحطاط ، فالدافعية الغريزية تسعى لكبح جماح ملكة المعرفة وعرقلة تقدم الحضارة ، إنها تسعى لاستعادة الإنسان كخاضع لها ، تحاول جره أكثر نحو أصله الحيواني ، بينما تسعى ملكة المعرفة للفكاك والتحرر الكلي من هيمنة الدافعية الغريزية وإرادة البقاء وبناء إنسان المستقبل .

وكما وضحنا فهذا الصراع بين ملكة المعرفة العقلية والدافعية الغريزية يصبح أكثر تجلياً كلما تطورت القدرات الفيسيولوجية العقلية للكائن. فلو راقبنا سلوكيات الكائنات الدنيا في شجرة التطور فلن نجد سوى فعل الدافعية الغريزية ، حتى أن سلوكياتها لتبدو آلية الشكل. ولكن مع الثديات العليا نجد بوادر لملكة المعرفة ، بوادر لقوة ما مضادة للدافعية الغريزية ، ثم يأتي فيما بعد الإنسان فيتبدى فيه هذا الصراع بشكل جلي ، ورغم هذا فإن قوة هذا الصراع لتتفاوت بشكل كبير بين درجات عديدة من البشر ، فإنسان القطيع الذي لم يعتاد النظر أو التفكير فيما يتعدى تحصيل قوت يومه سيكون أقرب إلى الحيوان من حيثُ سيطرة الدافعية الغريزية ؛ فملكة المعرفة لديه تكون في أدنى صورها ، وعلى النقيض نجد الإنسان المتفرد الذي يمتلك نظره أكثر شمولاً، حيث تكون ملكة المعرفة لديه حاضرة بقوة في مواجهة الدافعية الغريزية، ومن ضمن تلك الفئة نجد الأدباء والفنانين والمفكرين كما نجد أيضاً العبثيين والعدميين واللاأنجابيين، تلك الفئات التي قد تسخر منها القطعان أو لربما تُناصبها العداء في أحيان كثيرة. فالقطيع في مقابل التفرد ليس إلا الدافعية الغريزية في مقابل ملكة المعرفة العقلية، فالتناسل بلا حساب كتجلي للدافعية الغريزية في القطيع يقابله الإنجاب المخطط له أو اللاإنجابية كتجلي لملكة المعرفة في الإنسان المُتفرد ، كما أن الطاعة العمياء كتجلي للدافعية الغريزية للقطيع تُقابلها الحرية كتجلي لملكة المعرفة في الإنسان المُتفرد ، و الرغبة في السيطرة وحب التملك وتكديس الثروات كتجلي للدافعية الغريزية في القطيع تقابلها الرغبة في المساواة والاشتراكية كتجلي لملكة المعرفة في الإنسان المُتفرد ، وعلى هذا المنوال يكون تناقض أخلاق القطيع والمُتفرد صورة لتناقض الدافعية الغريزية وملكة المعرفة .
وهذا الصراع بين ملكة المعرفة والدافعية الغريزية للبقاء ليتم أحياناً بشكل غير مباشر ، فمثلاً تجعل الدافعية الغريزية الجنس ممتعاً تحفيزاً للإنجاب وبالتالي بقاء النوع ، ولكن ملكة المعرفة مكنت الأنسان من جعل الجنس ممكناً بدون إنجاب وبالتالي فقد أفسدت عمل الدافعية الغريزية بصورة غير مباشرة ، وتتجلى مقاومة الدافعية الغريزية لهذه المسألة في لامبالاة الطبقات الدنيا أو حتى التحريم الميتافيزيقي لوسائل منع الحمل.

كما يحدث ذات التأثير من خلال العلم الذي يوسع مدارك الأنسان ويغير نظرته لوجوده، وهو التغيير الذي يُنتج حتماً مقاومة غير محسوسة للغرائز .

(( وفي المجمل يمكننا أن نقول دون تجاوز أن الصراع بين ملكة المعرفة والدافعية الغريزية، هو المُحرك الأساسي للتاريخ الإنساني، ويمكننا رد جميع الصراعات الأخرى له. فعلى سبيل المثال: إن حركة تعاقب الأنظمة الاقتصادية التي قدمها لنا ماركس، تكون صورة لهذا الصراع ؛ فتطور قوى الإنتاج يكون بقوة ملكة المعرفة ، ومحاولة عرقلتها من الطبقات المسيطرة هو فعل الدافعية الغريزية متمثلة في غريزة التملك وحب الذات ، ولحتمية تطور العقل المستمرة فإن تطور قوى الإنتاج يستمر وبالتالي سقوط الأنظمة الاقتصادية القديمة يستمر ، ويتحرر الإنسان بتطوره العقلي وملكة المعرفة أكثر فأكثر من صور إرادة البقاء الدنيا كغريزة التملك ، وبالتالي نتجه إلى مجتمع اكثر مساواة وانسجاما)).



((الدافعية الغريزية والميتافيزيقا))

(٢)

لم تكن الميتافيزيقيا سوى ردة فعل طبيعية للدافعية الغريزية في الأنسان ، ردة الفعل على ما كشفته ملكة المعرفة من فهم لطبيعة الحياة والفناء. فلم تكن الميتافيزيقيا سوى حيله دفاعية غريزية للإخضاع ملكة المعرفة وتضليلها؛ فما أن كشفت ملكة المعرفة للإنسان عن مصيره المحتم بالفناء، حتى واجهت الدافعية الغريزية تلك المعرفة بواسطة الميتافيزيقيا لكي تجعل من الأنسان خالداً مرة أخرى، أو على الأقل تدفعه للنظر نحو مصير آخر مشكوك فيه. و قد ساهمة ملكة المعرفة أيضاً في بناء تلك التصورات الميتافيزيقية بتطويرها لخيال إنساني خّلاق وظفته الدافعية الغريزية لصالحها، إنه الخيال الذي أنتج لنا آلاف التصورات عن عوالم أخرى لا نراها ولا نشعر بها، تصورات أفنى ملايين البشر أعمارهم في سبيلها، على غرار ذاك الراهب الهندي الذي قد يعيش حياته بأكملها ساعياً نحو الكارما، أو الأفلاطونية التي كانت ولا تزال النبع الذي تستقي منه كافة التصورات الميتافيزيقية في عصرنا الحاضر مبادئها.
لهذا فإن الميتافيزيقيا ليست سوى تجلي للدافعية الغريزية في صورة معرفية مجردة، فقواعد الميتافيزيقيات على اختلافها تتسم دائماً بالرجعية والعمل على رد الأنسان لأصله الحيواني الغريزي؛ مثال ( تشجيع الغزارة الإنجابية، خلق القطعان، محاربة العلم....) كلها أشياء مشتركة بين جميع الميتافيزيقيات على اختلافها، والواقع التاريخي يخبرنا كذلك بغياب أي دور تقدمي للميتافيزيقيا منذ قرون عديدة، بل إنها لتلعب دائماً دوراً معارضاً لأي تغيير تقدمي حضاري، فقد عارضت الكنيسة الكاثوليكية على سبيل المثال إلغاء العبودية قديماً وهو ذات الموقف الذي تبناه علماء الأزهر في عهد الخديوية. كما عارضت الكنائس في الغرب خلال بدايات القرن الماضي كافة التطورات الاجتماعية، على غرار وسائل منع الحمل وتحديد النسل وكذلك تدريس الثقافة الجنسية للطلاب، وهي الأمور التي خاض لأجلها راسل حرباً مريره في بريطانيا و أمريكا. أما فيما يخص محاربة الكنيسة ورجال الدين للعلوم قديماً وحديثاً فإنه لأمر معلوم لدى القاصي والداني. فالميتافيزيقيات ليست سوى الحيلة التي تواجه بها غرائز الإنسان الدنيا تيار المعرفة المُهدد لثباته واستقراره الداخلي، وإبقائه في حالة الطفولة الفكرية.
(٣)

وبالرغم من قوة الميتافيزيقيا قديماً والتي كانت تهيمن بشكل شبه كامل على ملكة المعرفة لدى الأنسان، وهي الهيمنة التي جعلت فيما مضى جميع الظواهر تقريباً تُفسر ميتافيزيقياً. ولم تكن فلسفة الطبيعيين اليونانيين كطاليس وأنكسماندريس سوى فاصل عقلاني عابر وسط سيطرة الميتافيزيقيا الكاملة على الفكر، تلك السيطرة التي لم يكن لها أي منافس تقريباً حتى جاءت الأبيقورية لتقوم بتلك المهمة كأول فلسفة عقلانية واقعية ذات قوة وتأثير، وهو التأثير الذي سرعان ما قضت عليه المسيحية في العصور الوسطى لصالح الأفلاطونية والأرسطية. ولكن بالرغم من تلك الهيمنة الميتافيزيقية الممتدة، ظلت ملكة المعرفة ماضية في التحرر من الميتافيزيقيا مع مرور الوقت. إنها حقيقة لا تخطئها العين ، والتي تجلت بوضوح خلال عصر النهضة الأوربي في فلسفة هيوم ولوك الحسية والفلسفة التجريبية لدى بيكون، بل وحتى المثالية الألمانية لدى كانت وهيجل، ثم يأتي التجلي الكبير لنفي الميتافيزيقيا لدى نيتشة وماركس بالرغم من اختلافهما في تقرير البدائل. هذا بالطبع بجانب التأثير الجوهري لداروين والذي امتد ليشمل العلم الطبيعي والفلسفة على حداً سواء. وكنتيجة لتلك المتغيرات المتوالية تم إقصاء الميتافيزيقيا من السياسة والتشريع في غالبية بلدان العالم الغربي خلال النصف الأخير من القرن الماضي، هذا الأقصاء الذي تنعم تلك المجتمعات بمكاسبه الأن.
ومن كل تلك الشواهد يتضح لنا كيف تعمل ملكة المعرفة على نفي الميتافيزيقيا أكثر فأكثر مع مرور الوقت، حتى أن الإقصاء شبه التام لم يعد بعيد المنال كما كان في الماضي. وفي الحقيقة إن التدليل على نفي ملكة المعرفة للميتافيزيقيا ليتجاوز مجرد السرد التاريخي إلى مرحلة الاستنتاج البديهي؛ فبما أن تطور ملكة المعرفة مستمراً بتطور البنية الفيسيولوجية للدماغ البشري فالأمر سيقود حتماً في آخر المطاف إلى نفي الميتافيزيقيا كما قاد الإنسان من قبل لتجاوز الانطباعات اللحظية نحو إدراك معرفي شامل لماضيه ومستقبله. وكما كان تجاوز المعرفة اللحظية انتصاراً لملكة المعرفة على الدافعية الغريزية التي فقدت السيطرة الآلية على الإنسان، فإن نفي الميتافيزيقيا وعزلها عن الواقع سيكون بمثابة ضربه أخرى للدافعية الغريزية لا تقل قوة عن الأولى. فكما ارتقى الإنسان بفضل تجاوزه للإدراك اللحظي من مرتبة الحيوانية لمرتبة الإنسانية، فإنه سيتجاوز بتحرره من الميتافيزيقيا مرتبة الإنسانية إلى ما هو أبعد منها.

(٤)

إن الميتافيزيقيا ليست سوى صوت الدافعية الغريزية المطالب بحقه في رد الإنسان لأصله كحيوان بدائي، فذاك الصوت للغريزية الحيوانية متمثل في الميتافيزيقيات بشكل جلي لا تخطئهُ العين، مثال : طاعة القوي ( الحاكم )، الرغبة في السيطرة والتملك وبسط النفوذ على الإناث، الإنجاب بغزارة، القبَلية واكتساب الفرد قيمته من خلال القطيع المنتمي إليه، كل تلك الأمور التي نراها حاضرة بقوة في القواعد والعادات والتقاليد ذات الأساس الميتافيزيقيا هي أيضاً كما لو لاحظنا ليست سوى غرائز دنيا موجودة في الحيوان. فالحيوان يُطيع القوي ولا يرى للاستقلالية قيمة طالما أنها ستعرضه للخطر، كما أنه كذلك يبسُط نفوذه على إناثه و ينجب صغاراً في كل موسم للتزاوج. ولهذا فإن الميتافيزيقيا لا ترتع سوى في مجتمعات ما دون الإنسان، المجتمعات التي لا تزال تحتفظ الدافعية الغريزية فيها بالسيادة على ملكة المعرفة ، وعلى العكس من مجتمعات " الإنسان المتحضر" حيث تنحصر الميتافيزيقيا وتظهر الفاعلية الواضحة لملكة المعرفة، فتحل الواقعية والعلم محل الميتافيزيقيا في الأخلاق والتشريع والقانون والفن والأدب وكافة جوانب الحياة، وهو ما سيظهر بوضوح أكثر في مجتمعات ( ما بعد الإنسان ) والتي لن تجد فيها الميتافيزيقيا موطئ قدم.

(٥)

و إحدى الخدع الكبرى التي تقوم بها الميتافيزيقيا وهي أكثر خدعها وقاحة هي تصوير الميتافيزيقيا لنفسها كمُحِاربة للغرائز، إنها ذات الخدعة التي يقوم بها الكاذب حين يحاول أن يُشدد في حديثه دائماً على كونه صادقاً، أو السارق حين يُشدد كثيراً على أنه أميناً؛ كذلك فإن الميتافيزيقيا التي ليست سوى صورة مجردة للدافعية الغريزية تحاول دائماً أن تظهر وكأنها مضادة للغريزة. ولكنها في واقع الأمر حتى حين تُحاول تمثيل دور احتقار الغرائز ظاهرياً وتدعي التعالي عليها كما تفعل الأفلاطونية، و تحاول أن تحد من درجة إشباعها فإنها بذلك تؤدي مهمتها على الوجه الأكمل في تدعيم قوة الغرائز، فالإشباع الكامل للغريزة يعني موتها ، أما الرغبة المستمرة والتي لا تُشبع على النحو الأمثل تجعل من الإنسان عبداً دائماً لغرائزه الدنيا، وهذا بالضبط ما تفعله الميتافيزيقيا وتلك هي غايتها. إنها تلعن اللذة الغريزية لكي تجعل منك عبداً للغريزة لا سيداً عليها، فهي من ناحية تجعلك لا تنفك عن الإلحاح الغريزي أبداً ومن ناحية أخرى تجعلك تُفارق الواقع المؤلم لصالح الميتافيزيقيا السعيدة، فتلجأ لعالم المُثل والحب الافلاطوني، وبهذا تُحافظ الميتافيزيقيا على حضورها دائماً. ولقد أدرك أبيقور تلك الخدعة الكبرى للميتافيزيقيا حين قال بضرورة إشباع الغرائز الأساسية كالطعام والجنس حتى يستطيع الأنسان أن يتجاوزها و يحقق الحرية والسلام والسكينة العقلية، أي أننا بحاجة لإشباع اللذة الجسدية أولاً لكي نستطيع أن نُشبع اللذة العقلية، وهكذا تضرب مطرقة الأبيقورية الميتافيزيقيا مرة أخرى في أكثر أسرارها خِفية، وتُبين تهافت الأفلاطونية والميتافيزيقيا الهندية التي تحدثنا عن الخلاص عن طريق الرهبنة وكبت الغرائز. لقد كانت الأبيقورية على إدراك تام بتلك الخدعة الميتافيزيقية التي تُحاول أن تُكسب الغرائز حضورا طاغياً بواسطة عدم الإشباع الكامل لها، ولهذا فقد شددت على ضرورة إشباع الغرائز الدنيا كخير وسيلة للتحرر منها. هذا التأكيد الذي تلقفهُ كهنة المسيحية في العصور الوسطى ليصوروا به الأبيقورية كدعوة للغوص في الغرائز بلا حساب، وهو بالطبع ما يتناقض تماماً مع تعاليم أبيقور الذي شدد على الاعتدال في كل شيء.



((مئال الصراع))
(٦)

إن الصراع الباطني بين الدافعية الغريزية وملكة المعرفة محسوماً حتماً لصالح ملكة المعرفة، تلك الحتمية التي يوجبها الاتجاه الأوحد لسير التاريخ، هذا الاتجاه الذي يوجب بالضرورة اضمحلال الدافعية الغريزية بفاعلية تطور العلم المستمر وتكشُف الحقائق الواقعية والتي تُنير الطريق أمام ملكة المعرفة لكي تمضي في نفي أخر حصون الدافعية الغريزية " الميتافيزيقيا " . هذا النفي الذي سينتج عنه إنسان المستقبل، إنسان التفرد، حيث سيكون التفرد هو القاعدة والتبعية هي الاستثناء، إنسان المستقبل الذي لا يعرف الطبقات الإجتماعية، الإنسان الذي سيتجاوز العدالة والمساواة، حيث تصبح أموراً بديهية فلا تلفت النظر ولا يُفهم لها معنى. كما سيتجاوز الصدقة والإحسان بتجاوزه للفقر والطبقية، وسينظر عبر التاريخ فيرانا نحن أرباب الرأسمالية كما نرى نحن الأن مُلاك العبيد في حقول القصب الأميركية، ينظر عبر التاريخ فيرانا منحطين وبدائيين، يرانا كحيوانات منقرضة ربما تُثير حماقتها التعجب قبل الاستهجان.
ذاك الإنسان الذي لن يعرف للطاعة معنى، أن يسير إنساناً وفقاً لرؤية إنسان آخر! هذا لن يفهمه إنسان المستقبل، و لن تُشكل له الأخلاق والقانون ذات الأهمية التي تشكلها لنا اليوم، فالالتزام الأخلاقي والقانوني سيكون هو الطبيعي، وأي انحراف سيُنظر له عن أنه مرض يستوجب العلاج.
ولن يتعاطى إنسان المستقبل مع الانتحار كجريمة أو مأساة، بل سيراه فعل إرادة صحية، سيراه كما رأته من قبل واقعية الرواقية. وكما فعل الحكيم الرواقي سيضع إنسان المستقبل المتحرر من الدافعية الغريزية زجاجة السم بين رفوف مكتبته استعداداً لتجرعها في الوقت الذي يرى فيه أن هذا هو خياره الأمثل. كما لن يعرف إنسان المستقبل انتحار الصدمة والضعف، تلك الصور المنحطة من الانتحار التي نعرفها بكثرة اليوم، بل لن يعرف سوى انتحار الإرادة القوية الذي سيكون بمثابة تذكرة تقاعد هادئة، حتى إنه لربما ينتحر مبتسماً.

(٧)

"كلما ارتقى الإنسان قل نسله" تلك الحقيقة البسيطة التي لاحظها سبنسر، وهي الحقيقة التي تدلنا على ما يصاحب قوة ملكة المعرفة من ضعف الدافعية الغريزية متمثلة في كثرة التناسل. فالمتفرد حتماً نسله أقل من القطيع، وهكذا فإن إنسان المستقبل سيقل نسله أكثر، بل إنه سيتبنى في أحيان كثيرة للاإنجابية، لا لعلل أخلاقية كلاإنجابيي هذا العصر، بل لغياب الدافع الغريزي، لشعوره بفقدان الحافز وسخافة الفعل. حيث لن يحتاج حينها موقف اللاإنجابية للتبرير، بل لعل الإنجابية هي من ستحتاج وقتها للتبرير. هكذا سيتحرر الإنسان من إرادة البقاء في النوع بفعل تطوره العقلي وملكة معرفته المستنيرة،
فلا شك أن إنسان المستقبل سيفقد الدوافع بتنحي الغرائز، ففقدان الدافع هذا سيكون رداً طبيعياً على لامعنى الحياة وعبثتيها، والتي ستتكشف بعد تنحي الميتافيزيقيا، ولعل نيتشه قد أدرك ببصيرة نافذة تلك الحقيقة، فحاول خلق فلسفة تحل محل الميتافيزيقيا في تمثيل الدافعية الغريزية وبالتالي خلق الدافع مرة أخرى. ( إرادة القوة" بديلاً عن إرادة البقاء ) تلك المحاولة الفاشلة من نيتشة. فإنسان المستقل لن يكون بأي حال إنسان الإرادة النيتشاوية، بل سيكون إنسان غياب الرغبة، إنسان اللذة
الفنية والتأملية هي متعته الوحيدة. إن البشرية ستتحول حتماً إلى نادي اجتماعي يُقدم لأعضائه عروضاً ترفيهية شيقة، لذة جسدية وفنية وتأمل وجدال ودي تحت ضوء القمر، ثم لابد أن يقرر أعضائها في وقتاً ما الانسحاب سأماً، خاصة مع التقدم الطبي الذي سيطيل أعمار البشر أكثر، فيكون الشعور العدمي والانتحار أمراً وارداً بشدة.
إنه مجتمع المساواة، مجتمع أشبه بموت حراري اجتماعي، ذاك المصير الذي ارتعب منه نيتشه، أما أنا فلا أرى فيه سوى نهاية طبيعية، بل ونتيجة حتمية لانتصار ملكة المعرفة المحتم.

(٨)

أن يعيش البشر دون دوافع ثم لعلهم يسقطون في براثن العدمية فينهون حياتهم بالانتحار أو ينهون على حياة النوع باللاإنجابية، يمكنك أن ترى في هذا مصيراً مُفجعاً، ولكني لا أراه كذلك. فالقيم الوهمية والميتافيزيقا في وقعها لا تجعل حياتك أفضل أو تجنبك الألم، بل هي مجرد خدعة تجعلك تحتمل الألم وأنت راضي، بل إنها هي نفسها تُزيد من ألمك، أما العبثية كواقعية تجعل منك متعايشاً مع الألم دون آمال زائفة، متعايشاً معه كمستهزئ. إن شوبينهاور وكامو قد علما كيف يتعالون على الآلام، فعليك أن تتجاوز الطفولة الحضارية و تواجه آلامك ولا تهرب منها، فالتعترف بعبثية الحياة ولتُلقي القيمة الوحيدة في هذا الاعتراف الذي سيمكنك من العيش متعالياً على الآلام. إن هذا المصير ليس مفجعاً أبداً ولا تدعهم يُقنعك بذلك.

وإن كنت لا تزال ترى هذا المصير مُفجعاً ومشؤوماً فلتنظر معي الأن وترى المصير الآخر : أن تسيطر على الإنسان الميتافيزيقيا و يسقط أسيراً للدافعية الغريزية، مما يعني؛ صراع على الموارد، حروب ونزاعات على السلطة وبسط النفوذ، أمراض و أوبئة، فقر ومجاعات، إنجاب بلا حساب لحيوات جديدة تُلقى في المعاناة من المهد، فاشي يخلق القطعان ويُمسك بالعصى، رجال دين يُقنعون الفقراء بأن الفقر إحدى النعم وأن الطبقية قانون كوني، وأن الحرية دنيئة والانقياد فضيلة. الخوف في كل مكان ومن كل شيء: خوف من الآباء، خوف من الحكام، خوف من الحوائط فربما يكون لها أذان، الانتحار جبن وجريمة ودنيئة، فعليك أن تظل تُعاني وأنت راضي وستنول ثوابك ولكن بعد الموت. القطيع يفرض إرادته، والمتفرد ينعزل في غرفته، ينحط الفن ويموت الإبداع ويخبو العلم، تنبعث الروائح الكريهة من كل مكان، سواء من الشوارع القذرة أو النفوس العفنة الجاهلة ، تَفسد الأخلاق والقوانين بالميتافيزيقيا، ويصبح الإنسان حيوان لا يُحسن الفعل إلا خوفاً من العصى. تُحتقر اللذة فيستشري الكبت ويعبد القطيع شهواته، وتستشري الأمراض الإجتماعية كالفضيلة الشكلية وفضائل القطيع، والحب الأفلاطوني. تُصبح الديمقراطية شكلية، و الإنسان لن يهتم سوى بتحصيل قوت يومه في ظل طبقية لا تُلقي له سوى بالفُتات، وهكذا ينعدم وقت الفراغ ويغيب الفكر ويتحول الإنسان إلى مجرد آلة إنتاجية بعد أن فقد قد وقت الفراغ والاستقلالية والرأي، بل والتفكير، وهكذا تغيب ملكة المعرفة وتستبد الدافعية الغريزية.

فحتى لو اعتبرنا انتهاء الإنسان لحالة فقدان القيمة والمساواة والحياد العدمي هي بمثابة حالة تحلل للحضارة ، فإني لا أزال أراها نتيجة حتمية سيصل لها الإنسان يوماً ما، ولا داعي لمحاولة تأجيلها بالميتافيزيقيا التي ستقودنا نحو مصائر أسوء. بل إني في الواقع لا أرى أي إشكال في هذا الانحلال المحتمل، أن يدرك الإنسان انعدام القيمة لهو خير وسيلة لمواجهة الألم، بجعله الآلام نفسها غير ذات قيمة. وبالتالي التعالي عليها، وهكذا فإني لأرى أبطال ألبير كامو أفضل حالاً حتماً من أبطال فيكتور هوجو، كما إن الحكيم الرواقي الذي يحتفظ بزجاجة السم ليتجرعها مرة، لأفضل حالاً من الذي تستحيل عليه الحياة ثم هو يمضي فيها متجرعاً السم ألف مرة.
إن إنسانية المستقبل لهي جنة حقيقية إذا ما قارناها بإنسانية اليوم، أن يتعالى الإنسان على كل شيء بما في ذلك معاناته، أن يطلب اللذة لذاتها دون إفراط أو تفريط؛ في الجمال، في الجنس الخالي من تابعات الإنجاب، في الفن، في التأمل. ويستمتع بالهدوء والسكينة في غياب الإرادة الغريزية ومحدودية الرغبات. لقد أخبرنا الأبيقوريين والرواقيين كيف أن رغباتنا هي مصدر معاناتنا؛ إنها سلسلة لا تنتهي من الرغبة والإشباع ثم الرغبة من جديد، تُلح علينا الدافعية الغريزية برغبات يؤلمنا عجزنا عنها، ولكنها سرعان ما ستخبو إذا أشبعناها لتحل محلها رغبات أخرى تؤلمنا؛ وهكذا إلى ما لا نهاية، ولذلك يحدثنا الرواقي والأبيقوري عن غياب الدافع والرغبة كأفضل طريق للسكينة، وليس غياب الدوافع والرغبات بكبتها كما تفعل الرهبنة الهندية، بل بترويض الدوافع والرغبات واكتساب القدرة على توجيهها أينما نريد، بدلاً من أن توجهنا هي حيث تريد. أن نسيطر نحن على الدافعية الغريزية بدلاً من أن تسيطر هي علينا، وهكذا فقط نعيش أحراراً.

يمكنك رغم ذلك أن ترى في فقدان القيمة وشعور اللاجدوى انحلالاً؛ ولكن ليس كل انحلالا ضاراً، ولا يمكننا أن نعتبر كل انحلال انحطاطاً، بل أحياناً تكون مقاومة الانحلال هي الانحطاط، وهكذا فلا أرى في عدمية إنسان المستقبل وحياده وقلة نسله سوى تقدمية، بل إني لأستغرب ذاك الذي يراها مصيراً مرعباً أو غير مرغوب فيه، بينما يرى الدافعية الغريزية واستبدادها بالإنسان من خلال الميتافيزيقيا مصيراً مرغوباً. و لننظر دائماً للأمام، ولا نخشى أبدأ من مصائرنا المستقبلية. علينا أن نتقبل تبعات غياب الميتافيزيقيا بشجاعة، مدركين أنها نتائج حتمية، علينا أن نتقبل الحقائق ونعود للواقع مهما كان مؤلماً، موقنين أن ألم الوهم سيكون أثقل وأشد.



#عبدالله_محمد_ابو_شحاتة (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- ضد نيتشه
- العدمي المنحط
- الإباحية الحلال
- لتتحرر الأخلاق كما تحرر العلم
- انحطاط الأخلاق العربية
- انحطاط الفن
- هل يريد العرب التقدم للأمام ؟
- نيتشه الجينالوجي
- التفكير الزائف لدى القطعان
- سيكولوجية العبيد
- إهانة المواطن العربي
- اللاأدرية لماذا ؟
- حوار مع صاحب رسالة الغفران
- حتمية اللاإنجابية
- الأسلام دين ودولة
- طاعة المؤمن
- هل يمكننا القضاء على الجوع ؟
- مصطلحات الحداثة في خطاب جماعات الرجعية
- المجتمع وحق التملك
- اليهود بيننا


المزيد.....




- بآلاف الدولارات.. شاهد لصوصًا يقتحمون متجرًا ويسرقون دراجات ...
- الكشف عن صورة معدلة للملكة البريطانية الراحلة مع أحفادها.. م ...
- -أكسيوس-: أطراف مفاوضات هدنة غزة عرضوا بعض التنازلات
- عاصفة رعدية قوية تضرب محافظة المثنى في العراق (فيديو)
- هل للعلكة الخالية من السكر فوائد؟
- لحظات مرعبة.. تمساح يقبض بفكيه على خبير زواحف في جنوب إفريقي ...
- اشتيه: لا نقبل أي وجود أجنبي على أرض غزة
- ماسك يكشف عن مخدّر يتعاطاه لـ-تعزيز الصحة العقلية والتخلص من ...
- Lenovo تطلق حاسبا مميزا للمصممين ومحبي الألعاب الإلكترونية
- -غلوبال تايمز-: تهنئة شي لبوتين تؤكد ثقة الصين بروسيا ونهجها ...


المزيد.....

- فيلسوف من الرعيل الأول للمذهب الإنساني لفظه تاريخ الفلسفة ال ... / إدريس ولد القابلة
- المجتمع الإنساني بين مفهومي الحضارة والمدنيّة عند موريس جنزب ... / حسام الدين فياض
- القهر الاجتماعي عند حسن حنفي؛ قراءة في الوضع الراهن للواقع ا ... / حسام الدين فياض
- فلسفة الدين والأسئلة الكبرى، روبرت نيفيل / محمد عبد الكريم يوسف
- يوميات على هامش الحلم / عماد زولي
- نقض هيجل / هيبت بافي حلبجة
- العدالة الجنائية للأحداث الجانحين؛ الخريطة البنيوية للأطفال ... / بلال عوض سلامة
- المسار الكرونولوجي لمشكلة المعرفة عبر مجرى تاريخ الفكر الفلس ... / حبطيش وعلي
- الإنسان في النظرية الماركسية. لوسيان سيف 1974 / فصل تمفصل عل ... / سعيد العليمى
- أهمية العلوم الاجتماعية في وقتنا الحاضر- البحث في علم الاجتم ... / سعيد زيوش


المزيد.....

الصفحة الرئيسية - الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع - عبدالله محمد ابو شحاتة - الانحطاط والتقدمية كصراع باطني