أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - دلور ميقري - كما رواه شاهد عيان: الباب الثامن















المزيد.....



كما رواه شاهد عيان: الباب الثامن


دلور ميقري

الحوار المتمدن-العدد: 6854 - 2021 / 3 / 30 - 19:12
المحور: الادب والفن
    


1
بسبب امتداد سهرة الأمس إلى ساعة متأخرة ليلاً، على غير العادة منذ فترة طويلة، فإنني بقيتُ في عالم الحلم إلى قرابة الظهيرة. لم توقظني الشمسُ، على مألوف العادة، وإنما أصواتُ طلقاتٍ نارية. بقيت الأصواتُ تصدى في أذنى، وأنا بين اليقظة والمنام، لحين أن وعيتُ تماماً على نفسي. كون الخادم لم يُهرع للفور إليّ، بدافع الفضول والخوف، قدّرتُ أنه بكّر بالذهاب إلى السوق كي يشتري حاجيات المطبخ. غبّ دخولي الحمّام للاغتسال، تناهى لسمعي حضوره ومن ثم مخاطبته إياي من خلف الباب: " الثورة اشتعلت في المدينة، يا سيّدي، والأهالي يشرعون الآنَ بالانتقام من أعوان الجزّار الباغي ".
استعجلتُ تناولَ الفطور، بغيَة التوجه إلى السوق لمعاينة الوضع على الأرض. هذا، مع أن خادمي حذرني من مغبّة الخروج، قائلاً أن معظم المحلات أغلقت تحسّباً من انتقال القتال إلى الأسواق وأعمال السلب والنهب. لكنني سرعان ما أضحيتُ خارجَ المنزل، وكان الطقسُ جميلاً في مثل هذا اليوم الخريفيّ المبكر. قادتني أقدامي إلى المقهى، وكان لحُسن الحظ مفتوحاً ولو أن الروادَ قلائلُ. جلست إلى طاولة قريبة من المدخل، أنصت لشتى التعليقات سواء من الروّاد أو المارّة. اسمٌ واحد، تردد على ألسنة الجميع؛ وهوَ " اللاوند "؛ ما كان يعني أن غضبة الأهالي منصبّة على هذه القوات؛ كونها أذاقتهم الويلات حينَ كان قائدها متسلّماً على المدينة إلى يوم أمس.
فيما أسحبُ أنفاساً من الناركيلة، مستمتعاً بأول أيام الحرية، فكّرتُ بالحبيبة وأنها بأمان، ولا غرو، بسبب إعتبار رجلها من أبرز شهداء عهد الجزّار. لم أترك مكاني في المقهى، سوى مع ارتجاج الأرض بدويّ قصف المدفعية، وكان صادراً عن القلعة كما رجّح بعضُ الرجال من حولي. كوني في الآونة الأخيرة أعتدتُ على إعلان حضوري في دار الحبيبة في أي وقتٍ شئتُ، رأيتني في الطريق إليه كي أبقى بجانبها في هذا الوقت العصيب. مع اشتداد القصف، لحظتُ الناسَ يقفون على أسطح دورهم وبعضهم كان يشير إلى أماكن معينة ربما لحقها الحريقُ.
هتفتُ وأنا أطوق كَوليزار، حالما انفردنا معاً في حجرة نومها: " إنه يوم رائع، برغم كل شيء. وإنني في لهفةٍ لعقد قراننا حالاً، ومستعدٌ في سبيل ذلك للتصنّع بديانتي ". كنتُ ثملاً بحًسنها المبهر، بعبق جسدها الياسمينيّ، أتكلم بصدق ودون أيّ تكلّف. ردة فعلها على عرضي، كان الاغراق بالضحك بسعادة وليسَ بدافع السخرية. شدّتني إلى سريرها، المركون بإزاء النافذة الوحيدة؛ ثمة، أين أبصرتها لأول مرة من موقفي في الزقاق وكانت تخيط قطعة نسيج بين يديها فيما هيَ تلقي نظراتٍ مختلسة على الخارج. لقد مضت قرابة ثلاثة أعوام على ذلك اليوم، الذي كان فاتحة قصة عشق أغرب من الخيال. وكان ثمرةَ عشقنا طفلٌ بهيّ، صارَ يناديني بصفة الأب عندما تعلّم أولى الكلمات.
عقبَ فراغنا من ممارسة الحب، وكان صوتُ القصف قد هدأ لحدّ كبير، بقيت كّوليزار بين الأغطية كوردة بين أوراقها، وكانت تتأملني في شغف. كنتُ إذاك مثبتاً بصري في السقف، المرقّش بفنون الزخرفة والنقوش، سعيداً بشعور الحرية أكثر من أيّ وقت مضى. داعبتني بوضع يدها على عينيّ، فقبلتُ أناملها وأنا أخاطبها: " حبيبتي، ما أجملك في يوم الحرية هذا "
" قل لي، أكنتُ جاداً حينَ عرضتَ قبل قليل أن تترك ديانتك من أجلي؟ "
" كل الجدّ، يا جميلتي "، قلتها ثم استدركتُ متسائلاً: " هل يحتاج ذلك لإجراءات عديدة، منها الختان؟ ". عند ذلك انفجرت بالضحك، قبل أن توضّح بنبرة جدية: " لا، الختان يأتي فيما بعد وهوَ سنّة وليسَ فرضاً. سنُحضر أولاً شيخاً، تردد أمامه الشهادتين ثم يكتب كتابنا على الأثر "
" وكيفَ ينطق المرءُ الشهادتين؟ "
" أشهد أن لا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله "
" هذا سهلٌ جداً! وماذا يشترط الشيخُ لإتمام زواجنا؟ "
" الشرط الأساس هوَ رضى المرأة، ثم يسأل وكيلها عما لو تم الاتفاق على المهر. بعد ذلك تضع يدك بيد الوكيل، لقراءة الفاتحة، ومن ثم يبارك الشيخ الزواج بحضور شاهدين ".
قلتُ متحمساً: " إذاً لنستعد لإجراءات الزواج منذ الآن، وأرغب أن يكون شاهدي هوَ السيّد خليل، الذي سبقَ أن كلمتكِ عنه أكثر من مرة ".
مساءَ، وكان الهدوءُ قد عاد إلى المدينة، أخذتُ عربةً مشدودة بالخيل إلى حي الصالحية. السيّد خليل، كان فيما مضى قد وصفَ لي موقع منزله، لكنني إحتياطاً أخذتُ معي خادمي. هذا الأخير، سبقَ أن ذهبَ إلى المنزل بطلبٍ مني لشأن من الشئون. مرات عدة، كان صديقي المسلم قد دعاني إلى داره وكنتُ أعده بالمجيء في وقتٍ مناسب. كنتُ على علم بأنه يقيم مع أبويه وأخوته تحت سقف واحد، ولم أرغب بإحراجه. نفس الشيء، كان الأمر مع صديقنا غابي، المقيم في الحي المسيحيّ غير بعيدٍ عن منزل جان: كنا نرغبُ بأخذ حريتنا في خلال سهراتنا، بالأخص مقارعة أقداح المُدام.

2
دار السيّد خليل، تقع في الجهة الشرقية من حي الصالحية، الذاخر بالأوابد الأثرية، العائدة للعهد الأيوبيّ بشكل خاص. وأبعد قليلاً إلى الشرق، تأسس في القرون الأخيرة حيٌ جديد، دُعيَ ب " صالحية الأكراد "؛ سكانه هاجروا إلى دمشق، المشهورة بسِعَة الرزق، لكنهم فضّلوا الانعزال بكتلتهم القومية عن باقي مناطق المدينة. كما سبقَ وذكرتُ في موضع آخر من هذه التذكرة، أنّ جبل قاسيون، الواقع في سفحه كلا الحيين، معروف بمشاهد الأنبياء، وهي مقدسة لدى أصحاب الديانات الثلاث. منزل صديقنا، يجاورُ إحدى تلك المشاهد، وقد رفع فوقها قبّة خمرية اللون: إنه مقام الولي " بمبو بابا "، ويُعتَقد أنه لقبٌ آخر للنبيّ ذي الكفل، ويزوره كل عام الحجّاج، المارون في دمشق بطريقهم إلى الحجاز.
عند عتبة داره، أعربَ السيّد خليل عن دهشته وسعادته في آنٍ معاً. لكن سحنته تكدّرت، لما بادرته بالقول معتذراً عن الدخول للمنزل: " حضرتُ، حَسْب، كي أدعوك للمجيء إليّ غداً في ساعة الأصيل، لأمر في غاية الأهمية ". حينَ أصرّ عليّ بالدخول، أضطررتُ لترك خادمي في العربة ليُدرك أنني لن أبقى مطوّلاً. كنت أرغبُ أن يكون حديثنا على انفراد، بالنظر إلى أنه سيتطرق لا محالة لموضوع تصنّعي بعقيدتي: الخادم، شأن جيراني وبقية سكان الزقاق، كان يعتقد أنني من المسلمين الأغراب. حقاً إنه لم يرَني مرةً قط، أذهب إلى المسجد أو أصلي في المنزل، لكنني في المقابل لم أظهر أياً من رموز المسيحية ـ كالصليب أو الأيقونة أو سواهما.
" قل لي، أولاً، هل ما جرى في المدينة من إطلاق نار وقصفٍ مدفعيّ قد عززَ موقف خصوم الوالي السابق؟ "، طرحتُ سؤالي بمجرد جلوسي في الصالة. حاول المضيفُ إعطائي صورة موجزة عما جرى، بالقول: " كانت ثورة شعبية بكل معنى الكلمة، شبيهة بما حصل في باريس قبل ثلاثة أعوام. إذ هاجم العوامُ السرايا، فأخرجوا منها المساجين، ثم اتجهوا إلى القلعة لفعل الأمر ذاته، لكن الانكشارية تضامنوا معهم وأطلقوا ما لديهم من المعتقلين وكان هؤلاء في حالة يرثى لها. غير أن هدف طرد اللاوند من المدينة، لم يتحقق بسبب تضامن الدالاتية والسكمان معهم. لذلك قد نشهد في الأيام المقبلة تجدد الصراع، لحين وصول الوالي الجديد مع جيش كبير كمألوف العادة "
" في هذه الحالة، تكون الثورة قد فشلت. أليسَ صحيحاً؟ "
" إننا سبقَ وتناقشنا في موضوع مشابه، واتفقنا على أن التغيير بحاجةٍ إلى عقول متحررة وواعية. ولو أنك تذكر، فإنني تحدثتُ عن ضرورة وجود تنظيم من الشباب، المؤمن بمثل الحرية والمساواة والعدالة، لكي يقود العامّة ولا يدعها تتخبط دونما هُدى؛ فيفشل سعيُها، مثلما نشهده الآنَ عقبَ عزل الطاغية الجزّار "
" بلى أذكر ذلك بالطبع، وأنا أكّدتُ في حينه على دور رجال الدين المسلمين، كونهم الوحيدين القادرين على التأثير في الجماهير في المشرق "، عقّبتُ على كلامه ثم ما لبثتُ أن تهيأتُ للانتقال إلى موضوع آخر. وكنتُ قد أعتذرتُ من صديقي عن تناول العشاء معه، مكتفياً بشرب الشاي. لعله فهم مغزى ترددي في طرح الموضوع، الذي كان سببَ الزيارة. فبادرني بالقول: " والآن فإن الفضول يتملكني بدَوري، لمعرفة ذلك الأمر الهام، المحتم عليّ زيارتك في الغد؟ ". عندئذٍ، وبعبارات مختصرة، أخبرته بما تم الاتفاق عليه مع كَوليزار. لم يُظهر دهشة كبيرة حينَ تطرقتُ إلى استعدادي للتحول إلى الإسلام، ما يعني أنه كان يتوقعه.
علّقَ على ما سمعه، بالقول: " أحترمُ اختيارك مثلما أنني كنتُ أقدّر دوماً رأيك، بأن الأديان السماوية لا تختلف عن بعضها البعض كونها تدعو جميعاً إلى الايمان برب واحد وتسعى إلى تحلي المؤمنين بالأخلاق الفضيلة ". ثم استطردَ، متسائلاً: " في هذه الحالة، أنتَ ترغبُ بالبقاء في الشرق بشكل نهائيّ، أليسَ كذلك؟ "
" ليسَ تماماً. إذ قد أنتقل مع امرأتي إلى البندقية، لو ساءت الأمورُ مرة أخرى في دمشق "
" ولو رفضت امرأتك ترك مدينتها، كيف ستتصرف؟ "
" إنها بالفعل شديدةُ التعلّق بدمشق، ولن أجبرها بأي حال من الأحوال على شيء لا ترغبه "، قلتُ ذلك ثم نهضتُ واقفاً كي أستأذن بالذهاب. تذكّرت عندئذٍ أمراً آخر، فكّرتُ فيه خلال الطريق إلى الصالحية.
فقلتُ لصديقي: " لو كان في الوسع أن تصطحبَ شيخاً معك، فأنا لا أرغب بشيوع خبر تحولي عن ديني. وبالطبع ستحضران إلى منزلي، وذلك قبل ساعة الأصيل ومن ثم ننتقل إلى المنزل الآخر ".
يُمكن فهم تصرّفي بأنه نوعٌ من التقيّة، لكنني آثرتُ ذلك بناء على قصة سمعتها أثناء تواجدي في بيروت. وهيَ أن قساً مارونياً من قرية عجلتون، ترك رهبنته أملاً في الارتقاء إلى درجة المطرانية. وبعد أن خاب أمله، دفعه القنوط للذهاب إلى بيروت كي يمتثل أمام أحد الشيوخ لانكار الايمان المسيحي. فالشيخ طمعاً في المكافأة، أخبر متسلم المدينة عن طريق القاضي بالأمر. ما أدى لشيوع الخبر، ومن ثم حصول عراضة ضخمة شارك فيها معظم مسلمي بيروت.

3
بعد وصولي لداري بوقتٍ قصير، فاجأني جان بحضوره على غير العادة في هذه الساعة من الليل. قال لي فور جلوسه: " البطريرك أثناسيوس تنيّحَ بالرب، والقنصل بعث رسالة من بيروت يدعوننا فيها إلى حضور قدّاس الجنازة وما يتبعها من انتخاب بطريرك جديد ". هذا كان آخر ما كنتُ أتوقعه، أنا مَن يستعد في الغد للتصنّع بعقيدته المسيحية في سبيل الاقتران بامرأة مسلمة. لكنني تكتمتُ على الموضوع، لما عقّبتُ بالقول: " ليرحمه الله. إذاً نسافرُ معاً إلى بيروت بعد يوم الغد، كون الأوضاع ما تفتأ مضطربةً في دمشق ". لم يمكث سوى برهة قصيرة، بناءً على تفكيره بالأوضاع.
في اليوم التالي، بعد استيقاظي صباحاً، بقيتُ في الفراش لما يزيد عن الساعة، أقلّبُ في رأسي ما أنا عازمٌ عليه بشأن جحودي الايمان المسيحيّ. لم أكن نادماً على قراري، لكنني فكّرتُ بامرأتي وأولادي، المقيمين في لندن وينتظرون لم شملنا مجدداً. بحَسَب مذهبنا الكاثوليكيّ، محالٌ أن أطلب الطلاق، بله وفي سبيل الزواج بامرأة مسلمة!
طردتُ أيّ فكرةٍ، تحول دون ما أنا مزمع عليه في هذا اليوم، المعدّ فاصلاً واستثنائياً في حياتي؛ أنا مَن كنتُ أقترب من منتصف الحلقة الخامسة من العُمر. قبيل الغداء، عاد خادمي من السوق كي يبلغني بأن المحلات مفتوحة كالمعهود ولا أثر للعسكر من أيّ صنف. كان من المؤمل وصول الوالي الجديد في الأيام التالية القريبة، حيث عيّنَ متسلماً على المدينة من قبله وقد لاقى هذا الترحيبَ من لدُن الانكشارية والأعيان على حدّ سواء.
قلتُ لخادمي، لما أقتربت ساعةُ العصر: " بمقدورك الذهاب إلى السوق، لأنني أنتظرُ ضيوفاً بعد قليل، ولو شئتَ في وسعك المبيت الليلة بمسكنك ". هزّ رأسه، وما عتمَ أن خرج من المنزل. عقبَ ذهابه بوقتٍ قصير، حضر السيّد خليل برفقة الشيخ مستعملين عربة مشدودة بالخيل. حركاتهما، كان يشوبها شيءٌ من الاضطراب، ولعلها كانت تجربتهما الأولى في شهود عملية التصنّع بالعقيدة. من ناحيتي، كنتُ هادئاً، وأظهرت الكثير من الاحترام لمقام الشيخ. لكنه كان متحذلقاً، كأغلب رجال الدين، وقد بادر باخراج مصحف كبير: " إنه هدية لك، يا سيّدي، لكي تتذكّر دوماً هذا اليوم المبارك ". تناولتُ المصحف شاكراً، فقبلته ثلاث مرات مع مسّه بالجبين في كل مرةٍ. على الأثر، سار بي الشيخ إلى الحمّام ليُعلّمني الوضوء بالمناسبة. بعدما أعلنتُ إيماني بنطق الشهادتين، طلبتُ منه أن يرافقني إلى دار كَوليزار ليعقد قراننا. عيناه، التمعتا عندئذٍ ببريق الخبث وكأنما يقول: " إذاً لم تدخل الدين الإسلاميّ، عبثاً! ". بيدَ أنني كنتُ كريماً معه، وما لبثنا أن ركبنا العربة في طريقنا إلى حي القنوات.
هنالك في منزل الحبيبة، تعمّدتُ أن يكون مسلكي كمن لم يدُس بقدميه المكانَ من قبل أبداً. وكانت هيَ قد طلبت من إحدى جاراتها أن يكون رجلها شاهداً على زواجنا، وما عتم أن انضم إلى مجلسنا في صالة الضيوف، معتقداً أنني من الأتراك الأغراب. كنتُ بالفعل أتعرّف على المنزل في وضح الصباح، وأعجبني أيما إعجاب بعمارته وزخارفه وأثاثه. ساعة على الأثر، وأضحيتُ سيّد المكان، فتقبّلتُ تهاني الخدم ولم أكن أعرف منهم سوى الوصيفة. أما مدبّرة الدار العجوز، فإنها سبقَ وتعهّدت أيضاً القيامَ بوظيفة المربية لابننا. وسط الزغاريد، توجهت إليّ العجوزُ بالقول مبتسمةً بمكر: " بإمكانك يا سيّدي الذهاب مع عروسك إلى حجرة النوم، كي تنعما بالراحة قبل حلول موعد العشاء! ".
كانت كَوليزار مكتسيةً للمناسبة السعيدة بثوب أبيض، موشى بعروق فضيّة وذهبية ومحلّى بالجواهر، وكان جمالها يشع أكثر من هذه الحلي. قلتُ لها، لما ضمنا السريرُ الوثير: " أخيراً، حبنا أنتصرَ على كل المعوقات؛ لأنه حبّ نبيلٌ، جمع شخصين نبيلين "
" وأنا أكثر سعادة بهذه الرابطة المقدسة، التي سيُباركها الربّ مرتين ولا ريب "، قالتها وهيَ تقبلني في فمي. أدركتُ أنها تعني بالمرتين، الأولى هوَ تحولي إلى الإسلام والثانية زواجنا. قلتُ لها، محاولاً منذ الآنَ أن تتعرف على أفكاري من غير أن أفرضها فرضاً بحُكم غلبة الذكورة اجتماعياً: " الحب وجد قبل الأديان، لذلك هوَ حقيقة خالدة وأزلية. لقد ورثنا نحن المسيحيون تعاليمَ موسى، مثلما أنّ محمد انفتحَ على تعاليم عيسى "
" نحن المسيحيون؟ "، رددت عبارتي بنوع من العتب. فاستدركتُ بالقول: " أعني بالطبع، المسيحيين بشكل عام لا شخصي. في حقيقة الحال، أنني كنتُ مهيئاً للتحوّل بفضل قراءاتي المتعمقة للفلاسفة المسلمين، والحب كان الآلة المطلوبة لتحوّلي "
" إنك كثيراً ما تستخدم عبارةَ الآلة، والآنَ في خلال حديثك عن الحب. أليسَ هوَ علاقة روحية، محضة؟ "
" بلى، هوَ كذلك. وهنا أيضاً، كان يتعيّن عليّ القول بأنّ الحب بمثابة الآلة وليسَ آلة بحد ذاته "، أجبتُ وأنا ممتلئٌ إعجاباً بقوة ملاحظتها وذكائها.
مع امرأة كهذه، فكّرتُ، يُمكن قضاء شيخوخة هادئة، وفي آنٍ معاً، مفعمة بالمجادلات الفكرية والفلسفية. لكنني كنتُ ما أني في إبّان عز رجولتي، فيما هيَ تقترب من سنّ نضوج جسدها وملاحة ملامحها.

4
وصلنا إلى بيروت في أول الليل، وحللنا في مقر القنصل الفرنسيّ، الذي سبقَ أن استضافنا بمناسبة انعقاد المجمع الكنسيّ. استقبلنا مسيو ديكار في قاعة ملحقة بمكتبه، وما أن جلسنا حتى بادر بالقول في شيء من الفتور: " تم تشييع البطريرك ظهر هذا اليوم في دير رشميا، وكان من المفترض أن تصلوا في الوقت المناسب ". ألقى جان عليّ نظرة مختلسة، كوني السبب في التأخر عن الجنازة، فبادرتُ لمخاطبة القنصل: " هذا كان خطأي، يا سيّدي، لأنني كنتُ مشغولاً بمسألة شخصية ما جعلنا نتأخر بالمسير "
" على أيّ حال، سنذهب معاً إلى دير القمر يوم الغد كي نقدّم العزاء. أعتقد أننا سنلتقي هنالك مع القاصد الرسوليّ، الذي سيكون حاضراً أثناء انتخاب البطريرك الجديد "، قالها مسيو ديكار هذه المرة بنبرته الودودة المألوفة. سألته عن الوضع في الإمارة اللبنانية بشكل عام، فأجابَ عابساً: " مع شديد الأسف، الأمير بشير يتحول يوماً بعد يوم إلى طاغية. في الأيام الأخيرة، قام بما يسمونه هنا، بالجردة؛ أي الحملة في سبيل جمع الضرائب من الفلاحين. هذا أدى إلى هروب معظم سكان السواحل إلى الجرود، خوفاً من اعتداءات العسكر على الحريم والسلب والنهب. لكن الجزّار، هوَ الحاكم الفعليّ في لبنان ولم يكف عن حبك الدسائس بين زعماء الطوائف كي تبقى له الغلبة عليهم. إنه يطالب الأمير بشير بالمزيد من الأموال، أو مواجهة العزل ومن ثم التصفية، مثلما جرى مع سلفه ".
علّقتُ بالقول: " لقد شهدنا في دمشق عهداً من الإرهاب والرعب والمظالم، لم يسبق له مثيل، وذلك في فترة ولاية الجزّار. فما أن سمع الأهالي بفرمان الباب العالي، القاضي بكف يد الجزّار عن الشام، إلا والأهالي ينتفضون بثورة عارمة، حيث طاردوا أعوانه بمعونة الإنكشارية ودعم الأعيان "
" الإنكشارية تعضد الأهالي؛ يالها من مسخرة! "، قالها مسيو ديكار متهكّماً. ثم أردفَ، متسائلاً: " وكيفَ هوَ الحال الآنَ؟ ". فانبرى جان ليجيب: " فرق المرتزقة، تضامنت مع قوات اللاوند، التي أعانت الجزّار طوال عهده. لذلك لم يُحسم الصراع، برغم أن الهدوء عاد إلى المدينة سريعاً "
" العثمانيون، عمموا الجهل طوال قرون سيطرتهم على المشرق، لذلك أفتقد الثوارُ قيادةً توحدهم وتفرض نظاماً جديداً أو تفصل سورية نهائياً عن الباب العالي "، قلتها في حماسة. عند ذلك حدجني القنصل بنظرة حذرة مواربة، قبل أن يعقّب بالقول: " لقد أمتلك ثوار باريس هكذا قيادة؛ فماذا جنى الشعب الفرنسيّ سوى حلول طغمة من العوام وتحكّمها بمقاديره؟ والآن مع سيطرة اليعاقبة تماماً على الثورة، نشأ عهد الإرهاب وكل يوم تلتهم المقصلة رؤوسَ رفاق الأمس بعدما أسقطت رؤوس العائلة الملكية ".
أستعدتُ زمام نفسي، لأتكلم بلهجة معتدلة: " نعم، إن التطرف لا يقل سوءاً عن الجهل، كونه يغتذي من الدم كما لو كان آلة شيطانية. لكن لو كان النظام الملكيّ دستورياً، لأمكن تجنب الثورة ولما تسلط المتطرفون على زمام الأمر ". قطع كلامي دخولُ الوصيف، الذي خاطب سيّده باقتضاب: " العشاءُ جاهزٌ ". عندئذٍ نهض مسيو ديكار، ليدعونا في حيوية إلى الانتقال لحجرة السفرة. هنالك تابعنا الحديث، ولو أننا غيرنا مجراه من السياسة إلى المواضيع العامة. عادةً، العشاء الفرنسيّ يمتد إلى ساعة متقدمة من الليل، إلا أننا اضطررنا لاختصاره كوننا سنفيق باكراً كي نذهب لتقديم العزاء بالبطريرك.
انطلقنا في اليوم التالي عقبَ تناولنا العشاء، مستخدمين عربة القنصل. كان الجو جميلاً، برغم أننا في وقت متأخر من الربيع، وقد رافقنا تغريدُ الطيور لحين وصولنا إلى دير القمر. أخذنا طريقَ الدامور، الساحليّ، ومن ثم توغلنا في الدرب الجبلية، المكتنفة بأشجار غابات الصنوبر ذات الرائحة العطرية. استمر مسيرنا النهار بطوله، وعند الغروب كنا في المكان المقصود. الحوذيّ، لم يكن سوى ذلك الرجل الدرزيّ، الذي سبقَ وكان في خدمتنا إبّان مجيئنا في المرة الأولى لحضور المجمع الكنسيّ. لاحَ أنه يعرف وجهته، فاخترق طرقات القرية إلى أن حاذى ميدانها الكبير، المزيّن ببركة مستديرة مع نافورة.
" هذا قصر فخر الدين ابن معن، وفيه تقام مراسيم العزاء "، خاطبنا الحوذيّ بلهجة أهل الجبل. دلفنا من العربة، ثم سرنا خلف القنصل باتجاه مدخل القصر، المبني على الطريقة اللبنانية بتعدد القناطر. وكان المدخل حافلاً بحركة الخلق، وغالبيتهم بمسوح الرهبان. هرع بعضهم إلينا، فرحبوا بالقنصل ثم مشوا أمامنا إلى أن أرتقينا درجاً عريضاً، يفضي إلى قاعة كبيرة فخمة. هنالك في صدر القاعة، وقف عددٌ من المطارنة لتقبّل كلمات المعزين رجالاً ونساءً. لقد رحبوا بي أيضاً بحرارة، كوني عدتُ إلى هيئتي الفرنسية بمجرد مغادرتي دمشقَ.
قال لنا القنصل، عقبَ أداء واجب التعزية، مومئاً بعينيه نحوَ الشخصين المعنيين: " المطران اغناطيوس والمطران صرّوف، هما الأوفر حظاً في خلافة البطريرك ". ثم استدرك بالقول: " مع أن رغبة البطريرك غير ذلك، كما سمعتُ. عندما مرض وشعر بدنو أجله، فإنه زكّى المطران كيرلس ليخلفه؛ وهذا كان يتولى كرسي حوران ". في الأثناء، ظهرَ القاصد البابويّ، فهُرع مسيو ديكار كي يحييه ويتكلم معه. سرتُ وجان بأثره، لكي نحيي الرجل وكان يبدو عليه الارهاق والاعياء. لكننا تركناهما يتحادثان، ثم عدنا عبرَ الدرج إلى الدور الأرضيّ ومن ثم عبرنا المدخل إلى الخارج. حوذيّنا، كان يعلف الخيل. فانتبه إلى وجودنا أمام بوابة القصر، فترك ما بيده وقدم ليثرثر معنا.

5
مسيو ديكار، خرجَ إلينا بعد قليل ليخبرنا أن المطارنة قرروا تأجيل انتخاب البطريرك الجديد لشهر كانون الأول/ ديسمبر. نظر إليّ ملياً على ضوء المشاعل، المثبتة على جدران القصر، وما عتمَ أن خاطبني متسائلاً: " هل مضى وقتٌ طويل على اعترافك؟ ". دونما تفكير، أجبته: " نعم، منذ نحو خمسة عشرة عاماً في باريس "
" إذاً من حُسن حظك أنّ القاصد الرسوليّ هنا، لتتشرف بأداء الاعتراف في حضرته "، ردّ مبتسماً. لا بد أنه لم يلحظ امتقاع سحنتي، بعدما دوّرتُ المسألة في رأسي. إذاك خاطبتُ نفسي، مبكّتاً إياها على تسرعي بالجواب: " رباه، هل عليّ الكذب في خلال الإعتراف؟ ". لم يمهلني القنصل المزيدَ من التفكير، فقادني إلى كنيسة " مار إلياس " القريبة.
" إنه سميّك وشفيعك، والأفضل أن تعترف في كنيسته "، قال لي عندما دخلنا وواجهتنا أيقونة النبي إلياس. بقينا بعض الوقت نتجوّل في قاعة الكنيسة، لحين وصول المونسنيور. على الأثر اتجهتُ مع هذا الأخير إلى حجرة الاعتراف، ليطل كلانا على صاحبه من خلال الحاجز الخشبيّ المشبك. مع يقيني بأمانة القاصد البابويّ وأنه ملتزمٌ بالصمت، إلا أنني قررتُ ألا أذكر كلمة تتعلق بجحودي الإيمان المسيحيّ أو حتى قصتي مع كَوليزار. في أثناء الإعتراف، ركّزتُ على خيانتي لزوجتي من خلال العلاقة السرية السابقة بعشيقتي الروسية. كذلك كنتُ صادقاً، لما عبّرتُ عن شكوكي بخالق الكون على ضوء أحداث الثورة الفرنسية.
علّقَ المونسنيور على ما سمعه، بالقول في اقتضاب وهوَ يرسم عليّ إشارة الصليب من وراء الحاجز: " ليغفر الرب لك خطيئتك بحق شريكة حياتك، وليثبت الإيمان في قلبك ". خرجَ كل منا من مكان مختلف، ولم يعُد يرى صاحبه من بعد. حينَ ألتقيتُ بجان في قاعة الكنيسة، أخبرني بأننا سنبيت في القصر وفي الصباح نعود إلى بيروت.
صباحاً، تناولنا إفطاراً كريماً على مائدة المطارنة في إحدى قاعات القصر، وبالطبع بحضور القنصل. هذا الأخير، ركّز في حديثه على الأوضاع الحالية في باريس والحرب الأوروبية ضد حكومتها الثورية: " فرنسا تعيش اليوم عهد الإرهاب، بعدما استهل بإعدام الملك على المقصلة. لقد حققوا بعض الانتصارات ضد المتدخلين الأجانب، وهذا كان ذريعة لانطلاق أفاعي الرعب والاستبداد والارهاب في الداخل. المزيد من الدول أعلنت الحرب على الثوار، وآخرهم كانت اسبانيا. برأيي المتواضع، أن التدخل الخارجيّ هوَ القمين بقطع رأس الثعبان الكبير، المدعو روبسيير، الذي لم يسلم من شره حتى رفاقه الأقربون ".
علّق المطران اغناطيوس بالقول: " حال الفوضى والاضطراب والحرب في أوروبا، كم تشبه ما نعانيه هنا في الشرق؛ حتى ليمكن تشبيه روبسيير الدمويّ بشخصٍ متوحش، يعرفه الجميعُ حق المعرفة! ". قال ذلك، فيما يشمل الحاضرين بنظراته من تحت حاجبيه الأشيبين. ابتسم غالب الحضور، كونهم علموا أنه يقصد والي عكا، الجزّار، صاحب اليد الطولى في لبنان بل وسورية بأسرها. من ناحيتي، لم أعُد أتابع الحديث، وكنتُ متلهفاً للعودة إلى دمشق كي أبقى بعيداً عن حالة اللبس والنفاق.
حتى قبل الظهر بقليل، تجولنا في القرية، لنتعرّف على أوابدها العريقة. مع أنّ الغالبية العظمى من سكانها موارنة، فقد انتصب مسجدٌ مهيب يحمل اسم مؤسس الدولة المعنية، التي رفعت لواء الاستقلال في القرن السابع عشر بدعم من بعض الدول الأوروبية. كذلك دهشنا لوجود كنيس كبير، وقيل أنه يعود أيضاً لتلك المرحلة عندما كان ابن معن يعتمد في شئونه المالية على اليهود. عند الظهر، أصبنا شيئاً من الطعام ثم رجعنا إلى بيروت بعربتنا، سالكين الطريق نفسه. قضينا ليلة أخرى في مقر القنصل، وفي اليوم التالي عدنا إلى دمشق بعربة أخرى استأجرناها. في حقيقة الحال، فكّرتُ بكرب، لم يكن للرحلة أيّ معنى، بله اضطراري للكذب على كرسيّ الإعتراف. لكنني كنتُ في حالة صحية سيئة، ما لبثتْ أن سلمتني للفراش حال وصولي للبيت.
" أخشى أن يكون أصيب بالطاعون، الذي كان منتشراً حتى وقت قريب في الإمارة اللبنانية "، تناهى إليّ صوتُ مدبّرة الدار وكنتُ غارقاً في بحران الحمّى. ردة فعل كَوليزار كانت شديدة، فطلبت من الأخرى أن تغادر الغرفة. كانت امرأتي ماهرة في شئون الأعشاب، فسقتني عدة مغليات أشعرتني بالتحسن في خلال الأيام التالية. في أثناء معاناتي من الحمّى، توالت عليّ صور خادمي وصديقي السيّد خليل. لما برئتُ من الحمّى بعد نحو عشرة أيام، أخبرتني أمرأتي أنّ تلك الصور لم تكن متخيلة. على سبيل المصادفة، عاد كلا الرجلين للظهور في داري. غبَّ اطمئنان السيّد خليل عليّ وذهابه، طلبتُ من الخادم أن يبقى. سألته عن أحوال المنزل، ثم أمرته أن يجلب كل محتوى الخزانة من كتب وأوراق.
حينَ انفردتُ مساءً مع كَوليزار، أخذتُ رأيها في فكرة إهداء مسكني للخادم كونه عمل لديّ بإخلاص في خلال الأعوام الماضية. ثم انتهيت للقول: " أساساً اشتريتُ المنزل بثمن زهيد، بسبب ما كان يُشاع عن وجود شبح الوليّ المبارك "
" ولكن الخادم ما يفتأ على خوفه من الشبح، بحيث ينام في حجرة الإيجار عند غيابك ليلاً "، قالتها مبتسمة. كانت تعدّ الوليّ ليسَ منقذها، حَسْب، بل وأيضاً سبباً في توثّق علاقتنا الغرامية من خلال ذلك الرسم، الذي صوّرها وهيَ طفلة.
في اليوم التالي، أنهيتُ إتمام إجراءات نقل ملكية منزلي إلى خادمي. تأثّرَ لمكرمتي، حدّ ذرف الدموع. فقلت له مداعباً: " شبحُ النبي كيكي، أظنه سيطردك من المنزل منذ هذه الليلة! ".

6
السنوات الست اللاحقة، وإلى مبتدأ حملة نابليون في آخر عام من القرن الثامن عشر، أمضيتها في رغد العيش مع امرأتي وابننا. كذلك كانت ولاية عبد الله باشا هادئة بشكل عام، وقلّما سُمح للعسكر بالانفلات ضمن المدينة حتى في خلال غيابه مع المحمل الشريف. هذا الباشا، من ناحية أخرى، كان رجلاً مستنيراً ورغبَ بإعادة مآثر أسلافه في الاهتمام بعمارة المدينة وأمنها ورخاء خلقها. تجلّى اهتمامه بالمعرفة، من خلال أمره بتعليم أولاده اللغات الأوروبية فضلاً عن الشرقية. ولقد طُلِبتُ إلى حضرته ذات يوم، بعد نحو أربعة أشهر من إيابي إلى دمشق من الإمارة اللبنانية؛ ما أشاع الاضطراب في أوصالي، برغم شهرة الرجل بالعدل والرحمة.
كانت الدعوة، شبيهةً بأمر الاعتقال. وهيَ تجربة، علمتم أنني مررتُ بها ذات مرة. إذ حضرَ ضابطٌ، مع ثلة من الجند، واقتادوني في عربتهم دونما معرفة وجهتهم. ثم إذا بي أرى نفسي أمام قصر العظم، وهناك أنزلوني ثم قادوني إلى أحد أجنحته. وجدتني في قاعة كبيرة، تعدّ تحفة معمارية مع آيات الفن الدمشقيّ من الترصيع والنقش والوشي فضلاً عن الأثاث المميَّز لحرفتها. جاء بعد قليل رجلٌ مسنّ نوعاً، قدّم لي نفسه كقيّم للقصر. طرحَ عليّ بعضَ الأسئلة، وما عتمت ملامح سحنته أن أشرقت حينَ علّقَ على معلوماتي بالقول: " إننا نعرف عنك كل شيء، وبالأخص تحولك إلى ديننا الحنيف ". ثم أضافَ: " أمر الباشا أن تُلحق بوظيفة المدرّس لأولاده، كونك تعرّف اللاتينية علاوة على الفرنسية والإيطالية. ستكون الدروسُ صباحاً وإلى ساعة أذان الظهر، وبعدها أنتَ حرّ في وقتك ".
فيما مضى من أعوام، كنتُ آملُ بفرصة تتيح لي زيارة هذا القصر الرائع، وإذا بي أحصل على وظيفة محترمة ضمن جدرانه. تسنى لي في خلال السنوات التالية فرصة رؤية الباشا، وذلك في مناسبات الأعياد؛ لكننا لم نتبادل الحديث مرةً قط. كان رجلاً مهيب الطلعة، ملامحه أوروبية كما الكثير من سكان الولاية السورية. بقيتُ إذاً ستة أعوام أمارسُ التدريس لأولاد الباشا الثلاثة، وفي غضون ذلك تعززت صلتي مع قيّم القصر بحيث كان يستبقيني أحياناً للغداء. في أوقات الاستراحة بين الدروس، كنتُ أتجوّل في الحديقة وحول بركتها الكبيرة، مرسلاً بصري بين حينٍ وآخر إلى أجنحة البلاط، وكلها على السوية نفسها من روعة العمارة وبذخ الأثاث.
إلى أن كان يوماً، لحظتُ فيه حركة غير مألوفة من العاملين في القصر، يتهامسون وقد غلب عليهم الجزعُ. كان الوقتُ على مشارف الظهر، أنهيتُ فيه للتو دروسي، لكن أحدهم طلبَ مني الانتظار في الحديقة بأمر من القيّم. خمّنتُ أنني مدعوٌ للغداء، كمألوف العادة أحياناً، فجلستُ على طرف البركة بينما يدي تداعب مياهها. كنا في أواخر شهر شباط/ فبراير، وكان الطقسُ ربيعياً. قدمَ القيّم أخيراً، وكانت ملامحه تنبي أيضاً بالقلق، وما لبثَ أن فاجأني بهذا الخبر: " ولاية الشام ستُسند مجدداً للجزّار، كون الفرنساوية ملكوا مصر وهم على الأغلب يتحينون الفرص للزحف شمالاً باتجاه بلادنا ". كان خبراً مزعجاً للغاية، سيجعلني في تالي الأيام أتخبط في التفكير بين الاستسلام للقدَر أو محاولة إقناع شريكة حياتي بالهجرة نهائياً إلى البندقية. لكن الأحوال في أوروبا كانت لا تقل فوضى، بسبب حروب حكومة باريس، الساعية لتصدير ثورتها.
بالطبع، كنتُ قد بقيت على اتصال مع أصدقائي في خلال الأعوام المنصرمة. وسبقَ لي أن أضطررت للكذب، لما قلتُ لجان وغابي أنني أعيشُ مع كَوليزار بصورة غير شرعية في منزلها ريثما تحين الفرصة وأنتقل معها إلى البندقية. الحق، أنني لم أتيقن ما لو مرّت كذبتي عليهما أو أنهما شكّا بجحودي الإيمان المسيحيّ كونهما على علم بآرائي الحرة اللادينية.
وإذاً، انتظرتُ أن يطلوا عليّ في ذلك اليوم كي أناقش معهم خبرَ عودة الطاغية لحكم الشام. مساءً، حضرَ أولاً السيّد خليل ثم لحقه جان وغابي. الصديقان النصرانيان، كانا أكثر تكدّراً ولا غرو، وما أسرع أن عبّرا عن ذلك. قال جان عقبَ جلوسه، تعقيباً على ذكري خبرَ الجزّار: " ستحل نقمته على الكاثوليك، لأننا والفرنسيون من نفس الملّة الدينية "
" لكن حكومة باريس عدوة لدودة للكاثوليكية، كما برهنت عليه أعمالها منذ اشتعال الثورة؟ "، علّقَ غابي. عاد الآخرُ ليقول بنبرة قنوط: " وهل يهتم الجزّار بهذه الحقيقة، هوَ من يتحيّن أيّ سانحة كي يقتل الأبرياء ويسلب أموالهم وممتلكاتهم ". تدخلتُ في الحديث، لأقول لهما: " لو أنكما تنتقلان مؤقتاً للعيش في بيروت، إلى أن تنزاح هذه الغمّة ". ففاجأني غابي عندما قاطعني، متسائلاً: " وأنت؟ ألا تفكّر بذلك، كونك كاثوليكياً وفرنسياً فوق ذلك؟ ". التزمتُ الصمتَ قليلاً، وكان السيّد خليل يرقبني بطرف عينه؛ هوَ الوحيدُ، العالمُ بتحوّلي إلى الإسلام. عمدتُ لذكر حقيقة معروفة، لما أجبتُ: " كما تعلمون، فإنني محميّ بحَسَب القواعد القنصلية ولديّ تصريحٌ بالاقامة من قبل ديوان الباب العالي ". ثم أضفتُ: " حينَ قبض عليّ في ولاية الجزّار السابقة، أطلقوا سراحي بناءً على وضعي كأجنبيّ ".
قال السيّد خليل، موجّهاً الحديث إلى ناحية أخرى أقل عتمة: " لو صحّت الأخبار، بأن هدف نابليون التالي سيكون الاستيلاء على سورية، فإن عكا ساقطة لا محالة؛ وبذلك، لن ينعم الجزّار بالولاية ". عاد جان لإضفاء نبرة حزينة على كلامه، بالقول: " حتى وصول الغازي الفرنسيّ إلى عكا، قد لا يبقى كاثوليكياً في سورية على قيد الحياة "
" إنك تبالغ، يا صديقي. الباب العالي، يُدرك عداءَ الكنيسة الكاثوليكية لثوار باريس. وبكل الأحوال، لقد خاضت الدولة حروباً عديدة مع الروس، ولم تنقرض الملّة الأرثوذكسية في الولاية السورية وغيرها "، قلتُ لجان محاولاً تهدئة مخاوفه. بقيَ الأصدقاءُ ساعة أخرى، ثم ما لبثَ مجلسنا أن أنفضّ في أول الليل.

7
إعفائي من تدريس أولاد الباشا، كان أمراً متوقّعاً بسبب عزله عن الولاية. كذلك الحال، أدركتُ أنني أودّعُ نهائياً قيّمَ القصر، الذي ربطتني به صداقة في خلال الأعوام الستة المنصرمة. كان يوماً كئيباً، عدتُ فيه مبكراً إلى الدار تحت سماء متجهّمة بالغيوم. حاولت كَوليزار التخفيف عني، بالقول أننا نملك مالاً كافياً لجعلنا غير محتاجين لوظيفتي. في حقيقة الحال، أنني كنتُ لأحظى بالبقاء في القصر كمترجم، لولا عزوفي عن الخدمة في ظل الوالي الجديد، غير المأمون الجانب بالنظر إلى طبعه المعرَّف باللؤم والغدر والجشع.
آثرتُ العودة لقضاء جانبٍ من الوقت نهاراً في المقهى، كيلا يكون وجودي في الدار ثقيلاً على ساكنيه. هنالك، رحتُ أتسلى بحركة السوق وبسماع آراء المواطنين عن الأحداث الأخيرة. الغالبية كانت تدّعي ترحيبها بانتقال الولاية للجزّار، بحجّة أنه الوحيدُ القادر على وقف الكفّار ما لو زحفوا من مصر شمالاً. شهدتُ في أحد الأيام واقعةً، عمد فيها المارّة إلى إهانة رجل نصرانيّ عن طريق دفعه من الرصيف إلى وسط الدرب، المخصص لسير الدواب. لعلني ذكرتُ فيما مضى، أنّ النصرانيّ مجبورٌ على إلتزام اللون الأزرق لملابسه والأسود لعمامته. حتى التجار، أصحاب المحلات، شاركوا يومئذٍ في إذلال ذلك الرجل بانتزاع عمامنه ومن ثم رميها لبعضهم البعض فيما هوَ يتوسلهم إعادتها إليه. فالنصرانيّ مجبورٌ أن يضع ورقة رسمية في عمامته، تثبتُ أنه دفع الجزية. وكان معرضاً في أيّ وقت للتوقيف من قبل دورية للجند، والويل له لو لم يكن يحملُ ورقةَ الجزية. لكن فرحة المتعصبين المسلمين بالتشفّي من النصارى، لم تطُل؛ وذلك لكون ظلم الجزّار لا يفرّقُ بين ملّة وأخرى ـ كما أكّده مسلكه في ولايتيه السابقتين.
وهوَ ذا الطاغية، كُرد طه، يطفو مجدداً على سطح الأحداث بعدما كلّفه سيّدُه المقيمُ في عكا بوظيفة المتسلّم على الشام. وكان على المدينة أن ترتج في اليوم التالي، لأنباء القبض على العديد من الأعيان ورميهم في زنزانات السرايا والقلعة. المتسلّم السابق، كان من بين المعتقلين، ويُقال أنهم هتكوا حريمه أمام عينيه قبل جرّه مثقلاً بالأغلال. عادت مفردة " البلص " تشيع على ألسنة الناس، للتعبير عن هدف تلك الاعتقالات العشوائية. الأسواق، التي احتفلت بالأمس القريب بإذلال النصارى، ها هيَ تشهدُ سوقَ العديد من الأعيان المعتقلين، المطالَبين بعتق رقابهم عن طريق دفع الأتاوات: كان الواحد منهم يُجبر على بيع متجره ومن ثم منزله، ولو لم يستوفِ الفدية المطلوبة، يُطاف به في السوق علّ أحدٌ من زملائه التجار يفتديه. ولو وُجد ذلك التاجر، فإن الجند يأتون إليه في اليوم التالي مباشرةً كي يعتقلوه هوَ بنفسه ومن ثم يجرودونه من كل ما يملك!
خشيَةَ وقوعي في هكذا مأزق مهلك، لم أعُد أخرج من الدار إلا للضرورة القصوى. كون الوقتُ ربيعاً، صرتُ أهتم نهاراً بالحديقة، الحافلة بالأشجار المثمرة والأزهار من شتى الألوان. مساءً، كنتُ أواظب على الكتابة والقراءة، وقلّما استقبلتُ ضيفاً بسبب الظرف الطارئ. السيّد خليل، كان يمر عليّ بين فترة وأخرى، محمّلاً بالأخبار الجديدة. ذات مساء، تداولنا معاً نبأ خروج نابليون على رأس جيشه لاحتلال بلاد الشام، تمهيداً للسير إلى الأستانة وإنهاء حكم آل عثمان. أفادني صديقي برأيه، أننا نشهدُ فتحاً، وليسَ إحتلالاً، سيؤدي إلى تحرير المشرق من العبودية والظلم والجهل والبؤس.
وختم كلامه بالقول: " بفضل الصحف الفرنسية، التي كانت تصلنا من بيروت، قرأنا فيما مضى عن مجيء نابليون إلى مصر مع بعثة علمية كبيرة كي تكتشف آثار الفراعنة. كذلك جلبَ معه مطبعة باللغة العربية، لتظهر الصحفُ لأول مرةٍ في تاريخ ذلك البلد بل والمشرق بأسره ". مراعاةً للظروف الصعبة، استأذن مني بالانصراف مبكراً. عند باب البيت، قال لي وكأنه يودّعني: " من يدري، ما لو سنلتقي مرة أخرى. ربما أعتقلُ مع جان وغابي، لكوننا وكلاء القنصل الفرنسيّ ".
بعد أيام قليلة، حلت لدينا ضيفةٌ عالية المقام. إنها السيّدة " فيروز "، امرأة المتسلّم الجديد، وكانت تربطها صداقة حميمة بامرأتي من أيام عكا. أتت خفيةً، لا ترافقها سوى وصيفتها، بالنظر إلى أنّ كثيرين من الأهالي لديهم ثأر مع رجلها الطاغية سواءً في فترة نيابة الجزّار السابقة أو الحالية. كان الوقتُ نهاراً مشمساً، لما خرجتُ من الحديقة لألقى امرأة جميلة، في مثل عُمر كَوليزار، وهيَ جالسة في أرض الديار بالقرب من البحرة. أدهشتني بتحررها، حيث لم تحتجب عني، لكنني أكتفيتُ بهز رأسي تحيةً لها ثم ارتقيت الدرجَ وصولاً إلى حجرة مكتبتي. عقبَ ذهابها، جاءت امرأتي كي تحدثني عن أشياء علمتها منها. لقد سمعت الضيفةُ من رجلها مؤخراً قصةً من قصص الجزّار، الدالّة على مدى جشعه ووحشيته.
الإنكليز، علموا من خلال جواسيسهم بنيّة نابليون غزو مصر. هذه المعلومة، وصلت للمماليك والعثمانيين. ثم انتشر الخبرُ بين أعيان البلد، فقرر قسم كبير من التجّار الشوام مغادرة مصر حاملين ما أمكن من أموالهم. لسوء حظهم، أنّ المركب الذي أخذوه من الإسكندرية، مرّ بمدينة عكا كي يتوقف فيها لبرهة من الوقت. حينَ سمع الجزّارُ بأمر التجار السوريين، وكان عددهم يربو على السبعين، أصدر أمراً باعتقالهم ومصادرة أموالهم. في نفس اليوم، أبلغ قائدُ الجند سيّدَهُ بعدم توفر قيود حديدية لهذا العدد الكبير من المعتقلين. فقال له الجزّار ببساطة: " تسحب دفعةً من السجناء القدماء، فتذبحهم على الشاطئ ثم تأخذ أغلالهم. إذا لم يكفِ ذلك، عليك بذبح دفعة أخرى من المساجين القدامى إلى أن تتوفر الأغلالُ لجميع المعتقلين الجدد! ".

8
بينما المعارك مشتعلة في جنوب سورية، أشتعلت أسعار المواد الغذائية في الشام بسبب مصادرة الدولة للغلال من أجل العسكر، الذي تدفق على المدينة. وكان الصدر الأعظم قد قدم بنفسه على رأس جيش جرار، لأجل صد الفرنسيين. ففرض على أهالي المدينة شراء الشعير كعلف لخيل الجيش، ما زاد من ضنكهم. من ناحية أخرى، انشغل أفرادُ الجيش في أثناء وجودهم في المدينة بالمفاسد؛ ما جعل المنادي يخرجُ، مطالباً بعدم تجول الحريم في الأسواق والطرقات. كل هذا، والتنكيلُ مستمرٌ بالنصارى بحجة أنهم سعيدون بقدوم نابليون وبعضهم أتهموا بكونهم جواسيساً ورفعوا إلى زنازين السرايا والقلعة.
ما أن غادر الصدرُ الأعظم الشامَ مع جيشه، لمحاربة الفرنسيين، إلا ووقع الصراع بين القوى المحلية. إذ فرضَ المتسلمُ على الانكشارية آغا من طرفه، كون قائدها رافق حملة الصدر الأعظم. هذا الآغا، أتُهمَ بالتدخل في شئون مرؤوسيه والسطو على أرزاقهم ما جعلهم يثورون بوجهه ويلجئونه للهرب إلى حاميه. لم يكتفوا بذلك، بل أطلقوا سراحَ الأعيان، الذين حبسهم المتسلم في زنازين القلعة لأجل أن يبتزهم. فرد المتسلم بمحاصرة القلعة، ما جعل حاميتها ترد بدَورها بقصف قشلات اللاوند. في الأثناء، كان الصدرُ الأعظم قد وصل بجيشه إلى محطة مزيريب في حوران، وهناك تم إبلاغه بما يجري في الشام. على الأثر، بعث رسالة إلى المفتي كي يعلمه أنه باتَ بوظيفة المتسلّم مؤقتاً. كُرد طه، حينَ علم بالأمر، أظهر إذعانه ومن ثم فك الحصار عن القلعة. لكنه بمجرد معرفته بتحرك الصدر الأعظم باتجاه فلسطين، خلع المفتي من منصبه وأعتقله في سجن السرايا، كذلك أعاد احتجاز الأعيان المطلقين السراح. ثم نشرَ أعوانُ المتسلّم إشاعةً بأنّ الجزّار آتٍ بنفسه إلى الشام، لتأديب من عصى أوامره، ما أدخل الوهم في قلوب الكثير من الناس وحدا بهم إلى الهرب مع أسرهم إلى الريف.
الجزّار، المتحصّن وراء أسوار عكا بانتظار نابليون، لم يأتِ بطبيعة الحال إلى الشام. لكنه على سبيل تقوية معنويات الناس، أرسل حمولة من الرؤوس المقطوعة ـ على أساس أنهم فرنسيون قتلوا في المعارك الأخيرة. هذه الحمولة، رافقها آغا من اللاوند من عكا، وما لبثَ أن عرضها على الخلق قدّام خندق القلعة. الإنكشارية، الذين أطلوا على المشهد الدمويّ من أعلى الأسوار والأبراج، راحوا يضحكون صارخين: " واضحٌ أنهم ضحايا الجزّار من أهل عكا، لأن ملامحهم محلية وليست فرنسية ".
بعد بضعة أيام، حضرت السيّدة فيروز لزيارة امرأتي، وكالعادة جرى الحديث عن الأحوال المضطربة في البلد. عندئذٍ علّقت على واقعة جلب الرؤوس من عكا، بالقول ساخرةً: " كيفَ يُمكن للجزّار أن يقتل هذا العدد من الفرنسيين، وهوَ مختبئ في حصنه بعكا؟ ". ثم أستدركت، موضّحةً جليّة الأمر: " ذلك الآغا، المرافق لحمولة الرؤوس، أخبرَ زوجي حينَ أجتمع به أن الجزّارَ شاهدَ من فوق السور عدداً من الرعيان مع قطعانهم يجوبون السهل. عند ذلك أمر بالقبض عليهم، ثم قطع رؤوسهم وأرسلها إلى الشام بزعم أنها لفرنسيين سقطوا في المعارك! ".
وإنها امرأةُ المتسلّم، مَن أبلغت كَوليزار بورود أمر من الجزّار إلى رجلها المتسلّم أن يتحرى عن الفرنسيين في دمشق، وكذلك عن وكلائهم إن كانوا تجاراً أو مترجمين، بغيَة كشف الجواسيس بينهم. هذا الخبر، جعلني نهبةً للقلق والهواجس. قالت لي امرأتي، عقبَ ذهاب ضيفتها، محاولةً بث الاطمئنان في نفسي: " إنك مسلمٌ، ولا تشغل وظيفةً لدى القنصل الفرنسيّ "
" نعم، لكن وصل بهم الاستهتار حدّ إعتقال المفتي؛ فهل يوفرونني لأنني أعلنتُ إسلامي "، قلتُ ذلك ثم أضفت: " ولو تذكرين فيما مضى، كيفَ استدعاني كُرد طه لأجل ابتزازي؟ "
" لقد أطلقَ سراحك في الحال، مع أنك في ذلك الوقت لم تكن مقترناً بي "
" لدي فكرة، كنتُ قد عرضتها على أصدقائي وكلاء القنصل، وهيَ أن نلجأ إلى بيروت بشكل مؤقت ريثما تستقر الأوضاعُ في الشام بشكل من الأشكال "
" إذا صممتَ على فكرتك، فإنني سأرافقك مع ابننا "
" ليسَ من داعٍ لتجشمكما هذه المخاطرة، كون إقامتي هنالك ستكون مؤقتة سواءً انتصرت حملة نابليون أو باءت بالفشل "، قلتُ ذلك محاولاً بدَوري طمأنتها.
دونَ تردد أو تأخير، بادرتُ إلى الاتصال بأصدقائي، لوضعهم في صورة الموقف الداهم بحَسَب ما نمّ إليّ على لسان امرأة المتسلّم. تحقق اجتماعنا في منزل جان، وكان الوقتُ مساءً. قدمتُ مع السيّد خليل، لنجد غابي قد سبقنا بالحضور. كما لو أنه تكهّنَ بأننا لن نحظى بجلسة جميلة تجمعنا مرةً أخرى، فإن المضيفَ أولمَ سفرةً حافلة بأطباق المازة والمشروب.
رفعنا أقداحنا، لنقترح بأصواتٍ حزينة نخبَ توفقنا في السفر إلى بيروت كي نكون تحت جناحي القنصل الفرنسيّ. لكن مع المزيد من الأقداح، ما لبثت دواخلنا أن أزهرت بالمرح، حتى صرنا نُطلق النكات، التي ألّفها الخلقُ للسخرية من الجزّار والمتسلّم.

9
ذات صباح من شهر آذار/ مارس، نقلتني مع أصدقائي عربة مشدودة بالخيل إلى بيروت. كان الطقسُ رائعاً، والهواء النقيّ يحملُ عبيرَ الأزهار. على طول طريق خروجنا من دمشق، لاحت الجبالُ محتضنة المدينة مثل أم رؤوم، فيما تكللت الأشجارُ بحلل ملوّنة؛ ليُمنح المشهدُ صورةً مؤثرة؛ لوحة طبيعية، رسمتها ريشةُ فنانٍ معلّم.
كيلا يثيرُ جان وغابي الشبهةَ بهيئة النصارى، أقنعتهما بارتداء ملابس المسلمين؛ وقد تدبرها لهما صديقنا السيّد خليل. في أحوال أخرى، كنا سنغدوا أكثر سعادة بهذه الرحلة، التي تشق طريقاً بين مفاتن الطبيعة يتمنى فيه المرءُ لو يطول إلى ما لا نهاية. لكننا تغلبنا على هواجسنا بتبادل الحديث فيما بيننا، وأحياناً مع الحوذيّ. لحُسن حظنا، أن الدربَ خلا من حركة العسكر وكذلك في الخانات، المعدّة محطاتٍ للمسافرين. عند أول المساء، وصلنا إلى مقصدنا منهكين نفسياً وليسَ جسدياً. ثم ما لبثنا أن تنفسنا الصعداء، حينَ وضعنا أقدامنا في مدخل مقر القنصلية. جو بيروت كان حاراً نوعاً ما في هذا الوقت من الربيع، لكن الرطوبة كانت قليلة. هنالك استقبلنا وصيفُ القنصل بوجه متجهّم، ليبلغنا أنّ سيّده موجودٌ في الخارج لشأن من الشئون. بيدَ أنّ الرجلَ أفردَ للضيوف غير المدعوين حجرتين، كانت إحداهما من نصيبنا أنا والسيّد خليل. ثم عاد شملنا واجتمع ثانيةً على مائدة العشاء، المنتصبة في وسطها جرّة من النبيذ؛ كان واضحاً أنها هدية من أحد وجهاء الجبل. شربنا إلى حدّ الثمالة، تعبيراً عن بهجتنا بنيلنا الحرية بعيداً عن التهديد والوعيد. لم يظهر القنصل بعدُ، برغم أننا تركنا المائدة قبل منتصف الليل بقليل.
على نفس الوتيرة من البرودة، لاقانا القنصلُ في اليوم التالي على مائدة الفطور. لكنه أوضحَ مبعث امتعاضه من حضورنا بلا دعوة، بالقول: " لا نعلم في أيّ وقتٍ سيداهم فيه العسكرُ مقرنا، بأمر من الجزّار. دمشق كانت أكثر أماناً لكم، وكان في وسعكم الاختباء لفترة معينة عند أحد الأصدقاء المسلمين أو الانتقال إلى قرية مسيحية في بر الشام "
" صديقنا المسلم، ها هوَ معنا كونه مهدداً أيضاً بالاعتقال. والقرى المسيحية، هيَ بنفسها عُرضةً لانتهاكات العسكر في هذه الأيام العصيبة "، علّقَ جان على كلام القنصل. هذا الأخير، ما عتمَ أن غيّرَ الحديثَ، ليتكلم عن الأوضاع في الإمارة اللبنانية: " الأمير بشير في موقفٍ عصيب، كونه مارونياً كاثوليكياً هوَ ومعظم أفراد رعيته. علمتُ أنه رفضَ عرضاً من نابليون بالتعاون، وصله سراً عن طريق البحر. لحُسن حظ الأمير، أن جوابه وقع بأيدي الإنكليز، الذين ملأوا البحر بمراكبهم الحربية لصد الفرنسيين؛ وهم أبلغوا الصدر الأعظم بذلك. لأن الجزّار كان قد اتهمَ الأمير بشير بالعمالة لنابليون، وكاد أن يحصل من الصدر الأعظم على أمر بعزله. في حقيقة الحال، أنّ الجزّار كان قد استلمَ وعداً مغرياً من أولاد الأمير يوسف ما لو ساعدهم على استعادة الإمارة. والآن، الأمير بشير يُستقبل من حين لآخر من قبل قائد الأسطول الإنكليزيّ. كذلك يحظى بعطف الصدر الأعظم، ويُقال أن هذا حصل من الأمير على رشوة بمائة ألف غرش ".
هذه الأخبار، برغم أهميتها، لم تطمئن الهارب من بطش الجزّار. فقلتُ متسائلاً: " ألا يشملكم الإنكليزُ بعطفهم، بالأخص أنكم من المناوئين لحكومة باريس؟ ". هزّ القنصل رأسه بحركة تعبّر عن الأسف، وأجاب: " من سوء الفأل، أنّ حكومة باريس انتبهت أخيراً إلى وضع قنصلياتها في الخارج، وقامت بتثبيت أغلب القناصل وأنا منهم. كما تعلمون أن عهد اليعاقبة أنتهى برؤوسه على المقصلة قبل خمسة أعوام، واستلم الحكمَ جناحُ المحافظين. وقد لاقى ذلك ترحيب الملكيين، وكذلك معظم الدول الأوروبية باستثناء النمسا وبريطانيا "
" إذاً، تعدكم بريطانيا كممثلية شرعية لحكومة باريس، التي أرسلت نابليون للاستيلاء على المشرق؟ "، تساءل جان بنبرة تشي بالقلق. جواباً، فتحَ المضيفُ يديه بحركة من يقول: " بالطبع ". هنا، تدخل السيّد خليل بهذه الملاحظة: " لكن القوانين الدولية تراعي وضع القنصليات حتى في فترة الحرب، أليسَ صحيحاً؟ "
" هذا صحيحٌ، لو كانت قنصليتنا تمثّل دولة معترفاً بها من لدُن الإنكليز؛ لكن الأمر ليسَ كذلك "، رد القنصل وما لبثَ أن نهضَ عن المائدة. قبل أن يتركنا، طلبَ منا توخي الحذر لو شئنا التجول في المدينة وأنّ الأفضل لأمننا لو بقينا داخل جدران المقر.
أعترتنا على الأثر حالة من الاحباط، تجلت في وجومنا وملامح وجوهنا. بقينا كذلك في أماكننا، وكنا من انشغال الفكر أننا لم نول اهتماماً بالوصيف، الذي كان يطل بين فينة وأخرى كي يأمر بتنظيف المائدة. إلى أن أخرجنا السيّد خليل من هذه الحالة، بالقول: " لو أنّ نابليون يستحوذ على عكا، لكنا في أمان ولا غرو من غدر الجزّار وبطشه "
" لا يزال المأفون متمتعاً بالحيوية، ويقال أنه على أعتاب الثمانين "، قلتها نافخاً في قنوط. قبل أن يتاح لأحد التعليق على كلامي، جاء الوصيفُ ليعلن هذه المرة بأدب أن علينا ترك المائدة كي يتاح للخادم نقل أطباق الفطور. لم يكن في نيّة أيٌّ منا الذهاب إلى المدينة، وذلك عملاً بنصيحة القنصل. هكذا خرجنا إلى حديقة القصر، لنتجول في مماشيها، علّ النسيم المنعش يهدّئ دواخلنا المتوجّسة.

10
كان واضحاً من كلام القنصل، أننا علقنا في المصيدة برغبتنا؛ أو بالأحرى، بجهلنا. لكننا اتفقنا أن نبقى متحصنين في مقر الممثلية، علّ المتحصّن في عكا يستسلم لنابليون ويقع في شرّ أعماله. مع مرور الأيام، دونَ أيّ تغيّر في وضعنا، آلت نفسياتنا إلى التحسّن نوعاً ما، بحيث تجرأنا على الخروج أحياناً إلى المدينة كي نتجول في أسواقها أو نقضي الوقتَ في أحد مقاهيها، المطلة على البحر. بيد أننا كنا نقصر جولاتنا على الجزء الشرقيّ من المدينة، الذي يغلب عليه العنصر المارونيّ؛ وكان مقر الممثلية يقع في أحد أحيائه الراقية.
في أحد الأيام، وكان مضى شهرٌ تقريباً على لجوئنا إلى القنصلية، أفقنا على جلبة كبيرة، أعقبها أصواتُ وقع أقدام ثقيلة في الممر. قبل أن نعي ما يحصل، أقتحمت ثلة من الجند حجرة نومنا. خاطبنا الآمرُ بلهجة شديدة، مستعملاً اللغة التركية، التي كان رفيقُ الحجرة يفهمها. أُمرنا بارتداء ملابسنا، لكي نرافقهم، وما لبثوا أن وضعوا القيود في أيدينا. لما نزلنا معهم إلى الدور الأرضيّ، رأينا جان وغابي بنفس الحالة. لكن القنصل لم يظهر، ولا وصيفه. عند مدخل المقر، كان ثمة عربة مشدودة بالخيل، أصعدونا إليها نحن الأربعة ومن ثم سارت مطوّقة بعدد من الفرسان على رأسهم ذلك الآمر، الذي كان يوحي شكله بأنه ألبانيّ. وما عتمت العربة أن نزلت في الطريق، المفضي إلى المرفأ القريب.
" سننقلكم إلى عكا "، بهذه الجملة المقتضبة ردّ الآمرُ على سؤال السيّد خليل. وكنا عندئذٍ نشحنُ مثل بضاعة ثمينة إلى عنبر سفينةٍ، كانت تقف في المرفأ. لم نكن المعتقلين الوحيدين هنالك، لذلك توقعنا أن يحضروا القنصلَ الفرنسيّ أيضاً. لكن الرجلَ لم يظهر، وها هيَ السفينة تتحرك بنا إلى جهة الجنوب الغربيّ، أين تقع المدينة المحاصرة. رفاق الأسر في العنبر، وعددهم نحو عشرين رجلاً، كانوا بمعظمهم من التجار الأوروبيين مع بعض المسلمين واليهود؛ حسبما تبيّنَ من لغاتهم وأشكالهم. الحرس، سبقَ أن حذرونا من مخاطبة بعضنا البعض، لكن مع مرور الوقت غضوا البصر عن ذلك. هكذا علمنا من التجار، أنهم من رعايا إمارة البندقية، وأن القبض عليهم كان مجرد سوء فهم. البقية، وهم ثلاثة من المسلمين ويهوديان، التزموا الصمتَ باصرار لما استفهنا منهم عن سبب اعتقالهم.
مع بزوغ الفجر، لاحَ من حركة الحراس أننا وصلنا إلى المكان المقصود. قبل ذلك توقفنا في مرفأي صيدا وصور على التوالي، لكن السفينة لم تُشحن بالمزيد من الموقوفين. بعدما تم إخراجنا إلى السطح، امتد أمام أعيننا مشهدٌ مدهش لعدد كبير من المراكب الحربية، علمنا أنّ معظمها للإنكليز والقليل منها للأتراك. في غضون ذلك، كنا نقتربُ من مرفأ عكا، وما أسرع أن تناهى لسمعنا صدى القصف المدفعيّ المتبادل. كان واضحاً إذاً، أن حصار نابليون قد أُحكم من البر، فيما البحر بقيَ تحت سيطرة الإنكليز؛ حلفاء الباب العالي.
" ستُعرضون على الباشا حينَ يأتي دوركم "، قال لنا حراسُ القلعة فورَ وصولنا إليها. وكانوا قد أنزلونا إلى طابقٍ يقع تحت الأرض، ووزعونا هنالك على عدد من الزنازين. بقينا نحن الرفاق الأربعة معاً، علاوة على الرجلين اليهوديين. مع مرور الوقت، تخليا عن صمتهما وعلمنا هكذا أنهما موقوفان بتهمة التجسس. لما تساءلنا مستغربين، عما يؤخذ على طائفة اليهود في هذا الصراع، رد أحدهما بالقول: " نابليون، عشّمَ كل طائفة بوعدٍ منه. فقال لليهود أنه سيعيد إليهم هيكل سليمان في القدس، وللمسلمين أنه سيخلصهم من عسف العثمانيين والمماليك، أما النصارى فإنهم بطبيعة الحال ملّته ". ثم أضافَ: " هذا مع أنّ بعض رجال اليهود هم عماد دولة الجزّار، وبالأخص الحكيم حاييم فرحي. وإنه الحكيم، من أشار على الجزّار أن يبني سوراً إضافياً لعكا، كي يكون بديلاً عن السور الأصليّ ما لو تمكن الفرنسيون من تدميره بمدفعيتهم أو بالألغام ". ثم استطرد بنبرة ساخرة: " هل تعلمون ماذا كافأ الجزّارُ الحكيمَ؟ لقد جَدَعَ أنفه. قبل ذلك، كشفَ الحكيمُ للباشا أن نائبه يخونه. فقتل الباشا ذلك الخائن ثم أمر بصلم أذن الحكيم. بعدما أنقذ الحكيمُ عكا من السقوط ببضعة أيام، حضرَ مجلسَ الباشا، فهب هذا صائحاً أنه من المعيب أن يقابله وفي عينه قذى. على ذلك، أمر بقلع عين الرجل! ".
راعني ما سمعته من مسلك الجزّار، المتصف خصوصاً بالغدر واللؤم والوحشية؛ هذا، مع أنني سبقَ وسمعت كغيري من الخلق أمثلة على ذلك. كنتُ قد ركنتُ إلى التفكير، لما استعدتُ معلومةً عن الرجل سبقَ لوصيفة كَوليزار أن أخبرتنا بها: أنه شديدُ الإيمان بالسحر والتنجيم، بحيث يُجزي ذهباً الممارسين لهما لو كانت له حاجةٍ في أمر ما. هكذا خططتُ لحيلةٍ، أملتُ منها أن أشتري حريتنا وربما حياتنا لو كان المأفونُ يرغب بقتلنا. لكنني لم أبُح لأصدقائي بشيء، بالنظر لوجود الرجلين الغريبين في الزنزانة.
لم يكن من الممكن معرفةُ الوقت في هذا المكان، الأشبه بالقبر، المفتقد لأيّ منفذ على السماء. لكنني قدّرتُ أنني قبعتُ أربعة أيام، لحين أن جاء دوري لأُعرض على الباشا. حضرَ الحراسُ واصطحبوني، لأرتقي الدرج برفقتهم إلى أحد الأدوار العلوية في القلعة. ثم ما لبثوا أن أدخلوني إلى قاعة مستطيلة الشكل، ينفذ إليها نورُ النهارضعيفاً من خلال عدد من النوافذ الصغيرة، الشبيهة بالكوى، المسدل عليها ستائر قاتمة اللون. في صدر القاعة، كان هنالك أريكة مرصعة بالصدف والفضّة، تمدد عليها رجلٌ عجوز، مسنداً رأسه بعدد من الوسائد المدبّجة. أدركتُ أنني في حضرة الغول المُرعب، المدعو بالجزّار، لكنني لم أكن أتصوّر أنه أضحى على هذه الدرجة من الخَوَر والضعف.
تركني الحراسُ وانسحبوا، وبقيتُ في القاعة مع الباشا ورجل كان ظهره إليّ، يبدو مشغولاً بالانكباب على دفتر كبير وُضِعَ على مقرأ بين يديه. برغم شيخوخته المتقدمة، ظهرَ الباشا بلباس الحرب، المصنوعة من الجلد الأسود اللون؛ ما كان يشي بإشرافه المباشر على الدفاع عن المدينة. لسوء حظي، أنني كنتُ الفرنسيّ الوحيد في تلك المجموعة من الموقوفين، التي جلبت بحراً من بيروت. وهوَ ذا الجزّارُ يرفع رأسه، ليتفحّصني عن قرب، وكان قبلئذٍ يتسلّى بمسبحة من أحجار الكهرمان الدقيقة الحجم. كانت نظرته تتسمُ في آنٍ معاً بالفضول والتحفّز، ولعل الضبع يُشبهه في هذه الحالة عندما يكون بمواجهة آكل عشبٍ لا حول له.

11
" إلياس ديبوربون؛ نبيلٌ فرنسيّ، هاربٌ من ثوار بلده. أليسَ صحيحاً؟ "، تساءل الباشا بالعربية. ثم استدرك حالاً، كأنما معلومته بديهية لا تحتاج لجواب: " لقد أمضيتَ نحو عشرة أعوام تحت حماية الباب العالي، وبذلك نجوتَ في أول مرة من الاعتقال في فترة ولايتي السابقة على الشام. الآن، ينتابني الفضول لمعرفة موقفك من الحملة، التي يقوم بها ضد الدولة أحدُ جنرالات موطنك؟ ". عندما هممتُ بالرد، أوقفني مرة أخرى بأن واصل الاستطراد وعيناه تبرقان بنذر وحشية: " أنا لم أشك، أبداً، بالسبب الحقيقيّ لوجودك في المشرق كل هذه الأعوام؛ ألا وهوَ جمع المعلومات للدولة الفرنسية، وذلك تمهيداً للحملة العسكرية ضدنا! ". أردتُ تبصيره بالتناقض في كلامه، بتذكيره أنني أعدّ خصماً لثوار باريس، الذين أرسلوا نابليون لاحتلال المشرق. لكنني كنتُ طوال الأيام الماضية أحيك خطّةً للخلاص، أعتمد فيها على إيمان الباشا بالشعوذة. في الأثناء، التفتَ رجلُ المقرأ إليّ، ما جعلني أجفلُ قليلاً: كان شخصاً مشوّهاً بطريقة بشعة للغاية؛ بعين عوراء عليها حجاب أسود، وأنف مجدوع من جذره، وأذن مصلومة. ذلك إذاً كان حكيم اليهود، حاييم فرحي، اليد اليمنى للجزّار.
طلبتُ الإذن بالكلام، ثم رويتُ بعبارات وجيزة معاناتي وعائلتي من عسف ثوار باريس، لأصل إلى القول: " مع أنني أملك منزلاً فارهاً في البندقية، وأقارب هنالك أغنياء من جهة الأم، لكنني آثرتُ السفرَ إلى الشرق بحثاً عن آثار المسيح الجديد "
" أيّ مسيحٍ هذا؟ "، سألني الجزّارُ رافعاً حاجبيه الأشيبين والكثين. عند ذلك عرضتُ بشيء من التفصيل إهتماماتي بالتاريخ والفلك، لأصل إلى زبدة مزاعمي عن التبشير بالمسيح الجديد: " قبل الثورة المشئومة، وقع بيدي كتابٌ عربيّ قديم لعل تأليفه يرجع إلى مئات السنين. في هذا الكتاب، كان ثمة معلومة عن ظهور المسيح الجديد في المشرق وأنه سيحارب المسيحَ الدجال وينتصر عليه ثم لا يني يحارب ملوكَ العالم حتى تسود دولته، التي تملأ الأرضَ عدلاً إلى أن تقوم الساعة "
" وما هيَ علاماتُ ظهور المسيح الجديد؟ "
" لقد وقفتُ على جدول في الكتاب، موفق باسم الجلالة، وكان المطلوب أن أقسم هذا الاسم بشكل حسابي سبعة سبعة وما فضل منه أثبته في القرطاس. ففعلت ذلك إلى أن كملت أبيات الجدول، والحروف الخارجة من الجدول كلمات خرج منها هذا الاسم: أحمد بن عبد الله الجزار، المهدي المنتظر! ". فلما ذكرتُ الاسمَ، اشتد بريقُ عينيّ الباشا وما لبثَ أن التفتَ إلى نائبه، ليرمقه بنظرةٍ كأنما تقول: " أرأيتَ أنني كنتُ محقاً ". لكنه لم يتخلص من ريبته، فسألني: " قلتَ أولاً أنك تبحث عن آثار المسيح الجديد، ثم تحوّلت إلى المهدي المنتظر؟ "
" إنهما شخصٌ واحد، يا سيّدي، والتسمية تتغيّر لدى النصارى والمسلمين "
" فمن هوَ إذاً، المدعو بالمسيح الدجال؟ "
" إنه نابليون! "، أجبتُ باقتضاب وبساطة. طفقَ الباشا يحدّقُ فيّ، وكان قد نهضَ من مرقده واستوى على ظهره. استفهم مني بعد وهلة صمت: " وهل عرفتَ كم من الأعوام، يقضيها المهدي المنتظر في الحياة لحين أن تقوم دولته؟ "
" أبونا آدم عاش ستمائة عام، والنبي نوح عاش أربعمائة عام. والمهدي المنتظر سيعيش ما لا يقل عن مائة عام بكامل صحته، وذلك منذ لحظة علمه بكينونته ومهمته "، قلتها بنبرة اليقين رافعاً رأسي إلى السقف. في هذه المرة، طالَ تفكيرُ الباشا وكان مطرقاً برأسه إلى الأرض. كنتُ شبه متأكّد بأنه اقتنع بمزاعمي، كونها سراً لم يعلمه على الأغلب سوى أشخاص قلائل من خاصّته. لكنني كنتُ أتوجّسُ من المكافأة المنتظرة، ولعلها تكون على شاكلة ما كوفئ به الحكيم اليهوديّ، الذي صار عبرةً بين الناس. إلى هذا الأخير، ما عتمَ أن توجّه الجزّار بخطابه: " أنتَ بحاجة إلى صُحبة حكيم يُماثلك بالعلم والمعرفة، وها أنت حصلتَ عليه. إذاً سيعيشُ ضيفنا في جناحك بالقلعة، وفي غضون ذلك سنتأكّد من صحّة معلوماته فيما لو هزمنا المسيحَ الدجال "، نطقَ التعبيرَ الأخير بشيء من التهكّم. وكنتُ مذ حلولي في بيروت مؤخراً، قد سمعتُ بقنوط الجزّار من جدوى مقاومة الفاتح الفرنسيّ وأنه كان يود الاستسلام لولا استمرار حثه على الصمود من قبل الباب العالي والإنكليز.
" أمرك مطاعٌ، يا سيّدي "، قال ذلك الحكيمُ ثم استقام واقفاً. فلوّحَ الباشا بيده، إشارةً على الانصراف. من قاعة ديوان الحاكم، أخذني الحكيمُ رأساً إلى الجناح المقيم به وكان يقع في نفس الدور وله شرفة عريضة تطل على منظر البحر، المزدحم بالمراكب الحربية. سلّمني بعدئذٍ لوصيفه بعدما كلمه همساً بضع كلمات، فقادني هذا الأخير إلى مقصورة في حمّام الجناح: " أرجو أن تبقي ملابسك في المقصورة، كونها ولا شك مليئة بالقمل "، قالها بشيء من الازدراء. أدركتُ من لهجته، أنّ سيّده ربما أسرّ له أنني ما زلتُ أعَدّ أسيراً. لكنني مع سعادتي بالتخلص من الزنزانة، فكّرتُ بأصدقائي وكنتُ مصمماً على محاولة انقاذهم أيضاً. عقبَ الحمّام ونيلي ملابس جديدة، قادوني إلى حجرة بالجناح خصصت لاقامتي وكانت صغيرة لكنها حسنة التأثيث. اضطجعتُ على السرير، وكنتُ في غاية الارهاق ذهنياً. استعدتُ بقلق تأكيد الجزّار، أنه سيمتحنني عن طريق مآل الحملة الفرنسية إن كانت فشلاً أو فوزاً. خاطبتُ نفسي في الختام: " لعله يأمر بقتلي حينَ يتمكن المحاصِرون من تدمير السور المزدوج، أو ربما قبل ذلك. فمن يدري ماذا تسوّل له نفسه، المائلة دوماً للشر؟ ".
مع مرور الأيام في هذا الأسر الجميل، لاحَ واضحاً أنّ رجال القلعة اعتادوا عليّ كأنني واحدٌ منهم. صارَ في وسعي السيرَ معهم إلى جهة السور، المطلة على معسكر الجيش الفرنسيّ كي أتابع سيرَ القصف ورمي النار المتبادل. مرات عدة، أعارني أحدهم منظاره الحربيّ؛ ومن خلاله أمكنني رؤية القائد نابليون وهوَ على صهوة حصانه في مكان مرتفع، يقود معركة الحصار. في أيّ وقت من النهار أو الليل، صادفَ امساكي بالمنظار، كنتُ أراه بهذه الوضعية لدرجة أن أتساءل باستغراب: " هل يأكل وينام وهوَ على ظهر حصانه؟ ". لما نقلتُ هذا السؤال لأحد المدافعين، وكان ضابطاً ألبانياً يتكلم العربية، فإنه رد بالقول بنبرة تتبطن الإعجاب: " إنه اسكندر مقدوني زمننا، وقد يحتل العالم كله "
" ألا تخشى من فوزه باقتحام عكا، أن يكرر فيها ما جرى في مدينة يافا؟ "، علّقتُ على كلامه. أجابني باقتضاب: " إننا في حرب ". وكنتُ قد سمعتُ بإعدام نابليون حوالي ثلاثة آلاف عسكري عثماني على شاطئ يافا، مبرراً ذلك أنهم أسروا من قبل وتعهدوا بعدم عودتهم إلى القتال. هذه المذبحة، ستكون من أسباب فشل الحملة: الطاعون، ما لبثَ أن انتشر في المنطقة، نتيجة تفسخ الجثث، ثم انتقل إلى صفوف الفرنسيين وبدأ يفتك بهم.
في صباح أحد الأيام، وبينما كنتُ أتقلّب على فراشي، إذا بي أسمع جلبة كبيرة في الخارج تبعتها تهليلات تذكر اسم الله. هُرعت بملابس النوم، لألقى أحد الخدم والذي هتفَ بفرح غامر: " انسحبَ الفرنسيون من محيط عكا، وانتهى الحصار! ".

* الكتاب الثالث من العمل الروائي، " الأولى والآخرة "..



#دلور_ميقري (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- كما رواه شاهد عيان: الباب السابع
- كما رواه شاهد عيان: الباب السادس
- كما رواه شاهد عيان: الباب الخامس
- كما رواه شاهد عيان: الباب الرابع
- كما رواه شاهد عيان: الباب الثالث
- كما رواه شاهد عيان: الباب الثاني
- كما رواه شاهد عيان: الباب الأول
- كما رواه شاهد عيان: مفتتح
- كما رواه شاهد عيان: تقديم
- مدخل إلى عصر الرعب: الخاتمة
- مدخل إلى عصر الرعب: البرج الثاني عشر
- مدخل إلى عصر الرعب: البرج الحادي عشر
- مدخل إلى عصر الرعب: البرج العاشر
- مدخل إلى عصر الرعب: البرج التاسع
- مدخل إلى عصر الرعب: البرج الثامن
- مدخل إلى عصر الرعب: البرج السابع
- مدخل إلى عصر الرعب: البرج السادس
- مدخل إلى عصر الرعب: البرج الخامس
- مدخل إلى عصر الرعب: البرج الرابع
- مدخل إلى عصر الرعب: البرج الثالث


المزيد.....




- تابع HD. مسلسل الطائر الرفراف الحلقه 67 مترجمة للعربية وجمي ...
- -حالة توتر وجو مشحون- يخيم على مهرجان الفيلم العربي في برلين ...
- -خاتم سُليمى-: رواية حب واقعية تحكمها الأحلام والأمكنة
- موعد امتحانات البكالوريا 2024 الجزائر القسمين العلمي والأدبي ...
- التمثيل الضوئي للنبات يلهم باحثين لتصنيع بطارية ورقية
- 1.8 مليار دولار، قيمة صادرات الخدمات الفنية والهندسية الايرا ...
- ثبتها أطفالك هطير من الفرحه… تردد قناة سبونج بوب الجديد 2024 ...
- -صافح شبحا-.. فيديو تصرف غريب من بايدن على المسرح يشعل تفاعل ...
- أمية جحا تكتب: يوميات فنانة تشكيلية من غزة نزحت قسرا إلى عنب ...
- خلال أول مهرجان جنسي.. نجوم الأفلام الإباحية اليابانية يثيرو ...


المزيد.....

- صغار لكن.. / سليمان جبران
- لا ميّةُ العراق / نزار ماضي
- تمائم الحياة-من ملكوت الطب النفسي / لمى محمد
- علي السوري -الحب بالأزرق- / لمى محمد
- صلاح عمر العلي: تراويح المراجعة وامتحانات اليقين (7 حلقات وإ ... / عبد الحسين شعبان
- غابة ـ قصص قصيرة جدا / حسين جداونه
- اسبوع الآلام "عشر روايات قصار / محمود شاهين
- أهمية مرحلة الاكتشاف في عملية الاخراج المسرحي / بدري حسون فريد
- أعلام سيريالية: بانوراما وعرض للأعمال الرئيسية للفنان والكات ... / عبدالرؤوف بطيخ
- مسرحية الكراسي وجلجامش: العبث بين الجلالة والسخرية / علي ماجد شبو


المزيد.....


الصفحة الرئيسية - الادب والفن - دلور ميقري - كما رواه شاهد عيان: الباب الثامن