أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - دلور ميقري - كما رواه شاهد عيان: الباب الخامس















المزيد.....



كما رواه شاهد عيان: الباب الخامس


دلور ميقري

الحوار المتمدن-العدد: 6829 - 2021 / 3 / 2 - 01:18
المحور: الادب والفن
    


1
لاحَ أن الجميعَ كانوا يتحينون فرصةَ غياب الوالي، لكي ينقضوا على بعضهم البعض في مشهدٍ أشبه بحفل مصاصي دماء. هذا ما فكّرتُ فيه، عقبَ سماعي أولاً بأول أخبارَ المعركة، التي أندلعت مساءً في وقتٍ كنتُ فيه وعشيقتي نتهيأ لممارسة الحب. فيما يلي، سأحاولُ بدقّة المؤرخ، وموضوعيته، نقلَ صورة موجزة عن صراعٍ دامٍ، دامَ لمدة ثلاثة أيام وانتهى بنتيجة لا غالب ولا مغلوب ـ كغالبية صراعات العسكر والأصناف في هذه المدينة.
هذا الحدث الجديد، كان على خلفيّة زحف والي عكا باتجاه دمشق، بهدف الاستيلاء عليها ومن ثم محاولة الحصول من الأستانة على فرمان يُجيز له الاحتفاظ بها. عادةً، وفي مثل هذه الأحوال، كان البابُ العالي يشترط على الغاصب أن يدفع ضعفيّ ما يترتب على الولاية لخزينة الدولة.
" الجزّار "، صاحبُ اللقب المشنوع والمرعب، كان الآنَ يناور مع قواته على حدود الولاية الشامية، تاركاً عسكره يستبيح قرى الإمارة اللبنانية. حاكم الإمارة، لم يكتفِ بحشد جيش كبير لمواجهة عدوّه التقليديّ، وإنما لجأ أيضاً لمحاولة استرضائه عن طريق الرشاوى والهدايا. متسلّم الشام ( نائب الوالي )، راودته نفس الفكرة. فعمد إلى استدعاء أعيان المدينة وتجارها الأغنياء، فطلب منهم جمع مبلغ ألفيّ كيس كي تدفع كرشوة لوالي عكا من أجل رده عن الشام. هؤلاء الأعيان، ردوا بلطف على المتسلم، واعدين إياه بتأمين المبلغ خلال ثلاثة أيام. لكنهم بمجرد خروجهم من السرايا، هُرعوا إلى القلعة للاستنجاد بآمري الإنكشارية؛ كون هؤلاء الأخيرين، خصومَ المتسلّم وسيّده الوالي. بحَسَب مألوف عادتهم، أطلق الإنكشاريون بضعَ قذائف باتجاه السرايا، وذلك إيذاناً بالمعركة أو ربما على سبيل التحذير منها. من ناحيته، وحالما وصلت الرسالة النارية إلى المتسلّم، طلبَ إليه زعماءَ أصناف المرتزقة لحشدهم ضد القلعة.
المتسلّم، ويُدعى " هاشم آغا "، قال لأولئك الزعماء: " رفضَ الأعيانُ والتجار دفعَ الأتاوة المطلوبة، معتمدين على دعم القلعة. فعليكم استباحة دورهم ونهب ما تجدونه من مال ومتاع حتى يدفعهم الفقر لبيع ملابسهم، ليتمكنوا من شراء الطعام! ". لكنها كانت فرصة لأصناف المرتزقة، للهجوم أيضاً على دور الإنكشارية، الكائنة أغلبها في حي سوق ساروجة. إحتياطاً، كان الحيُ قد أخليَ منذ الصباح من النساء والأطفال، الذين لاذوا بحرم المسجد الأمويّ. مع ذلك، وقعت حوادث عديدة في أثناء المعارك، أنتهكت فيها الحريمُ من لدُن أولئك العسكر. كان ردّ الإنكشارية عنيفاً، بأن وجهوا فوهاتِ مدافعهم هذه المرة باتجاه العمارة والميدان، وهما حيّان في خارج الأسوار تقطنه غالباً عائلات الأصناف. ثم انتقلت المواجهات إلى حارات الشاغور والعقيبة وباب سريجة، وكانت بين كرّ وفرّ.
في أثناء ذلك، تحالفت القابيقول مع اليرلية ضد الأصناف؛ أضحت الانكشارية قوة موحدة، علاوة على امتلاكها المدافع في القلعة. القذائف، أوقعت الحرائق في أسواق الجديد والدرويشية والأروام، أدت إلى اتلاف حوالي ثلاثمائة متجراَ. بسبب تفوق الانكشارية من ناحية القوة النارية، أمرَ المتسلمُ بإحضار أفضل سكّاب في المدينة، بهدف صنع مدفع ضخم، يمكّنه من هدم أجزاء من واجهة القلعة بغية اقتحامها. السكّاب، كان من المغاربة، الذين جندوا في فرقة مرتزقة، تُدعى " الهوارة ". لكنّ الرجلَ ما لبثَ أن عميَ، بسبب توهّج الحديد المذاب ووقوع ذراته في عينيه. فتولى مساعده إكمال سكب المدفع، إلى أن انتهى وتمّ تبريده. بعدئذٍ جر المدفع إلى الحديقة، الكائنة على طرف مسجد " دنكز "، وصوبت فوهته نحو القلعة. القذائف الأولى، أدت الى انهيار بضعة أذرع من السور في جهة سوق السروجية. فطلبَ هاشم آغا توجيهَ القذائف باتجاه مدخل القلعة، لكي يُعجل باقتحامها. عند ذلك، ضاق الحال بالمحاصرين داخل القلعة، وما لبثوا أن طلبوا من الأعيان الخروجَ إلى المتسلم بعرض الصلح. وكان رد هذا الأخير، أن وضع القيود بأيدي وأرجل أعضاء الوفد المفاوض ثم رماهم في سجن السرايا. لكنّ حدثاً مفاجئاً جدّ، جعل المتسلّم يأمر بإيقاف القصف.
الباب العالي، كان على درايةٍ بما يحصل في دمشق في كلّ مرة يتوجه فيها الوالي إلى الحج بصحبة المحمل الشريف. لذلك عَمَدَ سلفاً في هذا العام إلى توجيهِ مرسالٍ من طرفه، يُدعى بلغتهم " قَبَجي "، للحيلولة دونَ إحتدام الصراع بين مختلف القوى في المدينة. لحُسن حظ جماعة القلعة والأعيان، أن القبجي وصل إلى دمشق في اليوم الثالث من المعارك وكانت الكفّة تميل لصالح الأصناف. سرعانَ ما أجتمع المتسلّم بممثل السلطان، فوضعه في صورة الوضع منذ فترة زحف والي عكا على المدينة. هنا، طمأنه القبجي بالقول: " لقد قابلتُ الجزّار أولاً، كوني سافرت عن طريق البحر، وطلبت منه الانسحاب إلى حدود ولايته وإلا سيتعرض لغضب مولانا السلطان ويُعزل ". ما لبثَ المتسلّم أن أخرجَ الأعيانَ من السجن، بطلب من القبجي، ليخبرهم هذا الأخير أنه لم يُعد ثمة حاجة لدفع الأتاوة، التي كانت سبباً في إندلاع المواجهة الدموية.

2
بينما كانت المدينة تتنفّسُ الصعداءَ، غبَّ توقف القتال المجنون بين الأطراف المتصارعة، كنتُ مع كَوليزار ووصيفتها في الطريق إلى المسجد الأمويّ. دبّرتُ حيلةً، لتبرير غيابهما عن المنزل خلال ثلاثة أيام: أوصيتُ صاحبنا الحمّال أن يتوجه إلى ذلك المنزل، كي يزعم لهم أنه مرسلٌ من لدُن كَوليزار، الملتجئة إلى المسجد بعدما فاجأتها المعاركُ حينَ كانت في السوق مع وصيفتها. انطلت الحيلةُ على مدبّرة المنزل، مثلما نمّ إليّ فيما بعد.
في الأثناء، كنتُ متلهّفاً على معرفة الأخبار من خلال الأصدقاء، منتظراً أن يزورني أحدهم عقبَ توقف القتال. الحمّال، كان قد زوّدني ببعض المعلومات، بحسب فهمه البسيط للأمور: " الجزّار يعتمد كلياً تقريباً على المرتزقة، وهذا جعله مفضّلاً عند رفاقهم في الشام. الإنكشارية والأعيان، هم من عرضوا إلى الدولة بعزله في وقت ولايته الأولى على الشام قبل سنوات عديدة. وإنه لن ينسى لهم ذلك، أبداً ". لكن صاحبنا ربما كان على حق، بتأكيده أنّ الأصناف هم مَن ابتدأوا التحرّشَ بالانكشارية، وذلك بغيَة إعطاءِ مبررٍ لوالي عكا بالتدخل بحجّة السعي لفرض الأمن في المدينة.
حضرَ السيّد خليل، أولاً، وكان الوقتُ على شفا الغروب. على غير عادتي، كنتُ قبل حضوره أشكو من الوحدة؛ أنا مَن قضيتُ الأيام الثلاثة، الأخيرة، بصحبة كَوليزار ووصيفتها ومن ثمّ مع الحمّال. استقبلتُ الضيفَ بابتهاج، وأسرعتُ بصب قدحين من النبيذ كإشارةٍ لبدء السهرة. قال لي مبتسماً، ملاحظاً بعينيه الذكيتين ما في ملامح وجهي من رواء ونضارة: " تبدو كأنك لم تكن محاصَراً في منزلك، شأن بقية مواطني المدينة؟ "
" بل كنتُ محاصَراً من قوتين، إحداهما غاشمة والأخرى مسالمة! "، أجبته ضاحكاً. ومثلما فعلته آخر مرة ألتقينا، رسمتُ بخطوط عريضة ما جرى معي في خلال الأيام الثلاثة المنصرمة. علّقَ على ما سمعه، بالقول وقد اتسعت ابتسامته: " إذاً كنتَ تخوض حربك الخاصّة، غير آبهٍ بما يجري في المدينة من معارك وقصف واستباحة ". ثم استدرك بلهجة أكثر جدّية: " إنني أغبطك على مزاجك الرائق، وأهنئك أيضاً لنجاح الحيلة وتجنّب الفضيحة ". الجملة الأخيرة، ذكّرتني برأيه السابق بعلاقتي العاطفية؛ كيف صوّرها بأنها بريئة طالما لم يعتورها الاتصال الجسديّ. كان حرياً فيّ، عندئذٍ، أن أشعر بالخجل والخزي لولا أنّ وجهةَ نظري لا تأبهُ كثيراً بالتدخلات السماوية في شئون البشر.
كان بودّي أن أعلّق على كلامه، لكنني فضّلتُ حثّه على تفصيل ما يعرفه عما جرى في المدينة في تلك الأيام العصيبة. بقيَ ما يزيد عن الساعة يتكلم، ولم يوقفه إلا مجيء صديقينا جان وغابي. تبيّن أنهما عانيا أيضاً من الحصار المنزليّ، وبالكاد فهما بعضاً مما جرى. على ذلك، أضطر السيّد خليل لإعادة العديد من تفاصيل روايته للأحداث. في خلال حديثه، كنتُ في المطبخ أحضّر ما يلزم للعشاء. كما ألمعتُ إليه في مكان آخر من هذه التذكرة، أنني سبق وخزّنتُ مواداً غذائية متنوعة، كوني أُنذِرتُ باحتمال وقوع قلاقل في المدينة عقبَ رحيل واليها مع المحمل الشريف.
عندما دخلتُ وبيديّ طبقين من المازة، هبّ غابي من مكانه ليتسلمهما من أمام الباب، وكذلك فعل مع بقية الأطباق. إذاك، كان السيّد خليل قد أنهى روايته للأحداث. على الأثر، أرتفعت التعليقات ممن استمعوا للرواية. وكنتُ منهم بالطبع، وأول من تكلم، حيث وجهتُ سؤالاً للراوي: " أتعتقد أنّ الجزّار سيترك الولاية الشامية وشأنها، أم أنه سيكرر محاولته بعد مغادرة القبجي؟ ". هتفَ غابي، مؤكّداً أنه سؤالٌ مهم وكان على لسانه أيضاً. ينبغي التذكير، أننا كنا نقارع الخمرَ؛ ما جعل بعضنا في غاية الحماسة.
قال السيّد خليل رداً على سؤالي: " منذُ عزلِ الجزّار عن ولاية الشام، قبل عديد من الأعوام، وهوَ لم يكفّ عن التدخل في شئونها بشكل أو بآخر. ولاية الشام على جانب كبير من الأهمية، ليسَ لغناها وموقعها الفريد، حَسْب، بل أيضاً لأنّ واليها مكلّفٌ بتسيير قافلة الحج السلطانية. الآن، مع ظهور الدعوة الوهّابية، يظن الجزّار أن الوقتَ ملائمٌ كي يستولي على الولاية الشامية، منتهزاً فرصة انشغال السلطان وقلقه بخصوص تلك الدعوة "
" هل تعتقد أن أولئك الوهّابيين الأعراب سيعترضون قافلةَ الحج، فتتكرر حادثةٌ شنيعة حصلت قبل نحو ثلاثة عقود من الزمن؟ "، طرحتُ هذا السؤال. قبل أن يجيب المحدّث، انبرى جان ليخاطبني مبتسماً: " من أين حصلتَ على هذه المعلومة عن الحادثة، التي لا نعرفها نحن مواطنو المدينة؟ ". بالطبع، لم يكن في تفكيري أبداً ذكرُ مصدر المعلومة، وهيَ عشيقتي كَوليزار. فأجبتُ بطريقة ملتبسة: " أظنني سمعتها مرةً من احدهم، ثمة في المقهى ".
عاد السيّد خليل للإجابة على السؤال، بالقول: " ليسَ مستبعداً أبداً، احتمالُ تعرّض القافلة لهجوم من أولئك الأعراب. وكتابنا الإلهيّ وصفهم، أنهم أشدّ كفراً ونفاقاً. لكن لو حصلَ الهجومُ فعلاً، فإن البابَ العالي على غالب التقدير سيحشد جيوشَ الولايات السورية جميعاً، وربما يعهد بقيادتها للصدر الأعظم بنفسه ".
قلتُ وأنا أسرح ببصري إلى جهة المطبخ، المنار ببصيص عدد من الشموع: " قبل حضوري إلى الشرق، كنتُ أعتقد أن الامبراطورية العثمانية تقاد بيد السلطان المطلق، الحديدية. وإذا هي تشبه إلى حد كبير المملكة الفرنسية، عشية اشتعال الثورة ".

3
عند ذلك، طلبَ مني السيّد خليل سردَ بعض ذكرياتي عن الثورة. لوحتُ يدي بطريقةٍ، توحي بالرغبة في طرد تلك الذكريات الأليمة: " لِمَ سنبعثُ من رقادها هكذا أحداثٍ مريعة، فنفسدُ جوَّ سهرتنا الحميم؟ ". لكنّ الضيف الآخر، غابي، وقد لعبت الخمرُ جيداً برأسه، عبّر عن حماسته للاستماع إليّ: " لقد قصّ علينا السيّد خليل، قبل قليل، قصّة شيّقة. وعليك الآنَ أن تحذوَ حذوه ".
هكذا ابتدأتُ الحديثَ، بالقول: " لقد عُزيت الثورة لكتابات فلاسفة مرموقين، أمثال فولتير ومونتسكيو، المناهضة للاستبداد والداعية إلى الحرية والمساواة. بيد أنه الجوعُ، مَن حرّك جماهيرَ الضواحي الباريسية، المسحوقة بالفقر، للتوجّه إلى سجن الباستيل كي تحرقه؛ باعتباره رمزاً للقهر. يُقال، أنهم لم يجدوا في ذلك السجن الرهيب سوى معتقلاً واحداً. نعم، إنّ الجوعَ حيوانٌ ضار، يسكن في أعماق الحيوان المسمّى إنساناً. الأفكار، حقاً لها أهميتها، غير أن دَورها برز فيما بعد، عندما أنتقلت الثورة من يد الفلاحين إلى يد البرجوازية المدينية وتم فرض ما يسمى بالجمعية الوطنية لقيادة البلاد عقبَ تنحية الملك "
" مهلاً علينا، يا صديقي، في استخدام المصطلحات الغريبة عن أسماعنا "، أوقفَ السيّد خليل كلامي. ثم أضاف، متسائلاً: " ما هيَ البرجوازية؟ "
" إنها طبقة جديدة، نشأت حديثاً في دولنا الأوروبية نتيجة التطور الصناعي. هيَ طبقة مرفهة، لكنها تبتغي تغيير النظامَ القديم، القائم على وسائل الانتاج المتخلفة. باختصار، إنها تريد محي امتيازات النبلاء ورفع شأن الفئة الصناعية الجديدة، التي ظهرت مع إختراع الآلة "، أوضحتُ فكرتي بإيجاز ثم عدتُ لتتمة سرد الأحداث: " لقد تأثرتُ بنفسي بأفكار أولئك الفلاسفة، وخضتُ جدلاً في كل مرة مع أصدقائي وجيراني من ملّاكين منطقتنا. مع اندلاع شرارة الثورة، وما تخللها من عنفٍ مجانيّ، مجنون، توصلتُ إلى قناعة بأنّ تلك الأفكار النبيلة وقعت بأيدي همج لا يعرفون حتى القراءة وإنما دفعتهم غريزتهم البدائية إلى إعتناقها كما لو كانت غذاء لبطونهم المتضورة جوعاً. الغريب، أن الثوار نحوا إلى التصرف كما لو كانوا حاملي دعوة دينية جديدة، فأنزلوا نقمتهم برجال الدين المسيحيين؛ صلبوهم وأحرقوهم وعلقوهم من أعناقهم على فروع الأشجار والأعمدة والشرفات. بالطبع، ثمة ظروفٌ عديدة أسهمت بانفجار الثورة، كان منها الحروبُ الخارجية وفرض ضرائب ثقيلة على المواطنين علاوة على مواسم متتابعة من الجفاف والقحط. اليوم، بعد نحو العام من اندلاع تلك الأحداث، ما زالت الأسرةُ الحاكمة قيد الإقامة الجبرية. هيَ تأمل بتأثير جناح قوي، ضمن الجمعية التأسيسية، يريدُ الحفاظَ على الملكية مع تطعيمها بمصلٍ دستوريّ ". عندما سكتُّ، موحياً بانتهائي من السرد، لاحَ على وجوه الأصدقاء الخيبة. وربما عبّرَ عن ذلك، صديقنا غابي، بالقول: " بالطبع، قرأنا في حينه من خلال الصحف الفرنسية تفاصيلَ مثيرة عن الثورة. لكنك تحدثت عن أشياء عامة ـ أو كما يُقال ـ فلسفتَ الأحداث بطريقتك البارعة، وذلك عوضاً عن قص ما جرى لك ولأسرتك ومعارفك في إبّان تلك الاضطرابات الخطيرة ".
استمعتُ إلى كلمات صديقي، وما لبثت أن أجبته قائلاً: " باغتتنا الأحداثُ أنا وأسرتي، كما وجميع ملّاكي منطقتنا، وكان همّنا هوَ الحفاظ على حياتنا قبل كل شيء. لحُسن حظ أسرتي، أنها خرجت من البلد قبل أن يهيمن عليها الرعاعُ بشكل مطلق، فيقطعون الطرقات على الراغبين بالهجرة "
" هل سُمح لكم بأخذ أموالكم ومجوهراتكم، أم استولوا عليها؟ "، سألني جان وكان لسانه قد ثقل أيضاً بفعل الشراب. لكنه تكلم بطريقة تنمّ عن التعاطف، وهذا ما لمسته أيضاً من ملامح الآخرين. قلت له باقتضاب، موحياً أن الأمرَ غير ذي أهمية لي: " حملنا ما استطعنا حمله ".
علّقَ السيّد خليل، بنبرة توحي أيضاً بالتأثّر: " عندنا أيضاً في دمشق، ثارت العامّة مراتٍ عديدة بفعل الفقر والظلم أو جهلاً بتحريض من الإنكشارية، الناقمين على الوالي وحتى على السلطان نفسه. لكن لم يحصل هنا، أبداً، تنظيمٌ للثوار على غرار ما جرى في بلادكم الفرنسوية أو مجرد التفكير بتغيير النظام القائم والشبيه بملكيتكم ".
عقّبَ جان قائلاً: " أفدح نتائج الثورة الفرنسية، هوَ الإلحاد. الدين المسيحيّ، وبغض الطرف عن ممارسات خاطئة لبعض الكهنة على اختلاف مراكزهم، يبقى وجوده عاملاً أساسياً في تغذية المجتمع بالرحمة والتسامح والعدل. إنكارُ فكرة الإله، تعني فقدان القوة، التي يستمد منها الإنسانُ بالضمير الحيّ سواء أكان مسيحياً أو مسلماً أو موسوياً "
" العداء للدين، سببه غرور الفكر، بالأخص لدى الفلاسفة الماديين؛ وقد أسميتُ قبل قليل بعضهم ـ كفولتير ومونتسكيو. لكنني مثلما أكّدتُ أيضاً، لم تكن تلك الأفكار هيَ محرك الأحداث وإنما جاء تأثيرها ـ أي الأفكار ـ فيما بعد؛ وكان الوضع مهيئاً لفرضها على العقول الحارة، الملتهبة بأتون الثورة "
" وأنتَ، يا صديقي، بما أنك تحمستَ كما قلتَ لأولئك الفلاسفة؛ هل ما زلت تؤمن بأفكارهم بعد كل ما جرى من أحداث مؤسفة في وطنك؟ "
" نعم، إلى حدّ ما. هذه الأفكار، هيَ أيضاً كالمسيحية، لن تتأثر بتطبيقها الخاطئ أو بمفاسد رجال الدين. إنها أفكارٌ نبيلة، تجدد الأديان نفسها ولا تنوي فرضَ ذاتها كدينٍ جديد للبشرية ".

4
في اليوم التالي، مكثتُ في الفراش مطوّلاً إثر استيقاظي متأخراً نوعاً. تفطنتُ إلى أنّ الشرابَ جعل لساني بالأمس ينطلق بأشياء غير مناسبة، من قبيل التعاطف مع الفلاسفة الماديين، الذين ألهموا ثورةَ الرعاع. قلتُ لنفسي، في حنق وشفقة، في آنٍ معاً: " ماذا لو أنّ أحداً من أولئك الأصدقاء، وبنيّة حسنة، نقل للقنصل ما فهتُ به؟ ". كذلك بقيتُ متعكّر المواج، لحين حضور صاحبنا الحمّال. كعادته، أتى قبيل الظهيرة كي يحصل على قائمة المشتريات قبل توجهه للسوق. وبالطبع، كنت ألقنه إياها كونه أمياً. عقبَ خروجه، وكان بعدُ عند عتبة الدار، سمعته وهوَ يطرد الأطفال، الذين كانوا يعبثون بعربته ذات العجلتين. عندئذٍ، خطرت فكرة في ذهني: " لِمَ لا أجعله خادمي، فأضمنُ حماية منزلي من اللصوص لو غبتُ عنه ليلاً في أثناء وجودي عند كَوليزار؟ كما أن البطريرك سبقَ ودعاني لحضور المجمع الكنسيّ لطائفته، وربما يعقد في الإمارة اللبنانية كما قال ".
بمجرد عودة الحمّال من السوق، طرحتُ عليه الفكرة، مؤملاً أنها ستحوز فوراً على رضاه. لكنه لزم الصمت دقيقةً، وكان مطرقاً رأسه بالأرض. لما حثثته على الكلام، فاجأني بالقول: " أعذرني، يا سيّدي، لو رفضتُ دعوتك مع امتناني لك "
" ولكن، أنت تعيش وحيداً في حجرةٍ؛ فما الفرق لو أقمت لديّ؟ "
" في الحقيقة، أسمعني عددٌ من رجال حارتك كلاماً عن وجود شبح في الدار؛ وأعني شبح ذلك الرجل، المدعو بالنبي كيكي "
" آه، هكذا إذاً! "، قلتها بشرود. فكّرتُ بدوري بشبح رجل الكرامات، وكيفَ بلبل كياني في الأيام الثلاثة الأولى من حلولي بالدار. ثم ما لبثتُ أن رفعتُ رأسي، لأقول بنبرة مُطَمئنة: " صدّقني أنّ الرجل راقدٌ في قبره بسلام، لا يعكّر بدَوره صفوَ أحد. أنتَ تأتيني كل يوم تقريباً، فتجدني أعيش حياتي كباقي الناس. أليسَ صحيحاً؟ "
" أجل، في الحقيقة "
" لذا لا أرى معنىً لرفضك الاقامة معي في الدار "، قلتها وأنا أنظر في عينيه. بقيَ متردداً لحظات، قبل أن يخلص إلى هذه النتيجة: " حسنٌ، لكن لو ظهرَ لي الشبح مرةً، فإنك عاذري لو عدتُ إلى مسكني! "
" أضمنُ أنه لن يظهر لك أبداً، وفي التالي، لا فائدة من احتفاظك بذلك المسكن "، خلصتُ بدَوري إلى نتيجة أملتُ أنها ستكون مرضية. بعدما ضمنتُ موافقته، شددتُ عليه ألا يذكر أمام أحد، سواءً الجيران أو غيرهم، ما يجري داخل جدران الدار. أحنى رأسه، متمتماً: " سأكونُ في صمتِ ذلك القبر، الموجود في الحديقة ".

بضعة أيام مرت، وإذا بي أستلمُ دعوةً من البطريرك، نُقلت إليّ على لسان صديقي جان. حضرَ إلى منزلي مساءً، وقال أنه لن يجلس للسهرة. فهمتُ منه بعدئذٍ، أنني يجب أن أكون على أهبة السفر إلى مقر القنصلية في بيروت ومن هناك أنتقلُ مع آخرين إلى مكان إنعقاد المجمع الكنسيّ. كان واضحاً، أنّ مكانَ الإجتماع سريٌّ. ثم أضافَ صديقي، مبتسماً: " إياك أن ترافع هناك عن أفكار فلاسفة الثورة، مثلما فعلته أمامنا قبل بضعة أيام "
" بما أنّ الخمرَ محرمٌ لديهم، سأحفظ لساني بكل تأكيد "، أجبتُ ضاحكاً. ثم ما لبثتُ أن سألته، متخذاً نبرة جدّية: " أنتَ مدعوٌّ أيضاً للمحفل، أليسَ كذلك؟ "
" لا، لكنني سأرافقك في الذهاب والإياب؛ بحسب أوامر القنصل "، ردّ بالقول ثم أستدرك غامزاً بعينه: " وهوَ مجمعٌ كنسيّ وليسَ محفلاً ماسونياً! ". استطرد أيضاً، متسائلاً: " هل حقاً أنّ الماسونيين يقودون الثورة في باريس؟ "
" ربما وُجِدَ بين زعماء الثورة ماسونيون، لكن من الصعب تمييزهم عن غيرهم من الماديين الملاحدة أتباع فولتير ومونتسكيو وروسو "
" أعتقدُ أنك ستُسأل أيضاً في المجمع عن أفكار الثوار، وحسنٌ أنك ملمّ بشكل جيد بكل هذا. لكن إياك أن تسهبَ في معلوماتك، وإلا فهموا أنك مواظبٌ على قراءة أولئك الفلاسفة الملعونين! "، أختتمَ كلامه ضاحكاً وشاركته شعورَ المرح.
سألته بعدئذٍ، ما لو يعرف تحديداً موعد سفرنا، فأجاب: " أعتقدُ أنّ المجمعَ سيُعقد يوم الأحد القادم، واليوم هوَ الأربعاء. يُمكن أن نسافر إلى بيروت يوم الجمعة، وسنبيتُ على الأرجح في مقر القنصلية "
" رائعٌ أننا سنكون معاً، وإلا سيقتلني الضجرُ بصُحبة أولئك الكهنة الكئيبين "، قلتها وأنا أتنهد.

5
كنتُ قد جئت إلى دمشق عن طريق البحر قادماً من أسطنبول، لأدلف من السفينة في مدينة بيروت. وها أنا ذا أعود لهذه المدينة، كي تكون مجدداً نقطة إنطلاقي إلى مكان آخر. الطريق إلى بيروت، يمر من حاضرتين رئيسيتين، هما شتورة وعاليه. مسافة كبيرة نوعاً ما، سلكتها عربتنا المشدودة بالخيل، في أرض شبه جرداء تُدعى " الديماس ". قال لي جان، لما أبديتُ ملاحظةً عن هذا القفر: " جماعتنا تعتقدُ، أنّ السماء حلّت لعنتها على السهل وجعلته بلقعاً بسبب مقتل هابيل "
" لكنني علمتُ من مصدر آخر، أنّ هابيل قتل في جبل قاسيون؛ وما تزال بقعٌ من دمه، تلطخ حجراً في كهف هناك؟ "، علّقتُ على معلومته. شدّ على نواجذه مع رفع حاجبيه، بحركة تعبّر أيضاً عن حيرته، ثم أجاب: " لعل تلك رواية إسلامية، ما يدريني؟ "
" في كل الأحوال، فإن كلتا الروايتين تمنحان دمشق أهمية كبيرة لدى معتنقي الديانتين. اليهود أيضاً، لعلهم وجدوا في هذه المدينة مكاناً مقدساً مثلما سبقَ وعلمته من إعتقادهم بحلول أبراهام في قرية برزة، الواقعة أيضاً في سفح قاسيون "
" نعم، إنها مدينة لعبت دوراً أساساً في قصة الخلق والتكوين بالعهد القديم وفي قصص الأنبياء بشكل عام "
" ثمة فرعٌ معرفيّ، كان يتطور ببطء في فرنسا، أسميَ علم الآثار. كان من نتيجة أبحاث أولئك العلماء، إثبات أنّ الإنسان القديم عاشَ في العصر الحجريّ بشكل بدائيّ جداً ولم يكن يفرق عن الحيوان. برغم أنّ الأبحاث كانت علمية، نظر رجالُ الإكليروس بعداء إليها باعتبار أنها تناقض الاعتقاد المسيحيّ وبخاصة قصة الخلق والتكوين "
" ربما تثار هكذا قضية في المجمع، وذلك على خلفية نقاشه موضوع سيطرة الملاحدة الماديين على زمام الحكم في فرنسا. ويلوح لي أنك ستكون في ورطة، لو أبديتَ تأييداً للنظرية العلمية مثلما عرضتها الآنَ عليّ "
" لا، إطمئن يا صديقي. فإنني برغم حرية فكري، لا أجدها ذات جدوى مناقشةُ رجال الدين في هكذا أمور. وعلى أي حال، قد يثبت علمُ الآثار مستقبلاً قصصَ الأنبياء ويُمكن حتى العثورَ على سفينة الطوفان في آرارات "، قلتُ ذلك بطريقة أقرب إلى التهكّم. لكنني تذكرتُ عندئذٍ أوراقَ صاحب منزلي الأصليّ، وكان فيها رسماً للقبة الصغيرة في المسجد الأمويّ مع سهم إلى أرضيتها وقد علاه هذا العنوان الغامض: " كنز النبوّة ". في المقابل، لم أشأ الآنَ مناقشة الموضوع الملغز مع صديقي، مفضلاً العودة إلى الصمت ومراقبة الطريق.

في اليوم التالي مساءً، وصلنا إلى بيروت بعد رحلةٍ اتسمت معاً، بالمشقة والمتعة. ثمة في مقر القنصلية، المتَّخذ من قصر قديم كان يملكه أحد البارونات اليونانيين، استقبلنا القنصل بحرارة ثم دعانا لنيل قسطٍ من الراحة قبل العشاء. صعدتُ ورفيق الرحلة إلى الدور الثاني، يتقدمنا وصيفٌ من السكان المحليين عليه ملابس الخدمة الجميلة. وإنه نفسه، مَن قَدِمَ بعد نحو ساعتين كي يدعونا إلى المائدة. حجرة السفرة، كانت في الدور الأرضيّ، وكل ما فيها من نقوش وتزيين وأثاث، ينتمي إلى الذوق الفرنسيّ بنسخته الباروكية. كذلك العشاء، ضم أصنافاً من مطبخنا التقليديّ مع أطباق من المازة المحلية. النبيذ، قدّم على المائدة بسخاء، لدرجة أننا تركنا المائدة ونحن نترنّح سُكراً في خلال صعودنا إلى حجرات النوم.
أفقتُ صباحاً بطرقات على الباب، لأتبيّن أنه الوصيفُ جاء كي يضع نفسه رهن خدمتنا. قادني أنا وجان إلى الحمّام، وقدم لكل منا على الأثر فوطة نظيفة. قال لنا بأدب بالغ: " ينتظرونكم على مائدة الفطور، عقبَ تبديلكم ملابسكم ". هنالك في حجرة النوم، أطللتُ من ثم على منظر رائع من خلال خروجي إلى الشرفة: كان البحرُ يمتلك معظمَ المشهد، باستثناء الجهة الشمالية الشرقية، أين بدت القرى بلونها الأبيض على سفوح الجبال كما لو حمامات محلّقة في فضاء أخضر. استنشقتُ بعمق النسيمَ المنعش، المحمّل بأريج ورود حديقة القصر، ولم ألبثَ أن تحركتُ كي ألبّي دعوةَ الفطور.
على غير عادته بالأمس، لاح القنصلُ جديا تماماً على مائدة الفطور، وما عتمَ أن خاطبني بالقول: " بحسب ما فهمته من البطريرك، أنّ المجمعَ سيُعقد في قريةٍ بجبال الشوف لبحثِ مواضيعٍ لاهوتية صرفة. لكن سيتاحُ لك فرصةَ الكلام عما شهدتّه من أحداثٍ، إبان اندلاع ثورة الرعاع في فرنسا المقدسة ". فكرةٌ ساخرة، قطعت عندئذٍ سبيلَ اصغائي للرجل: " فرنسا المقدسة؟ وإذاً، فإن علم الآثار مدعوٌ هذه المرة لاجتياس موطننا، بحثاً عن علامات أنبياء العهد القديم! ". ثم استدركتُ في نفسي: " من المفارقات، أنّ أتباعَ الثورة بات لهم أنبياءٌ جدد ـ كفولتير وروسو ومونتسكيو، مثما أنهم أحلوا كتبَ هؤلاء المفكّرين بمحل العهدين القديم والجديد ".

6
توجهتُ للقنصل بالكلام، عقبَ إنهائه لحديثه، الأشبه بالتوصية: " أكيد سأسترشدُ بنصيحتك وإرشادك، فأستغلُ المنبرَ لكي أدعو لتضامن المؤمنين في الشرق مع معاناة أخوانهم في فرنسا. وأتمنى أن أكونَ عند حسن ظنكم، يا سيّدي "
" حسنٌ، هذا ما آمله من رجل بمثل ثقافتك ومركزك الاجتماعيّ. المجمع سيعقد الأحد، واليوم هوَ الجمعة. حتى الغد، يُمكنك التجوّل في حرية ببيروت والجبل؛ أنتَ من تسعى لوضع كتابٍ في أدب الرحلات "، قالها بنبرةٍ تجمعُ بين المديح والمداعبة. عند ذلك، سألته عن مسألة شغلت بالي وكانت صدى لما شهدته من أحداث في دمشق مؤخراً: " هل ما زال جيش والي عكا هنا، في الامارة اللبنانية؟ "
" بل عاد إلى عكا، وذلك عقب خلع الأمير يوسف وتعيين الأمير بشير الشهابي بمحله. لكن عساكر الجزّار، بقيت تجدّ في طلب الأمير المخلوع لأجل القبض عليه وقطع رأسه. لما منيت بالهزيمة في عدة مواقع على يد الأمير يوسف، عمد الجزّار إلى فرض ضريبة جديدة على كل البلاد بما في ذلك الأديرة المسيحية والخواجات الشاميين "
" في هذه الحالة، سيُعقد المجمعُ الكنسيّ في جو يغلب عليه التوتر والشقاق والقلق؟ "
" علاقة البطريرك جيدة مع الأمير بشير، بحيث أنه خففَ من ثقل الضريبة على الأديرة والطائفة بشكل عام. والأمير مشغول الآن بمحاربة زعيم المتاولة، لإجباره على دفع ضريبة بلاد بعلبك للدولة. في العام السابق، وجهت الدولة من دمشق فرقة اللاوند بقيادة كُرد إسماعيل مع جيش مساند من حمص لإخضاع متاولة بعلبك. فهزموا زعيم المتاولة، الذي أضطر للهرب، فقبضوا على حريمه وأتوا بهن إلى دمشق حتى أذعنَ ودفعَ الضريبة المقررة ".
عندما سمعتُ اسمَ كُرد إسماعيل، تحوّل فكري إلى امرأته، كَوليزار، وبالكاد تابعتُ الحديثَ. ففي عشية سفري إلى بيروت، كنتُ قد وجّهتُ خادمي إلى منزل عشيقتي مُحَملاً برسالة إليها. بحَسَب تشديدي على الخادم، سلّم الرسالةَ باليد لوصيفة كَوليزار حينَ طلبها أمام باب المنزل بحجّة إعطائهاغرضاً نسيته سيدتها في مجل تجاريّ بالسوق. الخدعة أنطلت على مدبّرة المنزل، وما لبثت الوصيفة أن عادت لتسلم بدَورها رسالة كَوليزار إليّ. كنتُ أهدفُ، حَسْب، لإبلاغ عشيقتي بأمر سفري؛ كوني هجستُ باحتمال وقوع طارئ قد يمنعني من العودة من الإمارة اللبنانية لفترة قد تطول أو تقصر. وقد أكتفت كَوليزار بالكتابة في ذيل رسالتي، بخطها الكبير والأنيق: " رافقتكَ السلامة، يا حبيبي، ذهاباً وإياباً ".
علّقتُ على كلام القنصل، بالتساؤل: " يلوحُ أنّ قائدَ اللاوند في دمشق محلُ ثقة الدولة، لكي تجعله يتوجه مع قواته إلى الإمارة المجاورة؟ "
" بل إنه الجزّار، مَن أمرَ كُرد إسماعيل بقيادة الحملة المذكورة ورغماً عن أنف باشا الشام "
" لكن قوات اللاوند تضامنت في الفترة الأخيرة مع أهالي دمشق، لما هبّوا لمنع الجزّار من فرض نفسه والٍ عليهم بغياب الباشا في الحج؟ "
" تبدّل الولاءات، أمرٌ مألوف في الولايات السورية؛ فتجد عدو الأمس يمسي صديقَ اليوم "، ردّ القنصل مبتسماً. ثم استطردَ وهوَ ينهض من مكانه، منقّلاً عينيه بيني وبين صديقنا جان: " أتمنى لكما إقامة طيبة في ربوعنا، ولو أحتجتما لشيء في وسعكما الاعتماد على الوصيف ". هذا الأخير، وكان واقفاً خلف سيّده، أنحنى بجذعه تعبيراً عن الخضوع للأمر.
غبَّ ذهاب القنصل إلى مشاغله، توجهتُ إلى وصيفه لأسأله عن مكان ملائم يعرفه ليكون نقطة إنطلاق جولتنا. فرد بالقول، رافعاً هامته هذه المرة وبشيء من الخيلاء: " لدينا حوذيّ مع عربة مشدودة بالخيل، وهوَ يعرف المدينة وما يحيط بها من بلدات وقرى. لو شئتم، سأستدعيه فوراً "
" هل يمكنكم الاستغناء عنه، لو طالت جولتنا إلى الغد؟ "، سألتُ الوصيفَ. أومأ رأسه بالايجاب: " نعم، لأن لدينا بديل له "، قالها ثم غادرنا كي يتدبر أمرَ ذلك الحوذيّ. في الأثناء، جهزتُ ورفيق الرحلة كيساً صغيراً أحتوى على بعض الحوائج الضرورية. بعد نحو نصف ساعة، كنا جالسين على مقعد واحد في العربة، وما لبث الحوذي أن أخذَ أمر الإنطلاق. كان متوسط العُمر، شكله على شيء من الطرافة بكرشه الكبير وشاربيه الثخينين والمفتولين. كأبناء مهنته، سيُكثر من الثرثرة في خلال الطريق. قال أنه سيمضي بنا إلى بلدة، تُدعى " عاليه "، مدعياً أنها قطعة من الفردوس السماويّ. التفتُ عندئذٍ إلى جان، لأعقّب بصوتٍ منخفض: " أهالي الشرق، يُشبّهون ما يعجبهم بالفردوس وكأنما سبقَ لهم الصعود إليه! "
" نعم، ملاحظتك صائبة. لكنني أضمنُ لك كلامَ الحوذيّ، كوني زرتُ البلدة أكثر من مرة. بل إن الطريق إليها، يُعدّ من أجمل مناظر الدنيا "، رد جان. سألته على الأثر، عن المسافة بين بيروت وعاليه. سمعني الحوذيّ، فتولى الإجابة ببساطة: " إنها تقل عن العشرين كيلومتراً، بحسب قياس الخواجات! "
" حسنٌ، ومتى سنصل إلى البلدة؟ "، سألته مبتسماً. فرد عليّ دونَ أن يلتفت: " سنكون هناك قبل ساعة العصر، ما لو لم يحصل طارئٌ للعربة ".

7
من خلال ثرثرة الحوذيّ، عرفنا أنه من طائفة الدروز؛ وهم أصيلو هذه البلدة ونواحيها. شأن الفرق الهرطوقية الأخرى، كان من الصعب تكوين فكرة محددة عن هذه الطائفة؛ مع أنهم ينسبون أنفسهم لأحد خلفاء الفاطميين. هؤلاء الأخيرين، كانوا بالأصل فرقة اسماعيلية ثم دفعهم الوضع السياسيّ للتماهي مع عقيدة الشيعة الاثني عشرية، وذلك عندما حكموا مصر. لحُسن الحظ، أن قائد رحلتنا يملك منزلاً في عاليه، فعرضَ بكرم وأريحية أن يستضيفنا للراحة والمبيت. سأقتصرُ هنا على خطوط رئيسة في وصف المنطقة، كون كتابي في أدب الرحلات يتضمنُ تفاصيلَ أوفى.
تقع عاليه في مكان مرتفع، تطل على واد فسيح وخصيب، أين من الممكن تمييز البلدة التوأم؛ " بحمدون ". كلاهما، بيوتهما حجرية ذات أسقف قرميدية، مع وفرة في الفنادق والمقاصف والمقاهي. بما أننا في يوم جمعة ـ حيث هو عطلة المسلمين وعشية السبت المسيحي ـ وجدنا الزحام على أشده. ذلك أنّ المنطقة هي المصيفُ الأهم لأهالي بيروت، المختنقين صيفاً من الحرارة والرطوبة.
عقبَ نيلنا قسطاً من الراحة في منزل الحوذيّ، طلبتُ منه أن يقودنا إلى مطعم جيد يعرفه لنتناول الغداء. فقال بزهو: " المطاعم هنا، جميعها على الدرجة نفسها من جودة الطعام ورقيّ الخدمة وجمال الموقع ". هكذا مضينا إلى مطعم له إطلالة ساحرة على الوادي، وما لبثت أصناف الطعام أن تتالت على طاولتنا. الطبخُ الشاميّ، أشهى وأكثر تنوعاً. في المقابل، فإن اللبنانيين لا يبارون في المازة. لما سألنا النادلُ عما نفضله من مشروب، هتفنا بصوت واحد: " العرَق! ". بعد الغداء، ارتأيتُ أن نبقى في المطعم. طلبَ كلّ منا القهوةَ مع النارجيلة، وما لبثَ الدخان الرماديّ، المعبق برائحة المعسّل الزكية، أن أرتفعَ فوق رؤوسنا. غادرنا المطعمَ مع غروب الشمس وراء الجبال العصية، المنقّطة بالقرى والدساكر، ميممين شطرنا ثانيةً إلى منزل مضيفنا.

في صباح اليوم التالي، وعقبَ تناولنا الفطورَ في المطعم، غادرنا البلدةَ في طريق العودة إلى بيروت. عند وصولنا إلى مقر القنصل على ساعة الأصيل، أردنا توديع الحوذيّ، فرد علينا بلهجة جذلة: " سأكون غداً مع العربة في خدمتكم، عندما تقصدون ديرَ المخلّص "
" هذا خبرٌ يسرّنا، أيها الأخ الكريم، كوننا سُعدنا بصحبتك "، تولّى جانُ الإجابة. تركناه ودخلنا إلى المقر، ليستقبلنا هذه المرة الوصيفُ وكأنه على علم بموعد عودتنا. قال لنا بنبرته، الجامعة لأطراف الأدب والاحترام والخضوع: " سأرسلُ إليكم في حينه مَن يدعوكم لمائدة العشاء، لكن سعادة القنصل سيتغيّبُ عنها لأمرٍ طارئ ". غبَّ نيلنا شيئاً من الراحة في حجرة النوم، نزلنا إلى صالة الاستقبال، المقسّمة إلى عدة قاعات. بينما صديقي جلس وراء البيانو ليعزف بشكل لطيف مقاطعَ من سمفونية شهيرة ل " موزرات "، رحتُ أقلّب مجلداتِ مكتبة ضخمة، تحيطها التحف والتماثيل الصغيرة وجلود حيوانات الغابة النادرة. بعدئذٍ، تناولنا العشاء وفي ساعة مبكرة من الليل، آوينا إلى فراشنا. إذ كان علينا الافاقة مبكراً كي نسافر إلى بلاد الشوف، الكائنة إلى الجنوب من بيروت؛ ثمة، أينَ يوجد ذلك الدير، الذي سيُعقد فيه المجمعُ الكنسيّ.

" في أيّ وقتٍ، تعتقدُ أننا سنصل إلى الدير؟ "، طرحتُ هذا السؤال على صاحبنا الحوذيّ بمجرد أن ساط الخيل وبدأت العربة تتحرك. التفت إليّ، ليجيب: " بعون الله، سنصلُ ساعة الأصيل أو الغروب على أكثر تقدير "
" ألن نتأخر بذلك عن موعد الاجتماع؟ "، توجهتُ هذه المرة بسؤالي لجان. ردّ عليّ، بنبرةٍ يعلب عليها الاستهانة: " وما شأنك أنتَ بالمداولات الكنسية، التي ستستغرق النهار بطوله على الأرجح؟ أنتَ مدعوّ كضيف، حَسْب، لكي تسرد أمامهم ما شهدته من أحداث ثورة باريس، وسيّان لديهم لو أتيت مبكراً أو متأخراً "
" أخشى أن يبولون في سراويلهم، عندما أفصّل أمامهم ما فعله الثوارُ برجال الكنيسة "
" هاهاها، يا لها من فكرة مضحكة وظريفة! "، قالها مقهقهاً. على هذا المنوال، قضينا الساعات في الطريق. وكان الحوذيّ يُشاركنا أحياناً في الحديث، وأذكر أنني سألته عمن يتزعم الطائفة الدرزية، فأجابَ: " ثلاث عائلات، لها الزعامة على الطائفة؛ وهيَ الجنبلاطية والعمادية والنكدية "
" مَن الأقوى بينهم، هل هيَ العائلة الجنبلاطية؟ "
" أجل، ولكن كيفَ عرفتَ؟ "
" لأنك ذكرتها أولاً "
" آه، إنك فَطِنٌ يا سيّدي! "، رد عليّ بطريقة لا يُعلم منها إن كانت مدحاً أم تهكّماً. ثم ما عتمَ أن رفع عقيرته، مسهباً في توضيح أمور طائفته: " لن يتأخر الوقتُ، الذي ستسود فيه العائلة الجنبلاطية على الجميع، وذلك بفضل دعم الأمير بشير لها. هذا الأمير، يُقال أنه أعتنق سراً مذهبنا، ومنهم من يقول أنّ بطريرك الموارنة عمّده. فإن آل شهاب، معروفون علانيةً بانهم مسلمون على مذهب السنّة. والله وحده، يعلمُ الصدق من الكذب في أمور السادة ".

8
أخيراً عند الأصيل، دخلت عربتنا في درب مظلل بأشجار الزيتون وقد لاحَ عن بُعد صرحٌ عظيم، ينبثق منه منارة كنيسة على شكل برج بأعمدة أربعة نحيلة. أشار الحوذيّ بيده إلى تلك الناحية، هاتفاً: " هذا ديرُ المخلّص، وإلى الشمال منه تقع قرية جون ". مع أقترابنا من الصرح، رأيتُ أنه يعتلي بمهابة رابيةً يتخللها أشجار الصنوبر وكروم العنب والزيتون. ثم ما لبثت العربة أن أرتقت بصعوبة الرابية إلى حيث مدخل الدير، المنفتح في جدرانه الأنيقة بوابته الرئيسة. في باحة المدخل، كان هناك عدد كبير من العربات مع حوذييها، الذين يثرثرون أو يعلفون خيولهم. أحد الكهنة، وكان شاباً، يحمل سجلاً في يده، ما لبثَ أن تقدّم منا: " أظنّكم، أيها السادة، مدعوون ولستم زوّاراً؟ "، قالها وهوَ يلقي نظرة على هيئتنا. كنتُ بملابسي التقليدية، الموحية بأصولي الفرنسية النبيلة.
" إننا من طرف سعادة القنصل الفرنسيّ "، بدأ جان التعريفَ بنا حينَ قاطعه الكاهنُ متوجّهاً إليّ بالفرنسية: " أهلاً بكم، لقد كنا في انتظار تشريفكم ". ألقيت بدَوري نظرة على الصرح، قبل أن أرد مستعملاً العربية: " يسعدني أن أكون ضيفاً في هذا الدير العظيم، وأن أتشرف بوجودي في مجمعكم المقدس ". سرّ الرجلُ لإجادتي لغته، وما عتمَ أن أفسح لنا مجالَ الدخول بينما يعطي أمراً للحوذيّ بإبعاد عربته عن المدخل. وجدنا أنفسنا من ثم في صحن الدير، المحتوي على بوابات أقسامه الداخلية؛ ومنها الكنيسة ببرجها السامق، الذي ميّزناه قبل قليل ونحن في الطريق. أشجار الزيتون هنالك، المنصوبة بانتظام مقصوصة الأطراف، لاحت كأنها أعمدة ذات تيجان. قال لنا الكاهنُ، رافعاً رأسه باتجاه البرج: " كنيستنا لاتقل عراقة وفخامة عن أمثالها في المشرق، برجها كُرّسَ على ذكرى يوم التجلّي، الواقع في السادس من آب/ أغسطس "
" إنها في غاية الضخامة والجمال، جديرة باسم سيّدنا المخلّص "، علّقتُ بالقول. رد الكاهنُ بلهجة غامضة ومتباهية في آنٍ واحد: " لاسم الدير قصة معجزة، سأرويها لكم فيما بعد ". ثم أردفَ، سارحاً يده إلى أمام: " أما الآن، فتفضلوا معي إلى جناح الضيوف في الدير ". وكنا قد ولجنا من إحدى البوابات، لنجتاز فناءً مسقوفاً بالخشب المطليّ بالقار فيما الجدران مزخرفة بالجص، ينفتح منها أبوابُ حجراتٍ صغيرة. إلى أن وصلنا إلى إحداها، ففتح مرافقنا البابَ: " تفضلوا يا سيّدي، هنا مكان راحتكم ومنامتكم "، خاطبني ثم أضافَ: " سنوافيكم بالطعام حالاً، فإنكم ولا ريب جائعون ". لم ينتظر سماعَ الجواب، وأسرع يغلق علينا بابَ الحجرة. كان المكانُ ضيقاً، بالكاد يتسع لسريرين مع خزانة صغيرة ومكتبة أصغر حجماً. السقف، المكسو بالخشب، كان عند جهة النافذة الوحيدة مائلاً قليلاً على شكل نصف قوس. بينما أرضية الحجرة، مرخّمة وعارية. أطللت من النافذة على منظر وادٍ رائع، يتخلله نهرٌ بالكاد يبين بسبب الظلال الكثيفة لهذا الوقت من مغيب الشمس. بعد قليل، جيء لنا بالطعام، فوضع على منضدة واطئة تفصل بين السريرين. كانت وجبة غداء فاخرة ـ قياساً بما أعرفه عن تقشف الأديرة، مرفقة بسلة صغيرة ملئت بالعنب والتين والأجاص. كنا بالفعل في غاية الجوع، كوني ألححتُ على الحوذيّ أن يواصل السير دونَ توقف خشيَة ألا نلحق بالمجمع.
فيما كان فمي منشغلاً بمض الطعام، ألتقطت أذني أصواتِ جلبة آتية من الفناء. بدا أنّ ثمة أشخاصاً يتجادلون وهم يسيرون بسرعة، إلى أن غابت أصواتهم. قال لي جان: " واضحٌ أنهم خارجون من القاعة، المنعقد فيها المجمعُ، ما يشي بانتهاء أعماله ". وكنتُ أتمنى لو أنّ الأمرَ كذلك، لإعفائي من التكلم أمام المجمع. عقّبتُ بالقول: " سننتظر ذلك الكاهن المهذّب، لنعلم منه جليّة الأمر ". لم يتأخر الرجل، وكانوا في الأثناء قد رفعوا بقايا الطعام عن المائدة. تعجّل أيضاً جان بطرح سؤاله، عما لو أنتهى المجمع، فردّ الكاهن مبتسماً: " المجمع يُمكن أن يستمر شهراً، واليوم كانَ موعدُ الافتتاح ". ثم استدرك بالقول، مخاطباً إياي: " وبالطبع، فأنتَ حرّ بالعودة إلى دمشق بعد تحدثك غداً أمام المجمع ". تنفّستُ عندئذٍ الصعداء، لكنني لم أعلق بشيء. هنا، بادر جان لتذكير الكاهن بوعده لنا فيما يتعلق بقصة تشييد الدير.
أحنى الرجلُ رأسَهُ تواضعاً، ثم ابتدأ يروي ما لديه: " قبل خمسة أعوام، أحتفلنا بمرور مائة عام على تأسيس دير المخلّص. في سنة التأسيس، صادفَ حضورُ أحد المطارنة من صيدا إلى قرية جون، وكان يرافقه عددٌ من المسلحين بسبب كثرة قطّاع الطرق على الدروب. عندما وصلوا القرية، استقبلهم كاهنُ كنيستها. الشمّاس، كان في الأثناء قد تناول بندقية أحد المرافقين وراح يتفحصها. وإذا يده تلمسُ الزنادَ، فتنطلق خرطوشةٌ فتصيبُ الكاهنَ في صدره. عند ذلك صرخَ المطران: " يا مخلّص العالم! "، واندفع باتجاه الكاهن. هذا الكاهن، كان في الأثناء يلمس صدره، وما لبثَ أن قال للمطران وهوَ يريه يده: " أنا بخير بفضل دعائك، يا سيّدي، وهذه بقايا البارود المتجمّع على جلد صدري ". وجد المطرانُ المعجزةَ كإيحاء من السماء ببناء الدير، وبعد إشادته أعطاهُ اسمَ المخلّص ".
غبَّ انتهائه من رواية القصّة المعبّرة، دعانا الكاهنُ للقيام بجولة في أنحاء الدير. مشى برفقتنا، يشرح لنا ما نراه من عظمة العمارة وجمال النقوش والوشي والزخارف. في الكنيسة، لفت نظرنا العددُ الكبير من الايقونات. قال الكاهن، مشيراً إليها: " إنها من الفن البيزنطي الأنطاكي، شأن عمارة الكنيسة ككل، مع تطعمها بالفن الأورشليمي ". ثم مضى بنا إلى مكتبة الدير، وكانت ذاخرة بآلاف المجلدات وعدد كبير من المخطوطات. قال لنا الكاهن هناك: " سرقت الكثير من محتويات المكتبة في خلال فترات هروب الأهالي والرهبان من القرية، في فترات استباحتها من أعداء الإيمان، لكن كان يُعاد أغلبها فيما بعد ". ثم حدثنا عن الزلزلة الكبرى، التي أصابت البلاد السورية قبل نحو ثلاثة عقود، كيفَ صمد الدير إزائها بفضل متانة عمارته وأيضاً ببركة المخلّص.
إذاك، استعدتُ ما قيل لي عن حبيبتي كَوليزار، وكيفَ أنقذها دعيُّ النبوّة من تلك الزلزلة، وكانت ما تفتأ طفلةً في القماط.

9
صباحاً، أفقتُ على طرقات موقّعة على الباب من أحدهم. بينما بقيَ جان مغمّضاً عينيه بعناد، بسبب النور القوي المتدفق من النافذة الوحيدة. ألقيت نظرةً من النافذة على منظر الوادي، وكان الضباب يغشاه متشكّلاً على هيئة الطيف. حضرَ راهبٌ بمُقتبل العُمر، يحمل إبريقاً لغسل اليد والوجه. قال قبيل مغادرته للحجرة، أنهم سيدعوننا بعد قليل لتناول الإفطار على مائدة البطريرك. ألقى عليّ جان نظرةً ذات مغزى، فسّرتها بقولي له: " لقد جشمنا نيافة البطريرك عناء هذا السفر الطويل من دمشق، فقط للتباهي أمام جماعته بوجود أحد سليلي آل بوربون في ضيافته "
" هل أنت حقاً سليلُ تلك العائلة الملكية، أم أنّ الأمرَ محضُ تشابه في الكنيتين؟ "
" كنتُ أنتظر دوماً هذا السؤال، وها أنتَ ذا تطرحه للمرة الأولى. بلى، إنه تشابهٌ في الكنيتين. لكن الثوار في باريس، كان من الصعب إقناعهم بالأمر؛ ففضلت الهروبَ إلى المنفى على أن تلحق بي أسرتي فيما بعد "
" على أيّ حال، أنتَ نبيلٌ، وهذا وحده كافٍ ليعتبروك عدواً. أليسَ صحيحاً؟ "
" نعم بالطبع، مع أنهم لم يكونوا بعدُ قد تحولوا إلى مصاصي دماء مثلما هم اليوم بعد عام من بدء ثورتهم المشئومة "، قلتُ ذلك متنهداً بكرب.
في الساعة المحددة، حضرَ كاهنُ الأمس كي يقودنا إلى وليمة الفطور. أجتزنا رواقاً طويلاً، انتصبت على جانبيه تماثيلُ الرب والعذراء، إلى أن أدخلنا إلى قاعة كبيرة، يشغل معظمها مائدةٌ تصدّرها نيافة البطريرك. كان ثمة كهنة آخرون، يجلسون إلى المائدة، تكهّنت بأن أحدهم لا بد وأنه رئيس الدير. كان البطريرك في جبته المألوفة، الفخمة، يتطاير منها عبق عطر قوي. ذلك أنه أشار إليّ أن أجلس بقربه، في مكان تُرك شاغراً. فيما جان تعثّر باضطرابه، قبل أن يعثر على كرسيّ على طرف المائدة. التفتَ إليّ نيافته، ليقدمني إلى مَن تنبأت سلفاً أنه رئيس الدير: " المركيز ديبوربون، تخلّص بصعوبة جمّة من رعاع باريس، وها هوَ اليوم بيننا كي يقص علينا ما رآه من فظائع أولئك الملحدين الماسونيين! "
" يشرفني وجودي بينكم، كما أنه يسعدني أن ألبي طلبكم "، قلتُ ذلك ثم استدركتُ بسرعة: " مع أنه ليسَ من السعادة بشيء، قصّ أشياء محزنة ومخزية ". لاحَ الارتياح على سحنة البطريرك، المتوردة بالصحة مع بعض الشحوب. بعدما علّقَ على كلامي، أخذ رئيسُ الدير زمامَ الحديث ليرحّب ويشعر بالأسف الخ. بعدئذٍ قدّم الفطور، وكان سخياً كما توقعتُ. في أثناء الأكل، عاد زعيمُ الطائفة الكاثوليكية المشرقية ليوصيني بالحرص أن تكون كلمتي أمام المجمع مؤثرة، مركزة بالخصوص على أعمال الثوار المشينة بحق رجال الإكليروس. في حقيقة الحال، أنه يدعونني إلى الكذب؛ كون أغلب تلك الأعمال جرت بعد مغادرتي فرنسا، وقرأتُ عنها في الصحف. " لكن لا بأس ـ خاطبتُ نفسي ـ فأنا وعدتُ القنصلَ أن اكون عند حسن ظنه، وهذا هوَ المهم بالنسبة إليّ ".
اتجهنا في موكب البطريرك إلى مكان الاجتماع، فمررنا عبرَ الرواق من الجهة العكسية كي نصل إلى باب كبير، محلّى بالنقوش، كان إلى كل من جانبيه حاجبان توليا فتحه. كانت قاعة فسيحة، كل ما فيها ينطق بالأناقة والفخامة، باستثناء شقّ طولاني في الجدار الجنوبيّ، لعله من آثار الزلزلة الكبرى. عشرات الكهنة، كانوا قد أخذوا مجالسهم في شبه قوس، مركزه طاولة مخصصة للبطريرك ورئيس الدير مع كرسيّ ما زال فارغاً. أتعمدُ هنا ألا أسمي أحداً من الحضور، باستثناء البطريرك، الذي علمنا أنه يدعى " اثناسيوس ". وهوَ ذا نيافته، يفتتح الجلسة الجديدة بالقول: " بالأمس، دبَّ الشقاقُ على خلفية الدعوة إلى وضع فرائض جديدة، أعتبرها البعض شديدة وثقيلة على الرهبان، فيما آخرون أعتبروا أنها فرائضٌ طبيعية وملائمة للهدف من الرهبنة؛ وهوَ الكفاح ضد شهوات النفس والتفرغ لعبادة الخالق وتمجيده ". ثم استطرد، مومئاً إلى الكرسيّ الفارغ بجانبه: " من المؤمل أن يحضر المجمعَ سعادةُ القاصد الرسوليّ، كممثل عن قداسة البابا، وأعتقد أنه في الطريق إلينا ".
أشارَ بعدئذٍ إليّ، ليطلب مني الكلام بصفتي شاهداً على أحداث العام الأول من الثورة الفرنسية. كنتُ جالساً مع جان بالقرب من البطريرك، في جهة نصف القوس اليمنى. لن أكتب هنا ما سردته، لأن القارئ بات يعلم سلفاً أنها أكاذيب مستلة من قراءتي للصحف. لكنني كنتُ صادقاً، بطريقة وصفي لساعة اقتحام الثوار قصرنا وكيفية تعاملهم معنا وكل ما سمعته لاحقاً من الجيران الملّاكين. عقبَ إنهائي كلمتي، اشرأب البطريرك بعنقه نحوي كي يهمس: " لو شئتَ مغادرة القاعة، فلا مانع أبداً. وسنلتقي ثانيةً على الغداء "
" بل أرغبُ بالبقاء، لو كان هذا متاحاً؟ "، أجبته بصوت منخفض. شدّ على نواجذه تعبيراً عن الرضى، متمتماً: " حسنٌ، لك هذا ". على الأثر، عاد النقاشُ محصوراً في تداول موضوع فرض الواجبات الجديدة، ليتبين أنّ البطريرك هو مبتدعها. مع مرور الوقت، صار الجدل حاداً، ما جعل رئيس الدير يعلن عن فترة استراحة، وذلك بعدما شاور همساً البطريرك. وإنما في تلك الأثناء، أعلن عن وصول القاصد الرسولي. لكن كان أكثر الموجودين قد أصبحوا خارج القاعة، وما لبثوا أن تحلقوا حول الضيف لتحيته ولثم أطراف جبته. لم أعُد وجان إلى القاعة مرة أخرى، إلا أننا سنجتمع مع البطريرك وضيفه السامي على الغداء كما طلبَ. هنالك في قاعة السفرة، علمتُ أن القاصد الرسولي استدعيَ من بيروت في الليلة السابقة بالنظر للاختلاف الحاد في وجهات نظر المجتمعين إزاء مقترح البطريرك، الملزم على الرهبان سنّ فرائض جديدة غير تلك القديمة، وكانت سبعين فريضة. ممثل البابا، كان إيطالياً يجيدُ قليلاً من العربية والفرنسية. كان بارداً معي، كما لو أنني المسئولُ عن إندلاع الثورة؛ كوني من آل بوربون ـ كذا!
كان بودي لو أعود حالاً إلى بيروت، لكي أركب منها إلى دمشق. مع أنني لم أغب سوى أياماً قليلة، فإنني شعرتُ بشوق جارف للحبيبة. الحوذيّ، رفض فكرة العودة، مقدّراً أننا سنمضي غالب الدرب ليلاً ما يجعلنا صيداً لقطّاع الطريق. هكذا مكثت في الدير إلى صباح اليوم التالي، وبمجرد أن أنهينا الفطورَ قمنا نتجهّز للرحيل إلى بيروت.

* الكتاب الثالث من العمل الروائيّ، " الأولى والآخرة "..



#دلور_ميقري (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- كما رواه شاهد عيان: الباب الرابع
- كما رواه شاهد عيان: الباب الثالث
- كما رواه شاهد عيان: الباب الثاني
- كما رواه شاهد عيان: الباب الأول
- كما رواه شاهد عيان: مفتتح
- كما رواه شاهد عيان: تقديم
- مدخل إلى عصر الرعب: الخاتمة
- مدخل إلى عصر الرعب: البرج الثاني عشر
- مدخل إلى عصر الرعب: البرج الحادي عشر
- مدخل إلى عصر الرعب: البرج العاشر
- مدخل إلى عصر الرعب: البرج التاسع
- مدخل إلى عصر الرعب: البرج الثامن
- مدخل إلى عصر الرعب: البرج السابع
- مدخل إلى عصر الرعب: البرج السادس
- مدخل إلى عصر الرعب: البرج الخامس
- مدخل إلى عصر الرعب: البرج الرابع
- مدخل إلى عصر الرعب: البرج الثالث
- مدخل إلى عصر الرعب: البرج الثاني
- مدخل إلى عصر الرعب: البرج الأول
- مدخل إلى عصر الرعب: توطئة


المزيد.....




- مبعوث روسي: مجلس السيادة هو الممثل الشرعي للشعب السوداني
- إيران تحظر بث أشهر مسلسل رمضاني مصري
- -قناع بلون السماء-.. سؤال الهويّات والوجود في رواية الأسير ا ...
- وفاة الفنانة السورية القديرة خديجة العبد ونجلها الفنان قيس ا ...
- مطالبات متزايدة بانقاذ مغني الراب الإيراني توماج صالحي من ال ...
- -قناع بلون السماء- للأسير الفلسطيني باسم خندقجي تفوز بالجائز ...
- اشتُهر بدوره في -أبو الطيب المتنبي-.. رحيل الفنان العراقي عا ...
- عبد الرحمن بن معمر يرحل عن تاريخ غني بالصحافة والثقافة
- -كذب أبيض- المغربي يفوز بجائزة مالمو للسينما العربية
- الوثائقي المغربي -كذب أبيض- يتوج بجائزة مهرجان مالمو للسينما ...


المزيد.....

- صغار لكن.. / سليمان جبران
- لا ميّةُ العراق / نزار ماضي
- تمائم الحياة-من ملكوت الطب النفسي / لمى محمد
- علي السوري -الحب بالأزرق- / لمى محمد
- صلاح عمر العلي: تراويح المراجعة وامتحانات اليقين (7 حلقات وإ ... / عبد الحسين شعبان
- غابة ـ قصص قصيرة جدا / حسين جداونه
- اسبوع الآلام "عشر روايات قصار / محمود شاهين
- أهمية مرحلة الاكتشاف في عملية الاخراج المسرحي / بدري حسون فريد
- أعلام سيريالية: بانوراما وعرض للأعمال الرئيسية للفنان والكات ... / عبدالرؤوف بطيخ
- مسرحية الكراسي وجلجامش: العبث بين الجلالة والسخرية / علي ماجد شبو


المزيد.....


الصفحة الرئيسية - الادب والفن - دلور ميقري - كما رواه شاهد عيان: الباب الخامس