أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - مواضيع وابحاث سياسية - سعيد الوجاني - ذكرى انتفاضة يناير 1984















المزيد.....


ذكرى انتفاضة يناير 1984


سعيد الوجاني
كاتب ، محلل سياسي ، شاعر

(Oujjani Said)


الحوار المتمدن-العدد: 6816 - 2021 / 2 / 16 - 00:27
المحور: مواضيع وابحاث سياسية
    


بحلول يناير 1984 ، وبحلول يناير 2011 ، يكون قد مر على اكبر انتفاضة شعبية مغربية عرفها تاريخ الانتفاضات الجماهيرية الشعبية المغربية ضد النظام ، سبعة وثلاثين سنة . وللأسف ما لوحظ هذه السنة ، ولوحظ خلال السنوات الماضية ، ان الانتفاضة الشعبية التي كانت عنيفة ،من خلال شعاراتها ، ومن خلال نتائجها ، وكان قمع النظام اشد عنفا وقساوة ، في اخمادها ، ووصل العنف حين وصف الحسن الثاني سكان الشمال بالأوباش ، ووصلت فيها الاحكام الى ثلاثين سنة سجنا ، وليس الى عشرين سنة التي كانت من نصيب الزفزافي ورفاقه .. لم تلق الاهتمام الكافي من قبل مَنْ مِنَ المفروض انهم كانوا ضحاياها وتبنوا شعاراتها .. فالذكرى كباقي الذكريات ، انتفاضة 23 مارس 1965 ، وانتفاضة الدارالبيضاء في 9 يونيو 1981 .. مرت في صمت ، وكأنها لم تخلف مئات القتلى الذين سقطوا برصاص الجيش والدرك ..
ترى ما السبب في اللامبالاة ، وفي الإهمال ، لإحياء ذكرى تركت بعد مجازر الريف في النصف الثاني من الخمسينات ، جروحا لا و لن تندمل ابدا ... هل هو النسيان ، هل هو الهموم اليومية ، هل هو التنكر ، هل السبب في تغيير المواقع ، والمواقف ، والخنادق ، هل هو في الارتماء في أحضان النظام الذي نجح في شراء الجميع ، ليطبق صمت رهيب ، وحقوق الانسان تداس في واضحة النهار من قبل بوليس النظام ، ومن قبل جهازه السلطوي الموغل في الوحشية ، والتجبر ، والاعتداء بجلد الناس نهارا في الشوارع العامة ...
ام ان السبب في هذا الإهمال ، يرجع الى حراك الريف الذي اعتبره بعضهم امتدادا لانتفاضة الريف في 1958 ، وامتدادا لانتفاضة الجماهير الشعبية في يناير 1984 ... فهل من قاسم مشترك بين انتفاضة الريف ، وانتفاضة يناير 1984 ، وحراك الريف الأخير ...
عند تمعننا في النظر ، وتحليل المعطيات المتوفرة عن الانتفاضات الثلاثة ، وبكل موضوعية ، سنصل الى النتيجة / الحقيقة ، انه بقدر ما كان الحراك الريفي الأخير امتدادا لانتفاضة الريف في سنة 1958 ، بقدر كان الفرق واضحا وجليا بين انتفاضة 1958 ،و انتفاضة الريف الاخير، وانتفاضة يناير 1984 ..
وهنا نرد على البعض الذي يحاول فاشلا الربط بين نزاع الصحراء ، وبين حراك الريف لان لا قاسم مشترك بينهم ... انّ نزاع الصحراء هو بيد الأمم المتحدة التي أصدرت وتصدر بحقه قرارات طبقا للبند السادس ، بخلاف الريف الذي يبقى مشكلة وطنية ...
وبالرجوع الى الانتفاضات الثلاث التي حصلت ، سنجد ان انتفاضة الريف في سنة 1958 ، وحراك الريف الأخير ، كانا ريفيين بامتياز . فقد طغت عليهما النزعة الانفصالية التي دعمت الحراك الأخير حركة 18 شتنبر الجمهورية بقيادة سعيد شعو اللاجئ في هولندة ، وتخندق كل الريف الذي هو الحسيمة في جهة رفع راية الجمهورية الريفية ، بينما ظل الناظور وبقية المدن مرة تتفرج ، ومرة تنط هنا هناك ، بخلاف انتفاضة يناير 1984 التي كانت عامة في كل الشمال وبالمدن المغربية ، كما انزوى الحراك في عنصريته المقيتة ، عندما حجب الرؤية ، وبنى حائطا يفصله عن عمقه التاريخي الذي هو الشعب المغربي ، والمغرب الكبير .. وكان هذا الخطأ القاتل ، سببا في تسهيل افشال الحراك ، لأنه قطع دراعه وامتداده الترابي والجغرافي ، وتعرى من غطائه ، الامر الذي مكن النظام من الاستفراد بهم .. فترديد الشعارات العنصرية ، مع السب والشتم الرخيص في حق كل من ليس ريفيا ، ورفع راية الانفصال راية الجمهورية الريفية بالملايين ، ورفع راية الصهيوني Jaques Benêt التي يسمونها زورا براية تمزغة ، او الراية الامازيغية ، وهي تحريض على الكراهية ، ودعوة غير مبطنة للحرب الاهلية التي ستستفيد منها الجزائر التي كانت تؤيد حراك الريف في صيغته الانفصالية ... جعل الشعب المغربي يأخذ مسافة و موقفا من الحراك ، لأنه يهدد اللحمة ، ويسيل نحو التقسيم ... وهذا ما سهل على النظام خنق الحراك وبكل سهولة كانت متوقعة ، حتى ذب الشرخ في صفوف كل الحراكيين ، فبدأت الحرب ليس بين الريفيين وغير الريفيين ، بل أصبحت بين الريفيين انفسهم ، خاصة استعمال سلاح التخوين في مواجهة بعضهما البعض ..
اذن . اذا كان انتفاض الريف في سنة 1958 ، وحراك الريف الأخير ، ريفيان بامتياز ، وكانا محليا ، وانفصاليا ، وميز نفسه عن عمقه الذي هو الشعب المغربي والمغرب الكبير ، فان انتفاضة كل الشمال في يناير 1984 ، كانت مغربية بامتياز، شارك فيها كل الشعب المغربي ، وعمت المظاهرات كل المدن المغربية كالرباط ، وفاس ، ومكناس ، ومراكش التي كانت فيه منظمة الى الامام القائدة للانتفاضة ... ففي مراكش تم توزيع صور ابراهام السرفاتي ، وفي الشمال حيث كانت المظاهرات تخرج من المساجد ، رفعوا صور آيات الله الخميني ، كما رفعت شعارات ماركسية ، وتقدمية ثورية ، كانت وراءها الفصائل الطلابية المنتمية للاتحاد الوطني لطبلة المغرب ، وكانت وراءها الشبيبة التقدمية من جل المكونات السياسية المعارضة ، كالاتحاد الاشتراكي / اللجنة الإدارية الوطنية La CAN التي تعرضت لمؤامرة 8 مايو 1983 ، التي قادها المكتب السياسي لحزب الاتحاد الاشتراكي ، بالتنسيق الأمني مع وزارة الداخلية ، ويندرج في هذا السياق القمع الذي اشرف عليه مباشرة عبدالرحيم بوعبيد مع عامل إقليم بني ملال ، ضد فرع الحزب بالاقليم .... لخ
اذن وبالرجوع الى الانتفاضة الجماهيرية في يناير 1984 ، سنجد انها وبدون تنسيق مسبق ، انخرطت فيها المكونات السياسية الاساسية الفاعلة في الساحة الجماهيرية . فمن جهة سنجد منظمة الى الامام تتبوأ الانتفاضة بمراكش وبالعديد من المدن المغربية مثل الرباط ، و من جهة سنجد الحركة الاسلامية الى جانب اليسار الماركسي اللينيني ، يتبوئان الانتفاضة بالريف وبالشمال ، حيث كانت المظاهرات تخرج بالآلاف من المساجد ، مع سيطرة الشعارات الاسلامية في المواجهة مع قوات الامن والجيش .
فهل كانت الانتفاضة الجماهيرية بسبب عرقلة عودة النظام الصهيوني لأنوار السادات الى حظيرة ( الجامعة العربية ) جامعة الحكام العرب ، ام ان هناك اسبابا اخرى اقتصادية واجتماعية هي من فجر الانتفاضة التي اغرقها المخزن في بحر من الدم ، حيث كانوا يطلقون الرصاص الحي على المتظاهرين من الطوافات العسكرية .
قبل الانتفاضة الينايرية ( يناير ) لسنة 1984 ، عرف المغرب خلال الثلاث عقود التي سبقت الانتفاضة ، عدة هزات وانتفاضات شعبية ، قاسمها المشترك ، سخط اوسع فئات الشعب ، واحتجاجها على الحرب التي تشنها عليه الطبقات الحاكمة . ولم تكن تلك الانتفاضات في العمق إلاّ ممارسة فعلية لحق الشعب في الدفاع عن قوته اليومي ، وعن حقه في الشغل ، والصحة ، والتطبيب ، والسكن اللائق ، والتعليم ، والحرية ، والمساواة والتأصيل لدولة العدالة ورفض دولة الظلم .. لخ .
كانت المرحلة في الحقيقة مرحلة ترتيب الاوراق بالنسبة للمخزن والأحزاب السياسية ، استعدادا للدخول في حلقة جديدة لما يسمى ، ولا يزال الى يومنا هذا ب " المسلسل الديمقراطي " بعد المهزلة الانتخابية في سنة 1983 التي تواطأ فيها المكتب السياسي لحزب الاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية ، ضد جناح " اللجنة الادارية الوطنية " الذي تعرض لقمع لم يسبق له نظير . وكان الواقع الاقتصادي المكشوف امام الجميع يفند كل ادعاءات الاقلاع الذي لا نزال فيه حتى الآن ، والخروج من الازمة التي كان يروج لها خبراء الاقتصاد الرأسماليين . إذ لم يزدد الوضع إلاّ تأزما ، مغرقا البلاد في مزيد من البؤس ، والفقر ، والشقاء ، مقابل اغتناء حفنة من البرجوازيين الكمبرادوريين ، والاوليغارشيين ، والمخزنيين . لقد كانت الوضعية الاجتماعية والاقتصادية بالمغرب قبل الانتفاضة كما يلي :
(1 اصبح اكثر من نصف سكان المغرب يعيشون تحت عتبة الفقر ، اكثر من اربعة عشر مليونا منهم لم يعد يتعدى مصروفهم اليومي ثلاثة دراهم ونصف ، في حين زاد ثراء الاقلية المخزنية ، وإخطبوطها من الاحزاب الدائرة في فلكها ، كما زاد تهريب العملة الصعبة بطرق غير قانونية ، وفتح حسابات وهمية بابناك ومصاريف اوربية خارج الوطن .
( 2 تضخم حجم المديونية التي صارت تشكل اكثر من 85 في المائة من الناتج الداخلي الخام ، بينما لم تكن تفوق 17 في المائة عشر سنوات من قبل . ولتمكين الدولة من الحصول على قروض جديدة عمومية وخصوصية ، وجب عليها الخضوع لبرنامج " تثبيت الاوضاع " الذي تضمنته اتفاقية " ستاند باي " الذي وقعه النظام مع صندوق النقد الدولي ، ومن ضمنها :
--- تخفيض العملة الوطنية ب 10 بالمائة
--- خفض ميزانية الاستثمار بحوالي الثلث
--- حذف ما يقارب من 20 الف منصب مالي
--- الغاء الدعم للمواد التي يستهلكها الشعب مثل السكر ، الزيت ، الطحين ، الارز ، البنزين ، الزبدة ، الغاز والمحروقات .. لخ ، وإقرار ما يسمى ب " حقيقة الاسعار " ، اي رفعها وجعلها ترتفع باستمرار ، وتحريرها من القيود التي تحول دون ارتفاعها
--- التخطيط للإجهاز على صندوق المقاصة
--- الزيادة في قيمة وعدد الضرائب والرسوم المخزنية
--- مراجعة مجانية التعليم ومنح الدراسة وإخضاعها للتقليص .
وبتكامل مع ارتفاع لهيب الاسعار في سنة 1983 التي اكتوت منها الفئات الفقيرة ، شهدت البطالة توسعا كبيرا ، شملت الى جانب آلاف الفلاحين الفقراء ضحايا الجفاف ، والسياسة الفلاحية الطبقية التي اسقطت مداخلهم من الزراعة والمواشي الى الحضيض ، مما دفع بالكثيرين منهم الى بيع اراضيهم الزراعية بأبخس الاثمان ، والى النزوح بأعداد كبيرة نحو الاحياء القصديرية في المدن الكبرى مثل الدارالبيضاء والرباط . والى جانب هؤلاء شملت البطالة اعدادا هائلة من العمال المسرحين نتيجة اغلاق مجموعة من المعامل ، او تقليص لعدد عمالها مثل معمل ( كوصيما ) ، شركة ( ماديسون ) ، الشركة الشريفة للمؤسسات الكهربائية ... لخ . وأعدادا اخرى من خريجي الجامعات والمعاهد العليا ، ومدارس التكوين المهني ، والمطرودين من مختلف المستويات التعليمية .
هكذا في خطاب رسمي في ديسمبر 1983 ، تم الاعلان عن اجراءات تقشفية جديدة جندت لها الطبقات السائدة كل ابواقها ، وإمكاناتها الدعائية ، وتم الاعلان عن القيام بإحصاء وطني عام للدخل ، سرعان ما تحول ليصبح محدودا ، ليقتصر فقط على ذوي الدخل الضعيف والمتوسط . وهنا لا ننسى وزير الدولة مولاهم احمد العلوي في احدى افتتاحيات التي كان يكتبها له المرحوم ستيتو البودالي في جريدة ( ماروك سوار ) ، حين جرّم كل من يدعو الى احصاء مداخل الاثرياء من اجل معاينة واقع توزيع المداخيل ، وإعادة التوازن الى هذا التوزيع ، وذلك اتباعا " للفضيلة والتقاليد الاسلامية " .
لقد كشفت الاحصائيات الاولية في العاصمة الرباط مثلا عن تفشي الفقر المدقع في الاحياء الشعبية في احلك صوره :
--- لجوء عدد من المواطنين الى السكن في بعض الاضرحة مقابل اداء بعض الدراهم
--- لجوء عدد من المواطنين في السكن في اصطبلات باب الرحبة بالمدينة القديمة المطلة على وادي ورقراق
--- اعتماد عدد من الاسر على اعالة بناتها المدفوعات الى ممارسة البغاء
--- وجود حالات كثيرة تقتسم فيها ثلاث اسر غرفة واحدة ، يحول بينها إزار من القماش
--- تفشي ظاهرة الهروب عن الزوجة والأطفال بسبب العجز عن اعالتهم
--- وجود عدد كبير من المواطنين العاجزين عن تسديد اسعار الكراء ، والمتابعين امام القضاء ، والمهددين من قبله بالإفراغ والتشرد
كما تميز الوضع السياسي بالتضييق على الحريات السياسية والنقابية ضد المناضلين السياسيين والنقابيين الحقيقيين ، من عمال ، وفلاحين ، وأساتذة ، وطلبة ، وتلاميذ ، ثم المنع الجائر الذي طال مجلات تقدمية مثل الجسور ، الثقافة الجديدة ، البديل ، الزمان المغربي ، المحرر ، والإعلامية عن طريق اخضاع كل الجرائد الغير الرسمية ، للرقابة المسبقة القبلية ، مع الابداع في اجراءات الحجز والمنع .
شرارة الانتفاضة : مدينة تطوان نموذجا : ان تركيزنا على مدينة تطوان لا يعني ان المدن الاخرى كانت اقل خطورة ممّا حصل بتطوان ، بل ان ما حصل مثلا بالناطور، وبمدن الشمال ، كان تصفية جسدية لمواطنين مهمشين ، ذنبهم انهم طالبوا باقتسام جزء من ثروة بلدهم التي يحتكرها وينهبها النظام الاقطاعي ، الاوليغارشي المنتمي الى الزمن الميّت .
كانت البداية ، يوم الثلاثاء 17 يناير 1984 بمظاهرات للتلاميذ احتجاجا على ارتفاع تكاليف التسجيل ، وانجاز الملفات المدرسية ، وضد الغاء المنح الدراسية ، وتزايد النخبوية والعنصرية والحكرة . ويوم الاربعاء التحق الطلبة بالتلاميذ ونزلوا بدورهم الى الشارع مرددين نفس شعارات يوم الثلاثاء . ونظرا للفقر، والتهميش ، والعزلة ، انضمت اليهم جماهير العاطلين ، والفلاحين المعدمين ، والتي ما فتئت تلجأ منذ بضعة سنوات ، وبإعداد متزايدة الى المدن طلبا لمصدر عيش غير مضمون وأكيد . ومما زاد في التأجيج ، تعزز المظاهرات بالمشاركة الواسعة للعمال الذين وجدوا ، ويجدون انفسهم في وضع لا يحسدون عليه ، وبسرعة فائقة ، تحولت المظاهرات الى انتفاضة شعبية ، جماهيرية ، تسوناني حارق ، يهاجم فيها المتظاهرون كل شيء يرمز للغنى ، والسلطة ، والجاه .
وطيلة يومين كاملين ، الثلاثاء والأربعاء ، كانت المدينة في يد مجموعات المتظاهرين ، الذين ظلوا يرددون الشعارات المناوئة لشخص الملك ، وللملكية ، والنظام ، ويطالبون بإلغاء الزيادات الظالمة في مختلف الاسعار . وتمام هذا الحال ، لم تتمكن الشرطة والقوات المساعدة من الرد او التغلب على الموقف لاحتوائه ، نتيجة تجاوز الاحداث لها . ويجب القول هنا ، ان استراتيجية ادريس البصري وزير الداخلية ارسلت اغلبية البوليس لتتمركز بأكبر مدينة بالمغرب الدارالبيضاء ، لضمان سلامة وامن مؤتمر القمة الاسلامية ، و خاصة وان شبح انتفاضة يونيو 1981 التي وصفها الوزير المقبور بشهداء كوميرة ، لا تزال خطورتها تفعل فعلتها في الذاكرة البوليسية ، والجهاز السلطوي العقيمة . ودون شك ، فان هذا العامل لعب دورا في الانتشار السريع للحريق الذي يعصف بنظام المخزن المهدد بالسقوط . ولم تتوصل قوى البوليس بالمدينة بتعزيزات إلاّ مساء يوم الخميس ، وبدأت في اطلاق النار على المواطنين المنتفضين ، وفي صباح يوم الجمعة دخلت مدرعات الجيش الى المدينة قادمة من الصحراء ، واخذ العسكر المرسل من الجنوب بكل سرعة في اطلاق النار على اي شيء يتحرك ، او يخيل انه يتحرك .
هكذا تحولت الاحياء الشعبية ، بعد تطويقها ومحاصرتها ، الى ميدان لقمع خطير ، فكان الجيش والدرك لا يترددان في اطلاق النار على كل واحد يفتح بابا او نافذة . هذا واستمرت الاعتقالات طيلة يوم السبت ، والأحد ، والأسبوع اللاحق ، حيث تم اعتقال اكثر من 700 مواطن . اما الضحايا فعددهم كبير جدا ، ولا يتصور على بال ، ومن ضمنهم العديد من الشباب والأطفال . وهنا لا ننسى ان الانتفاضات في الناظور، والحسيمة ، وطنجة ، والقصر الكبير ، واصيلا كان على الاقل بنفس الدرجة من العنف ، ولاقت هي كذلك مواجهة قمعية شديدة .
فهل من علاقة بين مؤتمر القمة الاسلامية بالدرالبيضاء وانتفاضة يناير 1984 ؟ :
ان مثل هذا التفسير التبسيطي يوجد في فكر المخزن الاختزالي الذي اعتبر ان القصد من الانتفاضة الجماهيرية هو الحيلولة دون " عودة مصر الى الحظيرة الإسلامية ، والى الصف العربي " ، بحيث ان النظام لم يتردد في اتهام الموساد الاسرائيلي بالوقوف وراء الانتفاضة . ان مثل هذا التفسير الذي ينشد الهروب الى الامام ، والى اخفاء الرأس في الرمل ، لا يستقيم مع ما انتجته الاحداث السابقة ، والمتواصلة ، واللاحقة . فقبل انعقاد المؤتمر ، انفجرت الحركة في نحو عشرين مدينة وحاضرة ، وبدأت اصلا منذ اليوم التاسع من شهر يناير في مدينة مراكش بصورة عفوية ، مثل انفجار 20 يونيو 1981 كانت هي بدورها عفوية على الرغم من انّ مناسبتها كانت دعوة للإضراب العام الذي وجهته الكنفدرالية الديمقراطية للشغل . ف ( ك د ش ) دعت الى الاضراب العام ، لكن الجماهير تجاوزت الاضراب الى الانتفاضة ، وتحولت هذه الى مجزرة دامية بفعل تدخل الدرك والجيش .
ان الوضع الذي كان سائدا في معظم المدن المغربية ، ولا سيما كبرياتها ، يقدم تفسيرا اوليا لذلك . ان الملاحظين من مغاربة مهتمين بالشأن العام ، وأجانب اوربيين ، يجمعون على ان الدارالبيضاء ، تحولت تدريجيا الى ريوديجانيرو برازيلية جديدة ، إذ يكفي ان تقترب ساعات الليل الاولى ، حتى تفرغ الشوارع نتيجة انعدام الامن . بينما تشهد اعمال العنف ، والسطو و " التّشْليحْ " بالسكاكين ، وموسى الحلاقة على ان الشارع بات خارج السلطة .
اما السياسة الداخلية ، فتقدم بقية التفسير . فقد ضعفت الأحزاب مثل اليوم ، وتم افراغها من مضمونها التاريخي والفلسفي ، فأضاعت مصداقيتها ، حيث ان ادخال الملك لوزيرين عن الاتحاد الاشتراكي ( عبدالرحيم بوعبيد وعبدالواحد الراضي ) ، كانت مهمتها الاساسية رفع الاسعار ، كان كافيا لحرق الكثير من مصداقيتها التي اكدتها بعد المؤتمر الاستثنائي لسنة 1975 . هكذا سيتحول عبدالرحيم بوعبيد ، وجماعة المكتب السياسي الى سجانين لمناضليهم المسجونين . ان الصراع الذي عرفه الحزب بين المكتب السياسي ، وبين اللجن الادارية الوطنية ، حول المشاركة او مقاطعة الانتخابات في يونيو 1983 ، ادت الى ازمة اخلاقية عامة ، حين استقوى بوعبيد بوزارة الداخلية ، لحسم الخلاف مع المعارضين الذين يدْعون الى مقاطعة الانتخابات ، ووقف كل تنسيق او تعاون مع النظام ، وهي اطروحة لاقت تعاطفا كبيرا داخل الحزب ، بحيث ان بوسع المرء ان يتصور انه لولا وجود هؤلاء " الخوارج " داخل السجن ، لأصبحوا يكوّنون الاغلبية داخل الحزب ، كما لا ننسى هنا استقواء المكتب السياسي وبالضبط عبدالرحيم بوعبيد بالسلطة لحسم معركة فرع مدينة بني ملال .
هكذا فان الملك بات يملك ، عبر قدرته على اخراج هؤلاء من السجن ، ان يمزق الاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية مرة اخرى ، وهو الوضع الذي كان يجبر عبدالرحيم بوعبيد على مواصلة تعاونه مع النظام، وان يقبل كما فعل بموافقته المشاركة في الانتخابات ، الموافقة على المشاركة في حكومة كريم العمراني .
ان الاتحاد وهو يكون قد دخل الحكومة ، وعبر جميع المحطات ، والمراحل ، والى فترة اليوسفي ، بدعوى ان البلاد ، مرة تواجه ازمة حقيقية ، ومرة بسبب السكتة القلبية ، يكون غائبا عنه ان السلطة الحكومية ليست بيد الحكومة ، بل هي بيد الملك . ومما يعزز تحليلنا هذا ، ان الحزب دخل الحكومة مرغما . ويكون الحسن الثاني بهذه المناورة السياسية الجديدة ، قد سجل نصرا باهرا على المهدي بن بركة في قبره ، لأنه وضع حزب المهدي بين خطر الانقسام ، وبين خطر فقدان المصداقية . اليوم الحزب انشطر الى شظايا صغيرة ، وفقد مصداقيته التي اضحت مجرد عنوان ، يتاجر به البورصيون ، والانتهازيون الذين تمخزنو اكثر من المخزن ، فأصبحنا نسمع وبدون خجل او حياء عن حكومة صاحب الجلالة ، ومعارضة صاحب الجلالة .
هل نجح المخزن بمناوراته السياسية في قتل الاحزاب ام انه اخطأ في ذلك : ان الحكم ومن خلال هذه المناورات السياسية المهزوزة ، فهو لا يصفي بذلك الحسابات مع المعارضة اليسارية وحسب ، بل انه يصفي حساباته مع " الحزبية " عموما / والدفاع عن الحزبوية الفارغة من اي مضمون تأطيري ، او تنظيمي ، او أيديولوجي ، او تاريخي ، او شعبي . ذلك ان من الواضح ، ان النظام المريض بفوبيا اليسار وبفوبيا الاسلام السياسي ، يريد ان يخلق احزابا ( لتأمين الواجهة الليبرالية الضرورية للمغرب ) ، على ان تكون صورية فقط . ان النظام يريد احزابا على شاكلة التجمع الوطني للأحرار ، الاتحاد الدستوري ، الحركة الشعبية ، مجموعة لشكر ، وليس حزب المؤتمر الثاني ، والثالث ، والاستثنائي ، مجموعة نبيل بنعبدالله ، وليس حزب عزيز بلال ، مجموعة شباط الذي يستعمله النظام في طريق شق حزب الاستقلال ، وإضعافه مثل الاتحاد الاشتراكي ، بل هو لا يقبل حتى احزاب النيو – مخزن التي ترفع بعض الشعارات التي لا علاقة لها بماضيها الراديكالي الملكية البرلمانية المغربية ) ، فرغم دخولها الحظيرة المخزنية بحسن نية فهو لا يطيقها . كما يريد احزابا على غرار " حزب الاصالة والمعاصرة " حزب الدولة الذي انشأه الهمة لمّا كان وزيرا منتدبا في الداخلية .. لخ .
لكن النظام الذي يعتقد انه انتصر ، لا يفعل بحصوله على هذه الانتصارات المسمومة ، سوى انه يزيل ، ويدمر آخر الحواجز الممكنة لاحتواء الشعب ، ومن تم تدجينه . ان ضعف الهيئات والمنظمات الحزبية ، وظهورها بمظهر الواجهة الشكلية للسلطة ، جعل الغضب الشعبي سابقا واليوم ، يتوجه الى القصر مباشرة ، وينصب على شخص الملك بالذات ، رغم ان العرف المخزني يجعل من نقد الامير الملك ، (جريمة) يحاسب عليها القانون . ان هذا الوضع الكاريكاتوري الذي اضحت عليه الاحزاب ، هو نفسه الوضع الذي اضحت عليه النقابات . فأين ( ك د ش ) / وأين ( ا م ش ) ؟ تناسلوا مثل الفطر حتى اصبح كل منهما يتنافس في خدمة المخزن ، وليس الطبقات التي يدعون زورا التحدث باسمها .
إذن امام هذا الوضع الفاقع للأعين لم يبق بوسع للحسن الثاني ، إلاّ ان يقول ما قاله ، لأنه لا يستطيع ان يقول : ان الكارثة كانت محتومة ، وان وزير ماليته ، حين قدم ميزانيته الى البرلمان ، ان تكون سنة 1983 وخيمة وخطيرة العواقب ، ربما قول ذلك يعني الاعتراف الصريح بفشل سياسة الحكم .
سؤال : الكل يجمع اليوم الى ان الوضع الاقتصادي ، والاجتماعي ، والسياسي ، هو اخطر ممّ كان عليه الحال في 1983 وما قبلها ، كما انه اخطر ممّ كان عليه الوضع في يونيو 1981 ، ومارس 1965، وديسمبر 1990 . ومع ذلك لا انتفاضة على الابواب . فهل تم تدجين المواطن المغربي مع قبول الفقر ، واعتبار هذا ارادة الهية لا مفر منها ؟ هل تحول المواطن المغربي الى مازوشي يتلذذ بمن يقهره، ويهينه ، ويذله حيث تُفرّق وبشكل مهين ( البطّانيات ) ، اي ( الكاشّة او الماطْلة ) ، مع قالب من السكر ، وعلبة شاي رديء ، مع شيء من الدقيق ، وخمس ليتر من الزيت الرومية التي تذوب في اسبوع ، وربما عند حلول فصل الصيف وكان حارا ، سيوزعون عليهم ( مايّوهات ) السباحة في البرك التي خلفتها الامطار بتلك المناطق النائية ؟ هل السبب في ان التاريخ لا يعيد نفسه ، وإن اعاده يكون ذلك في المرة الاولى بشكل ردئي هزلي ،ويكون في المرة الثانية بشكل تراجيديا ؟ هل السبب في خيانة النخبة من احزاب ، وجمعيات ، ومنظمات ؟
الجواب سيكون ممّا ينتظر القضية الوطنية من مصير مُضبّب وخطير . فإذا ذهبت الصحراء ، الانتفاضة الجماهيرية ستندلع في كل المغرب ، وليس فقط في بعض المدن او الحواضر .
لكن كيف ستكون النتيجة ... وكيف سيكون موقف الجيش عند اندلاع انتفاضة بسبب الصحراء ؟ هل يستطيع اطلاق الرصاص ؟ والعالم قد تعير ، والرئيس الأمريكي والاتحاد الأوربي يركزون على الديمقراطية ... وماذا عن المحكمة الجنائية الدولية ، ومجلس الامن ، والبيت الأبيض ، والاتحاد الأوربي ... اذا كرر الجيش والدرك مجازر 23 مارس 1965 ، ومجازر يونيو 1981 ، ومجازر يناير 1984 ، وفاس 1990 ؟



#سعيد_الوجاني (هاشتاغ)       Oujjani_Said#          



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)

الكاتب-ة لايسمح بالتعليق على هذا الموضوع


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- ذكرى حركة 20 فبراير / بأية عيد عدت يا عيد / بما مضى ام في ام ...
- إختطاف شفيق العمراني من المطار
- اختطاف معارض من مطار الرباط سلا
- المعارضة
- ماذا يحضر للصحراء ؟ - وثيقة عقيدة الاتحاد الافريقي - ..
- هل ستندلع حرب امريكية ، اسرائيلية ، ايرانية ؟
- توزيع وتشتيت سجناء حراك الريف الستة
- المناضل الديمقراطي
- المؤامرة الكبرى ضد الشعب المغربي
- ماذا تريد جبهة البوليساريو ؟
- حين يصبح رئيس أكبر دولة في العالم ، بلطجي شمْكارْ -- السقوط ...
- هل رفعت اجهزة البوليس المغربي ، دعوى محلية ، ضد مغاربة معارض ...
- الديمقراطية
- الدولة العميقة والحكومة العميقة -- من يحكم ؟
- هل اذل النظام المخزني سعد الدين العثماني ؟
- نزاع الصحراء ألعوبة أممية
- - ماذا تريد منّي يا محمد السادس - . البوليس الفاشي والجهاز ا ...
- فرض سيادة الشعب
- هل كان اعتراف دونالد ترامب بمغربية الصحراء الغربية ، فخ سقط ...
- الجهاز البوليسي والسلطوي في المغرب


المزيد.....




- -الطلاب على استعداد لوضع حياتهم المهنية على المحكّ من أجل ف ...
- امتداد الاحتجاجات المؤيدة للفلسطينيين إلى جامعات أمريكية جدي ...
- توجيه الاتهام إلى خمسة مراهقين في أستراليا إثر عمليات لمكافح ...
- علييف: لن نزود كييف بالسلاح رغم مناشداتها
- بعد 48 ساعة من الحر الشديد.. الأرصاد المصرية تكشف تطورات مهم ...
- مشكلة فنية تؤدي إلى إغلاق المجال الجوي لجنوب النرويج وتأخير ...
- رئيس الأركان البريطاني: الضربات الروسية للأهداف البعيدة في أ ...
- تركيا.. أحكام بالسجن المطوّل على المدانين بالتسبب بحادث قطار ...
- عواصف رملية تضرب عدة مناطق في روسيا (فيديو)
- لوكاشينكو يحذر أوكرانيا من زوالها كدولة إن لم تقدم على التفا ...


المزيد.....

- في يوم العمَّال العالمي! / ادم عربي
- الفصل الثالث: في باطن الأرض من كتاب “الذاكرة المصادرة، محنة ... / ماري سيغارا
- الموجود والمفقود من عوامل الثورة في الربيع العربي / رسلان جادالله عامر
- 7 تشرين الأول وحرب الإبادة الصهيونية على مستعمًرة قطاع غزة / زهير الصباغ
- العراق وإيران: من العصر الإخميني إلى العصر الخميني / حميد الكفائي
- جريدة طريق الثورة، العدد 72، سبتمبر-أكتوبر 2022 / حزب الكادحين
- جريدة طريق الثورة، العدد 73، أفريل-ماي 2023 / حزب الكادحين
- جريدة طريق الثورة، العدد 74، جوان-جويلية 2023 / حزب الكادحين
- جريدة طريق الثورة، العدد 75، أوت-سبتمبر 2023 / حزب الكادحين
- جريدة طريق الثورة، العدد 76، أكتوبر-نوفمبر 2023 / حزب الكادحين


المزيد.....

الصفحة الرئيسية - مواضيع وابحاث سياسية - سعيد الوجاني - ذكرى انتفاضة يناير 1984