أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - دراسات وابحاث في التاريخ والتراث واللغات - سامح عسكر - الأصل الأفريقي للحضارة المصرية القديمة (1)















المزيد.....


الأصل الأفريقي للحضارة المصرية القديمة (1)


سامح عسكر
كاتب ليبرالي حر وباحث تاريخي وفلسفي


الحوار المتمدن-العدد: 6755 - 2020 / 12 / 8 - 20:32
المحور: دراسات وابحاث في التاريخ والتراث واللغات
    


يوجد جدل حول هوية المصريين القدماء وهل كانوا سودا أم بيضا أم وسط بين اللونين؟ وهل كانوا زنوجا أم قوقازيين كما هو مشهور في علم الأعراق كفيصل شكلي كبير لا يمكن أن يخرج من أرض واحدة سوى بعوامل متعددة كهجرات واستيطان وخلافه..

في هذه الدراسة سنبحر في الإجابة على هذا السؤال ونعرض إشكالياته العقلية والعلمية الكبيرة التي تصطدم في العادة إما مع الروح الوطنية والقومية المعاصرة في مصر والتي ترفض القول بأصلها الأسمر أم مع العلم والعقل الذي ربما يُكذّب ذلك ويذهب لنتيجة حاسمة تقول أن المصريين الحاليين ليسوا أحفادا في معظمهم لأجدادهم بل خليط متنوع من عدة شعوب بدأت هجراتها إلى مصر في العصر البطلمي قبل 2300 عام، وهناك من يذهب بأن عصر الهجرات وتغير ديمغرافيا الشعب المصري بدأ منذ عصر الهكسوس في القرن 14ق.م وقدوم أعراق أسيوية وشامية سكنت وجه بحري بالقرب من عاصمتهم في أواريس..

وقبل أن نبحر أذكر ما عرضته مجلة "نيتشر" nature العلمية في قياس جينوم المصريين من موقع "أبو صير الملق" الأثري خلال الأسرة 28 في العصر البطلمي والتي شهدت بتقارب جينوم العينات مع جينوم الشوام والأناضول مع أقلية أفريقية سمراء، وهذا الذي خدع البعض ممن يقولون بالأصل القوقازي الأبيض لحضارة مصر وظنوا أن تلك العينات لمصريين عاشوا في الدول (القديمة والوسطى والحديثة) وفي الحقيقة أن تلك العينات تعود لأوروبيين في الغالب سكنوا مصر أوائل العصر البطلمي مع هجرات رومانية كبيرة، أي أن العينات ليست لمصريين أصليين..علما بأن منطقتي (الشام والأناضول) كانت معبرا بين مصر وأوروبا والعديد من شعوب الروم واليونان التي سكنتها إلى وقت قريب..

وأصل ذلك الخداع هو عدم وعي هؤلاء التاريخي بالفترة السلوقية في الشام التي شهدت هجرات أوروبية فيها من القرنين 4 إلى 1 ق. م وهذا سر التشابه بين العينات المصرية في أبو صير الملق مع سكان الشام هذه الفترة، علما بأن ذلك الادعاء ينسف أصالة الحضارة المصرية وفقا لأقوالهم التي ستصل في النهاية إلى ما يُعرف ب (الأصل الشامي الفينيقي لمصر) وهذا بعيد من نواحي التاريخ والأركيولوجيا..وقد تحدثت مع بعضهم منذ أيام وجدت جهلا تاريخيا بهذه الحقبة وعدم ربط علمي بين نتيجة عينات "نيتشر" وبين هوية سكان مصر والشام ذلك العصر الذي كان فيه البطالمة يسيطرون على مصر وجزء من فلسطين ، بينما يسيطر السلوقيون على الشام وجزء من فلسطين، ثم دارت حروب شرسة بينهما على ميراث الإسكندر الإمبراطوري.

علما بأن مجلة نيتشر شهدت بتغير ديمغرافي كبير في محافظات الفيوم والدلتا لصالح اليونان والرومان، وهذا يفسر تشابه العينات مع سكان الشام تلك المرحلة، والسؤال الذي يفرض نفسه لو تغير سكان مصر الأصليين للعرق الأبيض – كما تقول المجلة العلمية – فماذا كان لونهم قبل التغيير؟..وفي حواري مع تلك المجموعة التي تسمي نفسها "خصوم الأفروسنترية" نسبة لتيار أفريقي يزعم انتماء مصر لحضارة أفريقيا، رأيت فراراً منهم من حقيقة تغير الشعب المصري بشكل كبير في العصر البطلمي..فإذا كان هذا التغيير حدث في أبو صير الملق أوائل العصر البطلمي فما الذي جرى على مدار 1000 عام طوال هذا العصر مع شقيقه الروماني حتى القرن 7 م؟

في البداية يجب ذكر 5 حقائق هي محور هذا البحث الذي يدور في عدة حلقات:

الأولى: المصري القديم كان يُصوّر نفسه على الجدران باللون (البني) وليس الأسود القاتم، مع تميز تام عن ملابسه البيضاء بما يعني أن قصدية اللون في ذهن المصري كانت واضحة وتفريقه بين لونه الأصلي والألوان الأخرى كان واضحا، وذلك المحور بالذات لا يخدم من يقول بالأصول البيضاء والقوقازية لمصر..

الثانية: أفريقيا ليست جنسا واحدا ولا لون واحد، فمنهم من يحمل البشرة السوداء الداكنة ومنهم من يحمل البشرة البُنّية، واختلاف الأعراق كبير ومتعدد فمن شعوب القرن الأفريقي للساحل التنزاني للوسط والغرب وجنوب الصحراء الكبرى والأقزام، وأذكر أن العديد من سكان مصر الحاليين يُشبهون لحد كبير سكان زنجبار وكينيا كما هو حاضر في الرئيس الأمريكي السابق "باراك أوباما" الذي يحمل ملامح مصرية معاصرة لكن أصوله كينية أفريقية ، علما بأن كينيا ذات شعوب متعددة وليست عرق واحد أو شكل واحد..

الثالثة: المصري القديم لم يكن يعادي عرق معين أو لون معين كما يزعم مدعي الأصل الأبيض، بل كان يقاتل من يعادي الفرعون سواء كانوا بيضا أو سودا أو من ذوي اللون البُنّي، والدليل على ذلك لوحات الملك " رمسيس الثاني" في معبد "أبيدوس" في محافظة سوهاج ، ونقوشا أخرى منتشرة تقول أن الملك رمسيس الثاني كان يقاتل (نوبيين وأفارقة) معا من ذوي البشرة البنية الداكنة والسوداء، مع صور أسرى من شعوب مختلفة منهم بيض اللون..كما في مقبرة "سيتي الأول" في وادي الملوك من كتاب البوابات Book of Gates

الرابعة: إثبات الفارق بين الهوية الجينية والهوية الوطنية، فليس معنى أن جينوم مجموعة ما شرق أوسطيا أن هويته الوطنية لهذا المكان، وهذه الجزئية تخدع المتعصبين القوميين الذين ينظرون للمسألة بشكل قِبَلي سلالي أقرب لتفكير البدو الصحراوي، فالإنسان هو الذي يقرر إذا كان مصريا أو سعوديا أو تركيا..وليست جيناته التي تفعل ذلك، وعليه فالجنسية ليست بيولوجيا بل ثقافة ومصالح..واستمرار عوامل اللغة والدين والأدب يثبت في الحضارات مع تغير أجناسها، فالأسر الليبية والكوشية والفارسية التي حكمت مصر مثلا لم تقطع الصلة بين المصري ولغته وأديانه وقصصه الأدبية ، ولدينا مثال حي على احتلال إسرائيل لفلسطين أنه لم ينجح في قطع الصلة بين الفلسطيني وتاريخه اللغوي والأدبي والديني..

الخامسة: عدم كفاية الدليل البيولوجي للتعرف على أصل النوع من ثلاثة نواحي، الأولى: أن ما يقوم بدراسات الجينوم شركات خاصة قد تخفي ورائها نزعات قومية كما حدث مع جريدة الديلي ميل البريطانية حين قالت بأن الهابلوجروب الخاص بالملك "توت عنخ آمون" شائع في أوروبا الغربية، ونشرت التقرير العلمي في 4 أغسطس 2011، والناحية الثانية: قصور عمل الجينوم على الاستنتاج الصحيح باستقراء ناقص ، فما يفعلوه في الحقيقة هو جمع عينات للحكم على المجموع الكلي..وهذا خطأ منطقي في الاستدلال يسمى "استقراءا ناقصا" والبديل العلمي هو الحكم بناء على جمع كل العينات..وهذا ليس متاحا للتعرف على هوية الشعب البيولوجية لاختفاء معظمها وبقاء العشرات منها في جثث بعض الملوك، والناحية الثالثة: خاصة باعتراف مجلة نيتشر العلمية في 30 مايو 2017 بصعوبة التعرف على الحمض النووي لمعظم مومياوات مصر للتلف الحاصل به من أثر البيئة والرطوبة و تفاعل التربة مع مواد التحنيط..

مع إيماني بأن المحور الرابع مهم جدا في البحث العلمي، كونه حقيقة مؤكدة تنتمي لفقه التجريب، لكنها ستظل قرينة ودليلا للتعريف بهوية المصري القديم من عدة مجموعات من الأدلة التي يحسمها علم الأنثربولوجي والتاريخ والأركيولوجيا، والمعنى أن البيولوجي مع كل هذه العلوم قد يشكل يقينا منطقيا لكنه بمفرده لا يكفي للإشكالات الثلاثة التي تعتريه..ولأن التعريف بهوية شعب بناءً على أصله الجيني يقفز على حقيقة أن جميع البشرية تنتمي لجينوم ميتوكوندريا واحد قبل 200 ألف سنة تقريبا فيما يعرف بإنسان الهوموسابينز، والتغيرات ضئيلة للغاية تسبب نوعا من الارتباك في معرفة أصول ما قبل آلاف السنين، ولا زال هذا الجانب المعرفي إشكالا كبيرا حول أصول الأمم عرقيا لتداخل جينات الأمم مع بعضها بشكل يجعل جينات الشعب الواحد متنوعة ومختلفة عن جينات شبيهة له في مكان آخر، وهذا الذي خدع القائلين بتشابه جينات أوروبا الغربية مع هابلوجروب الملك المصري "توت عن آمون"

وبتوضيح أكثر، فالبحث الجيني كلما يعالج أصولا أقدم في الزمن يصعب الوصول فيه للجذر، مما يعني أن معرفة الأب والأم لكل فرد شئ سهل وميسور وكذلك معرفة الجد والجدة، لكن كلما تعمقنا أكثر للخلف اضطربت الجينات وحملت هابلوجروب لمجموعات نشطت في مكان آخر دون أن يكون للفرد أي علاقة بها، وبالتالي فهوية الفرد جينيا لا تحمل جينوما واحدا معروفا بل مجموعة جينات مختلفة تقدر الشركة الراعية لذلك بنسب تقديرية، أي لو قام مصريا ببحث أصوله الجينية الآن ربما تصل به النتيجة إلى نسب تقديرية ك 40% أفريقي 20% قوقازي 15% أسيوي ..وهكذا، بينما إذا بحثت أصول أحد أقاربه جينيا ومن نفس العائلة ستختلف هذه النسبة لتكون 35% أفريقي 20% أسيوي 15% أوروبي...وهكذا، برغم أن الشخصين يعيشان ضمن مجموعة واحدة..وهذه كانت ولا تزال أحد أبرز مشكلات البحث الجيني للتعرف على هوية الشعوب والأفراد.

والدليل على ذلك أن الطب الحديث لا يعتمد على أصول الفرد جينيا لعلاجه رغم أنه طريق أسهل للتطور التكنولوجي المرتبط علميا بمعالجة الجينوم وراثيا والتعديلات عليه، وفي هذه الروابط شرح لتلك المشكلة من المركز الوطني الأمريكي للمعلومات..

https://www.ncbi.nlm.nih.gov/books/NBK110038/
https://www.ncbi.nlm.nih.gov/pmc/articles/PMC2862689/
https://pubmed.ncbi.nlm.nih.gov/16741344/
https://www.jstor.org/stable/26679524?seq=1#metadata_info_tab_contents

وبرغم هذه المشكلات لكن لها فوائد في إمكانية تأقلم وتعايش مجموعات البشر مع الطبيعة بقدرات مختلفة، فلو كان الجين واحدا لقبيلة واحدة مثلا لأصبحت قدرتها على مواجهة أي مناخ وطقس سيئ وبيئة غير مناسبة واحدا، لكن التنوع الجيني يُكسب هذه القبيلة قدرات مختلفة على المواجهة ويعطيهم قوة جيدة للبقاء، مما يعني أن حصول شعب ما على جينات واحدة هو أمر خرافي في علم البيولوجيا والدراسات الأخيرة التي عقدت لرؤية ذلك دليل على تلك الخرافة التي تتغير فيها النسب وتشترك بشكل غير معقول..كأحد الدراسات التي وصلت بأن الفرس يحملون جينات عربية أكثر من المصريين، برغم أن الهجرات العربية لمصر موثقة تاريخيا أكبر منها لإيران ومدلول بقاء لغة الفرس وتغير لغة المصريين للعربية شاهد، مما يعني وجود حاجة لعلوم أخرى بجانب البيولوجيا للتعرف على هوية الشعوب منها التاريخ والاجتماع واللغة بالطبع..

وهذا ما اتبعته قبل أيام حين طرحت أدلة جينية في سياق تاريخي واجتماعي عن مجلة نيتشر تثبت بالاستقراء أن هوية الشعب المصرية بدأت في التغير إبان العصر البطلمي، وطرحت رابط مجلة نيتشر الذي شهد بأن عينات موقع "أبو صير الملق" تذهب في معظمها للشام والأناضول، وهو تاريخ بدء الهجرات المفترض وتحول استيطاني غير مصري، ولأن المخالف لا دراية له بالتاريخ فقد فهم الدراسة بشكل آخر وذهب بها لطريق مختلف على أن تلك العينات الجينية (مطلقة) وتشهد بأًصول شامية قوقازية للمصري القديم وقفز على كل مشكلات البحث الجيني التي يعرفها المتخصصون، ثم استشهد أحدهم – في واقعة غريبة - بجثة رمسيس الثاني ذات الشعر الأبيض المصبوغ بالحنّاء على أن المصري القديم كان أبيضا..ولو كان ذلك صحيحا فالزعيم الأفريقي نيلسون مانديلا قوقازيا أيضا أو هو يتبع الرجل الأبيض..فمانديلا بشرته داكنة بُنية كبشرة رمسيس ورغم ذلك شعره أبيض..

مما يعني أن التعرف على هوية شعب لا يكفي بحثه فقط من منظور واحد، وهذا ما سأعقده في تلك الدراسة بتصورات عقلية وتاريخية وأركيولوجية وبيولوجية وأنثربولوجية مجتمعة لتشكل في الأخير هوية مثبتة بالتجريب على الواقع المعاصر ، والهدف من ذلك هو فهم التسلسل التاريخي المصري وأحداثه في سياق علمي وليس كما هو شائع في سياق سياسي محصور على رغبات الملوك..

وبناء على تلك الحقائق الأربعة فالنظرية هي:

(أن الشعب المصري القديم أفريقي اللون ليس بمعنى الزنجي والأسود القاتم بل البني الداكن والفاتح أو ما يسميه المصريون بالأسمر والقمحاوي، مما يعني أن حضارة مصر ليست زنجية ولكنها أفريقية بمعناها الشامل الذي يضم حضارات أخرى معه كالمور والكوشيين، وبما أن المصري جزء من أفريقيا فقد اكتسب لونه الأصلي الذي نسميه مجازا بالأسود، لكنه بقي شعبا متمايزاً عن غيره يتبع السلطة المركزية للملك، فمصر هي من أوائل الحضارات البشرية التي عرفت معنى الدولة المركزية، فكان المصريون يدافعون عن بلادهم ضد كل خصوم الملك وليس شعوبا بعينها ، حتى أن بعض الأسرات غير المصرية حكمت مصر - كالهكسوس والكوشيين والليبيين والفرس - فدخلوا ضمن نسيج الأسرات المصرية، وهذا يعني أن معيار التمصير لدى الشعب وقتها كان هو الحُكم، مما ينفي أي عصبية عرقية للمصري القديم وتعايشه مع الأديان والشعوب الأخرى دون مشكلة عنصرية كما يروج لذلك أصحاب نظرية الأصل الأبيض القوقازي الذين يزعمون أن السود كانوا أعداءً لمصر وليسوا مواطنين)

في البداية أوضح أن المصريين ليسوا وحدهم من شمال أفريقيا كانوا سوداً..بل كل شعوب شمال أفريقيا كانوا على هذا اللون، والتحول بدأ منذ الاحتلال اليوناني والروماني من القرن 4 ق. م إلى القرن 7 م أي حوالي 1100 عام وقتها بدأت الشعوب الأصلية في مصر والمغرب إما تهاجر للجنوب أو تتحلل ذاتيا بفعل التمييز السياسي والاجتماعي والاقتصادي للحكام والمستوطنين، علما بأن شعوب المغرب القديمة كانت تسمى ب (شعوب المور) moors ومنها اشتقت إسم "موريتانيا" أي أرض المور، وعندما وصل الاحتلال الأسباني للفلبين سموا مسلميها ب (شعب المور) احتقارا لهم بعد تجارب الفترة الأموية الإسلامية في الأندلس، ولا زال مسلمي الفلبين يسمون بشعب المور إلى الآن برغم جنسهم الأصفر، لكن التسمية الاستعمارية قصدت معنى احتقاري مثلما سموا البربر بالويندال أو فاندال وتعني (الهمج) في الثقافة الأوروبية..

وعندما ظهرت حركة الإخوان المسلمين في الفلبين أرادت الاستقلال عن الأغلبية المسيحية -المشركة حسب رأيهم - فأطلقت حركة مسلحة شهيرة تسمى "جبهة تحرير مورو" أي جبهة تحرير المسلمين المور في أرض الفلبين، قبل أن تتحول مؤخرا لنسختها الحديثة من داعش.

وقصدت من تحديد تاريخ التحول باليونان والرومان لأن الاحتلالين الفارسي والآشوري لم يكونا (استيطانين) فلم يثبت عن تاريخ مصر القديمة أن نقلت أديان زرادشت الإخمينية لمصر، وكذلك ديانات سومر وآكاد لم تنتقل..بينما في الفترة اليونانية الرومانية انتقلت ثقافاتهم للمصريين وبدأوا في مزج آلهتهم مع آلهة مصر حتى صورت كليوباترا اليونانية نفسها كمصرية على جدران المعابد مع ابنها قيصرون ، ولما جاء العرب فعلوا نفس الشئ أي ساروا على سنن اليونان والرومان بنقل ثقافتهم الدينية لوادي النيل..

والطريف أن العرب عندما غزوا شمال أفريقيا (كانوا يخافون من البحر) فنقلوا عاصمة مصر من الإسكندرية الساحلية إلى الفسطاط ، وعاصمة تونس من قرطاج الساحلية للقيروان، وعاصمة سوريا من أنطاكية والإسكندرون الساحلية إلى دمشق، وهذه كانت دلالة على ضعف الأسطول العربي وقتها، لكنه تغير في الفترة العباسية وصار قويا حتى غزو به صقلية على يد "أسد بن الفرات" والتاريخ الإسلامي يؤكد على أن الصحابي "عمر بن الخطاب" نهى عن ركوب البحر لإيمانه بضعف العرب وخوفهم منه..وصار البديل الأوحد لديهم في الغزو هو (البرّ) أي غزو البلدان من البرّ وصرف النظر عن البحر..

وجزئية خوف العرب من البحر هذه جعلت مناطق الساحل الشامي طوال العصرين الأموي والعباسي حكرا على الوجود المسيحي، فبيروت وصيدا وصور وطرابلس كانت تصلح كعواصم بديلة لأنطاكية ولمنافسة الأسطول الروماني البيزنطي على الأٌقل..لكن العرب كانوا يعانون من فوبيا البحر لثقافتهم الصحراوية القاسية فظلت هذه المدن الكبيرة (مسيحية الديانة) إلى أن بدأت تتحول منذ فشل الحروب الصليبية وما أعقبها من قهر وتسلط المماليك والأتراك وإجبار سكان هذه المدن على الإسلام، ونفس الشئ للإسكندرية فلم تشهد هجرات عربية أو تسلط عربي كبير أعقاب الغزو في زمن عمرو بن العاص، وظلت الإسكندرية مركز مسييحيين مصر ومهد معلمهم الأكبر "أثناسيوس الأول" أحد مؤسسي المذهب الأرثوذكسي المصري وكبير الأقباط الذي تصدى لأريوس ..وإلى اليوم يطلق على بابا أرثوذكس المصريين ب (بابا الإسكندرية)

أما عن تحول سكان شمال أفريقيا للون الأبيض فهو حدث كما قلنا منذ فترات الاحتلال اليوناني الروماني بهجرة شمالية أوروبية للجنوب وثقتها عينات مجلة نيتشر..والتاريخ يشهد أن فئة كبيرة من سكان الفيوم في العصر الروماني كانوا (رومانا) بيض البشرة (مقابر وبورتريهات الفيوم نموذج) بينما جثث ومومياوات المصريين طوال عصر الأسرات كانت (سمراء) وبالنسبة للمغرب فهم كانوا موراً سود البشرة لدرجة أن علماء الأنثروبولجي اختلفوا حول (هوية قرطاج) وهل القائد حنّبعل كان أسودا أم رومانيا كما يُصوّر في معظم اللوحات..

المرحلة التالية للتحوّل بدأت مع العرب في القرن 7 م الذين كانوا مزيجا من العرق الآري والفينيقي والآرامي والحبشي المنتشر في منطقة القرن الأفريقي، وسأبتعد عن النظرة الدينية التي تسمي فرعا من الفينيقيين بالعبرانيين والساميين لأنها تسمية مرتبطة بالتناخ اليهودي لكنها ليست معترفا بها في الأوساط العلمية الأركيولوجية وجانب كبير من علم الأنثروبولوجي، وملخص ذلك أن شمال أفريقيا تحوّل في هذه الفترة ليكتسب أعراقا آرية وفينيقية وآرامية وحبشية..لكن بقي الأمازيغ والويندال مُركّزين في الغرب لعوامل منها صراعهم مع ممالك روما الغربية التي سقطت ما بين القرنين 4 إلى 6 م ضد هجمات الويندال والقوط، لتتركز لاحقا شدة الدولة الرومانية في جزئها الشرقي البيزنطي.

أما المرحلة التالية للتحول فحدثت في العصرين المملوكي والعثماني من القرن 13 إلى 18 م لتأتي شعوب القوقاز وآسيا الوسطى ليختلط دم السكان الأفارقة في شمال القارة مع الشراكسة والشيشان والخزر والتُرك..وغيرهم، وبرأيي أن هذه المرحلة كانت (الأهم على الإطلاق) من حيث كمّ المهاجرين لمصر ومنطقة المغرب كونها تضخّمت طوال العصر العثماني بالذات من أثر الحروب القاتلة التي كانت تجري في آسيا الوسطى والقوقاز بين (العثمانيين والفرس والروس والصينيين والمغول والهنود) في وقت كان شمال أفريقيا مستقر سياسيا بشكل كبير تحت السيطرة العثمانية دون منازع..

أما آخر مرحلة فهي مرحلة الاستعمار الأوروبي من القرن 19م إلى الآن، حيث بدأت هجرات متبادلة بين سكان الشمال الأفريقي وأوروبا في تكرار لما حدث بالعصر الروماني اليوناني لكن بشكل أخف، أي تلك المرحلة كانت أقلّهم من حيث الكمّ عن طريق هجرات فردية وأسرية بسيطة لا شعوب وقبائل جماعيا كما كان يحدث في السابق..

الآن وصلنا إلى سيادة عنصر أبيض تمت تسميته مجازا ب (شعوب البحر الأبيض المتوسط) ليكون هو المسيطر على شمال البحر وجنوبه، في حين بقيت أفريقيا على عنصرها الأسود عدا جنوب أفريقيا التي سكنتها أقلية بيضاء من التجار مع اكتشاف طريق رأس الرجاء الصالح، ومع ذلك فكلما ابتعدنا عن ساحل البحر نرى انتشار العرق الأسود في جنوب مصر وليبيا والجزائر مما يدل على أن الهجرات القديمة في شمال أفريقيا لم تختار التوغل جنوبا خشية المخاطرة أو ربما حاول بعضهم ذلك لكنه وقع فريسة لقبائل الغابات أو من كان يسميهم علماء اكتشاف منابع النيل ب (آكلي لحوم البشر)..

لنا عودة



#سامح_عسكر (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- الحزب العلماني المصري..كفكرة سيئة
- دخول الإسلام بنجلاديش وأندونيسيا بالحرب لا بالدعوة والتُجار
- طموح شيخ الأزهر السياسي
- القصة الأصلية لصحيح البخاري
- روشتة الحكم الرشيد للسيد جو بايدن
- الإسلام السياسي والحرية الصحفية
- رسالة لشيخ الأزهر
- رحلة في سيكولوجيا المرأة والجنس
- خرافات حول الانتخابات الرئاسية الأمريكية
- فرنسا وصراع الوجود
- العلمانية ..ضرورة حياة
- مسلمو فرنسا وجريمة الشيوخ
- برلمان مصر والشريعة الإسلامية
- قصة الأشاعرة والماتوريدية
- الوساطة الروسية في ملف كاراباخ
- في ذكرى حرب أكتوبر..حقائق فاصلة
- شرح مشكلة إقليم ناجورنو كاراباخ
- حقيقة سفر أخنوخ ومعراجه
- أغزوا تغنموا بنات الأصفر
- أصول قصة السندباد البحري


المزيد.....




- الصفدي لنظيره الإيراني: لن نسمح بخرق إيران أو إسرائيل للأجوا ...
- عميلة 24 قيراط.. ما هي تفاصيل أكبر سرقة ذهب في كندا؟
- إيران: ماذا نعرف عن الانفجارات بالقرب من قاعدة عسكرية في أصف ...
- ثالث وفاة في المصاعد في مصر بسبب قطع الكهرباء.. كيف تتصرف إذ ...
- مقتل التيكتوكر العراقية فيروز آزاد
- الجزائر والمغرب.. تصريحات حول الزليج تعيد -المعركة- حول التر ...
- إسرائيل وإيران، لماذا يهاجم كل منهما الآخر؟
- ماذا نعرف حتى الآن عن الهجوم الأخير على إيران؟
- هولندا تتبرع بـ 100 ألف زهرة توليب لمدينة لفيف الأوكرانية
- مشاركة وزير الخارجية الأمريكي بلينكن في اجتماع مجموعة السبع ...


المزيد.....

- تاريخ البشرية القديم / مالك ابوعليا
- تراث بحزاني النسخة الاخيرة / ممتاز حسين خلو
- فى الأسطورة العرقية اليهودية / سعيد العليمى
- غورباتشوف والانهيار السوفيتي / دلير زنكنة
- الكيمياء الصوفيّة وصناعة الدُّعاة / نايف سلوم
- الشعر البدوي في مصر قراءة تأويلية / زينب محمد عبد الرحيم
- عبد الله العروي.. المفكر العربي المعاصر / أحمد رباص
- آراء سيبويه النحوية في شرح المكودي على ألفية ابن مالك - دراس ... / سجاد حسن عواد
- معرفة الله مفتاح تحقيق العبادة / حسني البشبيشي
- علم الآثار الإسلامي: البدايات والتبعات / محمود الصباغ


المزيد.....

الصفحة الرئيسية - دراسات وابحاث في التاريخ والتراث واللغات - سامح عسكر - الأصل الأفريقي للحضارة المصرية القديمة (1)