قصة هذه المقالة:
في العام الماضي وفي 28 نيسان، كنت موجودا في دمشق مع العائلة ، حين صادف عيد ميلاد الطاغية.
فقررت كتابة رسالة مفتوحة من خلال جريدة عراقية معارضة، وفي مثل هذا اليوم 28 نيسان نشرت هذه الرسالة، فسحب العدد فجأة، واغلقت الجريدة بصورة نهائية، مع عدد من الصحفالعراقية في دمشق.
الطاغية، مثل اي د كتاتور يخاف حتى من غيوم السماء أو مرور العصافير فوق قصره كما يقول الروائي غابريل ماركيز، ارسل مبعوثه الشخصي للرئيس بشار الأسد مع نسخة من الجريدة، وفتحها على الرسالة وتحديدا على كلمة( نذل) التي وردت فيها وهو أول وصف في جريدة صادرة في دمشق له،قائلا:
ـ هل تقبل سيادة الرئيس أن تخاطبك المعارضة السورية في بغداد بهذا الوصف؟
اعيد نشر هذه الرسالة ليس لكونها وثيقة عن زمن مضى، بل لكونها وثيقة مهمة عن أحداث جرت بعد ذلك، وفيها اشارات صريحة على أن الطاغية يحيط نفسه بجنرالات مستعارين ووزراء جبناء سيتخلون عنه في اللحظة الحرجة.
وهذا ماحصل.
أهدي هذه الرسالة الى طفلتي شذى التي ستعيش بلا شك في عراق آخر، سيكون أجمل كثيرا، وأرقى، وأنظف رغم كل المتاعب.
حمزة الحسن
****************************************************************
رسالة مفتوحة إلى الدكتاتور لمناسبة عيد ميلاده
يطل علينا اليوم عيد ميلادك كما يطل الحبل على المشنوق، أو كما يطل ملاك الموت على المحتضر، وتحضر أنت هذا اليوم بالذات كحضور الرصاصة في القلب، وحضور الرمح في الدم
كان يجب أن أكتب لك رسالة تهنئة أو تعزية، فلا فرق عندك بين الموت والحياة، وأنا في تمام تماسكي، أي أن اكتب لك رسالة رصينة، ولكن كيف تستطيع الضحية، الجثة، أن تكتب لقاتلها في عيد ميلاده وموتها دون أن تصاب بكل أنواع الجنون والعته والرعب؟
من أين يأتي التماسك وأنت حولتنا إلى قطيع وحوش، والى شعب من الجياع واللاجئين في منازلنا في وطن لم يعرف الجوع عبر التاريخ إلا في عهدك؟ وفي عهدك، وهو عهد الريادات المخيفة والنادرة، تعرّن العراقيات وصارت حتى العباءة التي كانت تنسج من أوراق الأشجار صعبة المنال وأنت في موال طويل عن شرف الحرائر والماجدات. وفي عهدك عرفنا لأول مرة في تاريخ هذا الوطن الجميل، النحيل، والمقاوم، والمسالم، معنى الحسرة على رغيف الخبز والحرية والأمان. وفي عهدك، عهد الغرائب والعجائب، قطعت آذاننا، وأعناقنا، وأرجلنا، في الحروب والسجون، ولأول مرة يستعمل المنشار في قطع أرجل زعماء وأبرياء . وفي عهدك ذلت أسر عراقية عريقة، وسيقت إلى سراديب الموت والعار والخزي، ومارس جلاوزتك أحط وأشنع الأفعال مع نساء الأسر الشريفة، في عملية انتقام جبانة من كل نظيف ونقي وشريف وعفيف، كأن دورك في هذه الحياة هو تنتقم من كل عناصر الحياة والبراءة والطيبة والجمال
ماذا أقول لك، سيادة الرئيس، في يوم ميلادك وهو شهادة وفاتنا جميعا، وشهادة وفاة وطن، وشهادة وفاة تلك الحياة العراقية العذبة والصافية والنبيلة حيث قيم المحلة والعشرة والشارع والجيران كانت هي التي تحكم حياتنا في أروع اصطفاف اجتماعي عفوي ومدهش
كان العراقي يعبر حائط جاره عندما يسمع صرخة استغاثة، أو لإطعام يتامى أو أرملة، أو غريب، أو وحيد، أو مريض معوز، وفي عهدك، عهد الغرائب والعجائب، لم تعد لنا حيطان آمنة، حيث صار رجال الشوم وزوار الليل والنهار، يفتحون منازلنا بمفاتيحهم السرية أو بأحذيتهم، ويحاسبون صاحب البيت على غيابه عن المنزل وتأخره، أو على انتظارهم وصار الجار مخبرا على جاره، ولم تعد هناك كرامة لغريب في وطن صار فيه الجميع غرباء، ولم تعد هناك قيمة ليتيم عندما صار كل العراق هو وطن اليتامى، بل صار العراق حضارة وثروة وشعبا وتاريخا وجغرافية غريبا تحت سماء غريبة. فقدنا حتى متعة النظر إلى السماء العراقية التي كانت ترتحل فيها أسراب العصافير والطيور التي كانت تعيش معنا في غرف النوم وتقاسمنا أحلامنا السرية البيضاء، وصارت السماء، في عهدك العجيب الغريب، ترتحل فيها الطائرات والصواريخ وقنابل الموت
كنا ننتظر أعياد الربيع ونخرج إلى الحقول بخبزنا البسيط المقدس، وتمرنا العذب، وزوادة الماء، لنفترش حقول الأزهار ونشم رائحة الأرض في صفاء اجتماعي وقلوب مترعة بالحب والنقاء والأمان. الآن لم نعد نشم إلا رائحة الدخان والموت ونذهب إلى المقابر في أعياد الربيع وفي أعياد الله لنكمل حوارا انقطع مع أهلنا وأحبتنا الذين مشى عليهم سكين غدرك. هل تقبل سيادة الرئيس، وأنت تمارس فرحك الخاص، أن نذهب نحن شعبك لنتحاور مع شواهد القبور ونحمل وصايانا إلى أحبة حرمتهم من استكمال حديث أو قبلة الابن أو عناق حبيب أو وداع أم؟ من حق أي إنسان أن يحتفل بعيد ميلاده أو عيد كلبه أو عيد خيوله، لكن هذا الفرح يجب أن يكون مؤسسا على الحق والعدل والإنصاف والشجاعة كيف تستطيع أن تتوازن وأنت تقيم على جبال من الجماجم والدموع والخراب؟
طلبت منا أن ننام فنمنا، وطلبت منا أن نستيقظ في الفجر، أو بعد منتصف الليل، فاستيقظنا
طلبت منا أن نذهب إلى الحرب لنقاتل في حربك، فذهبنا إلى المحرقة على أناشيد أمرت الشعراء والموسيقيين أن ينشدوها لتمجيد الموت الرخيص، فغنوا على الشاشة والمسرح، لكنهم كانوا يبكون خلف الستارة من هذا الذل. هل تستطيع أن ترى دموع ضحاياك خلف الستائر أو على وسائد النوم؟ لا أعتقد أن شخصا يحمل كل هذا الخيال والعقل والتاريخ قادر على تخيل شكل الضحية وهي تنوح خلف الواجهات المغلقة
دول العالم، حكومات العالم المتحضرة، ترسل مواطنيها إلى الخارج من أجل السياحة والترويح عن النفس وتدفع في حالات خاصة بعض نفقات هذا المرح الإنساني، وأنت أرسلتنا إلى الخارج غازين أو قتلة أو أسرى أو قتلى أو مشوهين أو معقدين أو موتى أو مرضى أو هاربين. كل هذا، سيدي، من أجل أن تبقى أنت وحدك في عراق واسع وغني لم تستفد منه في النهاية وأصبحت تخاف من حلاقك الشخصي، ومن سائقك، ومن طباخك، ومن ممرضك وطبيبك، ومن حرسك الشخصي، ومن منظف المنزل، ومن غربان القصر الخرافي الذي يسكنك ولا تسكنه، لأنه أكبر منك، لأنك مجرد حجرة فيه؟. ماذا عملت بنفسك وبنا حضرة المحترم، هادم اللذات، وغراب البين؟ لا أدري لماذا يستهويك مشهد الخراب، والأنقاض، والدماء، والجثث، والمقابر، وغرف التشريح، وحبال الموت، ورائحة الدخان، ومنظر اليتامى والأرامل وهم يبكون أمام أبواب قصرك؟ وقصرك أو قصورك الكبيرة الواسعة الفخمة ماذا جنيت منها الآن؟ ممنوع عليك،عقاب السماء وعقاب خصوم في مثل شراستك وعقاب رجال أبطال وبواسل حتى في حمايتك، أن تنام ليلة واحدة في هذه القصور التي بنيتها بعرقنا ومالنا وجثثنا ودمنا، لكي تظل خاوية كأطلال تنعق فيها غربان الخوف وتتجول فيها رائحة الموت وأشباح ضحاياك
هل تستطيع مرة واحدة أن تنام في هذه القصور دون أن تسحقك طائرة أو صاروخ أو انقلاب أو في الأقل تخرج لك في الليل أشباح ضحاياك من كل مكان من غرف القصر؟ ينتظرك على السلم شبح عدنان خير الله، وعلى النافذة شبح عبد الخالق السامرائي، وتحت السرير شبح محمد عايش، وعلى رفوف المكتبة جثث ضحايا الحروب الكارثية ومحرقة الأنفال وحلبجة ومجازر الجنوب، وقتلى السجون من قومين وشيوعيين وبعثيين وعلماء دين وكتاب وضباط شرفاء …إلخ.إلخ
وفي عهدك، عهد العجائب والغرائب، أدخلت لأول مرة في تاريخ الحياة السياسية أخلاقيات الغدر وحولتها إلى ظاهرة وقانون ومبدأ( سياسي) بعد أن كانت حالات فردية منبوذة في مؤسسة عسكرية عراقية عريقة في تقاليدها الأخلاقية والعائلية والعسكرية التي كانت تستنكف وتخجل من غدر الصديق والجار والرفيق، وتؤمن بقيم الزاد والملح وشرب الشاي والمصافحة وعلاقات العائلة والثكنة والشارع والمحلة ومائدة الطعام لم تعرف هذه المؤسسة الشجاعة في تاريخها سلوك الغدر على مائدة طعام أو في جلسة عائلية أو حزبية إلا في عهدك، عهد العجائب والغرائب
هل تستطيع اليوم أن تحضر إلى قصورك الفخمة لكي تحتفل بعيد ميلادك المزعوم، حيث ولدت في زمن لم يكن العراقي يعرف معنى عيد الميلاد، وكنا نولد ونموت ولادة عشب البرية وطيور الغابات في حياة عفوية، عذبة، أقول هل تستطيع الحضور إلى هذه القصور الخرافية التي ينعق فوقها غراب الموت، مثل كل الرؤساء والزعماء والملوك والطغاة؟ كل طغاة العالم يخجلون من قتل الشيخ والمرأة، والحامل، والطفل، والمريض، والأسير، إلا أنت
بيدك أطلقت النار على نساء وأطفال وشيوخ. وبإشارة من يدك أطلقت كلابك المسعورة على رجال شرفاء، وبنظرة منك مسحت مدنا وقرى ومحوت مستنقعات هي تاريخ وذاكرة وموطن الإنسان الأول وسجل البشرية. ألغيت، بجرة قلم، كل ما بناه ملوك العراق القدامى من نبوخذنصر وسرجون إلى عبد الكريم قاسم. كانت بابل قبلة العالم ورمز حضارة البشر فحولتها إلى خرابة يسكنها اللصوص ضحايا حروبك، والى مكان مهجور، وبذلك قتلت حتى منجزات هذه الحضارة العريقة التي لم تكن تعرف عنها شيئا على الإطلاق وكيف تعرف هذا العراق الجميل، العراق النحيل، العراق المقاوم، العراق المسالم، وأنت محاط بحاشية لا يفرق كبيرها وخبيرها وعبقريها بين حرف الألف وبين رقبة البعير؟. وكيف تعرف تاريخ العراق وأنت لا تجد متعة ولا راحة ولا سكينة إلا حين تجلس محاطا بعلب السموم والجراثيم والغازات؟. هؤلاء الذين أحطتهم بك، وأحاطوا بك، يظهرون في ثياب الجنرالات كدمى مستعارة حتى أن هذه الملابس العسكرية تبدو ملصوقة على جلودهم. إنها حاشية تافهة، واختيار تافه ومقصود. وماذا كانت النتيجة، حضرة المحترم؟. في حربك الأخيرة( هل هي حقا الأخيرة!) كان هؤلاء يحسدون فئران المزابل على جحورها، ويحسدون الخراف على طمأنينتها، ويحسدون السحالي على جحورها هذا هو الاختيار القاتل .
جنرالات مزيفون، ووزراء تبرعوا بعقولهم لك، وتصدروا الواجهة كما تتصدر الأحذية واجهة المحلات، أو كما تتصدر ثياب النساء الداخلية زجاج المحلات، أو كما تتصدر الغنم واجهة مسلخ. كلهم مشاريع شنق في أية لحظة. وهذا الاحترام المفرط، هذا الرعب، هذا التيبس وهذا الفزع الذي يقابلوك به ألا تشعر بأنه إهانة؟ ألا تشعر بأنك تقتلهم ليقتلوك في يوم ما؟ كلهم، صدق سيادة الرئيس، كتبوا وصايا البراءة منك تحسبا للمستقبل ودفنوها في الحفر أو عند معارض نزيه في الخارج أو في الداخل لتبرئة النفس من يوم قادم بلا شك، يكون فيه غضب المظلوم على الظالم أشد من غضب الظالم على المظلوم .
يقول إمام الفقراء علي بن أبي طالب( ع): إن الحكم يدوم مع الكفر ولكنه لا يدوم مع الظلم. هل قرأت قول الإمام؟ هل تعرف هذا الإمام العظيم؟ نعم تعرفه يوم أرسلت جندك البربر لقصف ضريحه النظيف بقنابلك. ولكنك كما ظهر لا تعرف لا حقائق التاريخ ولا حقائق الجغرافية، ولا حقائق الشارع، ولم تقرأ تاريخ ملوك الطوائف. هل تدري أن زينب( ع) دخلت على يزيد بن معاوية وشتمته في قصره في الشام يوم جئن سبابا من أرض كربلاء ولم يسحب سيفه خجلا وهو الطاغية والجزار، لأن في كل طغاة التاريخ هناك خاصية معروفة وهي هيبة الحاكم والقصر والمنصب واحترام الذات. كل طغاة التاريخ لم يكونا أنذالا ليعتدوا على امرأة أو عجوز، حتى الحجاج بن يوسف الثقفي عندما شتم كهلا فرد عليه الكهل( ويحك يا حجاج تشتمني أمام جندك ولا تخشى أن أرد عليك بالمثل فتسقط مهابتك؟) فأطلق سراحه فورا. وهولاكو سأل شاعرة الجالس تحت أقدامه في لحظة نشوة( كم هو سعري؟) فرد عليه الشاعر( سعرك سعر حزامك الذهبي لأنك لا تسوى شيئا) فضحك السفاح هولاكو ولم يقل شيئا. هناك شيء اسمه كرامة الحاكم، وهيبة الدولة، فكم كان هولاكو حكيما، وكم كان شاعره عظيما؟