|
مدن الحلم والدم .....ولادة روائية ناضجة
خالد الصلعي
الحوار المتمدن-العدد: 6507 - 2020 / 3 / 7 - 16:08
المحور:
الادب والفن
مدن الحلم والدم ...ولادة روائية ناضجة *********************************** لفتني العنوان وأنا أقدم بعض نسخ من روايتي الثانية " أرض الدولة أو انسان مع وقف التنفيذ " ." مدن الحلم والدم " ، التفت الى اسم الكاتب فاذا بها أنثى . منطق الذكورة لا يزال يقود ارتجاجاتي . لكن ذلك لم يمنعني من اقتناء الرواية التي بدأت قراءتها في نفس الليلة . وكم كانت غبطتي وفرحتي كبيرتين وعظيمتين وأنا اتوغل في دروب الرواية . أنا الذي تركت قراءة الأعمال الروائية العربية منذ زمن عبد الحمان منيف وجبرا ابراهيم جبرا . وخلت أن آخر عمالقة الرواية العربية قد رحلوا ولم يعد فينا ، وأنا منهم ، غير زبد العابرين المولعين بنقش كلمات قد تأخذ حظها من القبول او تترك هملا ونسيا . مع راضية العمري انقلب كل ما اختزنته من سخط على واقع الكتابة العربية عامة ، وكتابة الرواية خاصة . اسم لم أقرأ عنه قبلا ، بحثت في محرك البحث فلم أجد الا اشارة الى حفل توقيع الرواية . لم أندهش ولم أستغرب . كيف أندهش وأنا من يدعي خبرة كبيرة بسراديب وأسرار عالم الكتابة في المغرب خاصة . حيث علاقات الزبونية والشللية والكتلية قد أوصل مسار الكتابة الى الجدار العظيم الذي يحجب عنا شمس الابداع المتنوع والمتعدد والمختلف . من يدفع للطبال ، مع اعتذاري ل "ف س سوندرز " ، بسبب التحوير الفظيع الذي ارتكبته في حق عنوان كتابها القيم . راضية العمري ربما لم تحظ ككثيرات وكثيرين بما تستحقه من تنويه واشادة قائمة طبعا على دراسة موضوعية ، تثبت حسنات روايتها وهي كثيرة ، وسلبياتها وهي قليلة . دون نفخ أو تقزيم . ما أحوجنا الى العدالة الثقافية . روائية بهذا الزخم الحكائي ، وبهذا النفس السردي ، وتلك العوالم المتخيلة ، لا يمكن أن تنشأ فجأة ، وتولد من فراغ . هو تراكم نسغي ترشح عنه أبعاد فاتنة من تقنية الكتابة الروائية . انتقالات سلسة تشد القارئ في نفس قرائي واحد ، لغة عفوية توشك أن تغرقك في متعة الحكواتي اللبيب الذي يستحوذ عليك وأنت تستمع الى حكاياته الخارقة لحدود مألوفك المحدود . تصوير انطباعي يمتح من عوالم الروائيين الكبار ، حيث الحفر في سيكولوجية الشخصيات الروائية التي حددت معالمها وعددها بتحوط كبيرين . وكأن الكاتبة اعتمدت طقوس الروائيين الكبار التي لا تسنتد الى أي طقس ، بل تترك للسجية وثراء الخيال حريتهما في نسج مدار الحكي ، والذهن السينمائي المتتابع كي ترسم منعرجات وسبل الرواية التي لم تنته رغم فخ الكلمة الأخيرة لآخر صفحة . كيد الكتابة المؤمنة برسالتها الانسانية . وهل كان للانسانية يوما سقف محدد ؟؟ هل تقمصت نظريات وظائف الرواية ، كتعبير عن حلم الكاتب لتغيير قدره وقدر مجتمعه ، ولم لا الاسهام في تغيير قدر الانسانية ؟ . الكاتب عليه أن يكون للجميع بلا استثناء ، فالرواية كون ، والكون يتمدد ، شامل واحتوائي بطبعه . وراضية في هذه الرواية بالذات احتوت الجميع ، لأنها ببساطة أرادت أن تغير شيئا ما ."لقد استعملت آخر ما أملكه من أسلحة من أجل ، محاربة قدري التعيس ، وما كنت أتخيل أنني قد أتقبل الهزيمة وأعود من حيث أتيت " . هذا ما تؤمن به الشخصية الرئيسية في الرواية . زهرة فتاة مغربية من الهامش ، او من هامش الهامش ، عاشت في كنف والديها بالمغرب ، حياة الشظف والفقر والعوز ، أبوها رجل مصاب بجملة من الأمراض ، أخطرها المرض النفسي الذي يكاد يصيب كل المغاربة . لكنها ورغم كل هذه الظروف القاسية ، امتلكت ارادة قوية لتغيير مصيرها . هاجرت أخيرا لاسبانيا ، وبالذات لبرشلونة ، مدينة الأحلام ، مدينة ارادة الاستقلال ، مدينة الايمان بالذات . وفي الدرسات الأدبية قد تمنحنا الصدف السردية ، والتلاقي السري لأضمومة الحكي المتواشج بين مكوناته المتعددة تقابلات مدهشة ، كارادة زهرة ، بطلة الرواية في تغيير مصيرها ، والاعتزاز يقدراتها وتصديق حلمها ، واردة كاطالونيا وفي قلبها برشلونة للاستقلال الذاتي أو الانفصال التام لايمان أهلها بقوة اقتصادها وتأثيره في الاقتصاد العام لاسبانيا . استطاعت في فترة وجيزة أن تكتشف زهرة الحلم ، زهرة الأمل ، زهرة الارادة ، عالمها الحقيقي ، وتهاجر الى الديار الاسبانية . أما زهرة بيع الأعشاب ، وانتظار متى ياتي الشاري لشراء نبت ما ، والعيش في كنف أب مريض وفقير ، تنبعث منه روائح العفن والوسخ . فقد انتهت . كانت لحظة عيش بالارغام ، خضوعا لشروط مصطنعة ، يستطيع أي انسان أن ينعتق منها لو أتيحت له الفرصة أو صدف وامتلك قوة وارادة الانسان القادر . ينفجر الحكي منذ البداية في وجه الأوضاع الاجتماعية المحبطة ، ويأتي السرد دقيقا ، بل وأحيانا ناقلا بصورة فنية غاية في النضج ، لحالات نفسية بئيسة ، ولسحنات وجوه متعبة ومتذمرة ، ولأحداث مأساوية صادفتها البطلة في رحلتها الى اسبانيا . وكأن الكاتبة خبرت جيدا أعظم الراوئيين العالميين وعلى رأسهم دوستويفسكي ، وبوكوفسكي ، وفلوبير ونجيب محفوظ ومحمد شكري ....الخ . كل ذلك في قالب تعبيري عفوي وسلس ، لا تتخلله أي شائبة من حيث الانتقالات الدرامية والحكائية والسردية بين مقاطعها المتنوعة ، ما منح الرواية سمة الاكتمال الحكائي ان جاز التعبير . وبين منعرجات ، الأوصاف السالبة التي تنقل واقعا اجتماعيا متخلفا ومترديا ، وبين نصاعة حلم زهرة ، مرورا بنور الشمس التي سطعت عليها في كنف الاسبانية ايزابيلا مشغلتها ، وتذوقها طعم الحب ، الى أحداث 11 مارس 2004 الارهابية التي هزت محطة قطارات مدريد التي أودت بحياة حبيبها كمال . ستنقلنا الكاتبة عبر لغة بسيطة وجذابة نحو حيوات متعددة ، تتصاعد بين العيش البئيس والمؤلم ، الى كنف الاستقرار والرضى ، ثم من الحرمان والكآبة ، الى الأمل والحب ، ثم الى الانكسار التام . وكأن دائرة الحزن الفجائعي لا تترك ولو فجوة صغيرة لزهرة الحالمة بمعانقة أحلامها الى النهاية . فحتى سعيد التجربة الثانية التي كان بامكانها أن ترتق جراح كمال تم اغتياله بحرم الجامعة . وهي رسالة ذات حمولة قاسية وفادحة . ففي الفضاء الذي يفترض فيه أن يقدم للمجتمع أنبغ وألمع وأذكى رجالاته ونسائه ، يقتل أمل زهرة الثاني . هذا الانتقال البنائي ، من ترهل الوسط الأسري ، الى تفسخ الوسط الاجتماعي ، ثم انتقال عدوى التعصب والكراهية الى البلد الاجنبي ، وتربص الموت برحم الفكر والثقافة والابداع ، يمنحنا صورة واضحة عن قدرة الكاتبة على تمثل ليس فقط عالمها الحميمي او عالمها الاجتماعي ، بل الانتقال ، كأي روائية متمكنة من ثقافتها الشاملة ، الى رسم خطاطة فنية ذات رؤية ابداعية ملحوظة تقول لنا ، بيننا روائية مغربية عربية مكتملة العدة الفنية والعتاد التعبيري . يبقى أن نشير أن الرواية كما عانقتها راضية العمري تعبر وكما قال شكري عياد عن وعي ممزق وعن نظرة ذاهلة للشعوب العربية التي لم تعد تملك نبل الفطرة ، كما توهم الرومانسيون ، ولا أصالة الوعي الطبقي كما تخيل الماركسيون . بل هي في حالة سيولة كما قال علي الراعي قبل زيغموند باومان بسنوات . ملاحظة : كان بالامكان لراضية العمري أن تتجاوز بعض الهفوات الشكلية في عالم الرواية ، وعلى راسها الخطاء النحوية والاملائية . وقد تتجاوزها في الطبعة الثانية ضرورة .
#خالد_الصلعي (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
في غرفة العمليات ..........قصة قصيرة
-
رواندا ، مستقبل افريقيا
-
تأجل موتك يا ظلي
-
مفارقات العقول الكبرى ...بحث في العقل الاستخباري
-
بين اهانة الملك وحرية التعبير والاحترام كقيمة انسانية
-
حكومة الكفاءات . أي كفاءات ؟؟
-
العصفور ، عادة الحياة وليس حياة العادة
-
جاهز للحرب ، جاهز للسلام
-
لا عذر لنا ...الجبن هو المشكلة
-
أنا الوحيد الذي برماده احتفل
-
قبيلة اسمها المغرب
-
وداعا الى أن لا نلتقي
-
جيفري فيلتمان واللعب على المكشوف
-
انسان مع وقف التنفيذ ..رواية....12..
-
انسان مع وقف التنفيذ ..رواية-10-
-
موسم انتفاضة الشعوب
-
انسان مع وقف التنفيذ ..رواية...10
-
دراسة سوسيولوجية لأغنية -عاش الشعب-
-
انسان مع وقف التنفيذ ..رواية....9
-
انسان مع وقف التنفيذ ..رواية...8
المزيد.....
-
-أشقر وشعره كيرلي وحلو-..مشهد من مسلسل مصري يثير الغضب بمواق
...
-
الإيطالي جوسيبي كونتي يدعو إلى وقف إطلاق النار في كل مكان في
...
-
جوامع العراق ومساجده التاريخية.. صروح علمية ومراكز إشعاع حضا
...
-
مصر.. الفنان أحمد حلمي يكشف معلومات عن الراحل علاء ولي الدين
...
-
-أشقر وشعره كيرلي وحلو-..مشهد من مسلسل مصري يثير الغضب بمواق
...
-
شجرة غير مورقة في لندن يبعث فيها الفنان بانكسي -الحياة- من خ
...
-
عارف حجاوي: الصحافة العربية ينقصها القارئ والفتح الإسلامي كا
...
-
رواية -خاتم سليمى- لريما بالي.. فصول متقلبة عن الحب وحلب
-
تردد قناة سبونج بوب على النايل سات …. أجدد الأفلام وأغاني ال
...
-
الكشف عن القائمة القصيرة لجائزة -PublisHer-
المزيد.....
-
لا ميّةُ العراق
/ نزار ماضي
-
تمائم الحياة-من ملكوت الطب النفسي
/ لمى محمد
-
علي السوري -الحب بالأزرق-
/ لمى محمد
-
صلاح عمر العلي: تراويح المراجعة وامتحانات اليقين (7 حلقات وإ
...
/ عبد الحسين شعبان
-
غابة ـ قصص قصيرة جدا
/ حسين جداونه
-
اسبوع الآلام "عشر روايات قصار
/ محمود شاهين
-
أهمية مرحلة الاكتشاف في عملية الاخراج المسرحي
/ بدري حسون فريد
-
أعلام سيريالية: بانوراما وعرض للأعمال الرئيسية للفنان والكات
...
/ عبدالرؤوف بطيخ
-
مسرحية الكراسي وجلجامش: العبث بين الجلالة والسخرية
/ علي ماجد شبو
-
الهجرة إلى الجحيم. رواية
/ محمود شاهين
المزيد.....
|