أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - أوراق كتبت في وعن السجن - أحمد الخميسي - صلاح عيسى .. بهجة الأمل في الزنازين















المزيد.....

صلاح عيسى .. بهجة الأمل في الزنازين


أحمد الخميسي

الحوار المتمدن-العدد: 6447 - 2019 / 12 / 26 - 14:42
المحور: أوراق كتبت في وعن السجن
    




يعرف الجميع صلاح عيسى الكاتب الصحفي البارز، يعرفونه مؤرخا نادر المثال استطاع أن يحول أحداث التاريخ إلى قصص قريبة للقلب والعقل، وقادرا على تقديم التاريخ في دراسات عميقة لا تتكرر، يعرفونه يساريا عنيدا منفتحا على كل التيارات، يعرفونهه عاشقا لمصر وترابها وبواباتها وحقولها، أما أنا فقد عرفت صلاح إلى جانب كل ذلك داخل معتقل طرة عام 1968 شخصية صلبة مناحة أمل تحطم جداران الزنزانة بالخيال والفن والحب. تعود علاقتي بصلاح إلى عام 1961 حين كان ينهي دراسته في معهد الخدمة الاجتماعية مع ابن عمي، ولما كان منزلنا في شارع نوبار أقرب مكان إلى المعهد فقد اعتاد صلاح ومعه طلاب آخرون أن يستريحوا في منزلنا قبل أو بعد انتهاء المحاضرات. في تلك السنوات لفت صلاح نظري، والأدق أن أقول إنه لفت شعوري إلى شخصه بضحكاته المجلجلة والطيبة التي تشبعت بها حروف كلماته الممطوطة التي لازمته من قريته بشلا بميت غمر. في تلك السنوات كنت أحاول الكتابة، ومعي أخي جمال الغيطاني، فكنا نتردد على منزل صلاح القريب في السيدة زينب. هناك للمرة الأولى رأيت صورا لمصطفى النحاس، وسعد زغلول، وعبد الله النديم، معلقة على جدران صالة شقة صلاح الذي لفت نظرنا إلى تاريخ مصر، وكانت المقررات التعليمية حينذاك تتجاهل ثورة 19 وثوراها، ثم لفت صلاح نظرنا إلى الجبرتي وابن إياس، وكان حينذاك يكتب القصة القصيرة فكنا نجلس طويلا نقرأ ما نكتب. وتطورت علاقتي بصلاح فكان أول من نشر لي قصة في مجلة " الحرية " اللبنانية التي كان مراسلا لها، كما نشر لجمال الغيطاني ويحيي الطاهر وغيرهما. وفي فبراير 1968 اندلعت مظاهرات العمال في حلوان احتجاجا على صدور أحكام متهاونة مع قادة الطيران الذين اعتبرهم الجميع مسئولين عن النكسة، وخرج الطلاب في أعقاب العمال يؤيدون مطالب العمال وتغليظ الأحكام على قادة الطيران، وسرعان ما اعتقلونا، وكان صلاح قد اعتقل قبل ذلك عام 1966 لنصف عام مع ابراهيم فتحي والأبنودي ويساريين آخرين. أما أنا فكانت المرة الأولى لي. في البداية أرسلونا إلى القلعة وكان كل منا في زنزانة انفرادية لنحو أربعة اشهر، ممنوعا من الاتصال بغيره، لكني من زنزانتي كنت أسمع صوت صلاح حين يخرجونه إلى دورة المياه، ضاحكا قويا وهو يتعمد أن يرسل في الهواء للآخرين وراء ابواب الزنازين كلمات التشجيع غير المباشرة مثل " أكثر من هذا ويزيح ربنا"، ثم نقلونا ذات يوم إلى معتقل طرة، أنا وصلاح واثنين آخرين، ووضعونا في زنزانة وحدنا. وفي الصباح اكتشفنا أننا اليساريين الوحيدين في كل المعتقل داخل بحر من المعتقلين من الأخوان المسلمين ومع عنبر من اليهود المصريين الذين خشت السلطة من تعاملهم مع إسرائيل. كان وضعنا غريبا، فلا أحد سوانا من اليساريين في خضم ذلك البحر العجيب من المعتقلين. وكان علينا أن نواجه حقيقة أننا أربعة أفراد محبوسون معا في زنزانة لا تزيد مساحتها عن مترين في ثلاثة أمتار، وليس لنا إلا نصف ساعة يوميا تمشية على الرمال في حوش المعتقل. كان علينا أن نواجه فكرة السجن، والعزل، وتمزيق معنى الحياة حين تهدر معناها كل يوم بلا معنى. لم تكن لدينا سوى الذكريات، لم يكن بوسعنا أن نفتح جدارا للهروب إلى الخارج، فرحنا نفتح جدارا للهروب إلى الماضي. وكان صلاح بيننا أشدنا وعيا بكل ذلك، وكانت له تجربة سابقة، ولم تكن لي مثل هذه التجربة. وبعد أن اعتدنا المكان شرع صلاح يغرس الأمل، ويبعث روح المقاومة، ويقترح أن يكتب كل منا شيئا حتى لو في ذهنه، من دون ورق، ثم يقرأه ، ونناقشه، ثم اقترح أن نحكي لبعضنا البعض مواضيع أفلام جميلة شاهدناها. وفجأة أخذت الجدران تتلاشى من حولنا تحت ضربات صوت صلاح عيسى، وتماسكه، وقوته، واتسع المكان ورفرفت فيه أحلام كثيرة بعالم آخر. كانت لدي صلاح تلك القدرة المدهشة على غرس الأمل والقوة من دون ادعاء أو افتعال، وكانت لديه أيضا روح رفاقية حانية ومحبة لمن حوله. كان مدخنا شرها، وكنت أنا أيضا، لكننا قهر أنوفنا، اكتفينا بأربع سجائر لكل منا يوميا، وكان صلاح يضحك ويقول: " أربعة سجائر دي نعمة كبيرة قوي"، ثم يعكف على كل سيجارة فيقسمها إلى ثلاث قطع، ويضع القطعة الصغيرة في مبسم، ويقول : " أكثر من هذا ويزيح ربك". وفي المعتقل – كما ذكر صلاح في تباريح جريح – قطعنا قسما من الليل وأنا أغني لصلاح والآخرين بعض أغنيات الشيخ إمام، وكان صلاح يسمعها لأول مرة، وقد كتب عن ذلك في كتابه " تباريح جريح" فقال : " أما الذي حدث في تلك الليلة التي أسمعنى فيها أحمد الخميسي من أحمد نجم والشيخ إمام، وكنا في سجن طرة، فليس مما يسهل وصفه، أمواج من الماء الدافيء غسلت روحي، أزهر النوار بين حطام الآمال المحترقة، مازالت الحياة جميلة تستحق أن تعاش". هذا ما كتبه صلاح، أما رد فعله ليلتها فكان التأكيد على أن الشعب المصري لم يكف عن المقاومة قط على امتداد تاريخه، وأن أبواب الأمل مفتوحة وأن الحياة جميلة. كانت كل حادثة صغيرة مناسبة يبعث فيها صلاح عيسى الأمل والقوة والتماسك في نفوس الجميع، وكان ذلك التفاؤل جزءا من قراءته العميقة لحركة التاريخ التي لا تكف عن التقدم إلى الأمام، وجزءا من ايمانه بقدرة البشر على الوقوف في وجه المظالم والجدران والبطش. وحل يوم ازداد فيه عدد اليساريين في المعتقل وانتقلنا من الزنزانة إلى عنبر فسيح اتسع لنحو ثلاثين معتقلا يساريا. وبعد فترة اقترح أحدهم أن نكتب بيانا تأييدا لاجراء قام به الحكم حينذاك، أواخر 1968، ورغم أن الإجراء كان ذا طبيعة تقدمية إلا أن صلاح عيسى وقلة معه كنت من بينها، رفض تماما أن يكتب أو يوقع على بيان التأييد، وقال للرفاق : " لو أنني حر غير مقيد لكتبت التأييد، لكن وأنا بين الجدران فإن البيان سيفهم على أنه استعطاف أو رجاء بالافراج عنا". وأخذني صلاح في ناحية ونبهني أن ادارة المعتقل قد تفرقنا في سجون مختلفة أو تبطش بنا نتيجة ذلك الموقف. وبالفعل لم ينقض أسبوع إلا وكانت الادارة قد فرقتنا على مختلف المعتقلات لكي لا تقوم لنا قائمة ونحن مجتمعين ثلاثين معتقلا في طرة. لا أذكر إلي أي سجن ذهب صلاح، أذكر فقط أنه ودعني، وشد على يدي ضاحكا وقال :" صدقني كل شيء وله آخر، ومصيرنا نخرج من هنا ونقعد نشرب شاي على أحسن قهوة" ثم ربت على كتفي قائلا : " خلي بالك من نفسك". وبعد أيام وجدت نفسي في معتقل القناطر مع أحمد نجم الذي صاح في : أنت شرفت ؟. وكنت أعرفه قبل السجن. أذكر لصلاح عيسى رفعة النفس، والصلابة، والتماسك، والقدرة المذهلة على اشاعة الأمل والتماسك، والحرص على غرس روح المقاومة، وكان يقوم بكل ذلك ببساطة متناهية بعيدا عن أي تشنج أو افتعال. انقضى عامان على رحيلك في 25 ديسمبر 2017 ، لكنك باق في النفس والعقل والضمير، كما أنك باق في تاريخ الثقافة المصرية بكل ما قدمت وأبدعت، ومثلك لا يرحل عنا .. لكن يرحل إلينا دوما.



#أحمد_الخميسي (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- لماذا يقال ل - إسماعيل - يا أبو السباع ؟
- الست موزة .. نظام عالمي
- مهلن .. ولا كن .. إلى متأ ؟
- وزيرة الثقافة .. نوم العوافي في الشأن الثقافي
- كل هذا المرار .. في بني مزار
- الشيف - شارب - .. طريقة اعداد الثورة
- اسمع مني الكلام .. يا مستر .. يا مـدام
- اللغة لا تعرف الحياد
- هيئة الأمر بالملبوس والذوق العام
- الانتفاضات العربية .. الأزمة والطريق
- خلود اللحظات العابرة
- لا أكتب الرواية لأنها تحتاج إلى نفس طويل
- جائزة نوبل .. سقوط أدبي وسياسي
- أذا عشقت اعشق قمر
- مسعد أبو فجر .. أدباء على ايقاع الغزو
- السير إلى الحرب
- المرأة ليست صندوقا لحفظ شرف الرجال !
- أخلاق نبيلة قصة قصيرة
- أحمد من عيلة ايمي
- الزهاوي بين الشعر والعلم


المزيد.....




- إسرائيل تشكر الولايات المتحدة لاستخدامها -الفيتو- ضد عضوية ف ...
- بيان رسمي مصري عن توقيت حرج بعد الفيتو الأمريكي ضد عضوية فلس ...
- مندوب فلسطين الدائم لدى الأمم المتحدة: عدم تبني قرار عضوية ف ...
- الأردن يعرب عن أسفه الشديد لفشل مجلس الأمن في تبني قرار قبول ...
- انتقاد فلسطيني لفيتو واشنطن ضد عضوية فلسطين بالأمم المتحدة
- أبو الغيط يأسف لاستخدام ‎الفيتو ضد العضوية الكاملة لفلسطين ب ...
- إسرائيل تشكر الولايات المتحدة لاستخدامها -الفيتو- ضد عضوية ف ...
- -الرئاسة الفلسطينية- تدين استخدام واشنطن -الفيتو- ضد عضوية ف ...
- فيتو أمريكي بمجلس الأمن ضد العضوية الكاملة لفلسطين في الأمم ...
- مؤسسات الأسرى: إسرائيل تواصل التصعيد من عمليات الاعتقال وملا ...


المزيد.....

- في الذكرى 103 لاستشهادها روزا لوكسمبورغ حول الثورة الروسية * / رشيد غويلب
- الحياة الثقافية في السجن / ضرغام الدباغ
- سجين الشعبة الخامسة / محمد السعدي
- مذكراتي في السجن - ج 2 / صلاح الدين محسن
- سنابل العمر، بين القرية والمعتقل / محمد علي مقلد
- مصريات في السجون و المعتقلات- المراة المصرية و اليسار / اعداد و تقديم رمسيس لبيب
- الاقدام العارية - الشيوعيون المصريون- 5 سنوات في معسكرات الت ... / طاهر عبدالحكيم
- قراءة في اضراب الطعام بالسجون الاسرائيلية ( 2012) / معركة ال ... / كفاح طافش
- ذكرياتِي في سُجُون العراق السِّياسِيّة / حـسـقـيل قُوجـمَـان
- نقش على جدران الزنازن / إدريس ولد القابلة


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - أوراق كتبت في وعن السجن - أحمد الخميسي - صلاح عيسى .. بهجة الأمل في الزنازين