أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - دلور ميقري - سارة في توراة السفح: بقية الفصل السادس















المزيد.....

سارة في توراة السفح: بقية الفصل السادس


دلور ميقري

الحوار المتمدن-العدد: 6443 - 2019 / 12 / 20 - 20:54
المحور: الادب والفن
    


3
لأول مرة، تقف حوريّة مجردة تماماً من الملابس على مرأى من عينيّ رجل، وذلك على وقت حلول العتمة. بل إنها، نهاراً، لم تتمتع برؤية عُري جسدها الجميل سوى في حمّام المنزل. في المقابل، لم تكن من صنف النساء المتزمتات، اللواتي يدخل في عقولهن أن الخالق يستشيط غضباً لو شاهد إحداهن عارية ولو كانت وحيدة تحت سقف منزلها. والدتها الراحلة، كانت تقول أنّ الأشجار تخجل من تجردها من الأوراق في أوان الخريف، ويسعدها أن تكسى بالثلج شتاءً.
لكنها " حوريّة "؛ خلقها الله كي تسير بعري شفاف ومرهف، هبةً للمحظوظين من عباده. أحد أولئك العباد، كان هوَ من جعلها تخطر أمامه متفجّرةً بأطرافها العارية، المهتزة ككثيبٍ من الثلج الناصع البياض. بيد أنه عريٌ يُظهر ما عليه أن يَظهر للرجل، بينما يحجب ما ترغب صاحبته له من دخيلتها المغلقة ـ كما زهرة بديعة المنظر، تخفي عبقها طالما لم تهزها يدٌ عاشقة.

***
" جسد المرأة، يصبح مبتذلاً حينَ يتجرد بسهولة للزوج. ويكون على خلاف ذلك، مع العشيق. تماماً مثل لغز محيّر، إثارته تكمن في محاولة حلّ مغامضه "، قال عدنان لصديقه. وكان هذا قد قدِمَ إليه، عقبَ ذهاب العشيقة بقليل. مخول، نظرَ إليه دهشاً، كون المعنيّة من المفترض أن تضحي لاحقاً زوجة. لم يتمالك عندئذٍ من الإفصاح عن فكرته، ولو بنبرة حيادية. كان جواب عدنان ضحكة مقتضبة، قبل أن يرد بالقول: " أنتَ من عارضت علاقتي معها، على خلفيّة فارق العُمر بيننا. وإنني أعتبر نفسي محظوظاً بهذه المرأة، كونها غير متطلّبة؛ ليست مستعجلة للزواج، في أقل تقدير "
" ماذا تقول؟ أتعني أنك ستتخذها خليلةً، لمجرد حجّة العُمر؟ "، تساءل مخول مرتاعاً وكأنما لا يصدق ما سمعه.
" كان يجدر بك، كصديق، أن تفضي لي بسيرتها مع زوج أديبة وأنها كانت سبباً بطلاقهما. محمد أفندي، هوَ من أخبرني بتفاصيل تلك العلاقة الشائنة "، ردّ المضيف وقد أحمرّ وجهه. كان لسانه قد سرحَ بفعل النبيذ، ولعله من الثمالة أنه ما كان يُدرك ما يفوه به. انتبه الضيف لحالة صديقه، لكنه قال مع ذلك مدافعاً عن نفسه: " لم أخبرك بالأمر، كونك لم تطرح عليّ أسئلة تتعلق بماضيها. هذا جانب. أما الجانب الآخر، فلِمَ لا تعتبرها ضحيةً لنزوات رجلٍ افترضت أن غرضَهَ شريفٌ؟ ولعل هذا ظنها بك، أيضاً "
" يا إلهي، أمن الممكن أن تصارحني في وجهي بأنني رجلٌ غير شريف؟ "، هبّ عدنان من مكانه مترنحاً قليلاً وقد استعرّت سحنته سخطاً. التزمَ مخول الصمتَ، مفضلاً أن يتوقف الجدل عند هذا الحد. لم يكن يبتغي أن تنتهي هذه الجلسة الجميلة بقطيعة، وكان يأمل أن يوضح لصديقه في الغد أن كلاهما كان ثملاً وأطلق عباراته جزافاً دون تبصّر.

***
وعند ذلك الحدّ، أيضاً، كانت أديبة قد قررت الكف عن التصنت على ساكن القسم الفوقانيّ من المنزل. دهمتها حالة من الاشمئزاز، كادت أن تشمل الجنس المذكّر جميعاً لولا ما أظهره الشاب النصرانيّ من الشرف والشهامة. لأول مرة ربما، تشعر بالتعاطف مع ابنة جنسها، حوريّة؛ مع مَن تبادلت معها العداوة سنيناً، لدرجةٍ سلت فيها ما يربطهما من قرابة عن طريق الأولاد. سوى أن مشكلة اعترضت سبيلها، وهيَ كيفية إبلاغ أرملة أبيها بحقيقة العاشق المزعوم دونَ أن تبدو كواشية، تتلصص على الجيران بغيَة إفشاء أسرارهم؟ عدا هذه العقبة، فكّرت أديبة، هناك موضوع المدرسة والتي يتلقى فيها العلم كلّ من أخيها رمضان وابنها إبراهيم مع غيرهم من أبناء البلدة والقرى القريبة: " إن إثارة فضيحة تتلبّسُ المعلّم، من شأنها أن تعصف بمشروع الدراسة برمته، وستعطي حجّة للسلطات المحلية ألا يستمر مع معلّم آخر ".
في الأثناء، كانت المعنيّة بالأمر، حوريّة، تطير كفراشة إلى عالم الأحلام وهيَ بسنوات عُمرها، المراوحة في منتصف الحلقة الثالثة. الجميع بلا استثناء، قد أكدوا لها أنها تلوح أصغر من عُمرها الحقيقيّ بعشر سنين على الأقل؛ وهو عدد السنين، الذي يفصلها عن عُمر المعلّم الحبيب. لكنها كانت ترتد إلى طبيعتها، كامرأة عقلانية وعملية، عالمةً بأنّ العريسَ المأمول من فقر الحال ألا يكون في وسعه تأسيس أسرة دون معونتها. في هذا السياق، تحولت إلى صندوق جهاز عرسها القديم، الذي اتخمه الآغا الراحل بنفائس أنسجة الدمقس والبروكار والموسلين، الفائح منها عبير الخزامى، علاوة على الحلي المختلفة معادنها الثمينة. كونها تتفقّد الصندوق دورياً، كانت محتوياته نظيفة خالية من الغبار والعثة، تنتظرُ فارس الأحلام كي تُكسى بها حبيبته من قمة رأسها، المنهمر منه سيلٌ من الأرجوان وحتى أدنى قدميها، المنمنمتين: كل هذه الأشياء المحفوظة، والأماني المكبوتة، ستتحوّل قريباً إلى العدم عندما تعلم صاحبتها أنها كانت تلهث وراء سرابٍ وليسَ معين ماءٍ عذب يُكافئ صبرها ومعاناتها على مر السنين.

4
عامان انقضيا على الأثر، كان فيها خريفُ البلدة الجبلية يُغيّر كساء أشجارها المثمرة تمهيداً لموسم الأمطار والثلوج، لما حلّ رجلٌ غريب في الطابق الفوقانيّ من منزل المرحوم رمضان آغا. بملامحه المتجهّمة، الباردة، كان يظهر أكبر من سنوات عُمره، المقتربة من منتصف الحلقة الثانية. السيّدة أديبة، استلفت من حقيبة وكيل أعمالها معلوماتٍ أخرى عن ابن حيّها الكرديّ، الذي كان بدَوره يقوم بإدارة أعمال أحد المزارعين الصوالحة. هذا الأخير، ويُدعى " الدغلي آغا "، هوَ من أرسلَ وكيله إلى السيّدة كي يتفاوض معها في أمر شراء قطعة أرض كبيرة مزروعة بالأشجار المثمرة. كذلك علمت من محمد أفندي، أنّ الشاب لديه وظيفة مرموقة في ديوان والي دمشق علاوة على أنّ أبيه من وجوه الحيّ البارزين. لم تتجشم أمر المساومة مع الشاب الكئيب المظهر، بل تركت ذلك لوكيل أعمالها؛ كونه أضحى زوجها منذ نحو سنتين.
بقيَ الشاب الدمشقيّ محتفظاً بصمتٍ صارم، محدقاً في قدح الشاي أمامه، بينما المضيف يثرثر في أشياء لا تخص موضوع عملهما. كان محمد أفندي يتحدث عن المالكة السابقة لهذا القسم من المنزل، وكيفَ كادت أن تُحدث فتنة طائفية في البلدة بعدما هربت مع شاب مسيحيّ من ساكنيها: " كان يصغرها بلا أقل من عشرة أعوام. إنها امرأة فضائح، فوق ذلك، لم يردعها أنها أرملة آغا جليل الشأن ولها منه ولد صار الآنَ بمبلغ الرجال. لقد تركت ولدها في رعاية حرمنا، كونها أخته غير الشقيقة، ثم توارت عن الأنظار مع عشيقها. أخذا عربة دليغانس إلى بيروت، بحَسَب شهادة الحوذيّ، المقدّمة للسلطات المحلية وكانت قد فتحت تحقيقاً بالمسألة لوأدها قبل أن تستفحل. والدها العجوز، لم يحتمل الصدمة وما لبث أن لفظ أنفاسه وهوَ يلعنها ". ما لم يبح به الرجل الثرثار، أنّ حوريّة اختطفت أولاً زوجَ امرأته وسببت طلاقهما. كما أن محمد أفندي يعرف حقيقة أخرى، نمت إليه على لسان السيّدة أديبة: مخول، لم يشأ التحول إلى دين الإسلام كيلا يقطع صلته بالعائلة، فيما ترك الحرية لامرأته بشأن احتفاظها بدينها.

***
من جانبه، كان وكيلُ الأعمال الشاب يفكّر بهذه المنطقة من بر الشام، لناحية العلاقة بين أصحاب الديانتين الرئيسيتين، وأنها من التسامح بحيث يُغض النظر عن أمرٍ مستطير، كان في الوسع أن يُسبب مذبحة لو جرى في أحد أحياء دمشق الإسلامية. ولا كذلك حيّه الكرديّ؛ ربما لأن ساكنيه بمعظمهم قدموا من مناطق معروفة باختلاطها الدينيّ والمذهبيّ؛ من سنّة وعلويين وقزل باش وإيزيديين ويعاقبة ونساطرة وأرمن وروم وغيرهم. عشيرته نفسها، الدُملّان، كانت مقسومة على أتباع عدة مذاهب، وذلك قبل أن يهاجر قسمٌ منها إلى الشام الشريف ليغلب عليه الصفة السنيّة وربما بسبب جو اللاتسامح الدينيّ في المدينة. وظيفته في ديوان الوالي، جعلته قريباً من فهم عقلية أصحاب القرار والتي لا تختلف كثيراً عمن أججوا قبل أكثر من عقدين نارَ الفتنة الكبرى، المعروفة ب ( طوشة الشام ).
في صباح اليوم التالي، شاهد الشابُ من على موقفه في الشرفة فتاةً في مقتبل ربيع العُمر، فاتنة القسمات، يتوّج رأسها شلالٌ بلون الزعفران، منهمر على كتفيها. عودها، شبيهٌ باستقامة البرعم ورقّته، فيما بشرتها كالتفاح، بلونها الشفاف الموحي بالصحة والنعمة. رفعت رأسها نحوَ الشرفة، واضعة يدها على جانب وجهها كي تحجب نور الشمس. عند ذلك، بانَ نمشٌ ناعم فوق أنفها وتحت عينيها، زادها سحراً. بقيَ الواقف هنالك في حالة ذهول، لحين أن انتبه على نفسه وما عتمَ أن توارى. حط على أريكة الصالة كالمترنح، ثملاً بخمر الجمال الملائكيّ، المُسبب حزناً لمن ينهل منه دونَ أن يرتوي قط. فكّرَ أنها على الأرجح ابنة السيّدة من رجلها الأول، وكان هذا صديقاً قديماً للدغلي آغا قبل انتقاله للعيش في الزبداني على أثر فتنة عام 1860. فضلاً عن ذلك، كان الشاب الغريب يعلم أنّ السيّدة أديبة تعد من أغنى الملاكين في البلدة، سواءً بأراضيها الموجودة هنا أو بعقاراتها الموزعة في حيّ الأكراد؛ ثمة، أين ولدت ونشأت حتى سنّ العاشرة. أما معلوماتنا عن الشاب نفسه، فلم ينقصها سوى ذكر اسمه، المبتدئ باللقب المبارك وبرغم أعوام عمره اليانعة: " الحاج حسن "..!

***
قبل ذلك بنحو شهرين، وتحديداً في أوج فصل الصيف، اصطحبت السيّد أديبة ابنتها إلى دمشق في زيارة نادرة لأقاربهم هناك. لم تكن هذه المرة الأولى، تجد سارة نفسها في المدينة، ولو أنها ما كانت تتذكّر سابقتها سوى بشكل غامض، كون عُمرها آنذاك لم يتجاوز الأربعة أو الخمسة أعوام. في الزيارة الأخيرة، التبسَ عليها المكانُ نتيجة مشابهته لوادي بردى من ناحية بروز الجبال ودفق المياه وغدق الأشجار المثمرة. أشارت والدتها إلى سفح جبل قاسيون، المتماوج بسبب أخاديد السيول: " ثمة في تلك البيوت، الشبيهة بنقاط سود، يعيش قومنا بما فيهم عشيرة أمك ". كانت العربة إذاك تخترق الدرب الرئيس لمحلة الصالحية من جنوبه، وكان يحف به من الجانبين صفوفُ أشجار الجوز ـ كما لو أنها حرسٌ من العماليق.
مع دخول العربة إلى عمق الصالحية، صار المشهد العمرانيّ مهيمناً ويشي بالمخطط الأيوبيّ، القائم على بناء المساكن الراقية على جانبيّ سوق الجمعة فيما تنفتح منه مداخل الحارات الشعبية، المرتقية السفح وصولاً لحواف الصخور المسننة. بين كل بضعة مساكن، وعلى طول السوق، تتطاول مآذن المساجد والمدارس الدينية ذات القباب الخمرية اللون. بوصول العربة إلى الساحة، المعرّفة باسم شمدين آغا، الزعيم السابق للحي، تنهدت الأم بعمق قبل أن تقول لابنتها ذات الثلاثة عشر عاماً: " كم لعبتُ في هذه الساحة وأنا صغيرة، بالأخص في أيام العيد. ولا أنسى بكائي حينَ مررنا من هنا بالعربة، في طريقنا إلى الزبداني. عندئذٍ واساني جدك بالقول، أننا لن نغيبَ أكثرَ من شهر ". طوقت سارة والدتها في حنان، ثم مسحت لها دمعاً جرى من عينيها: " ولكن العُمر لم يمضِ، أماه، وفي وسعنا الآنَ الانتقال للعيش في الشام "، قالت الفتاة. هزّت السيّدة أديبة رأسها، ثم ردت بالقول: " لنرَ أولاً كيف سيستقبلنا أولاد عمي، بالأخص حينَ يعلمون أنها ليست زيارة ودية حَسْب. لأنني أنوي مفاتحتهم بشأن إرث جدك، كي آخذ منه حقَ المسكين رمضان ".

5
في نهاية ذلك الصيف، الشاهد على زيارة سارة ووالدتها لأقاربهما في حي الأكراد، حل وباء الحمى الصفراء مجدداً في الشام ليقتطف أرواحَ أعدادٍ كبيرة من ساكنيها. لكنهما كانتا قد عادتا إلى الزبداني، وذلك قبل ظهور الوباء بقليل. السيّدة أديبة، شعرت آنذاك بالقلق على أولاد عمها في الحي، هذا برغم مماطلتهم في مسألة الميراث. لعله هنا يكمن سر قلقها، خشيةً من ضياع الموضوع في حمأة الحزن والحِداد. فيما بعد، وصلتها أخبارٌ مطمئنة من جهة أولئك الأقارب لناحية نجاتهم من الوباء. ثم ما لبثَ الجزعُ أن تملّكها على الأثر، حينَ جاءها نعيُ فوزية خانم؛ أقرب الصديقات إلى قلبها وأكثرهن وفاءً وشهامة، حدّ اعتبارها الوالدة الثانية لسارة. من سوء طالع امرأة محمد آغا، أنها كانت قد آبت إلى دمشق مبكراً؛ ولو أنها مكثت لبداية الخريف لأمكنها الإفلات من الوباء الهالك. كانت السيّدة أديبة، صادقةً، تود الذهاب لأخذ خاطر الفقيدة وتقديم العزاء لزوجها وابنتها الكبيرة. لولا أن محمد أفندي حذّرها من مغبة ذلك، مؤكداً أن الوباء ما انفكّ على تخرمه أرواح الناس في المدينة.
بعيداً عن موضوع الوباء المشئوم، احتفظت سارة بذكرى رائعة عن زيارتها للشام والحي الكرديّ، وعادت تلحّ على الأم في شأن ترك الزبداني والعودة نهائياً إلى مسقط رأسها. قالت لها والدتها على سبيل النكد: " في أول فرصة سأرسلك إلى أولاد عمك، لأنّ أحدهم طلبك مني "
" هذا ليسَ صحيحاً، وإلا لكنتِ أخبرتني بالأمر ونحن هناك "
" أنا لا أكذب، يا بنت، أم أنك نسيتِ كيف كانوا يحومون حولك ويخطبون ودّك؟ "، قالتها الأم ثم أردفت مستدركة: " لكنني أوضحتُ لأمهاتهم بشكل جليّ، أنني لن أعطي ابنتي لأحد من أقاربها كيلا يكرر ما فعله المرحوم جدك مع والدتي عندما تزوجها من أجل مالها وكانت حياتها معه مراراً متصلاً "
" أكانت حياتها حقاً كذلك، أماه؟ "
" كأنك تتمرنين من الآن على التمرد، فتكذبين كل أمر أقوله؟ "
" لو شببتُ متمردة، سأكون مثلما يُقال: البنت سرّ أمها! "
" لولا تمردي على العادات السيئة، لما كنتِ أنت موجودة في هذا العالم "
" وماذا عن أولئك الأقارب، إذن، وهل ما زلتِ على رأيك بتزويجي لأحدهم؟ "
" أبداً، كنتُ أكيدك بسبب لجاجتك في موضوع الانتقال إلى الشام "، أجابت تساؤل ابنتها مبتسمة. ثم أضافت عابسة قليلاً: " الحق أنني أفكّر بأمر نجاتهم من الحمى الصفراء، وأنّ له سبباً وحيداً: أنهم الوباءُ نفسه! ".

***
خريف ذلك العام، في أوان وجود الحاج حسن في الزبداني، مثلَ بين يديّ صاحبة الأمر والنهي. مثلما علمنا، كان يُدرك جيداً قوة شخصيتها ونفوذها، المساهمة في جعلها من أكثر الملاكين ثراءً في البلدة. أعجبتها أخلاقه، المتجلية في تعففه عن قبول أيّ عمولة لقاء الصفقة المبرمة معها بشأن بيع قطعة الأرض للدغلي آغا. بل وأثنت على ما لديه من عزة نفس، حينَ استاء من وصفها للآغا بصفة سيّده. عقبَ اللقاء، التفتت إلى محمد أفندي، لتبثه هذه النبوءة: " سيكون لهذا الشاب شأنٌ كبير في قادم الأيام؛ تذكّر قولي جيداً! ". بدَوره، حقّ للشاب الدمشقيّ أن يرجع إلى الشام مع ذكرى مفعمة بالإعجاب تجاه هذه السيّدة الكردية، التي رسخت مكانتها في مجتمع غريب، بعيداً عن قومها وعشيرتها. لكنها ذكرى واهية، سرعان ما اضمحلت، مع الإشراق الخالد لصورة الابنة، وكانت إلى ذلك ما تفتأ تعذبه ـ كأشعة شمس صيفية على جرحٍ طريّ.

طوال العام التالي، لم يظهر وكيلُ الأعمال الشاب في طرف السيّدة أديبة. لكنها كانت متيقنة من عودته يوماً، وذلك وفق إفادتها للابنة في وهلة مصارحة بينهما. هكذا تصرف، فيما يتعلق بتعاملها مع سارة، كان شيمة ثابتة لديها ومتبادلة بينهما. من ناحية أخرى، وكون صغيرتها أضحت في سنّ الزواج، راحت تحثها على زيادة الاهتمام بمشاغل البيت: " لأنه من الصعب أن تضمني حظاً مثل حظي، وقتما حظيتُ بامرأة متفانية في الخدمة "، قالت لها ذات مرة في إشارة للمربية. هذه الأخيرة، هيَ من تولت تعليم ابنة سيدتها وجبات الطبخ و إرشادات تتعلق بالوصفات الشعبية بما فيها من أعشاب وبهارات ومواد مختلفة، فضلاً عن تلقينها أسرار فك السحر، الضرورية لكل امرأة تبغي الحفاظ على قرينها وذريتها. حتى إذا بلغت سارة الخامسة عشرة، كان في الوسع استقبال طالبي القرب بكل ثقة في النفس. وكان برأي السيّدة أديبة، إنه لو تكاثر أمثال هؤلاء على بابها، فليسَ بسبب علمهم بمواهب ابنتها، أو جمالها، وإنما بالأساس لما ينتظرها من ثروة. وقد خلصت صغيرتها الأثيرة من ورطة أبناء العم، كونهم بمنأى عنها نتيجة بُعد المسافة. مع ذلك، لم يخلُ الأمر من أبناء الملاكين الأغنياء ممن كانت ثروات آبائهم تزيد أو تضاهي ثروة السيّدة أديبة.
لقد تم استبعاد كل أولئك الأشخاص، سواءً برغبة الابنة أو بفعل تأثير الأم. لم يكن ينقص سارة الغنى، وهوَ فائضٌ عنها. كانت ترغبُ برجل مستقيم الخلق، فوقَ أيّ اعتبار آخر؛ رجل، لا يُكرر معها ما فعله الجد بجدتها والأب بأمها. بالتأكيد كان في رأسها شابٌ معيّن، طالما أنها بتلك السنّ الحساسة، علاوة على ما تمتعت به من انطلاق الفكر وحرية الإرادة، ودائماً بفضل والدتها.
قلنا، أنّ المسافة حالت دونَ أبناء العم والإلحاح بخصوص طلب يد القريبة، الفائقة الحسن والغنى. لكن ذلك لم يمنع شخصاً من حيّهم في التفكير طوال الوقت بالفتاة: كونه عالم دين، قبل أي اعتبار آخر، شاء أن يتقدم لخطبة ملاكه في وقتٍ تكون فيه كاملة الأنوثة وراجحة العقل.



#دلور_ميقري (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- سارة في توراة السفح: مستهل الفصل السادس
- سارة في توراة السفح: الفصل الخامس/ 5
- سارة في توراة السفح: الفصل الخامس/ 4
- سارة في توراة السفح: الفصل الخامس/ 3
- سارة في توراة السفح: الفصل الخامس/ 2
- سارة في توراة السفح: الفصل الخامس/ 1
- سارة في توراة السفح: الفصل الرابع/ 5
- سارة في توراة السفح: الفصل الرابع/ 4
- سارة في توراة السفح: الفصل الرابع/ 3
- سارة في توراة السفح: مستهل الفصل الرابع
- سارة في توراة السفح: الفصل الثالث/ 5
- سارة في توراة السفح: الفصل الثالث/ 4
- سارة في توراة السفح: الفصل الثالث/ 3
- سارة في توراة السفح: مستهل الفصل الثالث
- سارة في توراة السفح: بقية الفصل الثاني
- سارة في توراة السفح: الفصل الثاني/ 3
- سارة في توراة السفح: الفصل الثاني/ 2
- سارة في توراة السفح: الفصل الثاني/ 1
- سارة في توراة السفح: الفصل الأول/ 5
- سارة في توراة السفح: الفصل الأول/ 4


المزيد.....




- الأطفال هتستمتع.. تردد قناة تنة ورنة 2024 على نايل سات وتابع ...
- ثبتها الآن تردد قناة تنة ورنة الفضائية للأطفال وشاهدوا أروع ...
- في شهر الاحتفاء بثقافة الضاد.. الكتاب العربي يزهر في كندا
- -يوم أعطاني غابرييل غارسيا ماركيز قائمة بخط يده لكلاسيكيات ا ...
- “أفلام العرض الأول” عبر تردد قناة Osm cinema 2024 القمر الصن ...
- “أقوى أفلام هوليوود” استقبل الآن تردد قناة mbc2 المجاني على ...
- افتتاح أنشطة عام -ستراسبورغ عاصمة عالمية للكتاب-
- بايدن: العالم سيفقد قائده إذا غادرت الولايات المتحدة المسرح ...
- سامسونج تقدّم معرض -التوازن المستحدث- ضمن فعاليات أسبوع ميلا ...
- جعجع يتحدث عن اللاجئين السوريين و-مسرحية وحدة الساحات-


المزيد.....

- صغار لكن.. / سليمان جبران
- لا ميّةُ العراق / نزار ماضي
- تمائم الحياة-من ملكوت الطب النفسي / لمى محمد
- علي السوري -الحب بالأزرق- / لمى محمد
- صلاح عمر العلي: تراويح المراجعة وامتحانات اليقين (7 حلقات وإ ... / عبد الحسين شعبان
- غابة ـ قصص قصيرة جدا / حسين جداونه
- اسبوع الآلام "عشر روايات قصار / محمود شاهين
- أهمية مرحلة الاكتشاف في عملية الاخراج المسرحي / بدري حسون فريد
- أعلام سيريالية: بانوراما وعرض للأعمال الرئيسية للفنان والكات ... / عبدالرؤوف بطيخ
- مسرحية الكراسي وجلجامش: العبث بين الجلالة والسخرية / علي ماجد شبو


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - الادب والفن - دلور ميقري - سارة في توراة السفح: بقية الفصل السادس