اسماعيل شاكر الرفاعي
الحوار المتمدن-العدد: 6303 - 2019 / 7 / 27 - 09:53
المحور:
مواضيع وابحاث سياسية
الحفرية الأولى :
تمكن محمد بمواهبه المتعددة : الروحية والبيانية والسياسية ، من اقناع بعض المكيين بصحة نبوته . فليس من اليسير على العرب الذين ورثوا مفهوم " الدهر " كزمن مستقل بجريانه عن أي تأثير خارجي ، ان يؤمنوا بوجود قوة أخرى تتدخل من خارج هذا الجريان الأبدي للزمن ، ويمكن لها ان تقرر " الآجال " و " الأرزاق " ، هم الذين اعتادوا على خلود الدهر وخلود جريانه كما عبر عن ذلك القرآن في الآية 24 من سورة الجاثية : ( وقالوا ما هي الا حياتنا الدنيا نموت ونحيا وما يهلكنا الا الدهر وما لهم به من علم ان هم الا يظنون ) . ولم يكن هؤلاء القلة الذين آمنوا بمحمد من عليّة القوم لكي يكونوا اصحاب تأثير في وسطهم الأجتماعي ، كما لم يكونوا من جماعة الأحناف الذين يمكن لهم ان يجذبوا الى ديانة محمد افراداً من عوائلهم وعشائرهم ، لما كانوا يتمتعون به من هيبة ووقار بل كانوا بأغلبيتهم من الخدم والعبيد الذين لامست صبواتهم وتطلعاتهم الآيات القرآنية التي كانت تتحدث بشكل مساواتي عن البشر بغض النظر عن مراكزهم الطبقية ، كما لامست مشاعرهم دعوة هذه الآيات الى مساعدة الفقراء والمعوزين وابناء السبيل . لكن هؤلاء الخدم والعبيد والأحباش لا يملكون حلاً لأزمة الأسلام العميقة في مكة المتمثلة باستنكاف واستكبار رؤساء العشائر واعضاء الملأ المكي من الأعتراف بنبوة محمد . فرؤساء العشائر حين ينطقون بشهادة : الله أكبر ، يكبّر وراءهم افراد قبيلهم ويصبح الجميع مسلمين . وهذا ما كان محمد يبحث عنه : ايمان عشائر وقبائل بأجمعها مرة واحدة ، وليس ايمان خدم وعبيد رؤساء العشائر والقبائل . بالمقابل كان أهل مدينة يثرب يعيشون أزمة ثقافية عميقة ، وهذا ما تبين لي من تفحص وتدقيق الموريات الواردة في كتابات ابن اسحاق والطبري والواقدي وغيرهم ، ووجدوا في دعوة محمد النبوية ـ حين بدأ يعرض نفسه على القبائل ـ حلاً لها . لقد كان سكنة مدينة يثرب من الأوس والخزرج واقعين تحت نفوذ يهود يثرب : اقتصادياً وثقافياً ، وكان رؤساء هذين القبيلتين يطمحون الى التحرر من هذه الوصاية التي فرضها اليهود عليهم ، نتيجة تطور اليهود الأقتصادي وغناهم الفاحش مقارنة بما عليه هاتين القبيلتين من أوضاع اقتصادية واجتماعية . والتطور الأقتصادي يشير دائماً الى امتلاك القوة الرادعة بوجهيها : الناعم والخشن . وكانت القوة الناعمة التي يملكها اليهود تتمثل بافتخارهم بكونهم : أمة أنبياء وكتاب ، في حين لا يملك العرب كتاباً ولا انبياء ، فيستهزء اليهود بهم ويسخرون من أميتهم الحضارية هذه . كان اليهود يلعبون أمام العرب ، دور الرواة العارفين بأخبار الأولين ، ويرفعون من شأن شريعتهم الدينية المنزلة من السماء على ما لدى العرب من تقاليد وعادات في الأكل والملبس والسكن والأختلاط بين الجنسين ، وقد علمتهم شريعتهم السماوية ما يتجنبون أكله من الحيوان والطير ، وبينت لهم : المحارم وقننت لهم طرائق الأختلاط والزواج . كان اليهود يتباهون بما يمتلكون في كتبهم المقدسة من تنظيم لشؤونهم الداخلية وتحديد نوع العلاقة التي تربطهم بالتجمعات البشرية غير اليهودية . وكانوا يرفعون هذا بوجه رؤساء القبائل العربية على انه الرقي الحضاري الذي يرفعهم درجات في سلم التطور عنهم . وكانوا يدّعون امتلاك معرفة علمية رفيعة تؤهلهم لتفسير مختلف الظواهر الطبيعية ، اضافة الى كونهم الشعب المختار من " يهوة " وهو اسم الأله كلي القدرة الذي يعبدونه ، والذي سيطرح محمد بمقابله الاهه الذي هو الله . والأله يهوة لا يختلف عن الاه محمد في انه الخالق والقادر والمهيمن ، والذي يحارب الى جانبهم اذا دخلوا حرباً ، ويضمن لهم النصر . لقد فرضت التجمعات اليهودية في مدينة يثرب هيبتها واحترامها بادعاء امتلاكها للنبوة ولما جاءت به من كتاب مقدس هو التوراة الحاوي للشريعة التي تنظم أدق شؤونهم الداخلية والخارجية . ولم يكن هذا المقدس اليهودي يحضى بأدنى اهتمام من عرب المدينة المزارعين ومن البدو لو لم يكونوا بحاجة الى ما تنتجه مزارع اليهود من غذاء ، وما تنتجه مصانعهم من أسلحة ، ومن حلي ومن منسوجات . كان اليهود هم الشعب المتقدم حضارياً في الحجاز وشمال العربيا . ومن الطبيعي ـ كما يحدث مع الحضارة الصناعية الرأسمالية الآن ـ ان يكون الغلاف الآيدلوجي الذي نسجوه حولهم هو الذي يحضى بالأرجحية في سوق المنافسة الفكرية ، كما تحضى الآن مفاهيم حقوق الأنسان ومفهوم المواطنة .. الخ بالأرجحية والتقدم على مفاهيم القبلية والطائفية الشرق أوسطية . لقد منح اليهود للمنظومة الفكرية الغيبية حضوراً ثقافياً في مدينة يثرب . واصبحت مفردات الغيب من وجود الاه غائب يبعث بالأنبياء والرسل شائعة في يثرب ، كما وشاعت الى جانبها فكرة ان السر في غنى اليهود يعود لأيمانهم بعالم الغيب الذي علّمهم مختلف الفنون والصناعات ، وان الأيمان بوجود هذا العالم سيدمغ اصحابه بالرقي الحضاري الى جانب ازدهار اقتصادي مؤكد . هذا ما كانت تتميز به مدينة يثرب ثقافياً ، وما تستقل به من سمات ثقافية عن مدينتي الطائف ومكة ( 1 ) . لقد ضمت الثقافة اليثربية الى جانب عبادة ( الشرك ) التقليدية الموروثة ، ثقافة التوحيد اليهودي ومنظومتها المعرفية عن عالم الغيب التي جذبت اليها الكثير من أفراد القبائل . وبهذا أنجزت الثقافة اليهودية ذات التوجه التوحيدي ، ما كان على محمد ان ينفق من اجل الدعوة اليه سنوات طويلة تفوق السنوات الثلاثة عشرة التي انفقها في مكة بحصيلة هزيلة من المؤمنين بدعوته .وهكذا حين كانت القبائل العربية تواجه محمدا بالصدود ، حين كان يعرض نفسه عليها ، تقبل دعوته اليثربيون من قبيلتي الأوس والخزرج الذين عرض محمد عليهم نفسه حين جاؤوا للحج . كانوا قد سمعوا بالدعوة المحمدية سماع عارف بمضمونها ، وربما آمنوا بها قبل ان يلتقوه ، نتيجة شيوع ثقافة الغيب في مدينتهم يثرب ، وكان هذا واضحاً من لقائهم في " العقبة " وتقبلهم السريع من غير مناقشة لما عليهم الألتزام به كمؤمنين ومسلمين جدد . لقد عبّر اللقاء بوضوح عن توق مجموعة بشرية الى الأنعتاق من هذه الهيمنة الثقافية اليهودية ومقارعتها بثقافة غيبية قومية فصلت لهم مفردات هذه الثقافة بلغتهم العربية الأم . لقد كان هذا التوق للخلاص من نير الكبرياء اليهودي هو الدافع الأول ثم يليه دافع الخلاص من الحروب المستديمة بين القبيلتين والتي وصلت عنق الزجاجة التاريخية التي سيختنقون فيها اذا لم يجدوا مخرجاً لها ، وقد وجدوا في محمد النبي وصاحب الكتاب المقدس الذي يروي لهم عن عالم الغيب بلغتهم هم لا عبر الترجمة : وجدوا فيه الشخصية التاريخية التي ستؤدي الدور المطلوب لكسر عنق الزجاجة وتحريرهم من معاناتهم التي طالت .
..................................................................................................
( 1 ) تحدثت في مقالة سابقة عن خصوصية الثقافة المكية
#اسماعيل_شاكر_الرفاعي (هاشتاغ)
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟