هويدا طه
الحوار المتمدن-العدد: 1540 - 2006 / 5 / 4 - 11:08
المحور:
اليسار , الديمقراطية والعلمانية في مصر والسودان
لم يكن كثير من المصريين يعرف قبلا.. أن القضاة يخوضون- منذ سنين- معركة مع النظام الحاكم بعيدا عن التداول الشعبي.. من أجل مطلب (استقلال القضاء)، فذلك النوع من الخصام بين الأجهزة الرفيعة المستوى في الدولة لا يتابعه عادة رجل الشارع العادي.. طالما أنها لا تمس مباشرة حياته اليومية وطالما أن الغالبية الساحقة من المصريين عازفة عن السياسة في أدنى وأعلى صورها- عازفة عن اتخاذ موقف بالسلب أو الإيجاب من الدولة وأجهزتها ونظامها وصلاحيات سلطاتها- إما بسبب الفقر الذي ينخر عظام المصريين.. فلا يكاد المواطن يهتم إلا لعدد الأرغفة التي يمكنه الحصول عليها يوميا، أو بسبب عدم اهتمام أطراف العراك به أصلا، وفي هذا يتساوى النظام وخصومه.. حيث لا يراهن أيهمُ على هؤلاء الفقراء البؤساء.. الجاهلين بما يجري حولهم وإن بإسمهم، يتعارك النظام وخصومه في أعلى الهرم بعيدا عن مشقة النظر إلى تلك الكتلة الضخمة من البشر.. التي لا تعرف ما يجري على بعد شبر من موقع أقدامها الحافية، فما بالك بما يدور في قمة تبعد عن قاعهم دهورا، حتى الطبقة الوسطى- التي لم تعد وسطى- لم يهتم كثير من أبنائها حتى عام مضى بما يطلبه القضاة، ويتساءلون عادة.. استقلال القضاة؟! مش عارفين نعيش ولا نعّّلم أولادنا ولا حتى نوّكلهم والهّم طايلنا من كل اتجاه وتكلمونا عن (استقلالية القضاء)؟!.. ترف مثقفين!
ماذا جرى إذن حتى أصبح اسما المستشارين (مكي وبسطاويسي) دارجين على ألسنة مواطنين عاديين- لا يعرفون حتى ماذا يعني المثقفاتية بالضبط حين يطلقون عبارات مفخمة من مثل (الفصل بين السلطات)! ولم يعرفوا عن (الحكومة) طوال عصور إلا إنها هي الدولة وهي القانون وهي مانح ومانع الأرزاق وهي الخصم وهي الحكم؟ ولم يظنوا يوما أن حكومة بهكذا قوة متفردة ومستفردة بهم.. يحق عليها ما يقوله هؤلاء المثقفاتية من أن رأسها ورأس من يرأسها.. ينبغي ألا يعلو على سلطة أخرى.. يسمونها سلطة قضائية؟!
الحديث هنا ليس عن مدى أولوية قضية استقلالية القضاء المصري ذاتها.. فهي بالتأكيد مهمة بل الأهم على طريق التغيير.. ولم يفاجأ المثقفون والناشطون في المعارضة بمطلب القضاة، إنما الحديث هو عن تلك الشهرة (الشعبية) لإسمي مكي وبسطاويسي، عندما انتبه إليهما المواطنون الذين لا يهتمون عادة بالسياسة وأنواع السلطات وفلسفة الفصل بينها، ربما يرجع ذلك إلى عدة أسباب متداخلة... فمنذ ذلك الحراك السياسي الذي أنزلته حركة كفاية إلى الميادين بعد أن كان تذمرا داخل الصالونات.. نزل القضاة بدورهم إلى الساحة وأعلنوا مطلبهم بعد أن كان غضبا محبوسا بين جدران ناديهم.. فتنبه الإعلام إلى (شيء جديد يحدث في مصر).. ومن يومها ووسائل الإعلام- خاصة الفضائيات- تستضيف على شاشاتها مكي وبسطاويسي وزملاءهم من القضاة المتمردين، فراحوا في نشرات الأخبار والبرامج الحوارية مرة يفضحون جرائم تزوير الحكومة للانتخابات.. ومرة يفضحون عرقلة الحكومة للعدالة.. ومرات يوجهون اتهاما مباشرا للرئيس ونظامه! وفي كل مرة يربطون مطلب استقلالية القضاء بحقوق المواطن.. الحقوق التي يشعر المواطنون بغيبتها دون أن يكون واضحا من أين يبدأ مشوار استعادتها.. حتى صار هؤلاء القضاة خلال أقل من عام وخاصة مكي وبسطاويسي وجوها ًمعروفة على القنوات الإخبارية المرموقة مثل الجزيرة والعربية والحرة.. والتي يتابعها المصريون بحثا عن همومهم بعد أن يئسوا من قنوات مصرية تعرض كل هّم.. إلا هموم المواطن المصري! صار مكي وبسطاويسي إذن (نجمين محبوبين) ليس فقط لأنهما راحا يعريا عورات الحكومة- فكثيرون يفعلون ذلك- وإنما لأنهما قاضيان.. بكل ما يكنه المواطن من إجلال للقاضي، فالناس يحتاجون إلى مرجع للعدالة (يعيش بينهم على الأرض).. وليس متعاليا عليهم بعيدا عنهم بُعد السماء!
الإعلام إذن قام- عمدا أو تبعا لإلحاح الأحداث- بتحويل قضية تبدو (نخبوية) مثل قضية استقلالية القضاء إلى (قصة شعبية) يتداولها قطاع أكبر من المواطنين على مدار الساعة ونشرات الأخبار، وتلك خطوة هامة على طريق (حل عقدة لسان الناس) في عصر تترتب أهمية الأشياء والقضايا فيه بحسب ما تناله من مساحة زمنية في التليفزيون.. وليس بحسب أهميتها في رؤوس المثقفين. إن كان المصريون إذن- كغيرهم من الشعوب- يحتاجون (بطلا) محدد الملامح.. يحمل لواء المطالبة بالحرية والتخلص من حكومة فاسدة والنظام الذي تمثله.. وبدا في الأيام الماضية أن مكي وبسطاويسي يبشرا بظهور بطلي معركة الحرية في مصر (على الأقل حتى اللحظة)- حتى أن حركات شعبية عدة طالبت بترشحهما لرئاسة الجمهورية، وإن كان المعارضون الناشطون في مصر مثل ناشطي حركة كفاية يحاولون- باستماتة- منذ نحو عامين جذب القاعدة الأوسع من المصريين إلى المشاركة في (عصيان) النظام لإسقاطه.. دون تحقيق كبير نجاح.. فإن مكي وبسطاويسي مع زملائهما تحديا نظاما يكرهه المصريون.. فطرحا اسميهما كبطلين (شعبيين) يرمزان لأكثر الأشياء التي يتألم المصريون لغيابها.. (العدل)، لكن لا يُعرف على وجه الدقة متى سينوء كاهلهما بثقل المعركة الكبرى.. فالنظام كان على مر السنوات السابقة يضرب خصومه (في الخفاء) أو يهادن بعضهم ويعقد معهم الصفقات.. أو يجور على الحقوق بينما يصر علنا على نفي جوره وفساده.. أي أنه كان حريصا على التجمل، اختلف الأمر الآن.. فقد تبجح نظام مبارك ولم يعد يهمه مداراة قبحه.. وصار الصراع شرسا يكسرالعظام دون تغطية، وهذا إن عبّر عن بداية النهاية في رأي البعض.. فهو أيضا يدخر شراسة ووحشية ضد من نريد تحميلهم عبء (البطولة)، من يدفعهم المخيال الشعبي المصري ليكونوا (أبطالا)، وليس هناك دليل أوضح على شراسة نظام مبارك وعدم اكتراثه بمداراة قبحه مثل حادثة المستشار محمود حمزة.. عندما تجرأ بلطجية النظام على إهانته- وهو ما هو عليه من منصب جليل- (قاض ورئيس محكمة استئناف)، ضُرب الرجل وجرحت كرامته عمدا.. في إغارةٍ لنظام مبارك على العدالة فاقت حتى المثل التاريخي الذي يُضرب تدليلا على تغول السلطة الحاكمة على القضاة.. ممثلا في بيت شعر لخليفة عَزل- ببساطة- قاضيا في مدينة ُقم دون أن تحده شريعة أو قانون(أيها القاضي بُقم.. قد عزلناك فقم)! الحاكم عزل القاضي- فقط عزله- فاعُتبر ذلك (مثلا تاريخيا) على سحق الحكام الطغاة للعدالة، فماذا عن حاكم يضرب بلطجيته قاضيا ويهينونه أمام الملأ؟! ليس أقل من أن يصير هو الآخر مضربا لمثل ٍيصير في المستقبل تاريخيا!.. عن حاكم يقول له شعبه- على سبيل المثال-:" وإذ تجرأتَ فقلتَ لقاض ٍ ضربناك مهانا ً معزولا.. ليس إذن يكفيك جزاءُ .. أقلَ من أن تبيتَ مسحولا".. يعني.. مثلا! لست بتلك الشاعرة على كل حال!
منذ أمد والرغبة في التغيير تتفاعل في الشارع المصري دون أن تجد لنفسها طريقا واضحا تسير فيه.. ودون أن تفرز بطلا تحمله عبء المعركة.. ودون أن تجد فلسفة تظلها، حتى عندما انبثقت حركة كفاية فإن شعارها (لا للتمديد لا للتوريث) لم يثبت كفايته لحمل لواء تلك المعركة.. وإن نجح في التمهيد لها، لكن إذا تصاعد الأمر في الأيام القادمة وإذا وُظف الإعلام عمدا أو بضغط الأحداث.. فإن القضاة قد يشكلون ذلك الصف الأول الذي طالما فتش عنه المصريون، ولعل معركتهم مع نظام فاسد وشرس.. عندما تحمل عنوان (العدل) فإنها تحمل (العنوان التائه) في معركة المصريين مع (الديكتاتورية المصرية الغاشمة الجهول).. على حد وصف جمال حمدان، فالعدلُ روحٌ به تحيا البلادُ.. كما عمارُها أبداً.. بالجهل ِ مقرونُ..
** في آتون معركة العدالة
(1) في نشرة الجزيرة هذا الصباح سُئل مسؤول الصحافة في موقع الجزيرة نت عن (أكثر الصور لفتا لانتباه رواد الموقع اليوم) فقال:" صورة القضاة المصريين وهم محتشدين مرتدين أوشحتهم المهيبة تضامنا مع زميليهما"، وسيدة مصرية كانت تحمل كيس خضار مرت إلى جوار جمع من الناس يتضامن مع المستشارّين أثناء دخولهما إلى جلسة (التأديب) التي عقدت لهما.. التقطت إحدى الفضائيات تعليقا عفويا لها- بل شديد العفوية.. والدلالة أيضا:"حيحاكموا القاضي؟! أومّال مين يحاكمهم؟" ومضت في طريقها!
(2) إن لم ينجح الناشطون المصريون في توظيف الإعلام- خاصة الفضائيات- لتحويل معركة القضاة مع النظام إلى (معركة كل المصريين العادلة) في كل بيت مصري.. وربط مطلب القضاء العادل بمطلب رغيف الخبز الكريم.. فليس أدق من كلمات محمود درويش:" قصائدنا بلا لون بلا طعم بلا صوتْ.. إذا لم تحمل المصباح من بيتٍ إلى بيتْ، وإن لم يفهم البسطاء معانيها فأولى أن نذريها.. ونخلدُ نحن إلى الصمتْ"..
#هويدا_طه (هاشتاغ)
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟