أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - القومية , المسالة القومية , حقوق الاقليات و حق تقرير المصير - جورج حداد - الارمن ضحية العنصرية التركية والتآمر الغربي على مسيحيي الشرق















المزيد.....



الارمن ضحية العنصرية التركية والتآمر الغربي على مسيحيي الشرق


جورج حداد

الحوار المتمدن-العدد: 1530 - 2006 / 4 / 24 - 11:26
المحور: القومية , المسالة القومية , حقوق الاقليات و حق تقرير المصير
    


تناقلت الانباء مؤخرا ان الكونغرس الاميركي هو في صدد بحث موضوع الاعتراف بالمجازر التي ارتكبت بحق الشعب الارمني في تركيا، خلال الحرب العالمية الاولى، وهو ما تصر الحكومات التركية المتعاقبة على انكاره حتى الآن. ولا شك ان الضغط الذي تمارسه الهيئات الممثلة للشعب الارمني، والرأي العام الدمقراطي العالمي المؤيد لقضيته، لعبت دورا ايجابيا في دفع بعض الاوساط النيابية الاميركية نحو هذه "اليقظة ضمير"، التي تأتي متأخرة جدا، الا أنه افضل من ان لا تأتي ابدا. ولكننا اذا ألقينا نظرة على المسار المأساوي للقضية الارمنية، نجد ـ فيما نجد ـ ان تغييبها في السياسة الغربية عامة، والاميركية خاصة، لم يكن يوما لجهل، بل لتجاهل مقصود ومغرض.
×××
تعتبر هذه المجازر، صفحة سوداء في تاريخ الانسانية ككل، وأكثر الصفحات ايلاما للشعب الارمني، وهي تلقي بظلها المأساوي على كل تاريخه الحديث. وتعود "مقدمات" المجازر الى نهاية القرن التاسع عشر. إلا أنها بلغت ذروتها في السنوات 1915 ـ 1922، حيث ذهب ضحيتها حوالي المليون ونصف المليون انسان، وطرد فيها من تبقى من ابناء هذا الشعب من ارضه التاريخية في ارمينيا "التركية". وفر مئات الالوف من الناجين بحالة يرثى لها باتجاه المناطق العربية والكردية، حيث آواهم السكان، المسلمون قبل المسيحيين، وتقاسموا معهم الكسوة واللقمة. وبذلك فإن الشعب الارمني كان بمثابة الضحية الاولى لسلسلة المجازر التي لطخت وجه القرن العشرين، والتي ارتكبتها الفاشية التركية الصاعدة، بتفويض من قوى الاستعمار والظلامية العالمية. ومن زاوية نظر معينة، يمكن نعتبر أن الشوفينية الطورانية التي تمخضت عنها جماعة "تركيا الفتاة"، ووريثتها "الاتاتوركية"، يعود لها "الفضل" الاول في تدشين الحركات العنصرية التي ظهرت لاحقا، كالصهيونية والنازية والفاشية، التي لطخت وجه القرن العشرين، واثخنت ضمير الانسانية بجراح لا تندمل.
بالرغم من هذه المأساة الانسانية الفظيعة، وهزيمة تركيا في الحرب العالمية الاولى، وانتصار معسكر "الدمقراطية" على معسكر "العنصرية" في الحرب العالمية الثانية، فلا يزال الشعب الارمني الى اليوم ضحية للمساومات الدولية، التي تقف حائلا دون اعتبار قضيته قضية قومية عادلة، تستوجب البحث في موضوع استعادة اراضيه، والعودة اليها، والاعتذار التاريخي ودفع التعويضات له من قبل العنصريين الاتراك وورثتهم، وليس فقط "الاعتراف بالخطأ" و"الاعتذار السياسي"، وهو حتى ما لا تزال تركيا ترفضه.
انه لمن المهانة بحق الانسانية جمعاء، ولمن الظلم المضاعف بحق هذا الشعب، تقليص قضيته الى حدود ابداء المواساة و"التعزية" وحسب عما مضى. ومع ذلك فإن الدول الاستعمارية الغربية تمتنع الى اليوم حتى عن مثل هذه الوقفة الانسانية المجردة مع الارمن، حفاظا على "ماء وجه" العنصرية التركية، حليفتها التاريخية الى الان، التي تعتبر احدى اهم ركائز حلف الناتو، والتي يجري التحضير لادخالها في "الاتحاد الاوروبي"، بالرغم من كل سجلها "الحافل" في مجال "حقوق الانسان". ان "الاسلامي المودرن" رجب طيب اردوغان ما هو سوى "وريث شرعي" للعثمانية "الاسلامية!" وللاتاتوركية "العلمانية!" معا. أي انه "يجمع المجد(!!) من طرفيه". وهو يقود تركيا "الاسلامية الجديدة!" للدخول في الاتحاد الاوروبي في طريق "تاريخي" معبد بجماجم ملايين الارمن والسريان واليونان والعرب والاكراد.
وفي وقت يتم فيه التسابق لتجيير التضحيات التي قدمها اليهود البسطاء والشرفاء والتقدميين والشيوعيين، في ما يسمى "الهولوكوست، على ايدي النازية الالمانية، لصالح النازية الاخرى، اليهودية، المتمثلة في الصهيونية، فإن تغاضي الدول الاستعمارية الغربية ـ بعد كل هذا الزمن ـ عن القضية الارمنية، انما يدل على ان تلك المجازر لم تكن "فورة طيش" آنية لجماعة "تركيا الفتاة"، والاتاتوركية، وأن الدول الاستعمارية الغربية كانت ولا تزال شريكة في الجريمة الكبرى التي ارتكبت بحق الشعب الارمني الأبي، وتجد مصلحتها في استمرار طمس هذه الجريمة، واسقاطها "بمرور الزمن" من جدول القضايا القومية الحية التي تتطلب الحل.
×××
ان القاء نظرة على تاريخ القضية الارمنية تبين انها كانت احدى حلقات التآمر الدولي، الذي نتج عنه التقسيم الاستعماري للشرق. ففي القرن التاسع عشر كان الشعب الارمني جزءا من "المسألة الشرقية"، وتحديدا مسألة الشعوب والاقليات الاتنية والدينية، غير التركية، وخصوصا المسيحية، الخاضعة للسلطنة العثمانية. وكانت هذه الشعوب والاقليات بمثابة "رهائن جماعية"، ضحية لابتزاز الطغمة العثمانية المستبدة الفاسدة، وللضغوط المتبادلة والمساومات فيما بين "رجل اوروبا المريض" والدول الاوروبية الكبرى. وبالرغم من كل الظلم الذي كان واقعا بالجماعات الاتنية والشعوب الغيرية في السلطنة، لم يكن من مصلحة أي من الطرفين، التركي والغربي، ان تصل الامور حينذاك الى حد "الحل النهائي"، أي التصفية الجسدية لتلك الجماعات والشعوب ـ الرهائن.
وتعود القضية الارمنية الى جذور تاريخية، تتمثل بدءا في أن الارض التركية الحالية في آسيا الصغرى، كانت في الاساس ارض الدولة الارمنية، التي اجتاحتها الجحافل الطورانية الآتية من آسيا الوسطى، في أواخر القرن الحادي عشر.
ولم يكن الاتراك في بداية توسعهم مسلمين. ولكن زعامتهم العشائرية، الاقطاعية العسكرية، عمدت بعد اجتياج تلك المناطق الى تلبّس الاسلام، بدوافع مصلحية بحت، وذلك بعد ان قويت شوكة الدولة الاسلامية العربية، وأصبح الانتماء اليها وسيلة لتحقيق المطامع، داخل هذه الدولة ذاتها وخارجها. وتاريخيا، دخل الاقطاع العسكري التركي "في خدمة" الدولة الاسلامية، لحماية بعض تخومها مقابل عائدين: الاول ـ الجعالات التي كان يخصل عليها من الخلافة المترهلة. والثاني ـ امكانية شن غارات السلب والنهب والتوسع، على حساب الجماهير المسيحية المظلومة المتاخمة، باسم "الجهاد!" الكاذب. ومن هذا الباب، تدرج الاقطاع العسكري التركي لاحتلال مواقع سيادية في دولة الخلافة، ولينتقل من "خدمة" الى "استخدام" "الاسلام!" والدولة الاسلامية. وأخيرا، خدم "الاسلام السلطوي" الطغمة الاستبدادية العثمانية، في سياسة الفتوحات الاستعمارية ضد شعوب آسيا الصغرى والبلقان واليونان وما وراء القوقاس وروسيا، أولا، ومن ثم واخيرا في "فتح" وإخضاع البلاد الاسلامية العربية والكردية ذاتها.
وطوال الحقبة التي تسلط فيها العثمانيون على شعوب امبراطوريتهم الاقطاعية العسكرية، لم تكفّ الثورات والانتفاضات الشعبية والوطنية ضدهم، من البلقان الى المشرق والمغرب العربيين، مرورا بأرمينيا وكردستان.
وفي ظروف النهضة القومية والظاهرات والحركات التنويرية والثورية التي ميزت تاريخ اوروبا في القرن التاسع عشر، والتي وجدت انعكاسها المحتم على الشعوب المغلوب على امرها في الامبراطورية العثمانية، تفاقم الضغط بشكل لا سابق له ضد هذه الشعوب، ومنها الشعب الارمني، لقمعها وابقائها في "بيت الطاعة".
وقد تميز الشعب الارمني تاريخيا بمستوى متقدم من الوعي والديناميكية، اجتماعيا وثقافيا وسياسيا، وهذا ما جعله عرضة لضغط خاص من قبل السلطة العثمانية.
وبعد ان تسلم السلطان عبدالحميد الثاني، الذي لقّب بالاحمر لدمويته، مقاليد الحكم في 1876 عمد في 1891، بالتعاون مع بعض الاغوات وزعماء العشائر الاكراد المرتبطين بـ "الباب العالي"، لتشكيل فرقة عسكرية كردية خاصة، للتنكيل والابادة، سميت على اسمه "فرسان الحميدية". وكانت هذه الفرقة السوداء تتكون من فرسان العشائر الكردية، وتخضع للقيادة العليا التركية، وللقيادة المباشرة للاغوات وشيوخ العشائر الاكراد. وهي كانت تعمل بنوع نت "الاستقلالية الذاتية" النسبية، بحيث تؤمن "مصالح" السلطنة وفي الوقت نفسه "مصالح" العشائر الرجعية الكردية المشبة بروح السلب والنهب والتوسع على حساب الجماهير المسيحية المجاورة، مستفيدة من غطاء الانتماء "الاسلامي!" السطحي والولاء الاعمى للسلطنة(واذا كان الشيء بالشيء يذكر، فإن مسلك القيادة العشائرية الكردية العراقية الحالية، السائرة في ركاب الاحتلال الاميركي لـ"مصلحة" الاكراد، يعود في الجوهر بجذوره الى مسلك اغوات الفرقة الحميدية ايام السلطنة العثمانية). وقد اضطلعت هذه الفرقة السيئة الصيت، بمهمة ارهاب وتطويع الشعبين الكردي والارمني، ومنع اتحادهما ضد السلطان. وهذه الفرقة هي التي تتحمل بالدرجة الاولى مسؤولية اول مجزرة واسعة النطاق ضد الارمن، التي وقعت في السنوات 94 ـ 1896، والتي ذهب ضحيتها حوالي 300 ألف انسان، وعدد مماثل من المشردين.
وفي الانقلاب الدستوري في 1908، ومن ثم خلع السلطان عبدالحميد في 1909، التقت جمعية "الاتحاد والترقي" الاصلاحية، التي تمخضت عنها حركة "تركيا الفتاة"، مع الحركات الاصلاحية والاستقلالية للشعوب والاتنيات الاخرى في السلطنة، ومنها الحركة الارمنية، في السعي الى الاصلاح والتجديد.
ولكن هدف كل من الطرفين كان يختلف جذريا عن هدف الآخر. فجماعة "تركيا الفتاة"، التي كانت تمثل البرجوازية القومية التركية الصاعدة، لم تكن تفكر للحظة في التخلي عن التسلط التركي، وتحرير الشعوب والاتنيات الغيرية. بل كانت تضع نصب عينيها:
1 ـ التتريك "الطبيعي" لتلك الشعوب والاتنيات، بأية وسيلة كانت.
2 ـ اذا تعذر ذلك، الاتجاه نحو تتريك الأرض، عن طريق تطبيق "الحل النهائي" على تلك الشعوب والاتنيات، أي تصفيتها الجسدية والتخلص منها كجماعة بشرية، والاستيلاء على اراضيها التاريخية. وهو "المبدأ" ذاته الذي طبقته النازية لاحقا على اليهود والشعوب السلافية وغيرها، كما طبقته الصهيونية في فلسطين.
وكان "الاتراك الفتيان"، جنبا الى جنب الحركات والفعاليات الممثلة للشعوب والاقليات المضطهدة في الامبراطورية التركية، على علاقة متزايدة بالدول الاوروبية الرئيسية. ولكن في حين كانت تلك الحركات تسعى لكسب التأييد لقضاياها التحررية العادلة، كان "الاتراك الفتيان" يستغلون تلك العلاقة، متربصين الفرص المؤاتية لتطبيق خططهم العنصرية، متسترين تحت شعارات "الاصلاح" و"التحديث".
وبطبيعة الحال ان الدول الاستعمارية الغربية كان لها حساباتها الخاصة، التي كشفت عن وجهها الحقيقي البشع بالتدريج.
وقد استغلت جماعة "تركيا الفتاة" ظروف الحرب العالمية الاولى، للشروع في تطبيق خططها العنصرية، وتوجيه ضربة قاصمة للحركات الاصلاحية والاستقلالية غير التركية، بشكل عام، ولتطبيق "الحل النهائي" ضد الشعب الارمني بشكل خاص. وكان ذلك يتم "تحت نظر"، وبرضى ودعم الدول الاستعمارية الاوروبية والغربية. فهذه الدول، ومنذ الحروب الصليبية، وخاصة منذ الحقبة النابولينوينة، كانت تطمح لاستعمار الشرق، الذي يمر عبر وراثة "رجل اوروبا المريض". ولتحقيق هذه الغاية، كانت ترى ان الشعب الارمني، المسيحي، وغيره من الشعوب المسيحية الشرقية، تشكل "عقبة موضوعية" امام مشاريع الاستعمار "المسيحي" الغربي للشرق. وازاحة هذه العقبة، على ايدي العثمانيين وغيرهم من "المسلمين!" المزيفين كان يحقق هدفا رئيسيا للدول الاستعمارية الغربية، اولا، في انه يقطع الطريق على التعاطف بين الشعوب الاوروبية المسيحية وبين الشعوب المسيحية الشرقية، فيما لو تم الاستعمار المباشر للاخيرة من قبل الدول الغربية الاستعمارية، وثانيا، في ان الدول الغربية الاستعمارية كانت تشجع الاضطهاد "الاسلامي!" للمسيحيين الشرقيين، كي تستغله من اجل تبرير استعمار الشرق بحجة حماية المسيحيين.
XXX
في 1908، حدث "الانقلاب الدستوري"، الذي أعاد الدستور الذي سبق وعلقه عبدالحميد منذ 1876. وقادت الانقلاب "جمعية الاتحاد والترقي"، التي انبثقت عنها فيما بعد جمعية "الاتراك الفتيان"، ودعمته وأسهمت فيه جميع الهيئات والحركات الثقافية والاصلاحية الخاصة بالشعوب والجماعات غير التركية في السلطنة، بما في ذلك العرب والارمن والاكراد، الذين استبشروا بهذا التغيير، واعتقدوا أنه سيخفف النير عن كاهلهم، ويفسح المجال للحصول، كحد اقصى، على الاستقلال، او، كحد ادنى، على بعض حقوقهم القومية، على اساس اللامركزية، ضمن اطار الامبراطورية العثمانية. ولكن "الاتراك الفتيان"، حينما استتب لهم الامر بشكل خاص بعد خلع عبدالحميد في 1909، كشفوا تماما عن وجههم العنصري، الذي فاق في بشاعته استبداد عبدالحميد.
فالحكم السلطاني كان يكتفي بفرض سلطته على "الرعيّات" المختلفة، وقمع الحركات الاصلاحية والتحررية، انطلاقا من آلية تسلط سياسي ـ ايديولوجي يتستر بالاسلام. ولم تكن الطغمة الحاكمة العثمانية تمتلك اي ميزة ثقافية او حضارية تتفوق فيها على الشعوب غير التركية وغير الاسلامية التي تتحكم بها. ولهذا لم تكن تفكر بطرح موضوعة "تتريك" تلك الشعوب. فكانت "الأسلمة" ـ لا التتريك المباشر ـ احدى وسائل التسلط على هذه "الرعيّات" غير التركية وغير الاسلامية. ولكن السلطنة لم تكن قادرة في أي وقت على السير بهذا الاسلوب الاكراهي حتى نهايته، لأن ذلك يهدد الاساس الايديولوجي ذاته الذي كانت تقوم عليه السلطة "الاسلامية!"؛ ذلك أن الاسلام يمنع اساسا الاكراه في الدين. وكان هذا الاسلوب يجد معارضة واسعة من المسلمين انفسهم، وبالاخص من ابناء الشعوب المستعبدة غير التركية. وهكذا، تحت السقف السياسي ـ الايديولوجي "الاسلامي!" للتسلط العثماني، بقيت مختلف "الرعيّات"، وفي ظل حالة الخضوع والإذعان للسلطان، تمتلك حدا "شرعيا" معينا من الاعتراف الرسمي بها، ومن "الاستقلال" النسبي دينيا ولغويا وثقافيا، وحتى كإدارة محلية، وذلك من ضمن نظام الملل العثماني، والسقف المنخفض ذاته للامركزية الادارية للحكم السائد حينذاك.
ومن جهة ثانية، ونظرا لحاجتها الى العلاقات مع الدول العظمى، التي كان بينها نوع من التوافق (الذي استمر حتى الحرب العالمية الاولى) على المحافظة على حياة "الرجل المريض"، فقد تعاملت الامبراطورية العثمانية مع وجود الجماعات الدينية والقومية المغايرة ضمنها، وهو ما عرف بـ "المسألة الشرقية"، تعاملا "رعويا"، كمدخل ضروري لجعلها مادة دائمة للمساومة، والابتزاز المالي والسياسي، فيما بينها وبين الدول العظمى، وفيما بين الدول العظمى ذاتها. فكانت هذه الجماعات والشعوب بالتالي، اشبه ما يكون برهائن جماعية لا يمكن، وليس من المصلحة، "التفريط" بها والقضاء التام عليها، وتعيش ضمن معادلة متناقضة من الظلم والاستبداد، من جهة، ومن مصلحة السلطنة والدول الاستعمارية في المحافظة عليها كورقة ضغط ومساومة دولية، من جهة ثانية. ويصح ذلك بالاخص على رعايا السلطنة المسيحيين، ومنهم الارمن. ولذلك فان السلطنة ـ ومع استطاعتها ذلك نظريا، وفي حسابات موازين القوى الداخلية ـ لم تجد من مصلحتها في أي وقت أن توصل الامور الى حدود "الحل النهائي" لـ "المسألة الشرقية"، عن طريق "أسلمة" جميع الرعايا الغيريين بالقوة، او تذبيحهم وطردهم النهائي.
أما جماعة "تركيا الفتاة"، الذين كانوا يمثلون البرجوازية القومية التركية الصاعدة، فقد تعاملوا مع "المسألة الشرقية" من زاوية مختلفة تماما، هي الزاوية العنصرية القومية "العلمانية!"، التي تهدف الى تذويب مختلف الجماعات القومية والدينية الاخرى في "القومية التركية". ذلك ان هذه الجماعة، في وعيها لضرورة الحؤول دون انهيار السلطنة العثمانية، والسعي الى ذلك عن طريق "علمنتها" و"تحديثها"، مع الاحتفاظ بالموقع التركي المتسلط فيها، كانت على صلة وثيقة بالاوساط الصهيونية والماسونية خاصة، وبالدول الاستعمارية الغربية عامة، وقامت بانقلابها في 1908، بالتعاون الوثيق مع تلك الدول.
وفي الوقت ذاته، فإن الحركات الاصلاحية والاستقلالية التابعة للجماعات القومية والدينية الاخرى في السلطنة، ومنها الارمنية، كانت هي الاخرى على اتصال وثيق بالدول الاوروبية، وفي الاغلب بشكل مستقل عن "الاتراك الفتيان". وكانت تلك الحركات غير التركية تعمل للوصول الى اهدافها، بالاستناد الى تلك الدول. ويصح ذلك على العرب والاكراد وغيرهم، الذين كانوا ينظرون الى اوروبا كـ"صديق" وكمثال سياسي ـ اجتماعي ـ ثقافي يحتذى. إلا أنه يصح بالدرجة الاولى على المسيحيين "العثمانيين" عموما، بفعل الرابط الديني مع اوروبا، وعلى الأرمن خصوصا، نظرا لعدم وجود أي رابط قومي لهم مع المسلمين، كما هو الحال بالنسبة للمسيحيين العرب.
وفي حين التقت حركة "تركيا الفتاة" مع الحركات الاصلاحية للشعوب "العثمانية" الاخرى، على السعي للانقلاب على السلطان و"تجديد" الامبراطورية، فقد اختلفت معها اختلافا جذريا حول الهدف النهائي من هذا الانقلاب و"التجديد".
فالحركات غير التركية، بما فيها العرب والاكراد المسلمون، كانت تطمح الى الحد من التسلط التركي ـ الاسلامي، فيما يخص المسيحيين، والتركي وحسب، فيما يخص المسلمين غير الاتراك.
أما الحركة القومية التركية المتمثلة في جماعة "تركيا الفتاة"، والتي كانت جزءا لا يتجزأ من آلية التسلط التركي ـ الاسلامي، فلم يكن هدفها في أي وقت القضاء على هذا التسلط، ورفع النير عن الجماعات القومية والدينية الاخرى، وإقامة علاقات متساوية معها ضمن إطار اتحادي، كما كان يوحي اسم جمعية "الاتحاد والترقي". ذلك انها بذلك كانت ستخسر وضعها القومي ـ الطبقي المتميز، ضمن البنية الامبراطورية القائمة. وهدف الحركة القومية التركية كان بالضبط المحافظة على هذا الوضع التسلطي الامتيازي، ومنع فقدانه بموت "الرجل المريض"، الذي كان يلوح في الافق بوضوح. وقد وجدت جماعة "تركيا الفتاة" ان الطريق الى ذلك يمر فقط عبر "أوربة" التسلط "العثماني" التقليدي القديم، بالمعنيين: أي بـ"تحديث" و"تجديد" و"علمنة" الامبراطورية، من جهة، وبربطها بالدول الاستعمارية بشكل مباشر، يقطع الطريق على الحركات القومية والدينية المغايرة، من جهة ثانية.
وهكذا عملت جماعة "تركيا الفتاة" على تغيير المرتكز الايديولوجي ـ السياسي للامبراطورية، المتمثل في الرعوية العثمانية "الاسلامية!"، واستبداله بالمرتكز القومي ـ السياسي، المتمثل في التتريك، القائم على أسلوبين:
الاول ـ الدمج القومي للشعوب والاقوام الاخرى "ثقافيا (تحديدا: لغويا) واجتماعيا".
والثاني ـ القضاء عليها وطردها لدمج اراضيها حينما لا يمكن احتواؤها.
فكان من الطبيعي للعنصريين الاتراك، بعد ان استتبت لهم السلطة بالتعاون مع الحركات غير الاسلامية وغير التركية في الامبراطورية، ان يديروا ظهرهم لهذه الحركات ويوجهوا سلاحهم ضد الشعوب والجماعات التي تمثلها.
وكان اكراد تركيا نموذجا لتطبيق الاسلوب الاول للدمج، الذين اخذت الاتاتوريكية تسميهم "اتراك الجبال".
وكان الارمن نموذجا لتطبيق الاسلوب الثاني، الذين اتهمتهم جماعة "تركيا الفتاة" والاتاتوركية بـ"الخيانة" (خيانة السلطنة ذاتها، التي قامت سلطة "تركيا الفتاة" والاتاتوركية على الانقلاب عليها).
وقد لقيت ممارسات العنصريين الاتراك الصمت والتأييد الضمني من قبل الدول الغربية، التي كانت هي نفسها تعتمد اسلوب الدمج القومي للاراضي والشعوب في مستعمراتها، والتي وجدت في العنصريين البورجوازيين، الاتراك الجدد، شريكا وحليفا قويا يعتمد عليه في المستقبل. وهذا ما يصح بشكل نموذجي على الصهيونية منذ نشأتها الى اليوم.
XXX
وقد زاد الامر سوءا، بالنسبة للشعوب والجماعات المظلومة في الامبراطورية، بسبب الظروف التي أوجدها الانقسام الغربي الفاجع في الحرب العالمية الاولى. فعشية الحرب، كانت جماعة "تركيا الفتاة" على علاقة "جيدة" بكل دول اوروبا الغربية، ولم يكن من مبرر، من هذه الزاوية، لأخذها جانب الالمان. ومع ذلك فقد اخذت في الحرب جانب المحور الالماني. ويجد ذلك تفسيره في:
1 ـ "التقاليد التاريخية" للشوفينية التركية، العثمانية وما قبلها وما بعدها، في الوقوف ضد عدوها التقليدي: روسيا والشعوب السلافية والمسيحية الشرقية.
2 ـ استعمار مصر والسودان ودول المغرب العربي من قبل الدول الاوروبية الاخرى، او "الحلفاء"، مع الاحتفاظ بسيادة شكلية للسلطنة العثمانية، مع ما كان يتولد عن ذلك من تناقض بين "الحلفاء" وبين السلطنة التي كانت تجد نفسها موضوعيا، ومضطرة، تقف في صف "ولاياتها!" الاسلامية الواقعة تحت الحكم الاستعماري لاولئك "الحلفاء".
وبعكس ذلك تماما، فقد وقفت الحركات الاصلاحية والتحررية غير التركية في السلطنة، الى جانب الحلف الآخر، الذي وقفت ضده تركيا، كنتيجة منطقية لمعاداة التسلط التركي، الذي سار مع الالمان، والرغبة في استغلال ظروف الحرب للتخلص نهائيا من هذا التسلط.
وكانت هذه المفارقة اكثر حدة بالنسبة للشعب الارمني بصورة خاصة، كنتيجة منطقية لوجود قطاع ارمني "روسي"، وللجوار المباشر والتعاطف التاريخي بين الشعبين المسيحيين الشرقيين: الروسي والارمني.
وهكذا اصبح من المحتم ان تقع الواقعة بين "حلفاء" الامس ضد السلطان، اي جماعة "تركيا الفتاة"، من جهة، والحركات الاصلاحية والاستقلالية للشعوب غير التركية في السلطنة. وكان من "المفهوم" ان تقوم الدول الاستعمارية الغربية، اولا دول الحلف المعادي لالمانيا، ومن ثم جميع الدول الغربية، بغض النظر عن جرائم جماعة "تركيا الفتاة"، حليفة الدول الاستعامرية ضد "السلطنة" من جهة، وضد الشعوب المظلومة في السلطنة، وخاصة المسيحيين، من جهة ثانية.
وقد اتخذت جماعة "تركيا الفتاة" مما سمته "خيانة!" القوميين العرب والاكراد والارمن ذريعة لتنفيذ مخططاتها العنصرية، ولشن حملة قمع وحشية لم يسبق لها مثيل، ليس فقط عملا بـ "التقاليد" العثمانية العريقة في القمع، بل كذلك لأن جماعة "تركيا الفتاة" اصبحت في سباق مع الزمن، حيث اعطتها ظروف الحرب فرصة "تاريخية" ذهبية، لتطبيق "الحل النهائي" وفرض التتريك بأسرع ما يكون، وذلك في "سبق تاريخي" على العنصرية النازية والصهيونية والديموفاشية الاميركانية. فعلقت المشانق، وطبقت العقوبات الجماعية والمجاعات والمذابح واسعة النطاق، التي ينطبق عليها كلها مفهوم ابادة الجنس. وفي هذا السياق كانت عملية "تطهير" الارمن، التي تعتبر من اكبر لطخات العار في التاريخ البشري الحديث.
XXX
ومن "سوء حظ" ـ اذا كان يصح هذا التعبير في التحليل التاريخي ـ الشعب الارمني، أنه كان يقع في الوسط بين تركيا وروسيا، وأن قسما من ارمينيا كانت تحت السلطة الروسية، وتحول الى قاعدة للنضال ضد التسلط التركي. ولما لم يكن لجماعة "تركيا الفتاة" أي أمل باخضاع الشعب الارمني المسيحي، وباحتوائه سكانيا، نظرا لمستواه الثقافي والسياسي الرفيع ولعنفوانه القومي وتمسكه الديني العريق، أصبح من المحتم و"الضروري" التخلص منه كشعب، والاستيلاء على أرضه التاريخية، وضمها للدولة التركية "المجدَّدة". وفي رسالة بعث بها وزير الداخلية حينذاك، طلعت باشا، الى والي حلب، مؤرخة في 16 ايلول 1915، يقول: "كنتم قد أعلمتم مسبقا، أنه حسب اوامر الجمعية (تركيا الفتاة)، فإن الحكومة قررت ان تقضي كليا على الارمن العائشين في تركيا. ومن يعارض هذا الامر وهذا القرار لا يمكن له ان يبقى في الاطار الرسمي للادارة الحكومية. ينبغي ان يوضع حد نهائي لوجودهم، بدون تمييز حيال النساء والاطفال والعجزة، وبصرف النظر عن وسائل القضاء عليهم، مهما كانت مأساوية". وبعد ان بدأت المجازر، يقول طلعت باشا متباهيا: "لقد نجحت في غضون ثلاثة اشهر، بالقيام بما لم يستطع عبدالحميد القيام به طوال 30 عاما".
وفي الوقت نفسه كان جمال باشا السفاح، احد أبرز قادة حركة "تركيا الفتاة"، يشن حملة قمع دموية واسعة ضد الحركة الاصلاحية والاستقلالية العربية، عن طريق التجنيد الاجباري (سفربرلك) والنفي والاعتقالات ونصب المشانق. ولما لم يكن من السهل عليه تطبيق "الحل النهائي" على كل العرب، فقد شرع في تطبيقه بواسطة التجويع ضد جبل لبنان، مستهدفا القضاء على المسيحيين فيه، حيث هلك ثلث السكان في المجاعة في فترة وجيزة. وحينما روجع جمال السفاح من قبل بعض الوجهاء المسيحيين (من العائلة البورجوازية آل سرسق، حسبما كان يتردد في بعض الاوساط الشعبية المسيحية)، الذين كانوا دائما على صلة بالموظفين العثمانيين الكبار، متشفعين لابناء بلدهم ودينهم، اجابهم بكل ازدراء وحيوانية: "هل أكلت الأم طفلها الميت؟ اذا لم يكن كذلك، فما حدث حتى الآن ليس شيئا!". ولولا الثورة العربية الكبرى بقيادة شريف مكة، التي ادت الى انهيار الحكم التركي وخروج المنطقة العربية نهائيا من هيكلية الامبراطورية، ومهدت لدخول الحلفاء الى فلسطين ولبنان في 1917، لكن مصير المسيحيين اللبنانيين والعرب المشارقة جميعا، أسوأ بكثير من مصير أرمن تركيا، الذين شاءت المساومات الدولية ان تبقى مناطقهم ضمن اطار الدولة التركية، ولكن كان يوجد مكان يفر اليه بقية الاحياء منهم، اما المسيحيون اللبنانيون والعرب فلم يكن لهم من مفر، فيما لو استمر النير التركي. وهذا ما ينساه اليوم بعض المسيحيين اللبنانيين، الذين ـ تحت حجة ظلم "الاسلام!" (الذي يخلطون عن غباء او رياء بينه وبين "الاسلام!" العثمنلي) ـ ساروا في ركاب اسرائيل وحليفتها تركيا، التي كادت تقضي على جدودهم، وضد العروبة التي لولاها لم يكن ليكون لهم أنفسهم من وجود الان بين الاحياء.
وفي المرحلة المضطربة التي رافقت الحرب العالمية الاولى، التي كانت فيها تركيا في عداد المهزومين، خسرت الاخيرة نهائيا "مناطقها" العربية، بفضل الارادة التاريخية للعرب في الاستقلال، التي تجسدت في الثورة العربية الكبرى بقيادة الشريف حسين، والتواطؤ الاوروبي لازاحة العثمانيين والحلول محلهم وتقسيم الشرق وفرض استعمار مباشر على الارض العربية الغنية بمكامن النفط المكتشف حديثا.
اما المناطق العثمانية غير التركية الاخرى، الكردية، والارمنية التي شملتها المجازر، قبل او بعد، فقد خضعت للمساومات والصفقات الدولية، تبعا للتطورات التي رافقت مرحلة الحرب واعقبتها.
XXX
وقد شمل التقسيم الاستعماري بشكل مباشر جميع "الممتلكات" السابقة للامبراطورية العثمانية. وشاركت في التقسيم بالدرجة الاولى انجلترا وفرنسا، ومن ثم روسيا القيصرية فيما يخص المناطق المحاذية لها، وهو لم يكن ليتم بدون موافقة اميركا. وهو ما تمخضت عنه "اتفاقية سايكس ـ بيكو"، التي لا تزال "خرائطها" واحكامها تحكم حتى اليوم "شرعية" حدود ووجود جميع دول المنطقة. ومن ضمن هذه الصفقات على الشعوب واراضيها، برز حينذاك لدى الدول المنتصرة اتجاه غالب نحو انشاء دولتين جديدتين هما:
الاولى ـ دولة ارمنية موحدة تشمل القطاع الارمني "الروسي" وما يتم التقرير بشأنه من القطاع الارمني "التركي".
والثانية ـ دولة كردية الى الجنوب منها، تشمل كردستان "العثمانية" السابقة، أي باستثناء كردستان "الايرانية".
وقد تكرس مشروع هاتين الدولتين في "اتفاقية سيفر" الدولية عام 1920.
وكان لهذا التقسيم (الذي يتضمن نزع الاراضي الكردية والارمنية من تركيا) الاهداف الستراتيجية التالية، التي خضعت للتغيير خلال التطورات اللاحقة:
1 ـ معاقبة تركيا لسيرها مع الالمان، وحصرها ضمن حدودها القومية ما امكن، وتحجيم دورها الاقليمي والدولي.
2 ـ استمالة الطبقة البرجوازية الصاعدة والانتليجنتسيا الارمنية، بمنحها "دولة ارمنية موحدة!" خاصة بها.
3 ـ استمالة الطبقة الاقطاعية العشائرية الكردية، والانتليجنتسيا الانتهازية الملتفة حولها، بمنحها "دولة كردية!" خاصة بها.
4 ـ إرضاء روسيا القيصرية، بجعل الدولتين المفترضتين، الارمنية والكردية، منطقة نفوذ روسية، مقابل جعل المنطقة العربية، بما فيها الخليج وشرقي السويس، منطقة نفوذ غربية، بريطانية ـ فرنسية خاصة وغربية عامة.
5 ـ ان تضطلع الدولتان المفترضتان، الارمنية والكردية، بدور حاجز مضاعف يفصل، من الشرق الى الغرب، بين ايران وتركيا القومية، ويفصل ـ خصوصا ـ من الشمال الى الجنوب، بين روسيا والمنطقة العربية، حيث ان اخشى ما كانت ولا تزال تخشاه الدول الغربية هو وصول روسيا الى البحار الدافئة، وخصوصا تلاقي الروس والعرب.
ولكن التطورات اللاحقة دفعت الدول الاستعمارية الى تغيير خططها، ويمكن تلخيص هذه التطورات في ثلاثة:
1 ـ انتصار الثورة الاشتراكية في روسيا سنة 1917.
2 ـ ظهور توجه استقلالي قوي لدى العرب، تمثل في رفض دخول الجيش الفرنسي الى سوريا واقامة الحكومة العربية فيها واضطرار الفرنسيين لفتحها عنوة، والثورة المصرية سنة 1919، وثورة العشرين ضد الانجليز في العراق، الخ.
3 ـ فشل القيادات الارمنية والكردية في كسب ثقة الدول الاستعمارية بقدرتها على الامساك بزمام الامور بما يتلاءم مع مصالح تلك الدول.
وهكذا سقطت على الارض امكانية جعل الدولتين المفترضتين الارمنية والكردية منطقة نفوذ روسية، وأصبح الهدف جعلهما منطقة نفوذ للدول الحليفة ذاتها، كي تعزل بين روسيا الشيوعية، التي اخذ وجودها يهدد النظام الرأسمالي والاستعماري العالمي، وبين المنطقة العربية المتوثبة وغير المأمونة الجانب، لما لهذه المنطقة من عنفوان حضاري تاريخي ومن تقاليد عريقة في مواجهة الفتوحات الاستعمارية منذ الصليبيين حتى احفادهم.
ومرة اخرى، فإن حساب الحقل لم يطابق حساب البيدر. ذلك ان التطورات العامة التي حكمت مسار حركة القوى السياسية الفاعلة على الساحتين الارمنية والكردية، "خيبت آمال" الدول الاستعمارية في ان تستطيع تلك القوى القيام بدور ركيزة ومنفذ لسياستها في المنطقة. فالاكراد ساروا على المكشوف مع العرب، واظهروا تعاطفا مع روسيا "بشيوعيتها". اما الحركات السياسية الارمنية فكانت قد انشقت على نفسها بشكل مأساوي، بين تيار اشتراكي مرتبط بروسيا الشيوعية، كان ضعيفا في البداية، وتيار "قومي" موال للدول الغربية. وقد سيطر التيار الاخير على الحكم في ارمينيا الروسية سنة 1917، مستفيدا من سقوط القيصرية وضعف السلطة الروسية الجديدة. واعلن هذا التيار قيام دولة ارمنية تشمل القطاع الروسي وجزءا من القطاع الارمني التركي. الا ان التيار "القومي" الارمني لم يكن مؤهلا للسير بمشروع الدولة الارمنية حسبما تقتضيه المصالح الغربية التي وضع نفسه في خدمتها، بل كان استيلاؤه على السلطة بمثابة فاجعة على الشعب الارمني لعدة اسباب اهمها:
1 ـ شق صفوف الشعب الارمني وزرع العداء والاقتتال بين ابنائه، في وقت كانت فيه حملات الابادة والتطهير التركية لا تزال قائمة ضده.
2 ـ خسارة التيار "القومي" للسلطة، على يد الشيوعيين الارمن في المنطقة الروسية.
3 ـ خسارة تأييد الشعب الروسي، الذي كان قد قلب النظام القيصري لتوه. ومن ثم فإن السلطة السوفياتية الناشئة، تحت تأثير ضعفها، وردا على وقوف التيار "القومي" الارمني بالسلاح جنبا الى جنب حرب التدخل الدولي ضد روسيا، اضطرت الى مهادنة جماعة "تركيا الفتاة"، على اساس عدم التدخل في "الشؤون الداخلية" لكل من البلدين. وبالتالي اقتصر اهتمام روسيا السوفياتية، كدولة، على المنطقة الارمنية الروسية السابقة. وتركت المنطقة الارمنية "التركية" للصراع غير المتكافئ بين "القوميين" الارمن، الذين فقدوا الدعم الروسي ولم يحصلوا على الدعم الغربي المطلوب، وبين الاتاتوركيين الذين حصلوا على الدعم الغربي الكامل. ومع التأكيد التام على انحراف التيار "القومي" الارمني، الذي وصلت به الامور لاحقا الى حد السير في ركاب النازية، فإنه من الصعب الدفاع التام عن موقف الدولة السوفياتية من القضية الارمنية، لا سيما لجهة مهادنة الاتاتوركية، التي اثبت التاريخ خدمتها التامة للمخططات الاستعمارية الدولية، مستغلة الشعارات التضليلية حول "الاصلاح" و"التحديث" و"العلمنة".
حيال هذه التطورات، لم يعد امام الدول الغربية التي تبحث عن مصالحها على حساب جميع الشعوب، الا ان تقدم القضية الارمنية ـ ومثلها القضية الكردية واليونانية ـ "هدية إرضاء" و"عربون مصالحة" مع العنصرية التركية المتوحشة المنفلتة من عقالها، التي سبق لها ان وقفت مع المانيا في الحرب العالمية. ذلك ان الدول الغربية وجدت:
اولا ـ ان الدولتين المفترضتين، الارمنية والكردية، لن تستطيعا الاضطلاع بدور الحاجز بين روسيا الشيوعية والمنطقة العربية، بل على العكس ستتحولان الى حليف وجسر تواصل بين هذين المحورين، مما يهدد بخلق جبهة عالمية، معادية للهيمنة الاستعمارية الغربية، تمتد من موسكو الى مكة.
وثانيا ـ ان العنصرية التركية، الخارجة من الهزيمة مع المانيا، اثبتت بحساب موازين القوى على الارض، دهاءها السياسي وتفوقها العسكري حيال القوى القومية الارمنية والكردية معا. وبالتالي بقيت هي وحدها على الساحة، المؤهلة لسد "الثغرة" من جديد بين ايران وتركيا، وتشكيل الحاجز المطلوب بين الروس والعرب، على حساب الشعبين الارمني والكردي.
وهذا ما جعل الدول الغربية "الدمقراطية"، من لندن الى واشنطن، تدوس بنفسها على مبادىء الرئيس الاميركي ولسون التي اعلنها في نهاية الحرب العالمية الاولى، حول حقوق الانسان والامم، وتمنح دعمها الكلي للعنصريين الاتراك، اعدائها في ساحات القتال بالامس، ضاربة عرض الحائط بمصير "حلفائها" الارمن واليونان والعرب والاكراد. وفي النتيجة طوت اتفاقية لوزان عام 1924، صفحة الدولتين الارمنية والكردية حسبما كانت قد نصت عليه اتفاقية سيفر عام 1920. وتم "تصحيح" اتفاقية "سايكس ـ بيكو" بعد خروج روسيا السوفياتية منها وعليها. ونالت الصهيونية العالمية حصتها في هذه الصفقة الاستعمارية المركبة، عن طريق "وعد بلفور" بإنشاء "الوطن القومي اليهودي" على حساب الشعب الفلسطيني. ومنذ ذلك الحين والشعب الكردي في تركيا هو عرضة لابشع اشكال القمع والدمج القسري، والشعب العربي في فلسطين هو عرضة لابشع اشكال التطهير العرقي. الا ان الشعب الارمني دفع وجوده كله في المنطقة التركية ثمنا لهذه الصفقة بين الدول الاستعمارية الغربية والعنصرية التركية، التي هي من اكبر صفقات العار في التاريخ الانساني الحديث، ولا تضاهيها سوى الصفقة الغربية ـ الصهيونية ضد الشعب الفلسطيني والعربي. وقد اسدلت الدول الغربية ستارا كثيفا على المجازر الارمنية، ومنعت الشعب الارمني في الشتات من طرح قضيته القومية والنضال لاجل استعادة اراضيه التاريخية.
وخلال هذا المسار المأساوي، قام "القوميون" الارمن بعمليات انتقامية بطولية كثيرة ضد العنصريين الاتراك. واستطاع شبابهم تصفية "رؤوس الشر" الكبيرة الثلاثة انور باشا وطلعت باشا وجمال باشا. الا ان هذا لم يستطع ان يغير شيئا رئيسيا في مجرى الامور.
وفي نهاية المطاف لم يبق للارمن من وطن سوى ارمينيا الروسية السابقة التي، بالرغم من كل المآخذ على الشيوعيين الروس والارمن، فقد حافظوا عليها، وهي الآن جمهورية مستقلة يعيش فيها حوالي مليونين ونصف المليون نسمة، في حين يعيش ثلاثة ارباع الارمن في الشتات، دون ان تعيرهم "الدمقراطيات" الغربية أي اهتمام خاص، الا من باب الاحتواء والتذويب والعمل الدائم لاستخدام التيار "القومي" الارمني كأداة ضد الشيوعية وضد الحركات التحررية والتقدمية لشعوب الشرق.
XXX
وعشية الحرب العالمية الثانية ادرك "القوميون" الارمن، بشكل نصفي وبعد فوات الاوان، خطأهم في الاعتماد الساذج على الدول "الدمقراطية" الغربية. إلا أنهم ـ كرد فعل اعمى على هذا الخطأ، وتحت تأثير الحقد على الشيوعيين الارمن الذين انتزعوا منهم السلطة سنة 1920 ـ عمدوا الى "اصلاح" خطأهم التاريخي بخطأ افدح منه بكثير، وهو السير في ركاب ألمانيا النازية والقتال معها في الحرب العالمية الثانية، بما في ذلك ضد ارمينيا السوفياتية التي جاءها "القوميون" الارمن (حزب الطاشناق) "فاتحين" مع الالمان النازيين، وفظـّعوا في اخوتهم الارمن اكثر من الالمان انفسهم. وهذا ما زاد من مأساة الشعب الارمني، الذي لا يزال الى اليوم يدفع ثمن هذا الخطأ، لأن سير "القوميين"، الذين كانت لهم شعبية واسعة لدى أرمن الشتات، في ركاب النازية، لعب دورا اساسيا في اضعاف التعاطف العالمي مع الارمن، وساعد تركيا المتسترة بـ "الحياد" على طمس جرائمها العنصرية ضدهم، بحجة "نازية" "القوميين" الارمن.
وبعد هزيمة المانيا، عاد "القوميون" الارمن من جديد الى احضان الدول "الدمقراطية" الغربية، ولكن من موقع تاريخي ضعيف، جعلهم يتغاضون ـ وان على مضض ـ عن التلاحم الستراتيجي الغربي ـ التركي، ويتحولون هم انفسهم الى اداة من اداوت الحرب الباردة بين المعسكرين الشرقي والغربي، مستبدلين توجيه سلاحهم ضد تركيا، بتوجيهه ضد ارمينيا (السوفياتية حينذاك)، انطلاقا من عدائهم التاريخي للشيوعية، ومؤملين بذلك ان ينالوا بعض حظوة لدى الغرب، كمقدمة للحصول على بعض التنازلات ولو المعنوية وحسب، من قبل تركيا.
الا ان جردة الحساب العامة تبين:
اولا ـ ان "القوميين" اليمينيين الارمن راهنوا بكل شيء مسايرة للغرب، دون ان يربحوا منه شيئا للقضية الارمنية. ويبدو هذا حتى بعد انهيار الاتحاد السوفياتي، وزوال "الحكم الروسي" من ارمينيا السوفياتية، وكل "الخدمات" التي قدمها "القوميون" الارمن على هذا الصعيد.
ثانيا ـ ان الوطنيين الارمن التقدميين، وخصوصا الشيوعيين، قد استـُغرقوا بشكل شبه تام في الصراع مع "القوميين" اليمينيين الارمن، ودفاعا عن السلطة السوفياتية، والى درجة المهادنة مع تركيا الاتاتوركية و"عدم استفزازها" بتحريك القضية الارمنية، التي هي قضية قومية جامعة.
وبذلك فإن "القوميين" والوطنيين الارمن جميعا، اليمينيين واليساريين، التقوا موضوعيا، من خلال نزاعاتهم السياسية ـ الحزبية والايديولوجية، عند نقطة رئيسية هي: المهادنة الفعلية لمغتصبي ارمينيا، وجزاري الشعب الارمني، وهي المهادنة المستمرة منذ حوالى القرن.
وربما لا نجانب الواقع اذا قلنا ان جميع "القوميين" والوطنيين الارمن هم الآن امام ازمة ضمير تاريخية. الا انها أزمة لا يحلها البكاء واقامة التذكارات عن ارواح الموتى، بل الكفاح المرير ضد المستعمرين الشوفينيين الاتراك، وسادتهم الاستعماريين الغربيين، من اجل استعادة الارض والحقوق القومية المغتصبة للشعب الارمني المظلوم.
فهل آن الاوان لازالة العوائق الايديولوجية والسياسية ـ الحزبية امام القضية القومية ـ الانسانية الارمنية؟! وهل آن الاوان لكسر مؤامرة الصمت العالمية، الاميركية ـ الاوروبية ـ الصهيونية، عن القضية العادلة لهذا الشعب الحضاري العريق؟!
XXX
ان الشعب الارمني الأبي لا يزال حتى اليوم ضحية للمساومات الدولية المخجلة مع تركيا العنصرية. فمن جهة، اصبحت المسألة الارمنية مع تركيا تطرح، حتى من قبل "القوميين" الارمن انفسهم، كقضية انسانية من الماضي تتطلب فقط مجرد الاعتراف بالمجازر والاعتذار عنها، وليس كقضية قومية تتطلب اساسا، فوق كل ذلك، النضال من اجل التحرير والعودة. ومن جهة ثانية، تم إدخال تركيا في حلف الناتو، ويجري الآن تمهيد الطريق لإدخالها الى "الاتحاد الاوروبي"، فوق جماجم الملايين من ضحاياها السابقين والحاليين.
وبعد هذه النظرة على التاريخ المأساوي الطويل للقضية الارمنية نتساءل: هل ان الاهتمام الاميركي المتأخر بالمجازر الارمنية، هو "يقظة ضمير" فعلية، واعتراف صادق لوجه العدالة والحق والحقيقة فقط؟
من خلال تجربتنا العربية مع السياسة الاميركية الراهنة ذاتها، المبنية على الكذب والديماغوجية والكيل بمكيالين وقتل القتيل والسير في جنازته، لا نستطيع الا ان نشكك بمصداقية "اللفتة" الاميركية الجديدة. وفي اعتقادنا أنه، مثلما ان رائحة النفط هي البوصلة الاولى للتوجهات الاميركية في المنطقة العربية والشرقأوسطية، فهذه الرائحة ذاتها هي التي تدير الآن رأس الاميركي البشع صوب الارمن، الذين تناسى الغرب مأساتهم طوال قرن كامل. فـ"بفضل" الاحتياطات النفطية الهائلة لحوض بحر قزوين، الذي تفاقم الصراع حوله بعد انهيار الاتحاد السوفياتي، والذي يسيل له الآن لعاب الحيتان الرأسمالية الاميركية التي تطمع في وضع يدها ونهب هذه الثروة او القسم الاكبر منها، اصبحت منطقة القوقاس (التي تقع في الوسط تماما بين ايران وروسيا، وبحر قزوين وتركيا) محط اهتمام خاص من قبل اميركا، من اجل تمرير انابيب النفط من حوض قزوين الى اراضي حليفتها الستراتيجية تركيا، عبر المنطقة القوقاسية، بمعزل عن "العدوين": روسيا، من جهة، وايران، من جهة اخرى. ومعلوم ان ارمينيا تقع في وسط هذه المنطقة. وهذا هو "سر" الشفقة الاميركية المتأخرة على الشعب الارمني. وقد انزعجت السياسة الاميركية ايما انزعاج من التقارب الروسي الايراني الحالي، وما يرادفه من التقارب بين الجمهورية الارمنية (السوفياتية السابقة) وبين روسيا، كما وبينها وبين ايران، وذلك بالرغم من الصراع الارمني ـ الاذربيجاني حول ناغورني كاراباخ، الذي وقفت فيه ايران موقفا اقرب الى ارمينيا منه الى اذربيجان. وهذا التقارب بين الدول الثلاث، روسيا وايران وارمينيا، يلعب دورا مهما في عرقلة المشاريع الاميركية ـ التركية في القوقاس ومحيطه. وبطبيعة الحال، انه لمن الصعب جدا على تركيا "التنازل" عن "كرامتها" والسكوت على الاعتراف بمجازرها، تماما مثلما كان من الصعب عليها الاحتفاظ بالمناضل والزعيم القومي الكردي عبدالله اوجلان حيا الى الآن، لعدم افلات القضية الكردية نهائيا من تحت السيطرة. وليس من المستغرب ان تظهر تركيا "زعلها" وتثير زوبعة ما في الفنجان الاميركي. ولكن من المؤكد ان المايسترو الاميركي هو الذي يقود اوركسترا ما يسمى النظام العالمي الجديد ومصالحه الستراتيجية العامة. ولا بد للكومبارس، ولو بحجم تركيا الشوفينية و"تاريخها"، ان ترضخ للمايسترو من البداية الى النهاية. فبرميل النفط هو اغلى واهم من كل باشاوات تركيا السابقين وكل جنرالاتها و"اسلامييها المودرن" اللاحقين.
فهل يسمح الوطنيون الارمن بأن تغرق القضية القومية الارمنية العادلة في برميل النفط القزويني؟ وأن يكون "الاعتراف" المتأخر بالمجزرة الارمنية قداسا عن روح الاموات، ومقدمة لـ "الغفران" والصلح مع الجزارين الاتراك ببركة اسيادهم الاطلسيين؟
ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ
ـ* كاتب لبناني مستقل مقيم في بلغاريا
جورج حداد*
تناقلت الانباء مؤخرا ان الكونغرس الاميركي هو في صدد بحث موضوع الاعتراف بالمجازر التي ارتكبت بحق الشعب الارمني في تركيا، خلال الحرب العالمية الاولى، وهو ما تصر الحكومات التركية المتعاقبة على انكاره حتى الآن. ولا شك ان الضغط الذي تمارسه الهيئات الممثلة للشعب الارمني، والرأي العام الدمقراطي العالمي المؤيد لقضيته، لعبت دورا ايجابيا في دفع بعض الاوساط النيابية الاميركية نحو هذه "اليقظة ضمير"، التي تأتي متأخرة جدا، الا أنه افضل من ان لا تأتي ابدا. ولكننا اذا ألقينا نظرة على المسار المأساوي للقضية الارمنية، نجد ـ فيما نجد ـ ان تغييبها في السياسة الغربية عامة، والاميركية خاصة، لم يكن يوما لجهل، بل لتجاهل مقصود ومغرض.
×××
تعتبر هذه المجازر، صفحة سوداء في تاريخ الانسانية ككل، وأكثر الصفحات ايلاما للشعب الارمني، وهي تلقي بظلها المأساوي على كل تاريخه الحديث. وتعود "مقدمات" المجازر الى نهاية القرن التاسع عشر. إلا أنها بلغت ذروتها في السنوات 1915 ـ 1922، حيث ذهب ضحيتها حوالي المليون ونصف المليون انسان، وطرد فيها من تبقى من ابناء هذا الشعب من ارضه التاريخية في ارمينيا "التركية". وفر مئات الالوف من الناجين بحالة يرثى لها باتجاه المناطق العربية والكردية، حيث آواهم السكان، المسلمون قبل المسيحيين، وتقاسموا معهم الكسوة واللقمة. وبذلك فإن الشعب الارمني كان بمثابة الضحية الاولى لسلسلة المجازر التي لطخت وجه القرن العشرين، والتي ارتكبتها الفاشية التركية الصاعدة، بتفويض من قوى الاستعمار والظلامية العالمية. ومن زاوية نظر معينة، يمكن نعتبر أن الشوفينية الطورانية التي تمخضت عنها جماعة "تركيا الفتاة"، ووريثتها "الاتاتوركية"، يعود لها "الفضل" الاول في تدشين الحركات العنصرية التي ظهرت لاحقا، كالصهيونية والنازية والفاشية، التي لطخت وجه القرن العشرين، واثخنت ضمير الانسانية بجراح لا تندمل.
بالرغم من هذه المأساة الانسانية الفظيعة، وهزيمة تركيا في الحرب العالمية الاولى، وانتصار معسكر "الدمقراطية" على معسكر "العنصرية" في الحرب العالمية الثانية، فلا يزال الشعب الارمني الى اليوم ضحية للمساومات الدولية، التي تقف حائلا دون اعتبار قضيته قضية قومية عادلة، تستوجب البحث في موضوع استعادة اراضيه، والعودة اليها، والاعتذار التاريخي ودفع التعويضات له من قبل العنصريين الاتراك وورثتهم، وليس فقط "الاعتراف بالخطأ" و"الاعتذار السياسي"، وهو حتى ما لا تزال تركيا ترفضه.
انه لمن المهانة بحق الانسانية جمعاء، ولمن الظلم المضاعف بحق هذا الشعب، تقليص قضيته الى حدود ابداء المواساة و"التعزية" وحسب عما مضى. ومع ذلك فإن الدول الاستعمارية الغربية تمتنع الى اليوم حتى عن مثل هذه الوقفة الانسانية المجردة مع الارمن، حفاظا على "ماء وجه" العنصرية التركية، حليفتها التاريخية الى الان، التي تعتبر احدى اهم ركائز حلف الناتو، والتي يجري التحضير لادخالها في "الاتحاد الاوروبي"، بالرغم من كل سجلها "الحافل" في مجال "حقوق الانسان". ان "الاسلامي المودرن" رجب طيب اردوغان ما هو سوى "وريث شرعي" للعثمانية "الاسلامية!" وللاتاتوركية "العلمانية!" معا. أي انه "يجمع المجد(!!) من طرفيه". وهو يقود تركيا "الاسلامية الجديدة!" للدخول في الاتحاد الاوروبي في طريق "تاريخي" معبد بجماجم ملايين الارمن والسريان واليونان والعرب والاكراد.
وفي وقت يتم فيه التسابق لتجيير التضحيات التي قدمها اليهود البسطاء والشرفاء والتقدميين والشيوعيين، في ما يسمى "الهولوكوست، على ايدي النازية الالمانية، لصالح النازية الاخرى، اليهودية، المتمثلة في الصهيونية، فإن تغاضي الدول الاستعمارية الغربية ـ بعد كل هذا الزمن ـ عن القضية الارمنية، انما يدل على ان تلك المجازر لم تكن "فورة طيش" آنية لجماعة "تركيا الفتاة"، والاتاتوركية، وأن الدول الاستعمارية الغربية كانت ولا تزال شريكة في الجريمة الكبرى التي ارتكبت بحق الشعب الارمني الأبي، وتجد مصلحتها في استمرار طمس هذه الجريمة، واسقاطها "بمرور الزمن" من جدول القضايا القومية الحية التي تتطلب الحل.
×××
ان القاء نظرة على تاريخ القضية الارمنية تبين انها كانت احدى حلقات التآمر الدولي، الذي نتج عنه التقسيم الاستعماري للشرق. ففي القرن التاسع عشر كان الشعب الارمني جزءا من "المسألة الشرقية"، وتحديدا مسألة الشعوب والاقليات الاتنية والدينية، غير التركية، وخصوصا المسيحية، الخاضعة للسلطنة العثمانية. وكانت هذه الشعوب والاقليات بمثابة "رهائن جماعية"، ضحية لابتزاز الطغمة العثمانية المستبدة الفاسدة، وللضغوط المتبادلة والمساومات فيما بين "رجل اوروبا المريض" والدول الاوروبية الكبرى. وبالرغم من كل الظلم الذي كان واقعا بالجماعات الاتنية والشعوب الغيرية في السلطنة، لم يكن من مصلحة أي من الطرفين، التركي والغربي، ان تصل الامور حينذاك الى حد "الحل النهائي"، أي التصفية الجسدية لتلك الجماعات والشعوب ـ الرهائن.
وتعود القضية الارمنية الى جذور تاريخية، تتمثل بدءا في أن الارض التركية الحالية في آسيا الصغرى، كانت في الاساس ارض الدولة الارمنية، التي اجتاحتها الجحافل الطورانية الآتية من آسيا الوسطى، في أواخر القرن الحادي عشر.
ولم يكن الاتراك في بداية توسعهم مسلمين. ولكن زعامتهم العشائرية، الاقطاعية العسكرية، عمدت بعد اجتياج تلك المناطق الى تلبّس الاسلام، بدوافع مصلحية بحت، وذلك بعد ان قويت شوكة الدولة الاسلامية العربية، وأصبح الانتماء اليها وسيلة لتحقيق المطامع، داخل هذه الدولة ذاتها وخارجها. وتاريخيا، دخل الاقطاع العسكري التركي "في خدمة" الدولة الاسلامية، لحماية بعض تخومها مقابل عائدين: الاول ـ الجعالات التي كان يخصل عليها من الخلافة المترهلة. والثاني ـ امكانية شن غارات السلب والنهب والتوسع، على حساب الجماهير المسيحية المظلومة المتاخمة، باسم "الجهاد!" الكاذب. ومن هذا الباب، تدرج الاقطاع العسكري التركي لاحتلال مواقع سيادية في دولة الخلافة، ولينتقل من "خدمة" الى "استخدام" "الاسلام!" والدولة الاسلامية. وأخيرا، خدم "الاسلام السلطوي" الطغمة الاستبدادية العثمانية، في سياسة الفتوحات الاستعمارية ضد شعوب آسيا الصغرى والبلقان واليونان وما وراء القوقاس وروسيا، أولا، ومن ثم واخيرا في "فتح" وإخضاع البلاد الاسلامية العربية والكردية ذاتها.
وطوال الحقبة التي تسلط فيها العثمانيون على شعوب امبراطوريتهم الاقطاعية العسكرية، لم تكفّ الثورات والانتفاضات الشعبية والوطنية ضدهم، من البلقان الى المشرق والمغرب العربيين، مرورا بأرمينيا وكردستان.
وفي ظروف النهضة القومية والظاهرات والحركات التنويرية والثورية التي ميزت تاريخ اوروبا في القرن التاسع عشر، والتي وجدت انعكاسها المحتم على الشعوب المغلوب على امرها في الامبراطورية العثمانية، تفاقم الضغط بشكل لا سابق له ضد هذه الشعوب، ومنها الشعب الارمني، لقمعها وابقائها في "بيت الطاعة".
وقد تميز الشعب الارمني تاريخيا بمستوى متقدم من الوعي والديناميكية، اجتماعيا وثقافيا وسياسيا، وهذا ما جعله عرضة لضغط خاص من قبل السلطة العثمانية.
وبعد ان تسلم السلطان عبدالحميد الثاني، الذي لقّب بالاحمر لدمويته، مقاليد الحكم في 1876 عمد في 1891، بالتعاون مع بعض الاغوات وزعماء العشائر الاكراد المرتبطين بـ "الباب العالي"، لتشكيل فرقة عسكرية كردية خاصة، للتنكيل والابادة، سميت على اسمه "فرسان الحميدية". وكانت هذه الفرقة السوداء تتكون من فرسان العشائر الكردية، وتخضع للقيادة العليا التركية، وللقيادة المباشرة للاغوات وشيوخ العشائر الاكراد. وهي كانت تعمل بنوع نت "الاستقلالية الذاتية" النسبية، بحيث تؤمن "مصالح" السلطنة وفي الوقت نفسه "مصالح" العشائر الرجعية الكردية المشبة بروح السلب والنهب والتوسع على حساب الجماهير المسيحية المجاورة، مستفيدة من غطاء الانتماء "الاسلامي!" السطحي والولاء الاعمى للسلطنة(واذا كان الشيء بالشيء يذكر، فإن مسلك القيادة العشائرية الكردية العراقية الحالية، السائرة في ركاب الاحتلال الاميركي لـ"مصلحة" الاكراد، يعود في الجوهر بجذوره الى مسلك اغوات الفرقة الحميدية ايام السلطنة العثمانية). وقد اضطلعت هذه الفرقة السيئة الصيت، بمهمة ارهاب وتطويع الشعبين الكردي والارمني، ومنع اتحادهما ضد السلطان. وهذه الفرقة هي التي تتحمل بالدرجة الاولى مسؤولية اول مجزرة واسعة النطاق ضد الارمن، التي وقعت في السنوات 94 ـ 1896، والتي ذهب ضحيتها حوالي 300 ألف انسان، وعدد مماثل من المشردين.
وفي الانقلاب الدستوري في 1908، ومن ثم خلع السلطان عبدالحميد في 1909، التقت جمعية "الاتحاد والترقي" الاصلاحية، التي تمخضت عنها حركة "تركيا الفتاة"، مع الحركات الاصلاحية والاستقلالية للشعوب والاتنيات الاخرى في السلطنة، ومنها الحركة الارمنية، في السعي الى الاصلاح والتجديد.
ولكن هدف كل من الطرفين كان يختلف جذريا عن هدف الآخر. فجماعة "تركيا الفتاة"، التي كانت تمثل البرجوازية القومية التركية الصاعدة، لم تكن تفكر للحظة في التخلي عن التسلط التركي، وتحرير الشعوب والاتنيات الغيرية. بل كانت تضع نصب عينيها:
1 ـ التتريك "الطبيعي" لتلك الشعوب والاتنيات، بأية وسيلة كانت.
2 ـ اذا تعذر ذلك، الاتجاه نحو تتريك الأرض، عن طريق تطبيق "الحل النهائي" على تلك الشعوب والاتنيات، أي تصفيتها الجسدية والتخلص منها كجماعة بشرية، والاستيلاء على اراضيها التاريخية. وهو "المبدأ" ذاته الذي طبقته النازية لاحقا على اليهود والشعوب السلافية وغيرها، كما طبقته الصهيونية في فلسطين.
وكان "الاتراك الفتيان"، جنبا الى جنب الحركات والفعاليات الممثلة للشعوب والاقليات المضطهدة في الامبراطورية التركية، على علاقة متزايدة بالدول الاوروبية الرئيسية. ولكن في حين كانت تلك الحركات تسعى لكسب التأييد لقضاياها التحررية العادلة، كان "الاتراك الفتيان" يستغلون تلك العلاقة، متربصين الفرص المؤاتية لتطبيق خططهم العنصرية، متسترين تحت شعارات "الاصلاح" و"التحديث".
وبطبيعة الحال ان الدول الاستعمارية الغربية كان لها حساباتها الخاصة، التي كشفت عن وجهها الحقيقي البشع بالتدريج.
وقد استغلت جماعة "تركيا الفتاة" ظروف الحرب العالمية الاولى، للشروع في تطبيق خططها العنصرية، وتوجيه ضربة قاصمة للحركات الاصلاحية والاستقلالية غير التركية، بشكل عام، ولتطبيق "الحل النهائي" ضد الشعب الارمني بشكل خاص. وكان ذلك يتم "تحت نظر"، وبرضى ودعم الدول الاستعمارية الاوروبية والغربية. فهذه الدول، ومنذ الحروب الصليبية، وخاصة منذ الحقبة النابولينوينة، كانت تطمح لاستعمار الشرق، الذي يمر عبر وراثة "رجل اوروبا المريض". ولتحقيق هذه الغاية، كانت ترى ان الشعب الارمني، المسيحي، وغيره من الشعوب المسيحية الشرقية، تشكل "عقبة موضوعية" امام مشاريع الاستعمار "المسيحي" الغربي للشرق. وازاحة هذه العقبة، على ايدي العثمانيين وغيرهم من "المسلمين!" المزيفين كان يحقق هدفا رئيسيا للدول الاستعمارية الغربية، اولا، في انه يقطع الطريق على التعاطف بين الشعوب الاوروبية المسيحية وبين الشعوب المسيحية الشرقية، فيما لو تم الاستعمار المباشر للاخيرة من قبل الدول الغربية الاستعمارية، وثانيا، في ان الدول الغربية الاستعمارية كانت تشجع الاضطهاد "الاسلامي!" للمسيحيين الشرقيين، كي تستغله من اجل تبرير استعمار الشرق بحجة حماية المسيحيين.
XXX
في 1908، حدث "الانقلاب الدستوري"، الذي أعاد الدستور الذي سبق وعلقه عبدالحميد منذ 1876. وقادت الانقلاب "جمعية الاتحاد والترقي"، التي انبثقت عنها فيما بعد جمعية "الاتراك الفتيان"، ودعمته وأسهمت فيه جميع الهيئات والحركات الثقافية والاصلاحية الخاصة بالشعوب والجماعات غير التركية في السلطنة، بما في ذلك العرب والارمن والاكراد، الذين استبشروا بهذا التغيير، واعتقدوا أنه سيخفف النير عن كاهلهم، ويفسح المجال للحصول، كحد اقصى، على الاستقلال، او، كحد ادنى، على بعض حقوقهم القومية، على اساس اللامركزية، ضمن اطار الامبراطورية العثمانية. ولكن "الاتراك الفتيان"، حينما استتب لهم الامر بشكل خاص بعد خلع عبدالحميد في 1909، كشفوا تماما عن وجههم العنصري، الذي فاق في بشاعته استبداد عبدالحميد.
فالحكم السلطاني كان يكتفي بفرض سلطته على "الرعيّات" المختلفة، وقمع الحركات الاصلاحية والتحررية، انطلاقا من آلية تسلط سياسي ـ ايديولوجي يتستر بالاسلام. ولم تكن الطغمة الحاكمة العثمانية تمتلك اي ميزة ثقافية او حضارية تتفوق فيها على الشعوب غير التركية وغير الاسلامية التي تتحكم بها. ولهذا لم تكن تفكر بطرح موضوعة "تتريك" تلك الشعوب. فكانت "الأسلمة" ـ لا التتريك المباشر ـ احدى وسائل التسلط على هذه "الرعيّات" غير التركية وغير الاسلامية. ولكن السلطنة لم تكن قادرة في أي وقت على السير بهذا الاسلوب الاكراهي حتى نهايته، لأن ذلك يهدد الاساس الايديولوجي ذاته الذي كانت تقوم عليه السلطة "الاسلامية!"؛ ذلك أن الاسلام يمنع اساسا الاكراه في الدين. وكان هذا الاسلوب يجد معارضة واسعة من المسلمين انفسهم، وبالاخص من ابناء الشعوب المستعبدة غير التركية. وهكذا، تحت السقف السياسي ـ الايديولوجي "الاسلامي!" للتسلط العثماني، بقيت مختلف "الرعيّات"، وفي ظل حالة الخضوع والإذعان للسلطان، تمتلك حدا "شرعيا" معينا من الاعتراف الرسمي بها، ومن "الاستقلال" النسبي دينيا ولغويا وثقافيا، وحتى كإدارة محلية، وذلك من ضمن نظام الملل العثماني، والسقف المنخفض ذاته للامركزية الادارية للحكم السائد حينذاك.
ومن جهة ثانية، ونظرا لحاجتها الى العلاقات مع الدول العظمى، التي كان بينها نوع من التوافق (الذي استمر حتى الحرب العالمية الاولى) على المحافظة على حياة "الرجل المريض"، فقد تعاملت الامبراطورية العثمانية مع وجود الجماعات الدينية والقومية المغايرة ضمنها، وهو ما عرف بـ "المسألة الشرقية"، تعاملا "رعويا"، كمدخل ضروري لجعلها مادة دائمة للمساومة، والابتزاز المالي والسياسي، فيما بينها وبين الدول العظمى، وفيما بين الدول العظمى ذاتها. فكانت هذه الجماعات والشعوب بالتالي، اشبه ما يكون برهائن جماعية لا يمكن، وليس من المصلحة، "التفريط" بها والقضاء التام عليها، وتعيش ضمن معادلة متناقضة من الظلم والاستبداد، من جهة، ومن مصلحة السلطنة والدول الاستعمارية في المحافظة عليها كورقة ضغط ومساومة دولية، من جهة ثانية. ويصح ذلك بالاخص على رعايا السلطنة المسيحيين، ومنهم الارمن. ولذلك فان السلطنة ـ ومع استطاعتها ذلك نظريا، وفي حسابات موازين القوى الداخلية ـ لم تجد من مصلحتها في أي وقت أن توصل الامور الى حدود "الحل النهائي" لـ "المسألة الشرقية"، عن طريق "أسلمة" جميع الرعايا الغيريين بالقوة، او تذبيحهم وطردهم النهائي.
أما جماعة "تركيا الفتاة"، الذين كانوا يمثلون البرجوازية القومية التركية الصاعدة، فقد تعاملوا مع "المسألة الشرقية" من زاوية مختلفة تماما، هي الزاوية العنصرية القومية "العلمانية!"، التي تهدف الى تذويب مختلف الجماعات القومية والدينية الاخرى في "القومية التركية". ذلك ان هذه الجماعة، في وعيها لضرورة الحؤول دون انهيار السلطنة العثمانية، والسعي الى ذلك عن طريق "علمنتها" و"تحديثها"، مع الاحتفاظ بالموقع التركي المتسلط فيها، كانت على صلة وثيقة بالاوساط الصهيونية والماسونية خاصة، وبالدول الاستعمارية الغربية عامة، وقامت بانقلابها في 1908، بالتعاون الوثيق مع تلك الدول.
وفي الوقت ذاته، فإن الحركات الاصلاحية والاستقلالية التابعة للجماعات القومية والدينية الاخرى في السلطنة، ومنها الارمنية، كانت هي الاخرى على اتصال وثيق بالدول الاوروبية، وفي الاغلب بشكل مستقل عن "الاتراك الفتيان". وكانت تلك الحركات غير التركية تعمل للوصول الى اهدافها، بالاستناد الى تلك الدول. ويصح ذلك على العرب والاكراد وغيرهم، الذين كانوا ينظرون الى اوروبا كـ"صديق" وكمثال سياسي ـ اجتماعي ـ ثقافي يحتذى. إلا أنه يصح بالدرجة الاولى على المسيحيين "العثمانيين" عموما، بفعل الرابط الديني مع اوروبا، وعلى الأرمن خصوصا، نظرا لعدم وجود أي رابط قومي لهم مع المسلمين، كما هو الحال بالنسبة للمسيحيين العرب.
وفي حين التقت حركة "تركيا الفتاة" مع الحركات الاصلاحية للشعوب "العثمانية" الاخرى، على السعي للانقلاب على السلطان و"تجديد" الامبراطورية، فقد اختلفت معها اختلافا جذريا حول الهدف النهائي من هذا الانقلاب و"التجديد".
فالحركات غير التركية، بما فيها العرب والاكراد المسلمون، كانت تطمح الى الحد من التسلط التركي ـ الاسلامي، فيما يخص المسيحيين، والتركي وحسب، فيما يخص المسلمين غير الاتراك.
أما الحركة القومية التركية المتمثلة في جماعة "تركيا الفتاة"، والتي كانت جزءا لا يتجزأ من آلية التسلط التركي ـ الاسلامي، فلم يكن هدفها في أي وقت القضاء على هذا التسلط، ورفع النير عن الجماعات القومية والدينية الاخرى، وإقامة علاقات متساوية معها ضمن إطار اتحادي، كما كان يوحي اسم جمعية "الاتحاد والترقي". ذلك انها بذلك كانت ستخسر وضعها القومي ـ الطبقي المتميز، ضمن البنية الامبراطورية القائمة. وهدف الحركة القومية التركية كان بالضبط المحافظة على هذا الوضع التسلطي الامتيازي، ومنع فقدانه بموت "الرجل المريض"، الذي كان يلوح في الافق بوضوح. وقد وجدت جماعة "تركيا الفتاة" ان الطريق الى ذلك يمر فقط عبر "أوربة" التسلط "العثماني" التقليدي القديم، بالمعنيين: أي بـ"تحديث" و"تجديد" و"علمنة" الامبراطورية، من جهة، وبربطها بالدول الاستعمارية بشكل مباشر، يقطع الطريق على الحركات القومية والدينية المغايرة، من جهة ثانية.
وهكذا عملت جماعة "تركيا الفتاة" على تغيير المرتكز الايديولوجي ـ السياسي للامبراطورية، المتمثل في الرعوية العثمانية "الاسلامية!"، واستبداله بالمرتكز القومي ـ السياسي، المتمثل في التتريك، القائم على أسلوبين:
الاول ـ الدمج القومي للشعوب والاقوام الاخرى "ثقافيا (تحديدا: لغويا) واجتماعيا".
والثاني ـ القضاء عليها وطردها لدمج اراضيها حينما لا يمكن احتواؤها.
فكان من الطبيعي للعنصريين الاتراك، بعد ان استتبت لهم السلطة بالتعاون مع الحركات غير الاسلامية وغير التركية في الامبراطورية، ان يديروا ظهرهم لهذه الحركات ويوجهوا سلاحهم ضد الشعوب والجماعات التي تمثلها.
وكان اكراد تركيا نموذجا لتطبيق الاسلوب الاول للدمج، الذين اخذت الاتاتوريكية تسميهم "اتراك الجبال".
وكان الارمن نموذجا لتطبيق الاسلوب الثاني، الذين اتهمتهم جماعة "تركيا الفتاة" والاتاتوركية بـ"الخيانة" (خيانة السلطنة ذاتها، التي قامت سلطة "تركيا الفتاة" والاتاتوركية على الانقلاب عليها).
وقد لقيت ممارسات العنصريين الاتراك الصمت والتأييد الضمني من قبل الدول الغربية، التي كانت هي نفسها تعتمد اسلوب الدمج القومي للاراضي والشعوب في مستعمراتها، والتي وجدت في العنصريين البورجوازيين، الاتراك الجدد، شريكا وحليفا قويا يعتمد عليه في المستقبل. وهذا ما يصح بشكل نموذجي على الصهيونية منذ نشأتها الى اليوم.
XXX
وقد زاد الامر سوءا، بالنسبة للشعوب والجماعات المظلومة في الامبراطورية، بسبب الظروف التي أوجدها الانقسام الغربي الفاجع في الحرب العالمية الاولى. فعشية الحرب، كانت جماعة "تركيا الفتاة" على علاقة "جيدة" بكل دول اوروبا الغربية، ولم يكن من مبرر، من هذه الزاوية، لأخذها جانب الالمان. ومع ذلك فقد اخذت في الحرب جانب المحور الالماني. ويجد ذلك تفسيره في:
1 ـ "التقاليد التاريخية" للشوفينية التركية، العثمانية وما قبلها وما بعدها، في الوقوف ضد عدوها التقليدي: روسيا والشعوب السلافية والمسيحية الشرقية.
2 ـ استعمار مصر والسودان ودول المغرب العربي من قبل الدول الاوروبية الاخرى، او "الحلفاء"، مع الاحتفاظ بسيادة شكلية للسلطنة العثمانية، مع ما كان يتولد عن ذلك من تناقض بين "الحلفاء" وبين السلطنة التي كانت تجد نفسها موضوعيا، ومضطرة، تقف في صف "ولاياتها!" الاسلامية الواقعة تحت الحكم الاستعماري لاولئك "الحلفاء".
وبعكس ذلك تماما، فقد وقفت الحركات الاصلاحية والتحررية غير التركية في السلطنة، الى جانب الحلف الآخر، الذي وقفت ضده تركيا، كنتيجة منطقية لمعاداة التسلط التركي، الذي سار مع الالمان، والرغبة في استغلال ظروف الحرب للتخلص نهائيا من هذا التسلط.
وكانت هذه المفارقة اكثر حدة بالنسبة للشعب الارمني بصورة خاصة، كنتيجة منطقية لوجود قطاع ارمني "روسي"، وللجوار المباشر والتعاطف التاريخي بين الشعبين المسيحيين الشرقيين: الروسي والارمني.
وهكذا اصبح من المحتم ان تقع الواقعة بين "حلفاء" الامس ضد السلطان، اي جماعة "تركيا الفتاة"، من جهة، والحركات الاصلاحية والاستقلالية للشعوب غير التركية في السلطنة. وكان من "المفهوم" ان تقوم الدول الاستعمارية الغربية، اولا دول الحلف المعادي لالمانيا، ومن ثم جميع الدول الغربية، بغض النظر عن جرائم جماعة "تركيا الفتاة"، حليفة الدول الاستعامرية ضد "السلطنة" من جهة، وضد الشعوب المظلومة في السلطنة، وخاصة المسيحيين، من جهة ثانية.
وقد اتخذت جماعة "تركيا الفتاة" مما سمته "خيانة!" القوميين العرب والاكراد والارمن ذريعة لتنفيذ مخططاتها العنصرية، ولشن حملة قمع وحشية لم يسبق لها مثيل، ليس فقط عملا بـ "التقاليد" العثمانية العريقة في القمع، بل كذلك لأن جماعة "تركيا الفتاة" اصبحت في سباق مع الزمن، حيث اعطتها ظروف الحرب فرصة "تاريخية" ذهبية، لتطبيق "الحل النهائي" وفرض التتريك بأسرع ما يكون، وذلك في "سبق تاريخي" على العنصرية النازية والصهيونية والديموفاشية الاميركانية. فعلقت المشانق، وطبقت العقوبات الجماعية والمجاعات والمذابح واسعة النطاق، التي ينطبق عليها كلها مفهوم ابادة الجنس. وفي هذا السياق كانت عملية "تطهير" الارمن، التي تعتبر من اكبر لطخات العار في التاريخ البشري الحديث.
XXX
ومن "سوء حظ" ـ اذا كان يصح هذا التعبير في التحليل التاريخي ـ الشعب الارمني، أنه كان يقع في الوسط بين تركيا وروسيا، وأن قسما من ارمينيا كانت تحت السلطة الروسية، وتحول الى قاعدة للنضال ضد التسلط التركي. ولما لم يكن لجماعة "تركيا الفتاة" أي أمل باخضاع الشعب الارمني المسيحي، وباحتوائه سكانيا، نظرا لمستواه الثقافي والسياسي الرفيع ولعنفوانه القومي وتمسكه الديني العريق، أصبح من المحتم و"الضروري" التخلص منه كشعب، والاستيلاء على أرضه التاريخية، وضمها للدولة التركية "المجدَّدة". وفي رسالة بعث بها وزير الداخلية حينذاك، طلعت باشا، الى والي حلب، مؤرخة في 16 ايلول 1915، يقول: "كنتم قد أعلمتم مسبقا، أنه حسب اوامر الجمعية (تركيا الفتاة)، فإن الحكومة قررت ان تقضي كليا على الارمن العائشين في تركيا. ومن يعارض هذا الامر وهذا القرار لا يمكن له ان يبقى في الاطار الرسمي للادارة الحكومية. ينبغي ان يوضع حد نهائي لوجودهم، بدون تمييز حيال النساء والاطفال والعجزة، وبصرف النظر عن وسائل القضاء عليهم، مهما كانت مأساوية". وبعد ان بدأت المجازر، يقول طلعت باشا متباهيا: "لقد نجحت في غضون ثلاثة اشهر، بالقيام بما لم يستطع عبدالحميد القيام به طوال 30 عاما".
وفي الوقت نفسه كان جمال باشا السفاح، احد أبرز قادة حركة "تركيا الفتاة"، يشن حملة قمع دموية واسعة ضد الحركة الاصلاحية والاستقلالية العربية، عن طريق التجنيد الاجباري (سفربرلك) والنفي والاعتقالات ونصب المشانق. ولما لم يكن من السهل عليه تطبيق "الحل النهائي" على كل العرب، فقد شرع في تطبيقه بواسطة التجويع ضد جبل لبنان، مستهدفا القضاء على المسيحيين فيه، حيث هلك ثلث السكان في المجاعة في فترة وجيزة. وحينما روجع جمال السفاح من قبل بعض الوجهاء المسيحيين (من العائلة البورجوازية آل سرسق، حسبما كان يتردد في بعض الاوساط الشعبية المسيحية)، الذين كانوا دائما على صلة بالموظفين العثمانيين الكبار، متشفعين لابناء بلدهم ودينهم، اجابهم بكل ازدراء وحيوانية: "هل أكلت الأم طفلها الميت؟ اذا لم يكن كذلك، فما حدث حتى الآن ليس شيئا!". ولولا الثورة العربية الكبرى بقيادة شريف مكة، التي ادت الى انهيار الحكم التركي وخروج المنطقة العربية نهائيا من هيكلية الامبراطورية، ومهدت لدخول الحلفاء الى فلسطين ولبنان في 1917، لكن مصير المسيحيين اللبنانيين والعرب المشارقة جميعا، أسوأ بكثير من مصير أرمن تركيا، الذين شاءت المساومات الدولية ان تبقى مناطقهم ضمن اطار الدولة التركية، ولكن كان يوجد مكان يفر اليه بقية الاحياء منهم، اما المسيحيون اللبنانيون والعرب فلم يكن لهم من مفر، فيما لو استمر النير التركي. وهذا ما ينساه اليوم بعض المسيحيين اللبنانيين، الذين ـ تحت حجة ظلم "الاسلام!" (الذي يخلطون عن غباء او رياء بينه وبين "الاسلام!" العثمنلي) ـ ساروا في ركاب اسرائيل وحليفتها تركيا، التي كادت تقضي على جدودهم، وضد العروبة التي لولاها لم يكن ليكون لهم أنفسهم من وجود الان بين الاحياء.
وفي المرحلة المضطربة التي رافقت الحرب العالمية الاولى، التي كانت فيها تركيا في عداد المهزومين، خسرت الاخيرة نهائيا "مناطقها" العربية، بفضل الارادة التاريخية للعرب في الاستقلال، التي تجسدت في الثورة العربية الكبرى بقيادة الشريف حسين، والتواطؤ الاوروبي لازاحة العثمانيين والحلول محلهم وتقسيم الشرق وفرض استعمار مباشر على الارض العربية الغنية بمكامن النفط المكتشف حديثا.
اما المناطق العثمانية غير التركية الاخرى، الكردية، والارمنية التي شملتها المجازر، قبل او بعد، فقد خضعت للمساومات والصفقات الدولية، تبعا للتطورات التي رافقت مرحلة الحرب واعقبتها.
XXX
وقد شمل التقسيم الاستعماري بشكل مباشر جميع "الممتلكات" السابقة للامبراطورية العثمانية. وشاركت في التقسيم بالدرجة الاولى انجلترا وفرنسا، ومن ثم روسيا القيصرية فيما يخص المناطق المحاذية لها، وهو لم يكن ليتم بدون موافقة اميركا. وهو ما تمخضت عنه "اتفاقية سايكس ـ بيكو"، التي لا تزال "خرائطها" واحكامها تحكم حتى اليوم "شرعية" حدود ووجود جميع دول المنطقة. ومن ضمن هذه الصفقات على الشعوب واراضيها، برز حينذاك لدى الدول المنتصرة اتجاه غالب نحو انشاء دولتين جديدتين هما:
الاولى ـ دولة ارمنية موحدة تشمل القطاع الارمني "الروسي" وما يتم التقرير بشأنه من القطاع الارمني "التركي".
والثانية ـ دولة كردية الى الجنوب منها، تشمل كردستان "العثمانية" السابقة، أي باستثناء كردستان "الايرانية".
وقد تكرس مشروع هاتين الدولتين في "اتفاقية سيفر" الدولية عام 1920.
وكان لهذا التقسيم (الذي يتضمن نزع الاراضي الكردية والارمنية من تركيا) الاهداف الستراتيجية التالية، التي خضعت للتغيير خلال التطورات اللاحقة:
1 ـ معاقبة تركيا لسيرها مع الالمان، وحصرها ضمن حدودها القومية ما امكن، وتحجيم دورها الاقليمي والدولي.
2 ـ استمالة الطبقة البرجوازية الصاعدة والانتليجنتسيا الارمنية، بمنحها "دولة ارمنية موحدة!" خاصة بها.
3 ـ استمالة الطبقة الاقطاعية العشائرية الكردية، والانتليجنتسيا الانتهازية الملتفة حولها، بمنحها "دولة كردية!" خاصة بها.
4 ـ إرضاء روسيا القيصرية، بجعل الدولتين المفترضتين، الارمنية والكردية، منطقة نفوذ روسية، مقابل جعل المنطقة العربية، بما فيها الخليج وشرقي السويس، منطقة نفوذ غربية، بريطانية ـ فرنسية خاصة وغربية عامة.
5 ـ ان تضطلع الدولتان المفترضتان، الارمنية والكردية، بدور حاجز مضاعف يفصل، من الشرق الى الغرب، بين ايران وتركيا القومية، ويفصل ـ خصوصا ـ من الشمال الى الجنوب، بين روسيا والمنطقة العربية، حيث ان اخشى ما كانت ولا تزال تخشاه الدول الغربية هو وصول روسيا الى البحار الدافئة، وخصوصا تلاقي الروس والعرب.
ولكن التطورات اللاحقة دفعت الدول الاستعمارية الى تغيير خططها، ويمكن تلخيص هذه التطورات في ثلاثة:
1 ـ انتصار الثورة الاشتراكية في روسيا سنة 1917.
2 ـ ظهور توجه استقلالي قوي لدى العرب، تمثل في رفض دخول الجيش الفرنسي الى سوريا واقامة الحكومة العربية فيها واضطرار الفرنسيين لفتحها عنوة، والثورة المصرية سنة 1919، وثورة العشرين ضد الانجليز في العراق، الخ.
3 ـ فشل القيادات الارمنية والكردية في كسب ثقة الدول الاستعمارية بقدرتها على الامساك بزمام الامور بما يتلاءم مع مصالح تلك الدول.
وهكذا سقطت على الارض امكانية جعل الدولتين المفترضتين الارمنية والكردية منطقة نفوذ روسية، وأصبح الهدف جعلهما منطقة نفوذ للدول الحليفة ذاتها، كي تعزل بين روسيا الشيوعية، التي اخذ وجودها يهدد النظام الرأسمالي والاستعماري العالمي، وبين المنطقة العربية المتوثبة وغير المأمونة الجانب، لما لهذه المنطقة من عنفوان حضاري تاريخي ومن تقاليد عريقة في مواجهة الفتوحات الاستعمارية منذ الصليبيين حتى احفادهم.
ومرة اخرى، فإن حساب الحقل لم يطابق حساب البيدر. ذلك ان التطورات العامة التي حكمت مسار حركة القوى السياسية الفاعلة على الساحتين الارمنية والكردية، "خيبت آمال" الدول الاستعمارية في ان تستطيع تلك القوى القيام بدور ركيزة ومنفذ لسياستها في المنطقة. فالاكراد ساروا على المكشوف مع العرب، واظهروا تعاطفا مع روسيا "بشيوعيتها". اما الحركات السياسية الارمنية فكانت قد انشقت على نفسها بشكل مأساوي، بين تيار اشتراكي مرتبط بروسيا الشيوعية، كان ضعيفا في البداية، وتيار "قومي" موال للدول الغربية. وقد سيطر التيار الاخير على الحكم في ارمينيا الروسية سنة 1917، مستفيدا من سقوط القيصرية وضعف السلطة الروسية الجديدة. واعلن هذا التيار قيام دولة ارمنية تشمل القطاع الروسي وجزءا من القطاع الارمني التركي. الا ان التيار "القومي" الارمني لم يكن مؤهلا للسير بمشروع الدولة الارمنية حسبما تقتضيه المصالح الغربية التي وضع نفسه في خدمتها، بل كان استيلاؤه على السلطة بمثابة فاجعة على الشعب الارمني لعدة اسباب اهمها:
1 ـ شق صفوف الشعب الارمني وزرع العداء والاقتتال بين ابنائه، في وقت كانت فيه حملات الابادة والتطهير التركية لا تزال قائمة ضده.
2 ـ خسارة التيار "القومي" للسلطة، على يد الشيوعيين الارمن في المنطقة الروسية.
3 ـ خسارة تأييد الشعب الروسي، الذي كان قد قلب النظام القيصري لتوه. ومن ثم فإن السلطة السوفياتية الناشئة، تحت تأثير ضعفها، وردا على وقوف التيار "القومي" الارمني بالسلاح جنبا الى جنب حرب التدخل الدولي ضد روسيا، اضطرت الى مهادنة جماعة "تركيا الفتاة"، على اساس عدم التدخل في "الشؤون الداخلية" لكل من البلدين. وبالتالي اقتصر اهتمام روسيا السوفياتية، كدولة، على المنطقة الارمنية الروسية السابقة. وتركت المنطقة الارمنية "التركية" للصراع غير المتكافئ بين "القوميين" الارمن، الذين فقدوا الدعم الروسي ولم يحصلوا على الدعم الغربي المطلوب، وبين الاتاتوركيين الذين حصلوا على الدعم الغربي الكامل. ومع التأكيد التام على انحراف التيار "القومي" الارمني، الذي وصلت به الامور لاحقا الى حد السير في ركاب النازية، فإنه من الصعب الدفاع التام عن موقف الدولة السوفياتية من القضية الارمنية، لا سيما لجهة مهادنة الاتاتوركية، التي اثبت التاريخ خدمتها التامة للمخططات الاستعمارية الدولية، مستغلة الشعارات التضليلية حول "الاصلاح" و"التحديث" و"العلمنة".
حيال هذه التطورات، لم يعد امام الدول الغربية التي تبحث عن مصالحها على حساب جميع الشعوب، الا ان تقدم القضية الارمنية ـ ومثلها القضية الكردية واليونانية ـ "هدية إرضاء" و"عربون مصالحة" مع العنصرية التركية المتوحشة المنفلتة من عقالها، التي سبق لها ان وقفت مع المانيا في الحرب العالمية. ذلك ان الدول الغربية وجدت:
اولا ـ ان الدولتين المفترضتين، الارمنية والكردية، لن تستطيعا الاضطلاع بدور الحاجز بين روسيا الشيوعية والمنطقة العربية، بل على العكس ستتحولان الى حليف وجسر تواصل بين هذين المحورين، مما يهدد بخلق جبهة عالمية، معادية للهيمنة الاستعمارية الغربية، تمتد من موسكو الى مكة.
وثانيا ـ ان العنصرية التركية، الخارجة من الهزيمة مع المانيا، اثبتت بحساب موازين القوى على الارض، دهاءها السياسي وتفوقها العسكري حيال القوى القومية الارمنية والكردية معا. وبالتالي بقيت هي وحدها على الساحة، المؤهلة لسد "الثغرة" من جديد بين ايران وتركيا، وتشكيل الحاجز المطلوب بين الروس والعرب، على حساب الشعبين الارمني والكردي.
وهذا ما جعل الدول الغربية "الدمقراطية"، من لندن الى واشنطن، تدوس بنفسها على مبادىء الرئيس الاميركي ولسون التي اعلنها في نهاية الحرب العالمية الاولى، حول حقوق الانسان والامم، وتمنح دعمها الكلي للعنصريين الاتراك، اعدائها في ساحات القتال بالامس، ضاربة عرض الحائط بمصير "حلفائها" الارمن واليونان والعرب والاكراد. وفي النتيجة طوت اتفاقية لوزان عام 1924، صفحة الدولتين الارمنية والكردية حسبما كانت قد نصت عليه اتفاقية سيفر عام 1920. وتم "تصحيح" اتفاقية "سايكس ـ بيكو" بعد خروج روسيا السوفياتية منها وعليها. ونالت الصهيونية العالمية حصتها في هذه الصفقة الاستعمارية المركبة، عن طريق "وعد بلفور" بإنشاء "الوطن القومي اليهودي" على حساب الشعب الفلسطيني. ومنذ ذلك الحين والشعب الكردي في تركيا هو عرضة لابشع اشكال القمع والدمج القسري، والشعب العربي في فلسطين هو عرضة لابشع اشكال التطهير العرقي. الا ان الشعب الارمني دفع وجوده كله في المنطقة التركية ثمنا لهذه الصفقة بين الدول الاستعمارية الغربية والعنصرية التركية، التي هي من اكبر صفقات العار في التاريخ الانساني الحديث، ولا تضاهيها سوى الصفقة الغربية ـ الصهيونية ضد الشعب الفلسطيني والعربي. وقد اسدلت الدول الغربية ستارا كثيفا على المجازر الارمنية، ومنعت الشعب الارمني في الشتات من طرح قضيته القومية والنضال لاجل استعادة اراضيه التاريخية.
وخلال هذا المسار المأساوي، قام "القوميون" الارمن بعمليات انتقامية بطولية كثيرة ضد العنصريين الاتراك. واستطاع شبابهم تصفية "رؤوس الشر" الكبيرة الثلاثة انور باشا وطلعت باشا وجمال باشا. الا ان هذا لم يستطع ان يغير شيئا رئيسيا في مجرى الامور.
وفي نهاية المطاف لم يبق للارمن من وطن سوى ارمينيا الروسية السابقة التي، بالرغم من كل المآخذ على الشيوعيين الروس والارمن، فقد حافظوا عليها، وهي الآن جمهورية مستقلة يعيش فيها حوالي مليونين ونصف المليون نسمة، في حين يعيش ثلاثة ارباع الارمن في الشتات، دون ان تعيرهم "الدمقراطيات" الغربية أي اهتمام خاص، الا من باب الاحتواء والتذويب والعمل الدائم لاستخدام التيار "القومي" الارمني كأداة ضد الشيوعية وضد الحركات التحررية والتقدمية لشعوب الشرق.
XXX
وعشية الحرب العالمية الثانية ادرك "القوميون" الارمن، بشكل نصفي وبعد فوات الاوان، خطأهم في الاعتماد الساذج على الدول "الدمقراطية" الغربية. إلا أنهم ـ كرد فعل اعمى على هذا الخطأ، وتحت تأثير الحقد على الشيوعيين الارمن الذين انتزعوا منهم السلطة سنة 1920 ـ عمدوا الى "اصلاح" خطأهم التاريخي بخطأ افدح منه بكثير، وهو السير في ركاب ألمانيا النازية والقتال معها في الحرب العالمية الثانية، بما في ذلك ضد ارمينيا السوفياتية التي جاءها "القوميون" الارمن (حزب الطاشناق) "فاتحين" مع الالمان النازيين، وفظـّعوا في اخوتهم الارمن اكثر من الالمان انفسهم. وهذا ما زاد من مأساة الشعب الارمني، الذي لا يزال الى اليوم يدفع ثمن هذا الخطأ، لأن سير "القوميين"، الذين كانت لهم شعبية واسعة لدى أرمن الشتات، في ركاب النازية، لعب دورا اساسيا في اضعاف التعاطف العالمي مع الارمن، وساعد تركيا المتسترة بـ "الحياد" على طمس جرائمها العنصرية ضدهم، بحجة "نازية" "القوميين" الارمن.
وبعد هزيمة المانيا، عاد "القوميون" الارمن من جديد الى احضان الدول "الدمقراطية" الغربية، ولكن من موقع تاريخي ضعيف، جعلهم يتغاضون ـ وان على مضض ـ عن التلاحم الستراتيجي الغربي ـ التركي، ويتحولون هم انفسهم الى اداة من اداوت الحرب الباردة بين المعسكرين الشرقي والغربي، مستبدلين توجيه سلاحهم ضد تركيا، بتوجيهه ضد ارمينيا (السوفياتية حينذاك)، انطلاقا من عدائهم التاريخي للشيوعية، ومؤملين بذلك ان ينالوا بعض حظوة لدى الغرب، كمقدمة للحصول على بعض التنازلات ولو المعنوية وحسب، من قبل تركيا.
الا ان جردة الحساب العامة تبين:
اولا ـ ان "القوميين" اليمينيين الارمن راهنوا بكل شيء مسايرة للغرب، دون ان يربحوا منه شيئا للقضية الارمنية. ويبدو هذا حتى بعد انهيار الاتحاد السوفياتي، وزوال "الحكم الروسي" من ارمينيا السوفياتية، وكل "الخدمات" التي قدمها "القوميون" الارمن على هذا الصعيد.
ثانيا ـ ان الوطنيين الارمن التقدميين، وخصوصا الشيوعيين، قد استـُغرقوا بشكل شبه تام في الصراع مع "القوميين" اليمينيين الارمن، ودفاعا عن السلطة السوفياتية، والى درجة المهادنة مع تركيا الاتاتوركية و"عدم استفزازها" بتحريك القضية الارمنية، التي هي قضية قومية جامعة.
وبذلك فإن "القوميين" والوطنيين الارمن جميعا، اليمينيين واليساريين، التقوا موضوعيا، من خلال نزاعاتهم السياسية ـ الحزبية والايديولوجية، عند نقطة رئيسية هي: المهادنة الفعلية لمغتصبي ارمينيا، وجزاري الشعب الارمني، وهي المهادنة المستمرة منذ حوالى القرن.
وربما لا نجانب الواقع اذا قلنا ان جميع "القوميين" والوطنيين الارمن هم الآن امام ازمة ضمير تاريخية. الا انها أزمة لا يحلها البكاء واقامة التذكارات عن ارواح الموتى، بل الكفاح المرير ضد المستعمرين الشوفينيين الاتراك، وسادتهم الاستعماريين الغربيين، من اجل استعادة الارض والحقوق القومية المغتصبة للشعب الارمني المظلوم.
فهل آن الاوان لازالة العوائق الايديولوجية والسياسية ـ الحزبية امام القضية القومية ـ الانسانية الارمنية؟! وهل آن الاوان لكسر مؤامرة الصمت العالمية، الاميركية ـ الاوروبية ـ الصهيونية، عن القضية العادلة لهذا الشعب الحضاري العريق؟!
XXX
ان الشعب الارمني الأبي لا يزال حتى اليوم ضحية للمساومات الدولية المخجلة مع تركيا العنصرية. فمن جهة، اصبحت المسألة الارمنية مع تركيا تطرح، حتى من قبل "القوميين" الارمن انفسهم، كقضية انسانية من الماضي تتطلب فقط مجرد الاعتراف بالمجازر والاعتذار عنها، وليس كقضية قومية تتطلب اساسا، فوق كل ذلك، النضال من اجل التحرير والعودة. ومن جهة ثانية، تم إدخال تركيا في حلف الناتو، ويجري الآن تمهيد الطريق لإدخالها الى "الاتحاد الاوروبي"، فوق جماجم الملايين من ضحاياها السابقين والحاليين.
وبعد هذه النظرة على التاريخ المأساوي الطويل للقضية الارمنية نتساءل: هل ان الاهتمام الاميركي المتأخر بالمجازر الارمنية، هو "يقظة ضمير" فعلية، واعتراف صادق لوجه العدالة والحق والحقيقة فقط؟
من خلال تجربتنا العربية مع السياسة الاميركية الراهنة ذاتها، المبنية على الكذب والديماغوجية والكيل بمكيالين وقتل القتيل والسير في جنازته، لا نستطيع الا ان نشكك بمصداقية "اللفتة" الاميركية الجديدة. وفي اعتقادنا أنه، مثلما ان رائحة النفط هي البوصلة الاولى للتوجهات الاميركية في المنطقة العربية والشرقأوسطية، فهذه الرائحة ذاتها هي التي تدير الآن رأس الاميركي البشع صوب الارمن، الذين تناسى الغرب مأساتهم طوال قرن كامل. فـ"بفضل" الاحتياطات النفطية الهائلة لحوض بحر قزوين، الذي تفاقم الصراع حوله بعد انهيار الاتحاد السوفياتي، والذي يسيل له الآن لعاب الحيتان الرأسمالية الاميركية التي تطمع في وضع يدها ونهب هذه الثروة او القسم الاكبر منها، اصبحت منطقة القوقاس (التي تقع في الوسط تماما بين ايران وروسيا، وبحر قزوين وتركيا) محط اهتمام خاص من قبل اميركا، من اجل تمرير انابيب النفط من حوض قزوين الى اراضي حليفتها الستراتيجية تركيا، عبر المنطقة القوقاسية، بمعزل عن "العدوين": روسيا، من جهة، وايران، من جهة اخرى. ومعلوم ان ارمينيا تقع في وسط هذه المنطقة. وهذا هو "سر" الشفقة الاميركية المتأخرة على الشعب الارمني. وقد انزعجت السياسة الاميركية ايما انزعاج من التقارب الروسي الايراني الحالي، وما يرادفه من التقارب بين الجمهورية الارمنية (السوفياتية السابقة) وبين روسيا، كما وبينها وبين ايران، وذلك بالرغم من الصراع الارمني ـ الاذربيجاني حول ناغورني كاراباخ، الذي وقفت فيه ايران موقفا اقرب الى ارمينيا منه الى اذربيجان. وهذا التقارب بين الدول الثلاث، روسيا وايران وارمينيا، يلعب دورا مهما في عرقلة المشاريع الاميركية ـ التركية في القوقاس ومحيطه. وبطبيعة الحال، انه لمن الصعب جدا على تركيا "التنازل" عن "كرامتها" والسكوت على الاعتراف بمجازرها، تماما مثلما كان من الصعب عليها الاحتفاظ بالمناضل والزعيم القومي الكردي عبدالله اوجلان حيا الى الآن، لعدم افلات القضية الكردية نهائيا من تحت السيطرة. وليس من المستغرب ان تظهر تركيا "زعلها" وتثير زوبعة ما في الفنجان الاميركي. ولكن من المؤكد ان المايسترو الاميركي هو الذي يقود اوركسترا ما يسمى النظام العالمي الجديد ومصالحه الستراتيجية العامة. ولا بد للكومبارس، ولو بحجم تركيا الشوفينية و"تاريخها"، ان ترضخ للمايسترو من البداية الى النهاية. فبرميل النفط هو اغلى واهم من كل باشاوات تركيا السابقين وكل جنرالاتها و"اسلامييها المودرن" اللاحقين.
فهل يسمح الوطنيون الارمن بأن تغرق القضية القومية الارمنية العادلة في برميل النفط القزويني؟ وأن يكون "الاعتراف" المتأخر بالمجزرة الارمنية قداسا عن روح الاموات، ومقدمة لـ "الغفران" والصلح مع الجزارين الاتراك ببركة اسيادهم الاطلسيين؟
ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ
ـ* كاتب لبناني مستقل مقيم في بلغاريا



#جورج_حداد (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- بكركي محاورا تاريخيا
- المأزق الوجودي لاسرائيل!
- بعد تجربة الاحتلال الاسرائيلي والهيمنة السورية: القوى الوطني ...
- الأكراد شعبنا الثاني
- الصفقة الاميركية السورية الجديدة: اعادة انتاج -سايكس بيكو- ...
- الانقلاب الكياني في التركيبة اللبنانية
- من هم المرتدون الذين سيحاكمون لينين؟ كريم مروة واصحابه نموذج ...
- النظام الدولي المختل والدور التاريخي العتيد للمثلث الشرقي ال ...
- رد الى صديق كردي
- المحكمة الدولية ضرورة وطنية لبنانية وضمانة اولا لحزب الله
- المخاطر الحقيقية للوصاية على لبنان والمسؤولية الوطنية الاساس ...
- حزب الله: الهدف الاخير للخطة -الشيطانية- لتدمير لبنان
- ؛؛الوفاق الوطني؛؛ اللبناني ... الى أين؟؟
- ماذا يراد من لبنان الجديد في الشرق الاوسط الكبير الاميرك ...
- -الفأر الميت- للمعارضة السورية
- العالم العربي والاسلامي ودعوة ديميتروف لاقامة الجبهة الموحدة ...
- هل تنجح خطة فرض تركيا وصيا اميركيا على البلاد العربية انطلاق ...
- الحرب الباردة مستمرة بأشكال جديدة بين -الامبراطورية- الروسية ...
- حرب الافيون العالمية الاولى في القرن 21: محاولة السيطرة على ...
- هل يجري تحضير لبنان لحكم دكتاتوري -منقذ!-؟


المزيد.....




- سائق يلتقط مشهدًا مخيفًا لإعصار مدمر يتحرك بالقرب منه بأمريك ...
- شاب يبلغ من العمر 18 عامًا يحاول أن يصبح أصغر شخص يطير حول ا ...
- مصر.. أحمد موسى يكشف تفاصيل بمخطط اغتياله ومحاكمة متهمين.. و ...
- خبير يوضح سبب سحب الجيش الأوكراني دبابات أبرامز من خط المواج ...
- الجيش الإسرائيلي يقصف أهدافا لـ-حزب الله- في جنوب لبنان (فيد ...
- مسؤول قطري كبير يكشف كواليس مفاوضات حرب غزة والجهة التي تعطل ...
- حرب غزة| قصف مستمر على القطاع ومظاهرات في إسرائيل ضد حكومة ن ...
- كبح العطس: هل هو خطير حقا أم أنه مجرد قصة رعب من نسج الخيال؟ ...
- الرئيس يعد والحكومة تتهرب.. البرتغال ترفض دفع تعويضات العبود ...
- الجيش البريطاني يخطط للتسلح بصواريخ فرط صوتية محلية الصنع


المزيد.....

- الرغبة القومية ومطلب الأوليكارشية / نجم الدين فارس
- ايزيدية شنكال-سنجار / ممتاز حسين سليمان خلو
- في المسألة القومية: قراءة جديدة ورؤى نقدية / عبد الحسين شعبان
- موقف حزب العمال الشيوعى المصرى من قضية القومية العربية / سعيد العليمى
- كراس كوارث ومآسي أتباع الديانات والمذاهب الأخرى في العراق / كاظم حبيب
- التطبيع يسري في دمك / د. عادل سمارة
- كتاب كيف نفذ النظام الإسلاموي فصل جنوب السودان؟ / تاج السر عثمان
- كتاب الجذور التاريخية للتهميش في السودان / تاج السر عثمان
- تأثيل في تنمية الماركسية-اللينينية لمسائل القومية والوطنية و ... / المنصور جعفر
- محن وكوارث المكونات الدينية والمذهبية في ظل النظم الاستبدادي ... / كاظم حبيب


المزيد.....


الصفحة الرئيسية - القومية , المسالة القومية , حقوق الاقليات و حق تقرير المصير - جورج حداد - الارمن ضحية العنصرية التركية والتآمر الغربي على مسيحيي الشرق