أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - مواضيع وابحاث سياسية - جورج حداد - بكركي محاورا تاريخيا















المزيد.....


بكركي محاورا تاريخيا


جورج حداد

الحوار المتمدن-العدد: 1525 - 2006 / 4 / 19 - 11:08
المحور: مواضيع وابحاث سياسية
    


كلما اصدر مجلس المطارنة الموارنة في لبنان، بزعامة سيد بكركي، بطريرك انطاكيا وسائر المشرق مار نصرالله بطرس صفير، بيانا يتناول شؤون البلاد، تلقفته اجهزة الاعلام جميعا، ومختلف السياسين والقوى السياسية، باهتمام كبير، وأحيانا كانت تثار حول بعض البيانات ضجة كبرى، نذكر منها الضجة التي ثارت بعد صدور بيان بكركي في صيف سنة 2000، في اعقاب تحرير الجنوب والبقاع الغربي من الاحتلال الاسرائيلي، والذي طرح بشكل صريح وواضح مسألة "الوجود" السوري في لبنان، الذي فقد حينذاك كل مبرر له، حتى من وجهة نظر النظام السوري وحلفائه في لبنان، داخل السلطة وخارجها. وفي ذلك الحين، دعا الزعيم وليد جنبلاط الى استكمال تطبيق اتفاق الطائف، وقام الرئيس نبيه بري بزيارة بكركي، محاولا التمهيد للقاء سوري رفيع المستوى مع سيد البطريرك. وأعقب كل ذلك ردود فعل متنوعة، وضعت الحوار اللبناني – اللبناني، على نار حامية، واخذ البحث في القضايا الضرورية طريقه إلى المنتدى السياسي اللبناني بأسره، داخل السلطة وخارجها، كما إلى المراجع السورية كلها، بدءا بأعلاها.
ولكن النظام الدكتاتوري السوري، الذي يتنطح للعب دور اقليمي، من ضمن التفويض الاميركي له بـ"دخول" لبنان و"الامساك" به، كان يستقوي بهذا التفويض، ويقف في وجه اي محاولة بحث، مع اي طرف لبناني او عربي او دولي، قد تؤدي الى تقليص تسلطه العنجهي، السياسي والاستخباراتي والمافيوزي، على كل شاردة وواردة في لبنان.
ونتج عن ذلك حينذاك خذلان الرئيس نبيه بري و"تسويد وجهه"، كما يقال باللهجة اللبنانية الدارجة. وفوت لبنان فرصة تاريخية ووقت لا يعوض لاقامة حوار وطني على مستوى جميع القوى السياسية والدينية الفاعلة، تكون بكركي طرفا اساسيا فيه.
وانعكس هذا الموقف السوري في ابتعاد حلفاء سوريا، وبالاخص رئيس الجمهورية الماروني العماد اميل لحود، و"حزب الله"، عن بكركي، وفي موقفهم السلبي من تشكيل "لقاء قرنة شهوان"، في حينه، برعاية بكركي. كما انعكس ايضا في تحديد خطوات بعض اخصام السياسة السورية انفسهم، وبالاخص العماد ميشال عون الذي ينتهج سياسة مكيافيلية نموذجية متعددة الوجوه. فميشال عون، الزعيم الطائفي الماروني الطارئ والمغامر، الذي لم يحظ "في وقته" بتأييد بكركي بالرغم من كل الشعبية السطحية التي حظي بها، استفاد من الموقف السوري السلبي، المدعوم اميركيا، من بكركي، كي "يفتح" هو ايضا ـ خلال "منفاه الذهبي" في ربوع "الام الحنون" ـ مع الاميركيين، ويمهد للقاء مع النظام السوري، من خلف ظهر كل قوى "المعارضة" السابقة، التي كان عون يعتبر احد اركانها. ولو لم يتلق ميشال عون ضوءا اخضر اميركيا، لما التقى مع السيد حسن نصرالله. ومن الخطأ الفادح الاعتقاد ان لقاءه مع "حزب الله" هو بدوافع "لبنانية"، بل ان هذا اللقاء لم يكن الا بالضوء الاخضر الاميركي، ومن ضمن الخطة الاميركية لاحتواء سوريا وحلفائها الوطنيين في لبنان (وبالاخص "حزب الله")، بمساعدة النظام الدكتاتوري السوري، كبديل عن خطة ضرب "حزب الله" والعدوان العسكري المباشر على سوريا. وليس من العجب ان تمر هذه الخطة فوق جثة رفيق الحريري وغيره من شهداء لبنان، وأن تكون احدى حلقاتها، او ربما حلقتها المركزية الرئيسية: إضعاف الدور الوطني لبكركي.
واذا سمحنا لانفسنا بالتجرد عن التفاصيل، والملابسات، فلا بد من الملاحظة ان المرحلة الراهنة تتصف بكونها احدى المراحل المفصلية في تاريخ لبنان، وأن ما يسمى "الحوار الوطني" الحالي يتصف بصفة حوار اساسي، جوهري، يتجاوز في اهميته اهمية كل نقطة بحث على حدة، ويتعلق بإجراء مراجعة لأسس كيان الدولة اللبنانية، وأسس علاقتها العربية بشكل عام، عبر علاقتها مع سوريا بشكل خاص.
ولا يغير من هذه الصفة الاساسية لهذا الحوار، الخفة والسطحية التي واجه بها البعض اطروحات بكركي، واستطرادا جنبلاط، عن حسن نية او بدوافع التزلف او الاستزلام السياسي لسوريا، وهو الاستزلام الذي كان ولا يزال من العوامل التي تصعّـب على النظام الدكتاتوري السوري، المكيافيلي بامتياز، رؤية الامور على حقيقتها، والتشخيص الواقعي والمتوازن للمجريات والفعاليات السياسية والاجتماعية، بكل ما نتج عن ذلك من اخطاء وجرائم، ناشئة الى حد كبير عن ان الاستزلام، واستدراج الاستزلام، حوّلا الحوار الثنائي اللبناني ـ السوري، الى مونولوج فردي، لا يسمع فيه سوى الصوت وصداه.
ومن المؤسف ان "الحوار الوطني" اللبناني يصبح، من امام ومن خلف الستار، حوارا اميركيا ـ سوريا، على حساب جميع الفرقاء اللبنانيين، واولهم "حزب الله" وبقية الوطنيين من حلفاء سوريا.
ومن المؤسف اكثر ان غالبية الاطراف، التي استبعدت واضعفت دور بكركي، وردت على مبادراتها بهذا الشكل او ذاك، وبعضها ذو مكانة كبيرة وفاعلة، لم تعط – ولو بالظاهر – مواقف بكركي الاهتمام الواجب، بل ان بعضها "هرب" من الدخول في الحوار الجدي مع بكركي، نحو اللقاءات البروتوكولية الشكلية، وكليشيهات "الوفاق الوطني" العامة، التي لا ترتفع عن مستوى "رفع العتب"، والتي تبطن التشكيك بدور بكركي وطبيعة مبادراتها الحوارية. وان البعض سمح لنفسه، بخفة "مفهومة" ولكن غير مبررة، بالنزول درجة اخرى، من مستوى التشكيك إلى مستوى التجريح. وجاء ذلك في تنسيق مسرحي كامل، يديره المايسترو الثنائي الاميركي ـ السوري، مع "استعراضات" طائفية "اسلامية!!" معادية للمسيحيين، مثل حوادث الضنية (عام 2000) في شمال لبنان، و"مظاهرة البلطات" (سنة 2001) الشهيرة في بيروت، واخيرا مظاهرة الاشرفية في مطلع عام 2006 التي تم فيها الاعتداء على كنيسة مار مارون ومحلات وبيوت المواطنين المسيحيين الآمنين، تحت ستار استنكار الرسوم الكاريكاتورية الدانماركية المسيئة للاسلام.
وهذا كله يدل على نوع من الجهل، او التجاهل، للحقائق التاريخية، التي لا يمكن بدونها فهم حقيقة مواقف بكركي، والدخول في حوار جدي وصادق معها، كأساس لا يمكن بدونه قيام أي حوار حقيقي لبناني – لبناني، ولبناني – سوري وعربي.
امام ذلك نرى لزاما ان نسجل بعض النقاط المفصلية، التي قد تفيد في فهم الدور التاريخي الذي تضطلع به القيادة الدينية المارونية:
1- بالرغم من الطابع الديني والطائفي السياسي الحاد الذي اتخذته الحروب الصليبية، من جهة، والعلاقات المميزة للكنيسة المارونية بالفاتيكان، من جهة ثانية، وانضواؤها تحت رئاسة الباباوية، التي كان لها دور رئيسي في تسعير وشن الحروب الصليبية؛ فلا بد من الوقوف مليا عند حقيقة ان هذه الكنيسة لم تتفرنج اثناء مرحلة الحروب الصليبية، بل احتفظت باستقلاليتها المسيحية الشرقية، وبعلاقة متوازنة مع المسلمين العرب، تأخذ دائما بالاعتبار "ما قبل" و"ما بعد" كل مرحلة بعينها. وحتى الآن لا يزال البطريرك الماروني (كما في جميع الكنائس الشرقية المتحدة وغير المتحدة مع روما) ينتخب انتخابا من قبل اطار كنيسته المستقلة ذاتيا، بمعزل عن رتبة الكاردينالية، التي تحصل بالتعيين من قبل البابا.
2- ظلت السريانية (وهي من عائلة اللغات العربية القديمة، واللغة الام لغالبية اللبنانيين الاقدمين) لغة متداولة بين الموارنة حتى بضع مئات من السنين. ومع الاحتفاظ باللغة السريانية كلغة طقسية دينية الى اليوم، فإن الكنيسة المارونية وقفت تاريخيا موقفا ايجابيا وفاعلا في عملية الانتقال إلى اللغة العربية المعاصرة الجامعة. ومنذ مئات السنين، ولا سيما في عهد العبودية والانحطاط العثماني، تحولت الاديرة إلى مراكز ثقافية عربية، واضطلعت المعاهد المارونية والمسيحية الشرقية ولا تزال بدور بارز في النهضة العربية قديما وحديثا.
3- حينما غزا نابليون الشرق، ووصل إلى عكا، لم تشجع القيادة الدينية المارونية الامير بشير الشهابي الثاني (المتحول الى المارونية) على القتال معه، بالرغم من الكره العام لحكم الجزار. في حين ان بعض الشيعة، وانطلاقا من العداء للحكم العثماني عامة وحكم الجزار خاصة، قاتلوا مع نابوليون. ولو أن الموارنة، وكذلك الدروز، الذين كانوا جميعا على نزاع حاد بشكل خاص مع العثمانيين وولاتهم، وقفوا مع نابوليون، لما خارت قوى جيشه وانهزم امام اسوار عكا في 1799، ولكان كل تاريخ سوريا ولبنان وفلسطين والمنطقة العربية عامة كتب بشكل آخر تماما.
4- في منتصف القرن التاسع عشر، دعمت البطريركية المارونية العامية الشعبية التي قامت بها جماهير الفلاحين الموارنة (التي تعرف باسم عامية انطلياس، ونادت بـ"الجمهورية" لاول مرة في تاريخ الشرق العربي كله)، ضد الاقطاع الماروني بالاخص؛ وفي الوقت نفسه عارضت البطريركية الانجرار إلى الفتنة الطائفية التي اندلعت في 1860، بتواطؤ عثماني ـ اوروبي، بالرغم من المواقف الطائفية التي انزلق اليها بعض رجال الدين الموارنة وغيرهم.
5- كانت القيادة الروحية المارونية على الدوام ركيزة اساسية من ركائز الاستقلال الوطني والعروبة، وهو ما ظهر بجلاء في العهد العثماني، كما في عهد الانتداب الفرنسي.
6- عند تأسيس الكيان اللبناني الحالي سنة 1920، ايدت بكركي هذه الصيغة كحل وسط بين الطرح "المسيحي" الانعزالي، الداعي الى اقامة لبنان الصغير المسيحي، والطرح "الاسلامي" المتستر بالعروبة، الداعي الى الانضواء تحت عنوان اوسع من عناوين تقسيمات سايكس ـ بيكو، بالانضمام إلى سوريا ـ الدولة. وبالرغم من كل المآخذ على التقسيم القطري للبلدان العربية، فقد رأت بكركي ان الكيان اللبناني الحالي يحقق الخروج من قوقعة "الوطن القومي المسيحي"، الى وطن قطري عربي يضمن فيه عدم معاملة مسيحييه كأقلية مهمشة، كما في جميع الاقطار العربية الاخرى. وبالرغم من الانحراف "الغربي" لقسم من الشريحة السياسية المسيحية، فإن الحضور المسيحي غير المهمش في لبنان، اضطلع بدور بارز على جميع المستويات الاجتماعية والاقتصادية والثقافية والسياسية، على قاعدة التفاعل والوحدة الوطنيين. واصبح لبنان بمثابة "رئة للحرية" وضرورة ثقافية خاصة للاقطار العربية جميعا. ويبدو هنا بعد نظر تاريخي لبكركي، على هذا الصعيد. وانطلاقا من هذا الموقف الاساسي، كانت بكركي دائما مع الوحدة الوطنية اللبنانية ضد كل ما يهددها، ومع عروبة لبنان، ضمن كيانه الوطني المستقل.
7- عارضت بكركي الانحراف اللاوطني والمعادي للعروبة لعهد كميل شمعون، إلى درجة ان اقزام الانعزالية "المسيحية!" اللبنانية، من "مدرسة" الفسق الوطني التي ينتمي اليها "الكتائب" و"الشماعنة" واضرابهم، لم يتورعوا عن السخرية بالبطريرك الماروني حينذاك، بولس المعوشي رحمه الله، وتلقيبه "محمد المعوشي".
8- نأت بكركي بنفسها دائما عن عهود مختلف الرؤساء الموارنة، كي لا تلتصق اوتوماتيكيا بالسلطة، وتستغل من قبلها، والاهم من ذلك كي لا تضفي طابعا دينيا ضيقا على "الحصة" المارونية في النظام "الطائفي السياسي" التوافقي.
9- منذ ما قبل الحرب العالمية الثانية، قامت الصهيونية، بدعم من القوى الاستعمارية الغربية النافذة، باتصالات حثيثة مع البطريركية المارونية لاستمالتها إلى تحالف يهودي – مسيحي ضد العرب والمسلمين، وللعمل من اجل انشاء "وطن قومي مسيحي" على غرار "الوطن القومي اليهودي". وبالرغم من انجرار بعض الاوساط المسيحية، السياسية والدينية، إلى مواقف مشابهة، فان الموقف الوطني العربي العام لبكركي كانت له دائما، في نهاية المطاف، الكلمة الفصل في الشارع الماروني خاصة، والمسيحي اللبناني عامة.
10- عشية الحرب الاهلية اللبنانية، واثناءها، وبعدها، ولا سيما اثناء الاجتياح الاسرائيلي، ومحاولة فرض اتفاق 17 ايار للصلح بين لبنان واسرائيل، كان للمواقف الوطنية لبكركي دور فعال في مواجهة التيار الانعزالي اللبناني المتشنج، ورفض التعامل مع اسرائيل، وتحويل لبنان إلى قاعدة معادية للفلسطينيين وسوريا والعرب. وبلغ الامر بالبطريرك السابق انطونيوس خريش حد تفضيل تقديم استقالته في 1986، على الرضوخ للضغوط التي تعرض لها من جانب التيارات الانعزالية المتشنجة المرتبطة باسرائيل.
11- لدى انعقاد مؤتمر الطائف، والاتفاق الذي صدر عنه، والذي وضع حدا للحرب الاهلية اللبنانية، بالرغم من كل نواقصه ومثالبه، كان لموقف بكركي دور حاسم في احتواء المعارضة "المسيحية" للاتفاق، بما في ذلك المعارضة الحربائية لميشال عون، وفتح الطريق من جديد امام مسيرة الوفاق الوطني داخليا، وفسح المجال واسعا للانتقال الى مرحلة جديدة في حياة لبنان، يتم فيها تثبيت وقوننة العلاقات المميزة اللبنانية – السورية، على اساس من الاخوة الصادقة والثقة والمصالح المتبادلة، البعيدة عن الاستباحة والهيمنة والاستتباع. ولولا بكركي لما "مر" اتفاق الطائف. ولكن النظام الدكتاتوري السوري لم يكن بوارد تطبيق الاتفاق لجهة اعادة بناء الدولة اللبنانية والخروج من لبنان، بل انه عزز وشرعن التفويض الاميركي له في لبنان بالتفويض العربي الذي منحه اياه اتفاق الطائف من اجل الامعان في اذلال لبنان واللبنانيين باسم العروبة والاخوة اللبنانية ـ السورية. وهكذا تعطل تنفيذ اتفاق الطائف، بانتظار "صفقة" اميركية ـ سورية جديدة. وليس عجبا ان تتمحور هذه "الصفقة" حول اضعاف المركز الوطني لبكركي، ومحاولة ايجاد مركز قيادي ماروني بديل يتمثل الان، والى إشعار آخر، بميشال عون، الذي يجري تهيئته كمشروع دكتاتور "شهابي!" في لبنان.
12- عشية الانسحاب الاسرائيلي من لبنان، بفضل المقاومة والوحدة الوطنية، كانت فئات مسيحية معارضة مختلفة، تطرح مسألة الوجود السوري والشوائب المرافقة له، وكذلك الازمة الاقتصادية وغيرها من السلبيات، التي تشكو منها الغالبية الشعبية اللبنانية، من مختلف الطوائف. وعمدت بعض الشراذم المشبوهة لاستغلال هذا الوضع، ليس من اجل ازالة الشوائب، بقدر ما هو من اجل التشويش، وتخفيف الضغط عن اسرائيل. وبالرغم من انه لا شيء ابدا يمكنه ان يبرر الانحرافات الفظيعة التي كانت قائمة خلال "المرحلة السورية"، فان بكركي لم تتصرف بطريقة يمكن معها لاسرائيل استغلال الموقف للتخفيف من مأزقها اللبناني. بل على الضد من ذلك، عبرت عن دعمها للمقاومة، وعملت ـ بطريقتها الخاصة ـ على لجم واحتواء أي تشويش مضر بالقضية الوطنية المركزية. وكان لهذا الموقف تأثيره في تكريس الاعتراف بالدور الوطني العام للمقاومة، وفي سد الباب امام أي فتنة لبنانية ـ لبنانية، او لبنانية ـ سورية، او لبنانية ـ فلسطينية، تساعد على الحؤول دون تحقيق الانسحاب الاسرائيلي أو تأجيله.
13- بعد الانسحاب الاسرائيلي، وخصوصا عشية وفي اعقاب اغتيال الشهيد رفيق الحريري والانسحاب السوري، هبت على لبنان من جديد رياح المؤامرة التفكيكية التدميرية، المترافقة مع الهجمة الاميركية ـ الصهيونية على المنطقة، والاصداء الطائفية المسمومة الآتية من العراق، وما يرافقها من اتصالات ومفاوضات، سرية وعلنية، اميركية ـ سورية واميركية ـ ايرانية، حول العراق. وفي هذه الاجواء المشحونة، فإن الموقف الوطني الحكيم والهادئ لبكركي، البعيد عن ممالأة اي طرف وصولي، يبرز بوصفه اكبر الضمانات، ان لم يكن الضمانة الرئيسية، لتجاوز "القطوع" الذي تعرض له لبنان، الذي لم يخرج بعد من عنق الزجاجة. وقد اثبتت بكركي حضورها الفعال في "الحوار الوطني" الجاري، بواسطة حتى "اخصامها" بالذات، بالرغم من كل محاولات ابعادها.
14- في حال تقصير القوى الوطنية خاصة، والفعاليات السياسية اللبنانية عامة، عن معالجة القضايا والمشكلات المطروحة، ولا سيما موضوع المقاومة، فإن بامكان اسرائيل وامتداداتها المكشوفة والمستورة استغلال الوضع القائم وتحريكه، ليس بهدف المعالجة طبعا، بل لاجل بلبلة "القاعدة" الوطنية للمقاومة، ومحاولة اعادة تفجير الساحة اللبنانية. ومرة اخرى لا اخيرة، اثبتت بكركي بعد نظرها الوطني والعربي، حينما بادرت إلى قطع الطريق على جميع محاولات الاستغلال المشبوهة، والى احتواء جميع التحركات المعارضة ووضعها في الاتجاه الصحيح، بمبادرتها إلى طرح جميع القضايا الخلافية، بوصفها مواضيع للحوار، لا مادة للتفجير.
وفي هذا الصدد لا بد من الاشارة، إلى ان ربط اصلاح داخل البيت، لبنانيا وسوريا وعربيا، باقرار "السلام العادل والشامل والكامل والدائم!" بين العرب اسرائيل، هو حجة على اصحابها، ذلك ان هذه "الخدعة الستراتيجية" الممجوجة والمهترئة من كثرة الاستعمال، سبق ولعبها، حتى الابتذال، نظام الانظمة العربية؛ مع فارق انه قبلا كان يجري الحديث ليس عن السلام، بل عن "تحرير فلسطين" و"لا صوت يعلو فوق صوت المعركة" وما أشبه من الطبول "النظامية" الفارغة. فديست الحريات، وقمعت المعارضة، وساد الفساد، والتدهور الاقتصادي، وقامت الدكتاتوريات، ومسخت كرامة الشعوب العربية بأسرها، تحت قرع هذه الطبول. واخيرا لا آخر جاء "السلام" مع العدو القومي من باب الخدعة ذاتها، وهو ما يسمونه الان "سلام الشجعان"، الذي هو "خلطة كيماوية سياسية" خاصة من "التحرير" الوهمي والاستسلام الفعلي. ونعجب اشد العجب، بالاخص، ان تنضم بعض اطراف المقاومة لمثل هذه الحجج البالية، في مواجهة بكركي، علما ان المصلحة الاساسية للمقاومة هي التعبير عن التطلعات الجماهيرية. اما اقامة التحالفات مع هذا النظام او ذاك، فينبغي ان تتم من ضمن تلك التطلعات وليس في ما يخالفها. والمقاومة غير ملزمة ابدا بدفع أي "ضريبة نافلة"، لأي نظام كان.
XXX
ان بكركي هي محاور تاريخي رئيسي: لبنانيا، عربيا، ومسيحيا – اسلاميا عاما. وليس ذنب بكركي ان تغيب هذه الحقيقة عن بعض المدارك المعاقة.
وبطبيعة الحال انه يوجد وسيوجد اختلافات في العديد من الطروحات، بين بكركي وغيرها من المراجع الفاعلة. وهذا يعود إلى زاوية النظر التي ينطلق منها كل مرجع، ومسؤوليته الوطنية والعربية، من ضمن العائلة الروحية او الفئة السياسية التي يمثلها. ونشير هنا الى ما يؤخذ على بكركي فيما ابدته وتبديه من حذر وتردد في الدعم غير المشروط للمقاومة الاسلامية. فمن خلال موقعها، كانت بكركي توازن بين دعم المقاومة المشروعة، وبين الحرص على السيادة اللبنانية، وعدم وقوع التجاوزات الطائفية التي ترى فيها تهديدا للمسيحيين. فهذه المسألة اذا كانت جانبية وهامشية بالنسبة للبعض، فقد كانت ولا تزال اساسية بالنسبة لبكركي. ونذكر هنا، للمثال وحسب، شعار "تحرير القدس يمر عبر جونيه"، الذي طرحته المقاومة الفلسطينية في السبعينات، وشعار "الجمهورية الاسلامية"، الذي طرحه "؛زب الله" في الثمانينات، وردود الفعل الطائفية غير المبررة ضد المسيحيين العاديين التي حدثت في الجبل بعد اقتحام "القوات اللبنانية" له بتخطيط من اسرائيل، وغير ذلك من الشعارات والممارسات الطائفية والقطرية، التي يدخل في خانتها اليوم شعار "عاشت سوريا الاسد"، الذي طرح في 8 اذار 2005، وبقية مظاهر التبعية "اللبنانية" للنظام الدكتاتوري السوري، على حساب مصلحة البلدين والشعبين والعلاقات السليمة بينهما. كما انه، وللمثال وحسب أيضا، لا يحتاج الى كثير تفكير "الحدس" بأن بكركي تنظر بتحفظ ضمني الى البنية الطائفية وحيدة الجانب للمقاومة الاسلامية، مع تقدير ممارستها الوطنية، لما قد يحمله ذلك من خطر الاخلال بتوازن المؤثرات الطائفية في تركيبة النظام الطائفي اللبناني، او خطر ظهور انحرافات تعصبية لاحقة، داخل الجسم الطائفي المسلح، بالرغم من قيادته ذاتها، او خطر التصفية الجسدية لهذه القيادة المخلصة والحكيمة، وظهور قيادة طائفية متعصبة مكانها. وغير ذلك من المواضيع الهامة والقضايا المصيرية، التي ينبغي ان يجري حولها نقاش مباشر جاد، بين جميع الاطراف المعنية.
وعلى هذا الصعيد لا بد من لفت النظر إلى ثلاثة تقصيرات "تاريخية":
الاول – تقصير القيادة الروحية الاسلامية، ولا سيما "حزب الله" ورموز كبيرة مثل السيد محمد حسين فضل الله، في اخذ المبادرة لاقامة خط حوار مباشر، دائم وفي العمق، مع بكركي.
والثاني – تقصير القوى الوطنية المخلصة، السياسية والروحية، في سوريا، البلد العربي الشقيق والجار الأقرب في آن معا، في اقامة مثل هذا الحوار.
والثالث ـ تقصير القيادة الايرانية ذاتها، التي يتبع لها "حزب الله" دينيا على الاقل، في السير على خطى الامام الراحل آية الله الخميني، الذي كان على علاقة وثيقة بالفاتيكان، وخصوصا عبر المطران المناضل ايلاريون كبوجي، الوجه المشرق للمسيحيين الشرقيين، في اقامة حوار ندي وعميق مع بكركي، من شأنه الاضطلاع بدور مركزي في عزل وفضح كل اشكال المؤامرة الاميركية ـ الصهيونية على لبنان.
ولا حاجة الى التأكيد على الاهمية الشاملة، لبنانيا وعربيا وعالميا، مسيحيا واسلاميا، لمثل هذا الحوار، مع محاور تاريخي مثل بكركي.
واذا كانت ظروف وملابسات "الحرب اللبنانية" أوجدت بعض "العذر"، ولكن بدون أي تبرير، لهذا التقصير، فان مرحلة "السلام الآتي!" مع اسرائيل، لا تسمح بأي عذر، لأنها ستكون المرحلة التي تسهل الى حد كبير عمل الصهيونية العالمية، الذي سيتمحور من الآن فصاعدا اكثر من أي وقت مضى على تربص الفرص لـ "سد الثغرات" الناشئة بين مختلف الاطراف في الساحات العربية، والساحة الاقليمية عامة، ولا سيما الاقليات الدينية والقومية. فللاسف ان القوى الوطنية العربية، التي جاءت الى السلطة بعد رحيل الاستعمار التقليدي، لم تفعل شيئا جديا على صعيد "المسألة الشرقية" اكثر من "تعريبها" قوميا و"تعليبها" قطريا.
فهل نترك هذه الثغرة مفتوحة على الساحة اللبنانية، وغيرها من الساحات العربية والاقليمية، بانتظار "الحل السلمي العادل والشامل!"، الصهيوني أو بمشاركة الصهيونية، لـ"مسألتـنا الشرقية"؟
ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ
ـ* كاتب لبناني مستقل مقيم في بلغاريا



#جورج_حداد (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- المأزق الوجودي لاسرائيل!
- بعد تجربة الاحتلال الاسرائيلي والهيمنة السورية: القوى الوطني ...
- الأكراد شعبنا الثاني
- الصفقة الاميركية السورية الجديدة: اعادة انتاج -سايكس بيكو- ...
- الانقلاب الكياني في التركيبة اللبنانية
- من هم المرتدون الذين سيحاكمون لينين؟ كريم مروة واصحابه نموذج ...
- النظام الدولي المختل والدور التاريخي العتيد للمثلث الشرقي ال ...
- رد الى صديق كردي
- المحكمة الدولية ضرورة وطنية لبنانية وضمانة اولا لحزب الله
- المخاطر الحقيقية للوصاية على لبنان والمسؤولية الوطنية الاساس ...
- حزب الله: الهدف الاخير للخطة -الشيطانية- لتدمير لبنان
- ؛؛الوفاق الوطني؛؛ اللبناني ... الى أين؟؟
- ماذا يراد من لبنان الجديد في الشرق الاوسط الكبير الاميرك ...
- -الفأر الميت- للمعارضة السورية
- العالم العربي والاسلامي ودعوة ديميتروف لاقامة الجبهة الموحدة ...
- هل تنجح خطة فرض تركيا وصيا اميركيا على البلاد العربية انطلاق ...
- الحرب الباردة مستمرة بأشكال جديدة بين -الامبراطورية- الروسية ...
- حرب الافيون العالمية الاولى في القرن 21: محاولة السيطرة على ...
- هل يجري تحضير لبنان لحكم دكتاتوري -منقذ!-؟
- أسئلة عبثية في مسرح اللامعقول


المزيد.....




- فيديو رائع يرصد ثوران بركان أمام الشفق القطبي في آيسلندا
- ما هو ترتيب الدول العربية الأكثر والأقل أمانًا للنساء؟
- بالأسماء.. 13 أميرا عن مناطق السعودية يلتقون محمد بن سلمان
- طائرة إماراتية تتعرض لحادث في مطار موسكو (صور)
- وكالة: صور تكشف بناء مهبط طائرات في سقطرى اليمنية وبجانبه عب ...
- لحظة فقدان التحكم بسفينة شحن واصطدامها بالجسر الذي انهار في ...
- لليوم الرابع على التوالي..مظاهرة حاشدة بالقرب من السفارة الإ ...
- تونس ـ -حملة قمع لتفكيك القوى المضادة- تمهيدا للانتخابات
- موسكو: نشاط -الناتو- في شرق أوروبا موجه نحو الصدام مع روسيا ...
- معارض تركي يهدد الحكومة بفضيحة إن استمرت في التجارة مع إسرائ ...


المزيد.....

- 7 تشرين الأول وحرب الإبادة الصهيونية على مستعمًرة قطاع غزة / زهير الصباغ
- العراق وإيران: من العصر الإخميني إلى العصر الخميني / حميد الكفائي
- جريدة طريق الثورة، العدد 72، سبتمبر-أكتوبر 2022 / حزب الكادحين
- جريدة طريق الثورة، العدد 73، أفريل-ماي 2023 / حزب الكادحين
- جريدة طريق الثورة، العدد 74، جوان-جويلية 2023 / حزب الكادحين
- جريدة طريق الثورة، العدد 75، أوت-سبتمبر 2023 / حزب الكادحين
- جريدة طريق الثورة، العدد 76، أكتوبر-نوفمبر 2023 / حزب الكادحين
- قصة اهل الكهف بين مصدرها الاصلي والقرآن والسردية الاسلامية / جدو جبريل
- شئ ما عن ألأخلاق / علي عبد الواحد محمد
- تحرير المرأة من منظور علم الثورة البروليتاريّة العالميّة : ا ... / شادي الشماوي


المزيد.....

الصفحة الرئيسية - مواضيع وابحاث سياسية - جورج حداد - بكركي محاورا تاريخيا