جعفر المظفر
الحوار المتمدن-العدد: 6071 - 2018 / 12 / 2 - 18:01
المحور:
العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني
الطائفية الإجتماعية والطائفية السياسية بلغة التخريج الرقمي.
جعفر المظفر
في مطبوع سابق قلت أن البعض يتعجب كيف يكون من حق السنة, حاليا, أن يشعروا بالغبن والعزلة وقد مُنحوا مناصب مهمة في الدولة العراقية الحالية التي تأسست ما بعد الإحتلال, ومنهم من يقول أن هذه النسبة تفوق نسبتهم السكانية الحقيقية, خاصة حين تجري مقارنتها بما كان يحصل عليه الشيعة سابقا من مناصب على مستوى القيادات الحزبية والرسمية العليا. مثال ذلك أن جميع أعضاء مجلس قيادة الثورة الذي تشكل بعد أحداث الكويت لم يكن فيه شيعيا واحدا, أما تشكيلة القيادة القطرية للحزب فقد كانت تحتوي على عدد ضئيل من الشيعة.
وقبل أن يخرج علينا أحدٌ بقائمة من الأسماء الشيعية البارزة التي كانت قد إحتلت مقاعد قيادية بارزة طيلة عهود ما قبل الإحتلال ليستعملها كدليل أكيد على – لاطائفية - الأنظمة السابقة سأقول إن مقارنات رقمية من هذا النوع ستدخلنا في إشكالية حقيقية, أما الذين إرتضوا بها فقد وقعوا في الفخ من حيث لا يدرون, وذلك لأن الطائفية في العراق يجب ان تبحث على مستوى عالي من الحيادية والحرفية والوعي المتجرد حتى من النوايا الطيبة, وقبلها فإنها يجب أن تبحث بعيدا عن الإستخدامات الموظَفّة للغة الأرقام.
إن المؤدلجين أو الطائفيين أو حتى أصحاب النوايا الحسنة من الطرفين هم الخطر الحقيقي على موضوعية البحث وحياديته لأنهم سوف يكيفون الرقم بصيغة أو بأخرى لكي يكون في خدمة أهدافهم المحددة سلفا بطبيعة أيديولوجيتهم أو حسن نواياهم أو خبثها أو مستوى وعيهم وطبيعة إقتراباتهم من الموضوعة الحساسة جدا .
إن موضوعة النسب ولغة الأرقام التي يتم إخراجها من مكانها وزمانها الحقيقي تؤسس لنظريات سياسية مرتبكة أما الأكثر دقة من بيننا فهو الذي يؤكد على المنهج بدلا من نتائج النسب الرقمية. وأن الأفضل وعيا هو الذي يجزم أن الأرقام حينما تُسْتل من زمانها ومكانها فهي تموت كما الأسماك حينما تستل من مائها, فقد تكون السمكة ذات مذاق شهي حينما تكون طازجة, وقد تكون هي نفسها سامة وقاتلة حينما تكون ميتة ومتفسخة.
ويخبرنا عهد ما بعد الإحتلال أن رئيسا (سنيا) سابقا لمحافظة البصرة مثلا كان أفضل لأهلها من العديد من المحافظين الشيعة في عهد ما بعد الإحتلال, وإن جدولا باسماء المحافظين السنة الذين تتابعوا على نفس المحافظة منذ أول عهود الدولة العراقية الحديثة التي كانت قد تأسست في العشرينات من الزمن السابق كانوا بمثابة ملائكة لو جرت مقارنتهم بالمحافظين الشيعة من أولئك الذين سرقوا المحافظة وتركوها خربة بائسة.
إذن نحن نتحدث عن منهج وعن نوعية نظام ولا نتحدث عن نسب وأرقام لأننا لسنا بصدد تأسيس نظرية رياضية تعتمد على علم الحساب, وما يتعجب أحدنا منه قد يكون هو نفسه الذي يتعجب منه الآخرعلى الجهة الأخرى وهو يركزعلى قضية الأرقام ويحلل الوضع السياسي تحليلا رقميا لا شك أنه سيكون بالنهاية مرتبكا إن لم يكن مُضّلَلا أو مُضّلِلا.
ونسأل: إستنادا على لغة الأرقام المجردة هل يمكن القول أن الحكم بعد الإحتلال كان (وطنيا) لمجرد التذكير بأن جميع أعضاء مجلس الحكم الذي شكله بريمر كان من العراقيين ولم يكن فيه أمريكيا واحدا.
أحد الأخوة وجه لي رسالة شخصية يذكرني فيها أيضا عن طريق لغة الأرقام أن الأوضاع السابقة كانت طائفية وضد الشيعة مؤكدا أن ذلك يشمل النظام الملكي أيضا. وهو صادق حتما فيما إذا إستعملنا لغة الأرقام المجردة بشكل رئيسي لتأسيس نظريات سياسية نهائية.
ولن يعني هذا الأمر في كل الأحوال غياب الطائفية عن الأنظمة العراقية السابقة غير أن المعني هنا هو حاجتنا إلى إستعمال أدوات ومناهج تحليلية هي غير تلك التي تتأسس على الأرقام فقط. وهكذا ترى أن كلا الطرفين يقعان في ذات المأزق: كلاهما يعتمدان على لغة الأرقام لتأسيس نطريات سياسية ولا يعتمدان على هذه اللغة لتوضيح حقائق تاريخية خاصة بزمانها ومكانها وستكون ذات ضرر كبير إذا استقطعت من مكانها لكي توضع في خدمة حقائق آنية غير سليمة.
ونحن على أساس هذا بحاجة حقا إلى نظريات حريصة على ان لا تقع في مطب الأرقام المجردة هذه, لا لغرض نكران أهمية هذه الأرقام للتحقق من وجود الطائفية, وإنما للإمتناع عن إستخدامها بشكل رئيسي بمعزل عن زمانها ومكانها فذلك لن يؤدي في النهاية إلا لتأسيس أو دعم نظريات سياسية خاطئة.
لا بل إنني مقتنع, بلغة الأرقام المجردة طبعا, أن النظام (الطائفي) الحالي هو أكثر الأنظمة عدالة في قضية توزيع المناصب على (المكونات ) العراقية, فهو قد حسبها بالمسطرة تماما وفق نسبة كل مكون, وبالتالي سوف نجد أنفسنا مرغمين على ان نصدق ان الحكم الحالي, هو أكثر عدالة من كل الأنظمة السابقة وأكثرها بعدا عن المسألة الطائفية.
المسألة إذن, تلك التي تتضمن طريقة قراءة الرقم وطريقة إستخدامه, أنها تتأثر إلى حد كبير بالغاية من القراءة أو الإستذكار, وهنا يكمن مصدر الخطأ والخطر, فحينما يكون هناك تعمد للدفاع عن الوضع الطائفي الحالي سيوضع الرقم في خدمة هذا المنحى ويُقرأ بالتالي بعيون طائفية, وحينما تكون غايته الوقوف ضد الحكم الحالي والدفاع المستميت والأعمى عن العهود العراقية السابقة بمستوياتها وتمشهداتها المختلفة فسيوضع الرقم أيضا في خدمة هذا الدفاع لكي تتأسس قراءات تقول ان الأنظمة السابقة كانت خالية تماما من الأخطاء الطائفية.. كلا القرائتين هما قرائتان إستخداميتان للرقم, وإن من شأنهما أن تحرفا الرقم وتذهبا به بإتجاه غير سليم.
إن كل ذلك سيزجنا في موقف خاطئ إن لم يجرِ تعريف الطائفية بشكل دقيق, وإذا لم يتم التمييز أيضا بين الطائفية السياسية والطائفية الإجتماعية, وبينها وبين المذهب والمذهبية حينما يكونا في إطارهما الديني دون أن يتسيسا, وعن حق المسؤول في الإنتماء المذهبي وخطئه في إسقاط ذلك الإنتماء على وظيفته الرسمية في دولة علمانية وغير طائفية.
وأجزم أن لب المشكلة هو هنا هو في الخلط بين المفهومين وتأسيس ما هو سياسي على ما هو إجتماعي, فوجود دولة مدنية وطنية بالمعنى السياسي لا يعني أن الطائفية في هذه الدولة ستكون غائبة بالمعنى المجتمعي والشخصي. وحتى أننا سنشاهد وجود قيادين طائفيين بالمعنى المجتمعي في قيادات تلك الدولة اللاطائفية بالمعنى السياسي.
ولذا فإننا يوم نذكر أن هذا العهد أو ذاك لم يكن طائفيا بالمعنى السياسي فإننا لا نعني غياب الطائفية عنه بالمستوى الإجتماعي والشخصي, فهذا النوع الأخير, وخاصة في مجتمعنا ذا الإمتداد الإجتماعي التاريخي الطائفي الطويل والعميق, وعلى أرضنا التي دارت عليها معارك أسست لتداعيات طائفية ثقيلة, فإن من الخطأ التصور أن الدولة الخالية من الطائفية السياسية ستكون, تلقائيا وسياقيا, خالية من الطائفية الإجتماعية.
بل اننا نجد أن التناغم بين هذين النوعين وغيابهما معا يحتاج إلى فترة طويلة وحافلة بتحولات إقتصادية وثقافية وسياسية عميقة, وسيكون من باب الخطأ أن نحمل الدولة اللاطائفية سياسيا وقانونيا مسؤولية الطائفية الإجتماعية المتوارثة, لكن من المهم التأكيد على أن الدولة العلمانية, والملزمة بقوانين تعادي وتجرم الطائفية, مطالبة بضبط سلوكيات قادتها وأدارييها وموظفيها بشكل حازم منعا لأية إسقاطات مذهبية وطائفية على سلوكهم الوظيفي وتشريع القوانين التي تحرم على المواطنين تحويل المذهب إلى مذهبية والطائفة إلى طائفية.
#جعفر_المظفر (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟