أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - محمد مسافير - البؤساء!














المزيد.....

البؤساء!


محمد مسافير

الحوار المتمدن-العدد: 6018 - 2018 / 10 / 9 - 14:15
المحور: الادب والفن
    


في ليلة باردة - على غير العادة - من ليالي تموز، وفي آخر الشارع المؤدي إلى مسجد البتراء على هامش مدينة فاس، كانت الساعة قد تجاوزت الواحدة والنصف بعد منتصف الليل، وكانت إحدى نوافذ الطابق الأول من عمارة ذات ثلاثة طوابق لا تزال مفتوحة وتكشف عن نور المصباح، صمت أشبه بالموت يملأ الشارع، يقطعه بين الحين والآخر مواء قطط متعاركة أو حفيف كيس بلاستيكي، لكن لا شيء غير ذلك...
فجأة، وفي ذات الشقة التي لا تزال نوافذها مفتوحة، سمع صوت صرختي الأولى، تلتها ثلاث زغردات متوالية... كانت وحيدة في الشقة حين جاءها المخاض، واستطاعت بشق الأنفس إبلاغ جارتها بدنو أجل الوضع، فجاءتها لتشرف على عملية الولادة، وتزغرد عند انتهاءها...
غادرها أبي قبل شهر من ولادتي، لم يستطع سماع صرختي الأولى، فقد كان جنديا، وغيابه قد يطول أو يقصر حسب حسابات لا نفهم منطقها...
هجر أبي مبكرا الخدمة العسكرية بسبب روحه المتمردة، ودفع حريته ثمنا لقراره، فقد قضى ستة أشهر سجنا نافذا، وكنت أنا وأمي مجبرين على دفع الثمن أيضا، فقد تناست الحكومة أن عقابها لن يطال الفرد وحده، بل وأسرته المعوزة أيضا، ستة أشهر من انقطاع المؤونة، كنا نعيش أغلب أيامها من إحسانات شحة، ونتحمل الجوع أحيانا أخرى...
كان أملنا في الإفراج عن المعيل، انتظرنا ذاك اليوم بشوق مؤنس أيام الجوع، لكن ولسوء الحظ، فقد أفرجوا عنه معطوبا، طليقا خارج القفص، لكن مكسور الجناحين، عمَّر فيه المرض، دون أن تفيده وصفات وأعشاب الجارات والمقربات، ودون أن نقدر على إسعافه بالطبيب...
مات أبي مبكرا، انقطعت المؤونة، فاضطرت أمي غير ملومة على أن تشمر على ساعديها وتخرج للعمل، لقد كسرت التقليد وتمردت عليه، فقد كان العرف يمنع الأرملة من مبارحة البيت حتى انقضاء العدة، لكننا لم نكن مستعدين لتحمل الجوع أربعة أشهر إضافية، كنت في السابعة من عمري، والجائع لا يتعلم، لذلك لم تكن وجهتي المدرسة، فقد كنت أقضي النهار كله في محل ميكانيكي الحي، أساعده في عمله مقابل تدريبي على بعض من مهاراته، بالإضافة إلى كسرة خبز وكأس شاي أشتركه معه صباحا، وبعيد العصر، بينما يغلق المحل وقت الظهيرة، ويتوجه إلى دفء أسرته لتناول وجبه الغذاء، وأبقى تائها هائما في الشوارع، إلى أن يعود بعد ساعة أو ساعتين أو ثلاثة... حسب أهوائه...
كانت أمي تشتغل منظفة بإحدى الشركات، بناية ضخمة جدا تشغل منظفة وحيدة، تعود إلى البيت مرهقة كليلة، ثم تأكل قليلا وتتركني ألتهم الباقي، في غالب الأحيان بعض المعجنات أو خبزا وحساء شعير أبيض، لم تكن تجني أمي أكثر مما قد يبقينا على قيد الحياة، تقسمه بين أقساط الكراء وتوابعه، وبين الغذاء والدواء...
بعد ستة أشهر بالتمام، استنزفت قوى أمي وخارت، كانت تمرض كثيرا وتحاول ألا تظهر ذلك حتى لا تطرد من العمل، تعمل فوق طاقتها، لكنها لم تعد تستطيع إنفاق المزيد من القوة، لقد ذبلت في ظرف قياسي جدا، لازمت الفراش لأسبوعين، ثم هجرتني بدورها إلى حيث لا أدري...
انتقلت إلى محل الميكانيكي لأعيش به، كان كرما منه، بينما اقتسمت الجارات ملابس أمي وبعض الأثاث، أعطوني مقابل ذلك بعض الدريهمات دون أن أطلبها، كنت سعيدا بها، لأنها كانت المرة الأولى التي أحصل فيها على المال...
كان صاحب المحل قاسيا نوعا ما، ويبرر قسوته تلك بلزومها في مجابهة الحياة، يجب أن أكون صلبا وأن أكبر سريعا، لأن وضعي لا يستوجب التفكير في اللعب أو تفاهات الصغار...
حاولت أن أكبر، لكني كنت ضئيلا جدا، فلا أزال آكل وجبتين متشابهتين في أول النهار وبعيد العصر، خبزا وشايا، وأحيانا قليلة مع بعض الزيت، أو بعض الكسكس يوم الجمعة، كان أفضل أيامي... ورغم ذلك، فلم أكن منقطعا تماما عن العالم، كنت أسمعهم يتحدثون على شاشات التلفاز عن التغذية المتوازنة، لكني لم أكن أجد إليها سبيلا... ويحدث في بعض المرات أن آخذ من بين النفايات رأس دجاجة حديثة الذبح، أبتعد عن نظرات الناس ثم أقوم بشيها وأكلها، كم كنت أجد متعة في مضغها ببطء حتى لا تبلع سريعا، وأنا أقنع نفسي أني آكل اللحم، ولا شيء غير اللحم...
لم يكن لي أصدقاء، فأغلب من كانوا في سني كانوا يتفادون رفقتي، لكني كنت أستمتع كثيرا بسماع أحاديث صاحب المحل مع أصدقائه، خاصة حين يتداولون أخبار الهجرة إلى إسبانيا، ولم أكن أتوقف عن السؤال حين يثيرون هذا الموضوع، كنت أحاول معرفة تفاصيل ذاك العالم، سمعت أن كل من عاد منه يغتني ويمتلك سيارة ومنازلا كثيرة، لماذا علي أن أموت هنا إذن إن كان هناك أمل في الرفاه في مكان آخر؟
أنا قادم إليكما أمي وأبي، فهذه الحياة لا تطيقنا، عشنا بؤساء، ونموت بؤساء، طلقة واحدة تستقر في صدري وتمددني على سرير الموت في مستشفى حكومي، لقد أرادوا قتلي وأنا في طريقي نحو اعتناق الحلم، وقد سمعت الدكتور نفسه يقول لا أمل في نجاتي، لكن لا بأس، فخيار الموت أرحم من حياة البؤس... طوبى لي بهذا القدر !



#محمد_مسافير (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- أنصتوا لبناتكم!
- دروس ثورة سبارتاكوس على ضوء أحداث اليوم
- إبني البكر: نزيف القبلات
- العدالة الإلهية!
- الإله في حرج!
- من لم يرض برغيف رضي بنصفه!
- ويسألونك عن الوطنية!
- اعتداء على زوجين من طرف متحرش ورجل أمن!
- فرحة ملغومة!
- لا مفر من الخرافة!
- لماذا تخلف المسلمون وتقدم الغرب؟
- قضية المرأة مرة أخرى!
- أسباب تحجر فكر المسلمين!
- خدمة إنسانية يجهضها القانون باسم الشرع!
- المثليون بين جلد الذات وسياط المجتمع وصمت المثقف!
- ضرب الأطفال... وسيلة تربوية أم جريمة!
- إمام مسطول!
- التعليم النظامي... استنزاف للجهد وتضييع للوقت!
- غارات المسلمين بعد بدر، وثأر المكيين في أحد!
- أولى اعتداءات المسلمين: غزوة بدر الكبرى


المزيد.....




- وفاة الفنان المصري المعروف صلاح السعدني عن عمر ناهز 81 عاما ...
- تعدد الروايات حول ما حدث في أصفهان
- انطلاق الدورة الـ38 لمعرض تونس الدولي للكتاب
- الثقافة الفلسطينية: 32 مؤسسة ثقافية تضررت جزئيا أو كليا في ح ...
- في وداع صلاح السعدني.. فنانون ينعون عمدة الدراما المصرية
- وفاة -عمدة الدراما المصرية- الممثل صلاح السعدني عن عمر ناهز ...
- موسكو.. افتتاح معرض عن العملية العسكرية الخاصة في أوكرانيا
- فنان مصري يكشف سبب وفاة صلاح السعدني ولحظاته الأخيرة
- بنتُ السراب
- مصر.. دفن صلاح السعدني بجانب فنان مشهور عاهده بالبقاء في جوا ...


المزيد.....

- صغار لكن.. / سليمان جبران
- لا ميّةُ العراق / نزار ماضي
- تمائم الحياة-من ملكوت الطب النفسي / لمى محمد
- علي السوري -الحب بالأزرق- / لمى محمد
- صلاح عمر العلي: تراويح المراجعة وامتحانات اليقين (7 حلقات وإ ... / عبد الحسين شعبان
- غابة ـ قصص قصيرة جدا / حسين جداونه
- اسبوع الآلام "عشر روايات قصار / محمود شاهين
- أهمية مرحلة الاكتشاف في عملية الاخراج المسرحي / بدري حسون فريد
- أعلام سيريالية: بانوراما وعرض للأعمال الرئيسية للفنان والكات ... / عبدالرؤوف بطيخ
- مسرحية الكراسي وجلجامش: العبث بين الجلالة والسخرية / علي ماجد شبو


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - الادب والفن - محمد مسافير - البؤساء!