أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - اسماعيل شاكر الرفاعي - ليلة خضراء















المزيد.....

ليلة خضراء


اسماعيل شاكر الرفاعي

الحوار المتمدن-العدد: 5945 - 2018 / 7 / 26 - 23:36
المحور: الادب والفن
    


ليلتي هذه عروس من الزنج عليها قلاءد من جمان
هرب النوم عن جفوني فيها هرب الأمن عن فوءاد الجبان
المعري

كانت ليلة خضراء ، لا شية فيها ، خضراء تماماً كعيني اسمهان اللتين أجبرتا بعض الضباط الاستعماريين على التسرب من دواءرهم* علهم يتمكّنوا من الابحار فيهما وتشريح لونهما، لكن فاتهم ان يدركوا بان زرقة عينيها تتسربان -حين تغني - الى صوتها فيهطل مطراً اخضر . كان صوت اسمهان نهاية ثلاثينيات القرن المنصرم وبداية أربعينياته اخضراً كلون عينيها ...

لا يعرف المشرق العربي درجات التحول في لون الماء كلما تحولت شدة حرارة الشمس ، كان وما يزال ماسوراً للون الحداء : هذا الشبح الذي كلما حاول صوت ريفي تجاوزه عاد ادراجه تحت سلطة قانون " عودة المكبوت " * وكان كلما أقام قرب الماء ليوم او بعضه عض بالنواجذ على بعرانه وهرب ، وحين تمكن صوت فيروز الطالع من تفاعل لونين : لون البحر ولون أشجار الأرز ، من رش خضرة صوته على مشاعرنا وأحاسيسنا التي غلقت ابوابها البداوة بألف رتاج ورتاج ، تصدى له صوت الحداء بسيوف المارشات العسكرية التي تصاعد لونها الرمادي من القاهرة الى بغداد ، وكان العازفون على هذا اللون من الغناء يرسمون على لون الخاكي ، الذي كان ملصوقاً بالشمع على اجساد الزعماء ، نوتات ايقاع الحداء الصحراوية ، الى ان مهدوا سماء المشرق لتقبل ألوان الأصوات الدموية : من صوت عواصف المليشيات الهادرة بالقتل الى تلك الباكية على من قتل . تلك هي الخلاصة الجافة التي علينا التعايش معها : القتل او البكاء ، وكلاهما نخرا خضرة عظامنا ، وباتت أصواتنا اما صارخة او باكية ، هل ثمة فرح في مسيرة ( الحداثة ) البدوية هذه ...

وسط عنتريات الاعلام المدججة بالشعارات الرمادية وذات اللون الخاكي والاسود الكالح ، ابصرت خضرتي ، او بالأحرى علي القول : سمعت خضرتي تعزف لونها الأخضر على المسرح المكشوف في دار الأوبرا المصرية .
خطفتني أصوات الشباب ، وخطفني عزف العازفين ، خطفاني بكليتي ولم يشطراني ، لم يخطفا شطراً مني وينبذا شطراً على طريقة ومنهج ألوان الخاكي والرمادي والاسود التي تنبذ لون الجسد الأخضر ، وتحتقر تفتح خضرة حواسه : وترى فيها كما كانت ترى في الماء : ألواناً من العصيان والتمرد على صوت حادي البعران ، وكانوا يكثرون من ذكر كلمة الخطف مقرونة بالروح ، فيقولون خطفت الموسيقى ارواحنا ، او خطفت وعينا او خطفت مشاعرنا وأحاسيسنا ، كما لو كانت الموسيقى ميليشيا مسلحة تخطف من بيوت اجسادنا : ارواحنا وعقولنا ومشاعرنا وتنبذ اجسادنا الطينية بلا روح على كراسي المسرح المكشوف . هل لعملية الخطف المسلح هذه ، ( ام لعملية التفاعل الوجداني والشعور ببهجة الحياة ، بعيداً عن قمع الثناءيات وحرابها المدماة بمشاعرنا وأحاسيسنا ) ابدع الأنسان هذا النغم الساحر ، وعالجت انامل مبدعيه ابتكار الاَلات الموسيقية ، بمعجزة النسج ليس على مثال سابق ، كما تفعل في الاوان الذي نعيش انامل مبدعي الإلكترونات التي لا يوجد لها مثال سابق في الحضارات الزراعية ومنها حضارة العرب الاسلامية ...

ما كان الفلاسفة السفسطائيين يتهيبون من مناقشة اي شيء : من السلطة الى الدين الى العدالة والاخلاق من اجل تحرير الانسان من ركام ايدلوجيات العصور ، لكن منذ ان وبخهم على حريتهم هذه ثلاثي سلطة الفكر الجديدة : سقراط ، أفلاطون ، أرسطو حتى تكاثر نهج الثناءيات : ثناءية النور والظلمة ، الخير والشر ، الروح والجسد ، يفسرون من خلالها حركة الكون والحياة ، ثم جاءت نظرية " المثل " لأفلاطون لتكون القاعدة الفلسفية لهذه الثناءيات ، فنحن في عرف هذا العقل الاستبدادي* الكبير ، صوراً او انعكاساً لها على الارض ، هي ( اي مثل أفلاطون ) التي تجلس في الأعالي ونحن أشباحها على الارض . حتى وان سبقت نظرية المثل ثناءيات الشرق الا انها جميعاً كانت تدور حول محور : ترذيل الجسد البشري واهانته ، وتمجيد الروح التي جعلوا منها طاءراً في سجن الجسد يروم التحرر من طينيته للالتحاق بعالم المثل السماوي : جسد حملوه وزر الآثام كلها ، من الغراءز العدوانية الى غراءز الجنس والجوع ...

في هذه الثناءيات يتم الحديث بحرية لا حدود لها عن آلهة متخيلة تتصارع منذ الازل ولا حد معلوم لنهاية صراعها . وليس خطيراً ان يتخيل الشعراء صراعاً دموياً مركباً لم تنطفيء منه يوماً عين الشمس ولا تلوث درب التبانة بدماء ابطاله ، إنما الخطورة حين تسربت هذه الهذيانات من اثير التخيلات الى أديم الارض وصارت بشراً يمشي بقدمين ، وهذا ما ساعد الكثير من المفكرين على اكتشاف اصولها الارضيّة لا السماوية : يقول هوءلاء بانه عند كل انعطافة تاريخية خطيرة يبرز جماعة يدعون بأنهم جماعة النور والخير والروح ، وان ما سواهم يمثلون : الظلام والشر والجسد ، وانهم بعد كل مرحلة اجتماعية عاصفة سياسياً يكتبون شراءع وقوانين يقولون انها هبطت علينا من الله ، وان على الذين يمثلون الجسد والظلام والشر ان يطبقوها وينفذوها ، وهذه هي المفارقة الكبرى ، فهم لا يكتفون بكونهم أصبحوا الرأس الذي يفكر دون الناس اجمعين بل وزادوا على ذلك بان جعلوا من الحرب على مثلث : الظلام والشر والجسد فعلاً مقدساً ، لكن هم يركبون فيه العربات المذهبة التي تجرها الخيول المطهمة ، فيما يتوجب على الجسد المرذل والمهجو من قبلهم تحمل عناء الحرب والتضحية فيها . هل لهذا لم يضع صانع الشرائع نهاية للحروب : اذ كيف يقاتل مثلث الظلام والجسد والشر قطب الشيطان او ابليس وينتصر عليه ؟ ...

لماذا مع بذل كل هذا الجهد الفكري الخارق الذي تطلبته صناعة هذه الثناءيات ، لم تتم الإشارة ولو بسطر واحد الى ثناءية واقعية اجتماعية ملموسة : هي ثناءية القلة والكثرة ، ثناءية الخواص والعوام . هل التفكير الفلسفي او ما سواه من انواع التفكير موجهاً لصناعة الاوهام او لتحريرنا منها ؟ غصت موءلفاتهم الضخمة عن الثناءيات والجمهوريات والمدن الفاضلة بذكر الكثير الكثير من التخيلات والاوهام ، وعز عليها التطرق لثنائية الجالسين على القمة من القلة التي تحوز بين يديها الثروة والنفوذ والامتيازات والقوة ، والكثرة المسحوقة من الرجال والنساء والأطفال . هذه الثنائية الواقعية ، ثناءية الفوق والتحت هي التي صنعت التاريخ البشري : وآثار التحول من وضع اجتماعي الى اخر وعبور الحضارات ماثلة بقوة في الشواهد التي خلفها لنا صراع هذه الثنائية الاجتماعية بين القلة والكثرة ، وثورات الكثرة التي لم يخل منها قرن من القرون هي التي اخرجت البشرية من عنق زجاجة ظلام القرون الوسطى الى فضاء حرية الشعوب وحرية أجسادها ...

حين تبلغ الموسيقى الخضراء مدياتها ، يهتز الجسد البشري ، تذوب في هذا التفاعل الوجداني الحدود والفواصل الاجتماعية والجنسية والعمرية ، كنت أراقب نفسي وأراقب الآخرين علي اعثر على الحد الفاصل بين الروح والجسد ، فلم اجد الا اجساداً تشنف السمع وتعبر عن تفاعلها بالتصفيق وبالاهتزاز الخفيف على الكراسي ،
فأين ابن سينا ، وأين أضع قصيدته التي مطلعها
هبطت إليك من المحل الأرفع ورقاء ذات تدلل وتمنع
صحيح ان قسماً من المحسوبين على القلة يجلسون في مقدمة المسرح ، ولكن كروشهم اهتزت مثل اجسادنا . لم يستغل طاءر الروح المناسبة في الظلمة الخفيفة التي عرشت في سماء المسرح ، ويهرب من سجنه الطيني ، ولم يكن الجسد البشري قد انتفخ بشروره واثامه ويحتج الى من يعيده الى صوابه .. وحين أنهى القاءد الحفلة وسحب يديه الطائرتين كجناحي طاءر غريق ، وتحولتا الى يدين بشريتين تجيدان حوار جمهورهما حتى وقفت اجساد الجميع تبادله التحية بتصفيق حماسي أخاذ ..

تلك الليلة ادركت بان هذه الثناءيات التي شطرت البشرية الى مجموعة خير ونور ومحبة ومجموعة اثام وغراءز وحشية ، وشطرت الانسان الواحد الى جسد طيني يعيش طوال عمره صراع روحه التواقة الى مغادرته : بحاجة الى مكبات خاصة ، ولم اجد وانا اشم هواء النيل عابراً الجسر المسمى باسمه صوب وسط البلد ، أفضل مكاناً من المنطقة الخضراء في بغداد الملاى بأنواع النفايات : ومنها نفاية ثناءية الصراع الطاءفي الابدي بين السنة والشيعة المرفوعة على حراب حديث الفرقة الناجية المنحول .. حين توصلت الى هذه القناعة : اكتشفت فعلاً بأنني عشت ليلة خضراء تماماً لا شية فيها ...

القاهرة
23 - 7

~~~~~~~~~~~~~~~~~~~~~~~~~
* الجزء الثاني من كتاب " ثلاثة مدن " بتصرف ، الذي ترجمته عالم المعرفة الكويتية قبل أشهر قليلة
* عودة المكبوت ، من المفاهيم الاساسية التي استخدمها فرويد في كتابه : موسى والتوحيد ؛ ترجمة جورج طرابيشي ، لا اتذكر دار النشر ولا سنة الطبع .
* تتبدى زاوية نظر أفلاطون الاستبدادية واضحة من خلال تخطيطه لأدوار طبقاتها الاجتماعية في هرم الدولة التي تخيلها ..



#اسماعيل_شاكر_الرفاعي (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- نموذجان من نماذج الدول
- حول موءتمر - إنقاذ - العراق
- أسوار وغيتوات ودعوة الى العزلة
- 1 - من كتاب - في العشق الالهي -
- انظروا في حل مصائبكم عن بديل للتصويت البرلماني
- في العولمة
- استحلفكن ... من كتاب - في العشق البشري -
- يقولون لا تهلك اسىً وتجمل .. امريء القيس
- لست مع او ضد ، انا ضد الحروب جملة وتفصيلاً
- الممثلة الهوليودية : أنجلينا جولي
- سفينة مهاجرين
- من كناب - في العشق البشري -
- صح .. يارءيس وزراء العراق .. انت صح
- من كتاب - في العشق البشري -
- البرلمان العراقي : من تزوير الشهادات الى تزوير الانتخابات
- عادل مراد
- لا عودة الى - جمهورية الخوف -
- التيار الصدري : كما فهمت بعضاً من استراتيجيته السياسية
- نعم ذهبت للتصويت
- هل سأذهب للتصويت في هذه الدورة الانتخابية


المزيد.....




- مواجهة ايران-اسرائيل، مسرحية ام خطر حقيقي على جماهير المنطقة ...
- ”الأفلام الوثائقية في بيتك“ استقبل تردد قناة ناشيونال جيوغرا ...
- غزة.. مقتل الكاتبة والشاعرة آمنة حميد وطفليها بقصف على مخيم ...
- -كلاب نائمة-.. أبرز أفلام -ثلاثية- راسل كرو في 2024
- «بدقة عالية وجودة ممتازة»…تردد قناة ناشيونال جيوغرافيك الجدي ...
- إيران: حكم بالإعدام على مغني الراب الشهير توماج صالحي على خل ...
- “قبل أي حد الحق اعرفها” .. قائمة أفلام عيد الأضحى 2024 وفيلم ...
- روسيا تطلق مبادرة تعاون مع المغرب في مجال المسرح والموسيقا
- منح أرفع وسام جيبوتي للجزيرة الوثائقية عن فيلمها -الملا العا ...
- قيامة عثمان حلقة 157 مترجمة: تردد قناة الفجر الجزائرية الجدي ...


المزيد.....

- صغار لكن.. / سليمان جبران
- لا ميّةُ العراق / نزار ماضي
- تمائم الحياة-من ملكوت الطب النفسي / لمى محمد
- علي السوري -الحب بالأزرق- / لمى محمد
- صلاح عمر العلي: تراويح المراجعة وامتحانات اليقين (7 حلقات وإ ... / عبد الحسين شعبان
- غابة ـ قصص قصيرة جدا / حسين جداونه
- اسبوع الآلام "عشر روايات قصار / محمود شاهين
- أهمية مرحلة الاكتشاف في عملية الاخراج المسرحي / بدري حسون فريد
- أعلام سيريالية: بانوراما وعرض للأعمال الرئيسية للفنان والكات ... / عبدالرؤوف بطيخ
- مسرحية الكراسي وجلجامش: العبث بين الجلالة والسخرية / علي ماجد شبو


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - الادب والفن - اسماعيل شاكر الرفاعي - ليلة خضراء