أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - مواضيع وابحاث سياسية - رضا لاغة - المشروع الوطني لحركة الشعب و نظرية الثورة العربية















المزيد.....


المشروع الوطني لحركة الشعب و نظرية الثورة العربية


رضا لاغة

الحوار المتمدن-العدد: 5937 - 2018 / 7 / 18 - 02:21
المحور: مواضيع وابحاث سياسية
    


قلنا في مقالنا السابق أنه يتعين على القوى الناصرية في تونس أن يشتبكوا مع الواقع من أجل قضية مصيرية تستند إلى التزام مسئول بتجسيد المشروع الوطني .و في الحديث عن مستلزمات هذا المشروع من المفيد التوقف عند الخلاف الذي نسف إمكانية التعاون بين القوى القومية . إن هذه المسألة تأتي كأولوية بدونها لا يمكن لحركة الشعب كفصيل قومي أن تندمج اندماجا كاملا في الحياة السياسية لتحقيق الأفضل و البحث في الشروط الموضوعية لبناء دولة العدل القطرية. و لكن ليكن في علم الجميع نحن هنا لا نتحدث عن توحيد ، تلك الكلمة الطنانة التي صمّت آذان مناضلين حركة الشعب وهم يقطعون طريقهم نحو تجسيد مشروعهم الوطني.
هنا من الضروري التعرف على ما تطرحه القوى القومية التي أحجمت عن الانخراط في صلب الحياة الحزبية ضمن هياكل و أطر حركة الشعب و خيّرت الانزواء أو الاختيار الحر و الواعي للعمل الجمعياتي.
نقول ذلك لأن لنا اعتقاد جازم بأن الحديث عن آليات التنسيق للعمل القومي في الساحة القطرية لا يجب أن يظلّ رهين المفهوم الشخصي بدل الطرح السياسي . لأننا تعلّمنا أن الأفراد أي الزعماء ليسوا ضمانة للمشروع القومي بل إن المناخ الصحي المناسب لقاعدة واعية و عريضة من القوميين صلب هيكل جامع هو شرط أساسي للاتفاق على ملامح المشروع الوطني . من هذا المنظور يتم إعداد الأفراد الوحدويين و تنظيمهم سواء في حزب سياسي أو جمعياتي ، لممارسة الكفاح الثوري .
هكذا كان يجب أن تسير الأمور غير أن ما حدث رسّخ النزو للمواجهة التي أنتجت أول الأمر التشتت و الانقسام. و على الرغم من كون الجميع يسلّم بأن حركة الشعب هي رافعة التيار القومي و الممثل الشرعي الوحيد له على الصعيد الحزبي ، إلا أنها وقفت عاجزة إلى اليوم عن حلّ معضلة الدعوة للمشروع الوطني النابع من إيمانها بتعصير العمل القومي للمشروع العربي عموما.و هي التي لم تتمكن بعد توحيد الصيغ العملية حول جملة من المبادئ التي يجب أن يتأسس عليها الاقتناع بالعمل الحزبي:
1 ــــ الدولة القطرية هي حقيقة دولية و اجتماعية و اقتصادية و نفسية لم يعد من الممكن تجاوزها أو القفز فوقها .إن كل تفكير في العمل القومي لا يحترم هذا المعطى يظل تفكيرا ماضويا حالما. هل معنى ذلك أن نستسلم لقدر الإقليمية ؟
في الرد عن هذا الاشكال يتوجب على حركة الشعب وهي تدعو للمشروع الوطني أن تحسم منطلقاتها الفكرية لتميّز بين فلك الوطنية و القومية. إن ما نعنيه هنا هو أن يكون المشروع الوطني عبارة عن بلورة موضوعية لرؤية قطرية تنضوي ضمن رؤية أشمل للعمل القومي التقدمي. في هذه المرة ، نحن نتحدث عن بلورة نقدية تأصيلية تجديدية لنظرية الثورة العربية بوصفها مرجع للمشروع الوطني. فلا مجال للتفسّخ و الانسلاخ عن مرجعية تاريخية لها من المزايا علينا الكثير. قلت رؤية نقدية و ليس تملّكا دوغمائيا . و لأن النقد في جوهره قراءة تقويمية ، كان لا بد أن يتّفق مع الروح العلمية ذاتها التي اتّبعها عصمت سيف الدولة . فمثلما قطع مع منهج التجربة و الخطأ و اكتشف قوانين الجدل التي لا تتحيز في المادة كما توهّمت الماركسية بل في الإنسان كوحدة نوعية و عجيبة من المادة و الذكاء؛ يجب على القوى القومية اعتماد آلية النقد المؤسس . فنحن نستعد لنباشر هذا النقد في مستويات لاحقة انسجاما مع مقاصد الفكر الطليعي التي خطّها و تفعيلا للجدل الاجتماعي وفق متغيرات العصر و وفق نزعة تقويمية لتجربة لطالما نادت بالإعداد دون أن تراكم في طريقها ما يصلح أن يكون مرتكزا للأجيال القادمة.
الحديث عن المشروع الوطني إذن هو بمعنى ما حديث عن عيّنة تجريبية للمشروع القومي التقدمي المتعارف عليه ضمن نظرية الثورة العربية. و هنا يكمن دور النواة الصلبة لحركة الشعب التي تعتبر الدرع الواقي لها من الاخفاق و الاغتراب ضمن ممارسات ليبرالية خاوية. وهو ما يستلزم بالضرورة و بالقدر نفسه ، تثمين الدور الذي باشره المعلم من جهة كونه يمثل منعطفا تاريخيا ألهم القوى الطلائعية مناسبة محظوظة لتفرز ذاتها بما يؤهلها للفعل الثوري المتجانس بعيدا عن الاختراقات التي تعمل لحساب بعض الدول القطرية ذات التوجه القومي و بمعزل عن التطاحن العقائدي الذي ينتصر فيه المتخاصمون لهذه المرجعية أو تلك.
في هذا المستوى يمكن أن نتحدث عن الإعداد كطرح فريد في نظرية التغيير السياسي , فلم يعد من الجائز الحديث عن الانقلابات السياسية بل الاشتباك مع مختلف قضايا الواقع في مختلف الساحات العربية بما يضاعف من إمكانية الانتصار للمضامين القومية التي تخدم مشروع الوحدة. معنى هذا أننا عندما نطرح مسألة المشروع الوطني ، فإننا نقصد من وراء ذلك إعادة ترتيب عناصر الفعل السياسي في الساحة القطرية و إعادة إرساء علاقتها بالنحن في ظل التحديات التي نواجهها. يقول الجابري:" ما من شك في أن شعوب العالم العربي تجتاز اليوم ظروفا صعبة: تواجه تحديات تتهددها ليس فقط في هويتها كشعوب تتطلع إلى تحقيق نهضتها وتقدمها واستقرارها، بل تواجه تحديات وأخطارا تهدد كثيرا منها في كيانها كوجود. ومن هنا هذا السؤال الذي يفرض نفسه على كل شعب أو طائفة، سؤال: من أنا؟ من نحن؟ وهذا السؤال المقض للمضاجع لا يتعلق بالحاضر، بل يتعلق أكثر بالماضي والمستقبل! ".
و بصرف النظر عن التقييمات التي حفّت بالربيع العربي ، فإن هذا المتغير ، على الأقل في الساحة التونسية ، فرض تعاطيا جديدا مع قضيتين جوهريتين: مفهوم الدولة القطرية و مقولة الاعداد للتنظيم القومي ، عبر مضامين و رؤى جديدة.
أزمة الدولة القطرية و تنامي نفوذ فواعل التقويض
إن المتتبع لمجريات ما حدث ضمن الربيع العربي يلاحظ بسير أن مستقبل الدولة القطرية مهدد بالاختفاء و الزوال.وهي تقديرات لا تصب في مصلحة المشروع القومي بل ترتدّ به إلى ما دون الدولة القطرية.و لعل ذلك ما يفسر مشهد السيادة العاجزة و المعطلة لأجهزة الحكم. لذلك اعتبرنا أن المصالحة مع الدولة العميقة أو الحركة الدستورية هي ممارسة جائزة تكتيكيا و حضاريا لأنه دون ذلك نفوّت على أنفسنا مشهدا مواتيا للفعل و الاعداد و ننتكس إلى مقارعة انهيار الدولة و الاشتباك اللا متكافئ مع الاسلام السياسي.
و لعله من الأحوط و نحن نحلل هذه القضية أن نحدد الإطار السياسي الذي سنتحرّك فيه و الذي يقودنا مباشرة إلى موضوع المصالحة مرة أخرى ، و لكن هذه المرة ليس مع الحركة الدستورية على الصعيد القطري بل مع الطرح القومي برمّته.
و إنها لفرصة سانحة هنا أن نشير إلى أن فهمنا للدولة الوطنية يفترض إجابة بدئية عن السؤال التالي : هل المقصود بالدولة الوطنية هي الدولة القطرية أو بمعنى أخص الدولة الإقليمية؟ و هل يمكن أن نعتبر هذه التسمية مبرّرة؟
لنكن صرحاء ، إن تناول الدولة الإقليمية بما هي دولة وطنية ، يجلب الخلل و الفوضى لتاريخ الفكر القومي التقدمي ؛ لأنها تستعيد أطوار تلك المحاكمة التي أفضت إلى إدانة الإقليمية و ما يعنيه ذلك من رفض للتجزئة . بلا شك إن إدانة الدولة القطرية أدّى إلى معادات توجهاتها وفق تصوّر يضع الوحدة كأولوية مقابل تأجيل هموم التنمية مثلا. و هو موقف يستبطن فكرة أن التنمية لا يمكن أن تحدث داخل الدولة القطرية . أليست الدولة القطرية مدعوّة إلى أن تتصدّى لحل مشاكل التنمية في مجتمعها بوصفها مسئولة أمام شعبها الطامح للأفضل؟ أنا لا أناقش هنا الموقف الذي يقول إن التنمية الحقيقية لا تتحقق في شكلها الأمثل إلا حين تستجيب لحتمية التكامل العربي ، و إنما أطرح التنمية كمشغل أساسي للدولة القطرية كمنطلق لإنجاح مسار سياسي ما لعل تسميته المناسة عندنا في تونس هي الانتقال الديمقراطي.
تبدو هذه الملاحظة ذات تأثير حاسم ، لأن الإقرار بإمكانية وجود تماثل بين الدولة الوطنية و الدولة القطرية يخلخل الأحكام المسبقة و الإيحاءات الإيديولوجية و المعيارية. فنحن ننتقل من نظرة تبخيسية تحيّز الدولة القطرية كنقيض للوجود القومي و اعتداء على وحدته لنكون بعكس ذلك على استعداد لمنحها ما يضمن لها قدرا من المشروعية.
من المؤكد أن مثل هذا التماثل لا يجري التفكير فيه في كلّيته ، و إنما يكتشف بالرجوع إلى التوجّه السياسي و الإقتصادي و الثقافي للدولة القطرية. بمعنى آخر ليس هناك تمثّل صنمي للدولة القطرية ، إذ هي لا تجد ضمانتها الخاصة في ذاتها و إنما فيما تطرحه من مضامين لكسر عزلتها و تبيئة وجودها مع عمقها القومي. عندئذ يتّضح لنا بالطريقة نفسها ، أن وجودنا الهووي هو وجود مركب . و بالتالي نفهم الوطنية في سياق قطري و قومي.
إختيارنا للدولة الوطنية إذن ليس مجرد مساجلة مكشوفة ( غير بريئة) لإثبات معقوليتها ، فيجري قبولها وفق منطق التبرير و التقريظ و التمجيد بلا حد أو قياس. الأمر مختلف عن ذلك تماما ، فمقصدنا يتنزل في سياق فهم تطوّر نظرتنا للدولة القطرية كدولة وطنية. غير أن هذه الصفة تقوم على جملة من المحددات و الركائز التي سنأتي على ذكرها لاحقا.
من وجهة النظر هذه سنمارس صراحة ضربا من الإستفزاز لسيكولوجية الجمهور العروبي الذي يرفض بصورة قبلية الوجود العياني للدولة القطرية. أجل حصل هنا نوع من الديماغوجا العفوية و حتى اللاعقلانية التي حجبت أهمية أن يدمج الفكر القومي التقدمي في اهتمامه ، دمقرطة الدولة القطرية ، لأن الطريق الصحيح وفق ما تعلّمنا من درس 17 ديسمبر ، أن بناء الوحدة لا يتحقق إلا بين شعوب ديمقراطية . لقد ولّى عصر الإنقلابات العسكرية و عصر الدولة الإستبدادية و إن كانت ترفع راية الوطنية. لذلك نعتقد ، وهذا هو الشيء المهم ، أن هناك حاجة لتعديل الطريقة والفهم حول كيفية التعامل مع الدولة القطرية . ولكن بقي علينا أن نعرف متى و كيف يمكن أن تتحوّل الدولة القطرية من دولة إقليمية تناقض الوجود القومي إلى دولة وطنية قد تؤسس له؟
من الأكيد أن هذه الصيغة التي ستتخذها مطارحتنا من جهة كونها سنحت للدولة القطرية أن تحصل على قدر من المشروعية ، تتطلب منا إيضاحا لمفهوم الدولة الوطنية و ضبط شروط إمكانها.
إذا بحثنا عن تعريف عام للدولة الوطنية ، فإنها تبدو ، من زاوية ما ، نقيضا لدولة الإستبداد . غير أن ذلك لا يغنينا عن مواجهة اعتراض خطير مفاده: و هل ينهار معنى الوطنية بغياب الشرط الديمقراطي؟
صدام حسين مثلا كان وطنيا و دكتاتورا في الآن نفسه و الأمر يصدق على بشار الأسد. هؤلاء هم رموز للمقاومة الوطنية التي أبت أن تركع للأمركة و الصهينة .
إن إهمال هذه النقطة الفاصلة يدخل كثيرا من اللخبطة في مستوى المناقشة . صحيح أن الدولة المستبدة قد تعمل لأجل غايات و أهداف وطنية ، كأن تنخرط في معركة الإنفكاك من التبعية و تحرير الثروة ، غير أن الإستبداد لا يؤهلها لكي تجابه التناقضات الحاصلة في مجرى التطور الإجتماعي. إن الإستبداد يتحوّل ، من وجهة النظر هذه ، إلى مشكلة هيكلية لأن الدولة القطرية تدرك أن نظام وجودها الخاص مكوّن بمدركات مفروضة على الوعي المجتمعي.هنا تظهر وظيفة الديمقراطية كأساس لحل هذا التناقض لأن غياب الشرط الديمقراطي يعمّق أزمة الدولة القطرية رغم كونها تشدد على ما هو وطني لتعود لنقطة انطلاقها ، أي بوصفها وجود غير شرعي مناقض لا فقط للوجود االقومي و إنما أيضا للوجود القطري.
هذا الفرق بين الدولة الوطنية و الدولة المستبدة يبلغ ذروته عندما يمتلك الشعب مقدرته الفعلية على ممارسة الثورة ضد الدكتاتورية . من هنا نعتقد أن ثورة 17 ديسمبر تؤلف إحدى الصفات الأكثر ألمعية في تاريخنا العربي المعاصر ، لأنها جسّدت الأصالة الأساسية للنموذج التصوّري لمفهوم الدولة الوطنية( لم أقل العياني) كوجود سياسي يجب أن يحترم المبادئ التالية:
ـــ إستقلالية القرار الوطني
ــ تجذير الديمقراطية التشاركية التي تحترم إرادة الشعب و كرامة المواطن.
ـــ مقاومة الظلم الإجتماعي من خلال تطبيق منوال تنموي يكرّس مبدأ العدالة الإجتماعية.
ـــالحوكمة الرشيدة و مجابهة كل ضروب المحسوبية و استباحة المال العام.
ـــ الوعي بخلفية الإنتماء للوجود القومي العربي و ترجمته في التوجهات السياسية و الإقتصادية و الثقافية .
وفق هذه المبادئ نقر بوجود علاقة وثيقة بين الدولة الوطنية و رهان المصالحة القومية . إلا أنه من الضروري هنا أن نتحدث عن مضمون المصالحة . بمعنى أدق : أي مصالحة نريد؟
تفاعلا مع هذا التساؤل نكتفي بالإشارة إلى الضوابط التالية:
ــ إن المصالحة بما هي ضرورة تاريخية تجعل من الدولة الوطنية كدولة قطرية تناضل لأجل تعزيز انتمائها في محيطها العربي ، إلى الحد الذي يملي عليها أن تضع كل إمكاناتها لأجل انبعاثه.
ــ إن المصالحة تكون ممكنة متى كانت الدول تعبيرا عن إرادة الشعوب . ولن تكون كذلك إلا إذا كانت نظمها ديمقراطية.
ـــ إن المصالحة مسئولية شعبية قبل أن تكون مسئولية أنظمة و دول.
ــ إن المصالحة هي معركة القوى الديمقراطية التقدمية بتياراتها الإيديولوجية و نقاباتها و هيئاتها المدنية و ليست حكرا على تيار سياسي بعينه.
إلى هذا الحد ننتهي إلى نقطتين أساسيتين:
ـــ إن تقويض الدولة القطرية اليوم يكشف عن إرادة تتعجل القفز نحو الفوضى السحيقة حيث تتشكل طبيعة مؤلمة لما دون الدولة القطرية.
ـــ لا يسعنا ، في ظل هذا السياق التاريخي، أن نستبعد مطلقا حقيقة الإعداد للدخول إلى عتبة الحكم وفق نظرة متجهة نحو دمقرطة الدولة القطرية لتغدو دولة وطنية داعمة مرحليا لوجود سياسي عربي موحد.
و لكن السؤال الخطير الذي يظل يلاحق جمهور عريض من القوميين: ما هو شكل الاعداد لتحقيق المشروع الوطني كمقدمة للمشروع القومي؟

بتوضيح معناها اللغوي ، و نحن نبحث بشكل مختلف عن الإيديولوجية التقليدية لتبرير مقولة الاعداد ، يمكننا أن نستخلص السمات العامة للعقل الاعدادي من حيث أنه يقوم على استراتيجيا تشتمل على أبعاد رمزية كانت محددة لظهور التيار القومي الذي تتلخص أطروحته في رفض شعار العلنية و بالتالي الطعن في مشروعية المواقف التي تنمو ضمن الطبيعة المعاشة للأحزاب.
إن تجربة الاعداد نمت ضمن هذا التحيز للعمل السري ، على نحو جعلت من الفكر الاعدادي ممركزا على ذاته . و قبل أن نتطرق للحديث عن رؤيتنا من فلسفة الاعداد تمهيدا لمراجعة بعض مفترضاتها البديهية يتوجب علينا أن نتوقف عند مفهوم الاعداد نفسه و بيان أفقه الكوني . هذا ما أكده عز وجل في قوله: " وأعدّوا لهم ما استطعتم من قوّة ومن رباط الخيل ترهبون به عدوّ الله و عدوّكم و آخرين من دونهم لا تعلمونهم الله يعلمهم..." ( الأنفال ، آية 60 )؛ موضحا بذلك أن من مقتضيات الفهم الذاتي للدعوة تشكيل نظم القوة المادية و المعنوية التي تتيح بلوغ الغايات المضبوطة و بمعايير الفعل المبني على التخطيط. إن ما يهمنا هنا ليس الصيغة العقدية التي خاطب بها المولى عز و جل عباده فحسب بأن أمرهم و حثهم على اكتشاف قيمة الاعداد، و إنما الطريقة المميزة في رسم وعي استراتيجي مبكر لضمان أداء ناجع يستوعب الأفعال و المقاصد لعباده المسلمين.
لنتحدث قليلا عن مضمون هذه الكلمة من زاوية لغوية .
إن أول مسألة تثير الطليعة العربية وهي تتخذ من الاعداد مرحلة تحضيرية لبناء التنظيم القومي هي تفكيك مقولة الاعداد إلى مهام . من ينفذ ؟ وفق أية ضوابط؟ و من يصدر التعليمات؟ و من هي الجهة التي تقيم؟
هل من طريقة مخصوصة ينبغي وضعها لضبط هذا الجسد البشري من الاعداديين الذي دأبت الطليعة على كبته طوال التاريخ ضمن عالم سري؟
هناك حقيقة معلومة في الساحات العربية مفادها أن تجارب الاعداد التي خيضت و تخاض تتخذ شكل الحراك السري من حيث هو مشروع إيديولوجي مناقض للنظام العربي الرسمي.غير أن هذا لم يكن ليجعلنا نتخلى نهائيا عن التموقع العلني مع ما بدأنا نلاحظه اليوم من تكلّس أو حتى انسداد لأفق التجربة الاعدادية على نحو ما فهمناها أي بما هي فكرة كلية مجردة تستنكف من الانخراط في المؤسسات الرسمية القائمة بحجة أنها تنبذ كل ما هو اقليمي و لا تستهدف سوى التنظيم القومي.فلم يبقى غير التدرب بشكل فردي ضمن الجمعيات و بعض أحزاب الضرورة .هذا التوضيح يدل بما فيه الكفاية على أحد أمرين: إما أن تكون تجربة الاعداد هي محض ادعاء حالم و مجرد محاولة يائسة لاحتواء التمزق و الفشل الذي منيت به الطليعة العربية ؛ أو أننا لم نفهم المجال الذي ينبغي أن تمارس فيه الطليعة العربية نشاطها. وهو ما يستدعي تكوين فكرة أشمل عن المقاصد التي دعا إليها عصمت سيف الدولة . اسمحوا لي هنا بالقول أنني أختلف تمام الاختلاف مع بعض الأخوة الذين يلزمون أنفسهم بمبدأ التبرأ من كل مظاهر التحزب و تقلد المناصب داخل مؤسسات الدولة القطرية .إن هذه النظرة جعلتهم يسكنون عالما مثاليا متعاليا عن الواقع اكتشفنا يوما بعد يوم في خضم المستجدات الخطيرة التي حولت الأمة العربية إلى منخفض استراتيجي لمشاريع استعمارية ، أن إدانة الواقع قد تكون مقدمة لتغييره و لكنه حتما لن يتغير ما دمنا نبقي على هذا التصور المغلق لمفهوم الإعداد . غير أنه بالرغم من هذا الطرح الذي لا يكف عن مراجعة مكونات الإعداد و إخضاعه لمحك النقد ، يبقى من المسلم به أنه يتعين على الطليعة العربية أن تأخذ على عاتقها من جديد انجاز مهام اعدادية بمنطق يستند الى منجزات تمكنها من احداث قطيعة مع الافعال الاداتية التقليدية. نحن هنا تحديدا نتحرك ضمن مجال حركة الشعب ( الساحة التونسية نموذجا) ليس فقط كحزب ضرورة بل كرافعة للتيار القومي التقدمي.
لعل الصورة الأكمل لهذه التعبيرة السياسية تتوضح عندما تنجح في فرض دعائم المشروع الوطني.إذ من هنا فقط نستطيع أن نرى أفق الرؤية القومية عبر التراكم في الممارسة الميدانية لأفراد أو حتى زعامات قد يصمدون أمام اغراءات الفعل السياسي كما قد يسقطون في قلب السياق السياسي ليتبخر المشروع الوطني في أذهانهم و لا يبقى منه سوى بروتوكولات تنتجها العلاقات الاجتماعية البينية داخل الحزب.
لقد كان عصمت سيف الدولة دقيقا عندما ميّز بين محطتين : الأولى تقوم على التكاثر و الكثافة المتزايدة لمن يعتبون أنفسهم إعداديين ، أي من يضعون أنفسهم في خدمة المشروع الوطني كمقدمة للمشروع القومي أو حتى المغاربي. و الثانية التي تقوم على منطق الفرز بما هي نواة بناء القيادة الوحدوية لتأسيس التنظيم القومي. إنهم ينتظمون وفق فعل المراكمة ذاته فيضاعفون من أشكال الترابط بشعور يتوجه بهم نحو التنظيم القومي . عندها فقط يمكن أن يفقدوا مبرر الانتماء للحزب و إن كان حركة الشعب. و السبب يردّ إلى كونهم تحوّلوا إلى كوكبة طلائعية لهم مسؤولية لا فقط قطرية ( بلورة المشروع الوطني) و إنما بالاضافة إلى ذلك مسؤولية قومية لا يكتفون فيها بالتعبير عن كونهم طلائع الأمة بل يتولون مهمة تنظيم القوى الحية فيها.
عند هذه النقطة نستطيع أن نبدأ بتناول مسألة إضفاء الشرعية على الانتماء الحزبي. ليتم إعادة طرحها على كل القوميين الذين لم ينخرطوا في حركة الشعب رغم ما يزخرون به من طاقات هي بلا شك طاقات معطّلة لم تنتج تمثّلا سليما في لعبة التوازنات الجدية التي أفرزها المتغير السياسي الذي حدث في تونس . إنه متغيّر عكف فيه الإسلام السياسي على توخّي المناورة السياسية ، إذ أدرك أن الطرح الإيديولوجي يمثّل تهديدا لاستمرارية وجوده.
إن الخطأ المميت للقوى القومية اليوم أن تستمر في مربع المنع و القمع من الولوج إلى ممارسة العمل الحزبي كتربة خصبة لعمل جماهيري مؤسس على مشروع وطني يمزّق التجمعات و التكتلات القديمة القائمة على منطق قولي لسياسات لا وطنية.
من المؤكد أننا هنا لا نريد أن ننكر حقيقة عدم التحاق بعض الوجوه الوطنية لحركة الشعب كرافد للاثراء و تجويد الأداء بخبرات لها منسوب عال في الاقتصاد و التربية و الاجتماع ... إن هذا العزوف نتيجة طبيعية ، لأننا نتعامل هنا بنوع خاص مع كل وافد جديد.إننا نراه كحاصل إضافي هامشي بل ربما نشكك في صلاحية الانتساب بمبررات تنسف فكرة المصالحة كقولنا: صحيح هذا الرجل محنّك و كفاءة و لكنه تجمعي .إنها ذهنية افتراضية مغلقة و اقصائية تعدم عامل التمدد بمصادرة خاطئة لدى بعض الهياكل الذين يعتقدون أنهم ضمن التنظيم القومي. هذا الخلط وجدناه قاتلا و سدا منيعا يحول دون تعزيز جهاز الحركة.
إذا أردنا أن نتابع موضع المشروع الوطني لحركة الشعب يتعيّن علينا إذن أن نبرم رؤية تعاقدية مستندة إلى حقيقة مفادها أن حركة الشعب لكامل عموم الشعب بعيوبهم و مثالبهم. و لأنها حمالة لمشروع وطني هي معنية على تربيتهم التربية الحزبية السليمة ليضعوا في قلب أولوياتهم المسألة الوطنية .
مع اعترافنا بهذا كله نصرّ على تأكيد أن بناء المشروع الوطني ليس مشروعا مخصوصا لحركة الشعب ضمن هياكلها الضيقة و المتسلسلة ، إننا في حالة كهذه نسبح ضد تيار الواقعية السياسية . إن هذا الموقف يعدّ موفقا زائفا و ضارا في نفس الوقت.إنه زائف لأن مسالة الوطنية لا يمكن بأي حال من الأحوال أن تختزل ضمن حركة الشعب حصريا ، بل ربما يوجد ممن ينتسب لحركة الشعب تعوزه الوطنية و رايته الانتهازية الكامنة. ألم يكن السادات خائنا و مطبّعا وهو سليل حركة الضباط الأحرار !
وهو ضار لأنه يضمر افتراضا بأن حركة الشعب قادرة بمفردها على مواجهة تحديات المشهد السياسي.وهو تقدير يجعل من الحركة مباينة للواقع في خططها و تكتيكاتها.
بهذا تكون إستراتيجية الحركة مرحليا الشروع في عملية تطوير للآلة التنظيمية فتبادر إلى خلق حالة تدفّق لكوادر بشرية وطنية . وهو مشهد يتكرر مع أحزاب ليس لها رصيد وطني و نجحت في استقطاب شخصيات وطنية وازنة. طبعا إن الأمر ليس سهلا كما قد يتبادر للذهن . علينا أن نعترف حقيقة أننا نتعرض ، حتى ونحن دائبون على تشخيص هذه الجدة للممارسة الحزبية الجماهيرية ، للإعاقة و العرقلة . وهذا طبيعي و منتظر لأن الانطباع النضالي المهيمن على الحركة استئصالي و ليس فيه أنفاس لمناورة تكتيكية . كيف لا و الذهنية غارقة في بحر النقد بل حتى الثلب العدمي للمشهد السياسي. و في المقابل من السهل أن نتعرف على جملة العقبات الحقيقية التي تعوق انتشار حركة الشعب . وسوف نقوم برفع مضمون الحديث عن هذه العقبات بمقدار ما نستطيع و نحن نستعرض ملامح المشروع الوطني. ( يتبع)



#رضا_لاغة (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- المشروع الوطني لحركة الشعب: جدلية التفاعل بين الديمقراطية و ...
- حركة الشعب : الناصرية في تونس و أسس المشروع الوطني
- دقائق متكاسلة
- كش مات ... حكومة يوسف الشاهد و شهوة المتناقضات في فلك الاتحا ...
- المشهد السابع ، رواية ريح من داعش
- المشهد السادس ، رواية ريح من داعش
- المشهد الخامس ، رواية ريح من داعش
- المشهد الرابع، رواية ريح من داعش
- المشهد الثالث ، رواية ريح من داعش
- المشهد الثاني من رواية ريح من داعش
- المشهد الأول - رواية ريح من داعش-
- في مئوية عبد الناصر، هل الناصرية ماض نبكي على أطلاله أم مشرو ...
- ديمقراطية في عصر الكوسموبوليتيكا
- العولمة و انشطار مفهوم السيادة
- مكانة عصمت سيف الدولة في بلورة فهم تقدمي للفكر القومي
- حين تكون قوميا تقدميا
- استقالة محسن مرزوق : صناعة التحولات و كسر النموذج المقفل لحز ...
- رمال القحط
- معقولية خطاب غير خلاّق
- رسالة مفتوحة إلى فخامة رئيس الجمهورية التونسية


المزيد.....




- كيف تمكنّت -الجدة جوي- ذات الـ 94 عامًا من السفر حول العالم ...
- طالب ينقذ حافلة مدرسية من حادث مروري بعد تعرض السائقة لوعكة ...
- مصر.. اللواء عباس كامل في إسرائيل ومسؤول يوضح لـCNN السبب
- الرئيس الصيني يدعو الولايات المتحدة للشراكة لا الخصومة
- ألمانيا: -الكشف عن حالات التجسس الأخيرة بفضل تعزيز الحماية ا ...
- بلينكن: الولايات المتحدة لا تدعم استقلال تايوان
- انفجار هائل يكشف عن نوع نادر من النجوم لم يسبق له مثيل خارج ...
- مجموعة قوات -شمال- الروسية ستحرّر خاركوف. ما الخطة؟
- غضب الشباب المناهض لإسرائيل يعصف بجامعات أميركا
- ما مصير الجولة الثانية من اللعبة البريطانية الكبيرة؟


المزيد.....

- في يوم العمَّال العالمي! / ادم عربي
- الفصل الثالث: في باطن الأرض من كتاب “الذاكرة المصادرة، محنة ... / ماري سيغارا
- الموجود والمفقود من عوامل الثورة في الربيع العربي / رسلان جادالله عامر
- 7 تشرين الأول وحرب الإبادة الصهيونية على مستعمًرة قطاع غزة / زهير الصباغ
- العراق وإيران: من العصر الإخميني إلى العصر الخميني / حميد الكفائي
- جريدة طريق الثورة، العدد 72، سبتمبر-أكتوبر 2022 / حزب الكادحين
- جريدة طريق الثورة، العدد 73، أفريل-ماي 2023 / حزب الكادحين
- جريدة طريق الثورة، العدد 74، جوان-جويلية 2023 / حزب الكادحين
- جريدة طريق الثورة، العدد 75، أوت-سبتمبر 2023 / حزب الكادحين
- جريدة طريق الثورة، العدد 76، أكتوبر-نوفمبر 2023 / حزب الكادحين


المزيد.....

الصفحة الرئيسية - مواضيع وابحاث سياسية - رضا لاغة - المشروع الوطني لحركة الشعب و نظرية الثورة العربية