|
|
سيرَة أُخرى 29
دلور ميقري
الحوار المتمدن-العدد: 5144 - 2016 / 4 / 26 - 01:05
المحور:
الادب والفن
1 ورثتُ عن الوالد عشقَ الورود، وبعضَ الخبرة في شؤونها. كذلك الأمر، شاركته في ذوقه عموماً. فمثلاً، كان أبي لا يستأنس بأزهار الربيع من الفصيلة البصلية كالنرجس والتوليب. في المقابل، كانت جنينته تجنّ بأنواع أخرى خلال هذا الفصل، وعلى الأخص الزنبق والقرنفل وفم السمكة. النوع الأخير، كان دائماً هوَ المفضّل لديّ. حينما كان يحين أوانُ فم السمكة، كانت جنينة منزلنا في الشام تموج بأغراسه ذوات القامات الفارعة والعبق الرائع والألوان المتنوّعة. الوالد، كانت زهرته الأثيرة مُعرَّفة في الشام بإسمٍ طريف؛ شَمَّر سيقانه. لما انتقلتُ إلى منزل جديد، في بداية عام 1999، كان الوالد قد مضى على وجوده في السويد حوالي ثلاث سنوات. في ربيع ذلك العام، بدأتُ في الإهتمام بحديقة البيت. المستأجر السابق، وكان سويدياً، يبدو أنه لم يكن مشغولاً سوى بكلبه. فالحديقة، لم تحتوِ سوى على بعض أزهار النرجس، المغروسة بشكل إفرادي وعشوائي. ذات ظهيرة من خريف السنة نفسها، كان الوالد لدينا بالبيت. رحتُ إذاك أستخرج بصلات النرجس، لزرعها في مكان مناسب. وفي الوقت عينه، كنتُ بصدد زرع بصلاتٍ اشتريتها للتوّ. كان الوالدُ يراقب عملي: " عليك أن تحفر عميقاً لبصلات النرجس، لكي لا تتجمّد خلال الشتاء "، قال لي أكثر من مرة. في ربيع العام التالي، انبثقت أغراسُ النرجس، التي استقرت بصلاتها في عمق مناسب. أما البصلات الأخرى، فبقيت الحشائش تغطي أجداثها.
2 مجنونة المنزل، كانت تغطي جدار المطبخ بأوراقها المسحورة ذات اللون النهدي. في مقابلها تماماً، ثمة ياسمينة تعانق نافذة غرفة الضيوف وقد تناثرت بعض نجيماتها الناصعة على أرض الديار. هذا المنظر الجميل، كان يغريني في عُمْرٍ أصغر بالجلوس في غرفة الضيوف المُشرعة النوافذ. آنذاك، كانت الوالدة تعبّر عادةً عن ضيقها: " لماذا لا تقرأ في حجرتك؟ ". وهيَ نفسها، من أعلمتني في زمنٍ متأخر بالأصل الكريم لياسمينة المنزل. فقد كانت الأم ذات مرة في بيت أقاربنا، من آل قربينة، فاقتطعت من عريشتهم عرقاً رقيقاً ثمّ زرعته في أرض الديار. الحنين، كان يدفعني في الغربة إلى استحضار أشياءَ تمتّ إلى ذكريات الوطن. فما أن أعددتُ حديقةَ الدار، حتى رحتُ أبحثُ في المشاتل عن عريشتيّ ياسمينة ومجنونة. لما اشتريتُ شتلتين منهما، كان الوقتُ في مثل هذه الأيام المبكرة من الربيع. مخدوعاً بشمس نيسان، أخرجتُ فوراً الشتلتين إلى الحديقة ووجدتُ لكلّ منهما مكاناً مناسباً. بعد بضعة أيام، ذوت المجنونة أولاً بفعل برد الليل، ثم لحقتها الياسمينة. في ربيعٍ آخر، وكنتُ قد توسّعتُ بقراءاتي عن الأزهار، كنتُ أخرج شتلتيّ المجنونة والياسمينة صباحاً، ثمّ أعيدهما للداخل عصراً. ذات ظهيرة من عزّ الصيف، مرّ رجلٌ عجوز، ايرانيّ الأصل، من أمام حديقة شقتي. على حين فجأة، توقّفَ الرجلُ فصارَ يتأمل العريشتين المزدهرتين وقد بدت علامات الذهول على وجهه. عندما ميّزَ وجودي على الشرفة، حياني بيده ثمّ مضى وهوَ ما يفتأ يعبّر برأسه عن مشاعر الإعجاب.
3 كرمة منزلنا، المعتلية على دقرانٍ خشبيّ مشبّك وبعلو يقارب الأمتار الثلاثة، كانت تغطي معظم مساحة أرض الديار. كان منظرها فاتناً صيفاً، بعناقيدها الزرقاء اللون وأوراقها الخضر الكثيفة. من ناحيتي، كنتُ أفضّلُ السطوَ على عنب بيت العم، المعروف نوعه بالزيني. إذ اعتدتُ آنذاك على تسلق جدار مطبخنا، وصولاً إلى تلك الدالية المتهدلة فروعها على سطحه. عصر أحد الأيام، كنتُ قد زحفتُ إلى الدالية وبدأت بتناول حبّات العنب اللذيذة. على حين فجأة، إذا بالعمّ يخرج من حجرة نومه فيقتعد على كرسيّ تحتَ موقفي مباشرةً. شعورُ الخجل، لا الخوف، جعلني متسمّراً في مكاني لأكثر من ساعة وإلى حين مغادرة العمّ مكانه. هنا في الغربة، مررتُ ذات صيفٍ برجل سويديّ يبيعُ شَتْلات دوالي على طرف ساحة كبيرة. أخترتُ عندئذٍ إحداها، وكانت بطاقة التعريف تقول بأنها تنتج عنباً أزرق اللون. كذلك الأمر، فقد زوّدني الرجلُ بمعلومات مفيدة عن طريقة زراعتها وحفظها شتاءً. اخترتُ للشتلة بقعة مكشوفة للشمس، ثمّة عند مدخل المنزل. مع حلول الخريف، قمتُ بتقليم جذع الدالية ثم جعلتُ حوله كُمَّ كنزة صوفية قديمة، وبعد ذلك أهلتُ الترابَ عليه. ربيعاً، وبعد عدة أسابيع، تبدد قلقي حينما انبثقت براعم الكرمة. فلم يأتِ الصيف إلا وفروعها قد وصلت إلى سطح حجرة مستودع الدار، الخشبيّ. ذات يوم، وكانت والدتي تزورني، كشفتُ لها أوراقَ الدالية عن عناقيدٍ زرقاء اللون وكبيرة الحجم. إلا أنّ طعم العنب، في المقابل، لم يكن مستساغاً. إذ كان من النوع المخصص لصناعة النبيذ.
#دلور_ميقري (هاشتاغ)
ترجم الموضوع
إلى لغات أخرى - Translate the topic into other
languages
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
الأُمثولات الثلاث
-
سيرَة أُخرى 28
-
سيرَة أُخرى 27
-
سيرَة أُخرى 26
-
نافخ البوق
-
أجنحة
-
أقوال غير مأثورة 4
-
سيرَة أُخرى 25
-
سيرَة أُخرى 24
-
سيرَة أُخرى 23
-
سيرَة أُخرى 22
-
القيدُ الحديديّ
-
خنجرٌ نحاسيّ
-
طبيب
-
حافظةُ الحظ
-
معلّم
-
أعمى
-
فنانة
-
قصة صداقة
-
في المتحف
المزيد.....
-
تايلور سويفت تتألق بفستان ذهبي من نيكولا جبران في إطلاق ألبو
...
-
اكتشاف طريق روماني قديم بين برقة وطلميثة يكشف ألغازا أثرية ج
...
-
حوارية مع سقراط
-
موسيقى الـ-راب- العربية.. هل يحافظ -فن الشارع- على وفائه لجذ
...
-
الإعلان عن الفائزين بجائزة فلسطين للكتاب 2025 في دورتها الـ1
...
-
اكتشاف طريق روماني قديم بين برقة وطلميثة يكشف ألغازا أثرية ج
...
-
من الجو..مصور يكشف لوحات فنية شكلتها أنامل الطبيعة في قلب ال
...
-
التمثيل الشعري للذاكرة الثقافية العربية في اتحاد الأدباء
-
الكوتا المسيحية: خسارة ريان الكلداني وعودة الجدل حول “التمثي
...
-
مؤرخ وعالم آثار أميركي يُحلل صور ملوك البطالمة في مصر
المزيد.....
-
يوميات رجل لا ينكسر رواية شعرية مكثفة. السيد حافظ- الجزء ال
...
/ السيد حافظ
-
ركن هادئ للبنفسج
/ د. خالد زغريت
-
حــوار السيد حافظ مع الذكاء الاصطناعي. الجزء الثاني
/ السيد حافظ
-
رواية "سفر الأمهات الثلاث"
/ رانية مرجية
-
الذين باركوا القتل رواية
...
/ رانية مرجية
-
المسرواية عند توفيق الحكيم والسيد حافظ. دراسة في نقاء الفنون
...
/ د. محمود محمد حمزة
-
مداخل أوليّة إلى عوالم السيد حافظ السرديّة. الطبعة الثانية
/ د. أمل درويش
-
مشروع مسرحيات مونودراما للسيد حافظ. اكسبريو.الخادمة والعجوز.
...
/ السيد حافظ
-
إخترنالك:مقال (الثقافة والاشتراكية) ليون تروتسكي. مجلة دفاعا
...
/ عبدالرؤوف بطيخ
-
المرجان في سلة خوص كتاب كامل
/ كاظم حسن سعيد
المزيد.....
|