أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني - فاطمة ناعوت - لابد من الموسيقى














المزيد.....

لابد من الموسيقى


فاطمة ناعوت

الحوار المتمدن-العدد: 5123 - 2016 / 4 / 4 - 08:18
المحور: العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني
    


على أحد مقاعد الصف G بالمسرح الكبير في دار الأوبرا المصرية التي أسميها “دولة الأوبرا” لأنها دولة كاملة بشعبها وحكامها ودستورها وقوانينها وملابسها ونورها وظلامها، أجلس في هدوء وقد تعطّلت حواسي كافة لأصير كلي آذنًا تُصغي باهتمام إلى أوركسترا القاهرة السيمفوني يعزفون بجمال فادح افتتاحية: "أساتذة الغناء من نورنبرج"، للعظيم ريتشارد فاجنر، بقيادة المايسترو الألماني ستيفان فراس. لا أدري لماذا يُلحّ الآن على ذاكرتي أحدُ المشاهد الآسرة في فيلم "تايتنيك". كانت السفينة العملاقة تغرق بالفعل: المسافرون المتحضّرون يخرجون بهدوء من غرفهم صاعدين نحو سطح السفينة، والهمجيون منهم يتدافعون بغلاظة نحو قوارب النجاة، الأمهات تبكين في صمت وهن يحتضنّ اطفالهن ينتظرن الحتف في غور المياه المتجمدة، والرجال يهرعون ليحملوا المُسنّين والصغار نحو مظنّة النجاة. جزيرة حاشدة بالأرواح والأحلام وحب الحياة، تتهاوى ببطء نحو قاع الأطلسي البارد إلى غير عودة حاملةً معها مئات الجثامين لممن كانوا قبل برهة رجالا في بدلات الإسموكنج وسيدات في فراء الثراء والفساتين الأنيقة وأطفالا يحملون الدُّمى والأحلام والبراءة وجهالة معنى الموت والغياب. وفي غمرة هذا المشهد المأساوي وفي أتون الصراع العنيف بين الموت والحياة، قرّر مايسترو السفينة أمرًا. أشار بيده، فحمل العازفون قيثاراتهم وبدأوا العزف، دون أن يفكر واحدُهم أن يلقي بموسيقاه جانبًا ليلحق بآخر قارب نجاة متبقٍ من أطلال الهول العظيم. ظلوا يعزفون حتى سقوط آخر ضحية من السفينة. لماذا؟ لأنهم جنودٌ. والجندي لا يبرح ساحة الوغى دون النصر أو دون الشهادة. إنهم جنودٌ في ساحة الجمال والترقّي الإنساني والسموّ الروحي. إنها الموسيقى، أعذب ما ابتكر الإنسانُ من فنون، وأجمل مِنح الله لبني آدم.
لماذا تذكّرتُ هذا المشهد الهائل وأنا أجلس أمس السبت في دولة الأوبرا أنصتُ إلى فاجنر؟ أخبئُ أطفالي في قلبي، وفي عقلي تحتشدُ الأفكارُ والمخاوفُ والآمال الطيبة لبلدي وللعالم. أنظر إلى غدٍ لا أعلم غدَه، وأرمي ببصري إلى مدى لا أبصر أفقَه، ومع هذا فلابد من الموسيقى.
مشهدٌ مسرحي آخر يغزو عقلي الآن فيما أنصتُ إلى فاجنر، وألمح عصا المايسترو تعلو وتهبط وخصلاتُ شعره الأجعد تتماوج من وثبات جسده النحيل في عباءة قائد الأوركسترا السوداء الشهيرة مع طوفان النغم. مشهدٌ من مسرحية "يوليوس قيصر" لمايسترو الأدب “وليم شكسبير”. كان قيصر يستعرض قائمة الشخصيات المرشحة لخيانته والتآمر ضده لاغتياله. مرّ ببصره فوق اسم "بروتوس" ربيبه وحبيبه فلم يتوقف كثيرًا، فظهره آمنٌ من غيلة صديقه الحبيب، قبل أن يعرف أنه قاتله. ثم وقعت عيناه على كاسيوس، فهتف لنفسه قائلا: “إن كان عليّ أن أحذر أحدًاـ فليكن كاسيوس. حذار من كاسيوس، فإنه لا يحبُّ الموسيقى.”
صدق قيصر، وصدق شكسبير، فإن مَن لا يسمع الموسيقى مجرمٌ قلبُه، مصدوعةٌ روحُه، من السهل أن تتوقع منه آيات الغلاظة والعنف والغدر، لأن روحه لم تُهذَّب. الموسيقى تُروّض الكائن الهمجي الذي يعيش داخل أرواحنا. لهذا يلجأ الغربُ إلى حل يعيدون به تأهيل الخارجين عن القانون. يجعلون فرقًا موسيقية أوركسترالية كبرى تزور السجون بآلاتهم الموسيقية يأتون للسجون ليعزفوا للمساجين، والدراسات أثبتت بالفعل أنهم يخرجون من سجونهم أقل عدوانية وأكثر تحضّرًا ورقيًّا، لينخرطوا في سلك البشر الطبيعيين ويخوضوا الحياة داخل إطار القانون وتحت مظلة الأخلاق. الأمر إذن ليس عبثًا ولا رفاهية كما يظن البسطاء. الموسيقى والفنون الجميلة ضرورة حياة وليست رفاهًا للمرفهين. لهذا قال فيسلوف الإغريق أفلاطون في القرن الرابع قبل الميلاد: “علّموا أولادكم الفنون ثم أغلقوا السجون". فالمجتمعات التي تحترم الفنون الرفيعة وتُغرق أبناءها في دروبها، قلّما تحتاج إلى السجون، لأن نسبة الجريمة فيها تكاد تنعدم. والعكس صحيح. ولهذا أعتزّ كثيرًا بعنوان ديواني الأخير: “الأوغادُ لا يسمعون الموسيقى". ولكن رغم كل ما سبق، لا أضمن باطمئنان أن "كل" من يقف اليوم خلف قضبان السجون المعتمة من أولئك الأوغاد الذين لا يسمعون الموسيقى. بل ربما بعضهم يدخل السجن لأنه أحب الموسيقى جدًّا، وأحب الخير والحق والجمال. للموسيقى ضرورة؟ نعم. لابد لابد من الموسيقى.



#فاطمة_ناعوت (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- أمهاتُ الشهداء وأمهات الدواعش
- عبقريةُ البسيط وعبطُ الفيلسوف
- سوطٌ لكل امرأة
- كُن مرآةً ولا تكن عكازًا
- البيض الأرجنتيني
- الست فضة والست ماري
- لقاء الرئيس الذي لم أحضره
- هل نلغي الدستور؟
- الكود الإنساني للأطفال
- تيمور السبكي... ونحن والدستور
- اسجنوا بورخيس مع أطفال المنيا
- أيها الشعراء غنّوا وأُسجنوا!
- الحريةُ مناطُ التكليف | أخرسونا لتدخلوا الجنة!
- لماذا لم يعصفِ اللهُ بالملائكة؟
- ازدراءُ الأديان ازدراءٌ للأديان!!
- سياطٌ على ظهر الحكيم
- قصيدة للشاعرة فاطمة ناعوت (سجن)
- سأهربُ إلى قبر جدتي
- قانون -نيوتن- الرابع
- ماذا قال لي برنارد شو


المزيد.....




- نزل قناة mbc3 الجديدة 2024 على النايل سات وعرب سات واستمتع ب ...
- “محتوى إسلامي هادف لأطفالك” إليكم تردد قنوات الأطفال الإسلام ...
- سلي طفلك مع قناة طيور الجنة إليك تردد القناة الجديد على الأق ...
- “ماما جابت بيبي” تردد قناة طيور الجنة الجديد 2024 على النايل ...
- مسجد وكنيسة ومعبد يهودي بمنطقة واحدة..رحلة روحية محملة بعبق ...
- الاحتلال يقتحم المغير شرق رام الله ويعتقل شابا شمال سلفيت
- قوى عسكرية وأمنية واجتماعية بمدينة الزنتان تدعم ترشح سيف الإ ...
- أول رد من سيف الإسلام القذافي على بيان الزنتان حول ترشحه لرئ ...
- قوى عسكرية وأمنية واجتماعية بمدينة الزنتان تدعم ترشح سيف الإ ...
- صالة رياضية -وفق الشريعة- في بريطانيا.. القصة الحقيقية


المزيد.....

- الكراس كتاب ما بعد القرآن / محمد علي صاحبُ الكراس
- المسيحية بين الرومان والعرب / عيسى بن ضيف الله حداد
- ( ماهية الدولة الاسلامية ) الكتاب كاملا / أحمد صبحى منصور
- كتاب الحداثة و القرآن للباحث سعيد ناشيد / جدو دبريل
- الأبحاث الحديثة تحرج السردية والموروث الإسلاميين كراس 5 / جدو جبريل
- جمل أم حبل وثقب إبرة أم باب / جدو جبريل
- سورة الكهف كلب أم ملاك / جدو دبريل
- تقاطعات بين الأديان 26 إشكاليات الرسل والأنبياء 11 موسى الحل ... / عبد المجيد حمدان
- جيوسياسة الانقسامات الدينية / مرزوق الحلالي
- خطة الله / ضو ابو السعود


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني - فاطمة ناعوت - لابد من الموسيقى