أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني - فاطمة ناعوت - سأهربُ إلى قبر جدتي














المزيد.....

سأهربُ إلى قبر جدتي


فاطمة ناعوت

الحوار المتمدن-العدد: 5083 - 2016 / 2 / 23 - 14:06
المحور: العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني
    


قبل أسبوعين، في زيارتي الأخيرة لمدينة الأقصر، قررتُ أمراً خطيراً حين دخلتُ وادي الملكات، "تا-ست-نيفيرو" حيث مدفونة جدّاتي ملكات الأسرة الثامنة عشر وما يليها من أسر حتى الأسرة العشرين.
رحت أرقب ظلالهم وهي تنسحب وتنحسر من على الأرض الصخرية لتصعد تدريجياً بوصة بوصة على الجدار المعتم ذي النقوش والرسوم الملونة التي عبرت آلاف السنين دون أن يخفت إشراقها. تركوني ومضوا بعدما وضعوا الحجر الثقيل فوق فتحة القبر. أقترب رويداً رويداً من قاع القبرِ المخيف. لا جثمان هناك، أين ذهب جسد جدتي؟ ربما سرقه اللصوص منذ مئات السنين وباعوه في سوق النخاسة الميتة، كما يبيع أجلاف داعش أجساد النساء في سوق النخاسة الحية اليوم. قررت أن أهرب من تجّار الدين إلى هنا. السجن مع أموات الجسد، أنبل وأرقى من السجن مع أموات الروح.

سأدخل لأُدفن حيّة كأنني "عايدة" الحبشية ذات الشعر الأجعد والبشرة السمراء، وأنتظر حبيبي المصري "راداميس" الفارس الوسيم الذي حكم عليه الكهنة بعقوبة الموت، عقاباً على جريمة الخيانة العظمى التي لم يرتكبها. الكهنة، في كل زمان ومكان، يوهمون الشعوب الطيبة بأنهم ظلالُ الله على الأرض، يتكلمون بلسانه ويطبّقون أوامره التي لا يسمعها سواهم، لأن بينهم وبين الله خطّا ساخناً مباشراً! والبسطاء يصدّقون!

كم من نفوس بريئة أُهدِر دمها باسم السماء، في كلّ مكانٍ وزمان، والسماء بريئة عما يصفون. كم من أمم ضُللت بأكاذيب كهنة نصبوا أنفسهم آلهة جوار الله! والبسطاء يصدّقون فيصنعون من أنفسهم أدوات وأصابعَ لألسن الكهنة، فيشهرون سيوفهم وينحرون الرقاب، ويطيّرون الرؤوس، ويهرقون الدماء، تلك التي ترفض الأرض الطيبة أن تشربها لأن عينها، كما عين السماء، ساهرة ترقبُ البشر وتتأملُ كيف يظلم الإنسان أخاه الإنسانَ، باسم الله، حاشاه.

أكتب لكم من داخل قبرٍ فرعونيّ موصَد، وصامت. أرى بعين خيالي جثامينَ مومياوات مدثّرة في أكفانها الكتّانية، وصمت لا يجرحه إلا همسُ شابٍّ لحبيبته، ينتظران، معي، موتَهما، وموتي.

بعد برهة سأسمع نغمات "ڤ-;---;--يردي" الأوبرالية، تعلن مقدم موكب الجنود في "نشيد النصر" من أوبرا عايدة. سأحتمي بتحضّر أجدادي من قسوة الطغاة قُطّاع الألسن مكممي الأفواه. سأعتصم بقبر جدتي من قبور الراهنين الذين يحملون أقفالا يودون وضعها على قلوبنا وعقولنا. هذا تاريخ مصر الأبهر، الذي أرهصتْ جدارياته وبردياته تلك القصةَ الموجعة التي كتبها عالم المصريات الفرسي "أوجست مارييت" ليسجل الصراعَ الأزليَّ بين الحبِّ وبين الواجب، بين الحبيبة وبين الوطن، وكذلك بين الحقّ وبين الباطل، بين العقل، وبين التغييب.

في المجتمعات المُثقلة بالجهالة، يصير كلُّ الناس كهنة وحرّاساً لأبواب السماء. يدخلون هذا الجنة، ويدفنون ذلك في قبر موصد، مثل ذاك الذي دُفن فيه راداميس، وعايدة، وأنا معهما. فشكراً للقبر الطيب الذي يحمينا من الطغاة.

لا يباري شعور الرهبة وأنت راقد في قبر أسلافك في هذا الحصن الحجري المحفور في بطن الجبل، إلا شعورك بالفخر لأنك ابن تلك الحضارة العريقة التي احترمت الإنسان وأجلّت المرأة ورحمت الحيوان وأشفقت على النبات. قبل أن أستسلم لوخزات النغم السوبرانو تخترق قلبي خارجة من حناجر أوبرالية عبقرية، مصرية وإيطالية، وقبل أن تشخصَ عيناي لتمتلآ برسومات الجدران الملكية في هذا القبر الأنيق، أهمس لله ربّ العالمين:

"يا ربيّ وربّهم، أنا لم أكذب، ولم أسرق، ولم أقتل، ولم أتسبب في دموع إنسان. أنا يا ربي لم ألوّث مياه النهر أبداً، ولم أوقف جريان ماء. أنا يا ربي لم أعذب حيوانًا ولم أقتل روحاً وإن كانت روح فراشة صغيرة. أنا لم أعذب نباتاً بأن نسيت أن أسقيه. أنا يا ربُّ لم أنشر البغضاء بين الناس، بل أشعت السلام من حولي وكتبت عن الجمال وعن حتمية شيوع قيم المحبة بين البشر. أنا يا ربي أحببتك بملء قلبي فما عاد في قلبي مكانٌ لكراهية إنسان، حتى أعدائي لم أقبض على نفسي متلبسةً بكراهيتهم. حكموا عليّ بالسجن جوار اللصوص والقتلة وخونة الأوطان وتجّار الجسد لأنني طالبتُ بالرحمة للحيوان إن قدّموه قرباناً لك، وأنت غنيٌّ عنّا وعن قرابيننا. أفزعتني نهارُ الدماء في طرقات بلادي تُهرق من أضحية عذّبوها قبل نحرها، فلم يحدّوا نصالَها كما أمرت تعاليمُك، ولم يحسنوا إليها بأن منعوها أن ترى رفيقاتها تُذبح أمام عيونها، ولم يرحموا الأطفال لئلا تشهد تعذيب مخلوقاتك العجماء تُنحر بقسوة الفاشيين وبرودة قلوب النازيين. لم يحسنوا الذبح كما أمرتنا أن نفعل، فغضبوا مني حين ناشدتُهم بحسن الذبح كما أمرتنا أن نفعل يا ربي. أشفقتُ على أضحية العيد، فجعلوا مني أضحية كل عيد. فلا هم نحروا أضحية العيد برحمة، ولا هم نحروني بشرف. ولله الأمر من قبل ومن بعد".

فاطمة ناعوت

http://www.24.ae/article.aspx?ArticleId=223378



#فاطمة_ناعوت (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- قانون -نيوتن- الرابع
- ماذا قال لي برنارد شو
- رسالة إلى الله
- اسجنوا أولئك الثلاثة
- أم الشهيدة والأرنب المغدور | سامحيني يا سمراء!
- افتحوا نوافذَ قلوبكم للحب
- هذا العماءُ خطأٌ في الإجراءات
- الإنسان الطيب
- معرض الكتاب.... ومحاكمتي | كلاكيت ثاني مرة
- إلى الشيخ الحويني .... قنصُ العصافير من وراء الحُجُب
- وأنتم اللاحقون!
- عن النقاب سألوني
- قضية ازدراء جديدة | مَن الذي روى الرواية؟
- ميري كريسماس رغم -غلاستهم
- لا تخرج قبل أن تقول: سلاما
- أنتم تحاكمون الخيال 2/2
- اعتذارٌ رسميّ لأقباط مصر
- شحاذ العمّ نجيب
- مذبحة 2016
- أنتم تحاكمون الخيال!! 2/1


المزيد.....




- “عيد مجيد سعيد” .. موعد عيد القيامة 2024 ومظاهر احتفال المسي ...
- شاهد..المستوطنين يقتحمون الأقصى في ثالث أيام عيد -الفصح اليه ...
- الأردن يدين سماح شرطة الاحتلال الإسرائيلي للمستوطنين باقتحام ...
- طلاب يهود بجامعة كولومبيا: مظاهرات دعم فلسطين ليست معادية لل ...
- مصادر فلسطينية: أكثر من 900 مستعمر اقتحموا المسجد الأقصى في ...
- مئات المستوطنين يقتحمون المسجد الأقصى تحت حراسة إسرائيلية مش ...
- سيبدأ تطبيقه اليوم.. الإفتاء المصرية تحسم الجدل حول التوقيت ...
- مئات المستوطنين يقتحمون باحات الأقصى في ثالث أيام عيد الفصح ...
- أوكرانيا: السلطات تتهم رجل دين رفيع المستوى بالتجسس لصالح مو ...
- “خليهم يتعلموا ويغنوا ” نزل تردد قناة طيور الجنة للأطفال وأم ...


المزيد.....

- الكراس كتاب ما بعد القرآن / محمد علي صاحبُ الكراس
- المسيحية بين الرومان والعرب / عيسى بن ضيف الله حداد
- ( ماهية الدولة الاسلامية ) الكتاب كاملا / أحمد صبحى منصور
- كتاب الحداثة و القرآن للباحث سعيد ناشيد / جدو دبريل
- الأبحاث الحديثة تحرج السردية والموروث الإسلاميين كراس 5 / جدو جبريل
- جمل أم حبل وثقب إبرة أم باب / جدو جبريل
- سورة الكهف كلب أم ملاك / جدو دبريل
- تقاطعات بين الأديان 26 إشكاليات الرسل والأنبياء 11 موسى الحل ... / عبد المجيد حمدان
- جيوسياسة الانقسامات الدينية / مرزوق الحلالي
- خطة الله / ضو ابو السعود


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني - فاطمة ناعوت - سأهربُ إلى قبر جدتي