|
أم الشهيدة والأرنب المغدور | سامحيني يا سمراء!
فاطمة ناعوت
الحوار المتمدن-العدد: 5076 - 2016 / 2 / 16 - 19:45
المحور:
العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني
اسمُها: "سمراء". نُدلّلها باسم: "سمرا"، ويُدلّلُها زوجُها الطيب باسم: "سمارة". كلاهما مكلومٌ حزينٌ مجروحُ القلب. كلاهما مطعونٌ بخنجر الثكل الموجع. امرأة أربعينية شابة، رقيقةُ الحال، تشبه معظم الأمهات المصريات الصابرات اللواتي سعادتهن تنحصرُ في أمور جدّ بسيطة. أن تشتري قطعة جديدة من السجاد الرخيص تغطّي بها بلاط شقتها المكسور. أو تطفُر ابتسامةُ الرضا من عينيها السوداوين حين تشتري بالقسط "طقم خشاف" أو "طقم فناجين قهوة"بسيطًا عليه صورة روميو وجولييت، تخبّئه في كرتونة تحت السرير من أجل جهاز ابنتها الصبية الجميلة التي مازالت في الثانوية العامة. لكن ابنتها العروس التي تمت خطبتها قبل خمس سنوات، لن تكبر لتدخل الجامعة، وحتى لن تنضج بما يكفي لتدخل بيت عريسها. ستظل صور كثيرة تجمع تلك الفتاة وخطيبها معلقةً على حوائط بيت الأم، دون أن تجاورها صورةٌ واحدة لتلك الفتاة في فستان الزفاف الأبيض والطرحة التلّ المزركشة تداري جزءًا من ملامح خجلها. لن تُلتَقط تلك الصورة الخالدة أبدًا لأن العروس لم تكبر لتُزفّ إلى عريسها، ولن تكبر أبدًا. ستظلّ "مريم مكرم" في عامها السابع عشر، عذراءَ أبديةً لا تعرف طريق الزواج. ولن تهنأ أمُّها "سمرا" برؤيتها في كوشة الفرح؛ لأن العروس لم تعد هناك. العروس اقتنصتها نبالُ صياد جهول، كمثل عصفور نحيل لا يقوى على رد رصاص الغدر. صعدت مريم للسماء يوم جمعة الغضب 28 يناير 2011. قناصٌ حقير قنص روحَها برصاصة اخترقت صدغها الأيسر وخرجت من أذنها اليمنى، على مرأى ومسمع من أمها الحزينة "سمراء" ووالدها العامل البسيط "مكرم”. كنّا وقتها نُعدُّ ملف "الزهور التي تفتحت في جناين مصر" بجريدة "المصري اليوم”. كلّفني الأستاذ مجدي الجلاد، رئيس تحرير الجريدة آنذاك، بالاتصال ببعض أسر أولئك الشهداء لجمع معلومات عن الشهداء من أجل الملف. وكان عليّ أن أهاتف خمسة وعشرين رقمًا هاتفيًّا. كانت البداية مع أسرة مريم. بمجرد أن استمعتُ لصوت الأم ونشيجها بالهاتف لم أستطع إكمال المحادثة وانخرطتُ في نوبة بكاء حاد مع الأم. ولم أكمل بالطبع الاتصال ببقية الأرقام وأوكلتُ المهمة لزميل صحفي بالجريدة. لكن صوت الأم ظلّ يطاردني في صحوي ونومي حتى قررتُ أن أقتل الألم، بألم أكبر. قررتُ زيارة تلك الأسرة حتى يخفّ وجعي. وذهبت إلى بيتهم المتواضع في حي الزاوية الحمراء. هالني أن وجدتُ صورة لي معلقة جوار صور مريم الكثيرة على الحائط. علمتُ من الأم أن مريم كانت تعتزُّ بمقالاتي وكتبي وتعتبرني مثلا أعلى لها. بكيتُ مع الأم ما شاء لنا البكاءُ ثم صرنا صديقتين. صعدت بي الأمُّ إلى سطح البناية لتُريني أين تلقّت ابنتُها الرصاصة في صدغها، وأين صرخت من الألم، وأين سقطت على الأرض، وأين تسامت روحها إلى السماء. أرتنى آثار بقع الدماء التي بعدُ لم تجفُّ على بلاط السطح. دماءٌ عزيزة بريئة اختلطت بدموع لا تجفُّ تذرفها عيونُ الأم كل نهار وكل مساء. هذا السطح أصبح موحشًا كأنه ضريح لفتاة لم تُكمل العشرين. لم تعد الأم تصعد إلى السطح حتى لا يقتلها الوجع. فكرتُ كيف أحوّل مسرح الموت إلى مسرح حياة. لابد أن يمتلئ هذا المكان المقبض بصدح الطيور ونوح الحمام وضغيب الأرانب وصوصوة الكتاكيت. ونفذنا الفكرة من فورنا. وامتلأ السطح المقبور بالحياة والمرح والوثبات والضحكات. شاهدتُ ابتسامة سمراء لأول مرة منذ عرفتها. صارت تصعد كل يوم إلى السطح لتُطعم دجاجاتها وبطاتها وتسقي حماماتها وتلاعب أرانبها. وكنتُ كلما زرتُها، بعد عدة دقائق من جلوسي في غرفة مريم أقول لها بمرح: “ياللا ياللا نطلع نلعب مع أصحابنا فوق في السطوح!” ونصعد لأرى كيف تتكاثر حظيرتُها وتنمو وكيف يفقس البيض ليخرج منه صغار جدد، وكيف تلد الأرانب كرات صغيرة من القطن الأبيض الجميل سرعان ما تنمو لتتكاثر بدورها. لقد نجحنا وانتصرنا على الموت وحوّلناه إلى حياة! ذات يوم عزمتني سمرا على الغداء، وبعدما تناولت طعامي قلتُ لها جملتي الشهيرة: “يالللا نطلع نلعب مع أصحااااابنا!”، فضحكت سمراء وقالت: “كل سنة وأنتي طيبة، كله اتباع خلاص. فسألتُها بحزن عن أرنب أسود كنتُ قد صادقته وصادقني: “وفلفل كمان؟ الله يسامحك!” فابتسمت وقالت بحنوّ: “عيب يا أستاذة، إلا فلفل مقدرتش أبيعه، محدش يتهنا بيه غيركّ!” فقلتُ لها: “طيب هو فين يعني؟" فأجابت بعفوية وطيبة: “ماهو ده اللي عملت لك عليه الملوخية يا حبيبتي.” ولم أدرِ إلا والدنيا تدور بي، وظللتُ أصرخ وأبكي وأتقيأ حتى فقدتُ الوعي. القتلُ صعبٌ. إزهاقُ الروح صعبٌ. الذبحُ صعبٌ، حتى وإن كان ذبح أرنب صغير مخلوق من أجل أن يُذبح ليدخل بطوننا. الذبح شيء لا يستوعبه عقلي حتى وإن كان حلالا بأمر من خالق الذابح والمذبوح. منذ ذلك اليوم، لم تطأ قدمي بيت صديقتي سمراء. مرَّ عام، أو ربما عامان، ولا يكفُّ رنين هاتفها يدق باب هاتفي لأزورها. سامحيني يا سمراء، مازلتُ أتعافى.
#فاطمة_ناعوت (هاشتاغ)
ترجم الموضوع
إلى لغات أخرى - Translate the topic into other
languages
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
افتحوا نوافذَ قلوبكم للحب
-
هذا العماءُ خطأٌ في الإجراءات
-
الإنسان الطيب
-
معرض الكتاب.... ومحاكمتي | كلاكيت ثاني مرة
-
إلى الشيخ الحويني .... قنصُ العصافير من وراء الحُجُب
-
وأنتم اللاحقون!
-
عن النقاب سألوني
-
قضية ازدراء جديدة | مَن الذي روى الرواية؟
-
ميري كريسماس رغم -غلاستهم
-
لا تخرج قبل أن تقول: سلاما
-
أنتم تحاكمون الخيال 2/2
-
اعتذارٌ رسميّ لأقباط مصر
-
شحاذ العمّ نجيب
-
مذبحة 2016
-
أنتم تحاكمون الخيال!! 2/1
-
شجرةٌ صنوبر وشيءٌ من الفرح
-
دبي الجميلة.... سلامتك!
-
أسوأ صورة في 2015
-
قُبلةُ حبيبي
-
الموءودة
المزيد.....
-
جولي دهقاني في بلا قيود: لدينا أفراد في الكنيسة لا يقبلون سل
...
-
40 ألف فلسطيني يؤدون صلاة الجمعة بالمسجد الأقصى
-
الإفراج عن خطيب المسجد الأقصى وقاضي قضاة مدينة القدس بعد أن
...
-
رئيس تحرير جيروزالم بوست ليهود نيويورك: هذا دليلكم للإطاحة ب
...
-
رئيس تحرير جيروزالم بوست: هكذا يمكن ليهود نيويورك إسقاط ممدا
...
-
أوليفييه روا: الغرب لا يرى الإسلام مشكلة ثقافية بل كتهديد وج
...
-
البيت الأبيض: واشنطن قد تدعم تصنيف جماعة الإخوان -إرهابية-
-
المحامي العام يكشف تفاصيل تتعلق بوفاة شاب في الجامع الأموي
-
من سوريا إلى ألمانيا .. العنف الطائفي وصل الشتات السوري
-
صحيفة سويسرية: الأقليات المسيحية في الشرق الأوسط بين التهديد
...
المزيد.....
-
علي قتل فاطمة الزهراء , جريمة في يترب
/ حسين العراقي
-
المثقف العربي بين النظام و بنية النظام
/ أحمد التاوتي
-
السلطة والاستغلال السياسى للدين
/ سعيد العليمى
-
نشأة الديانات الابراهيمية -قراءة عقلانية
/ د. لبيب سلطان
-
شهداء الحرف والكلمة في الإسلام
/ المستنير الحازمي
-
مأساة العرب: من حزب البعث العربي إلى حزب الله الإسلامي
/ حميد زناز
-
العنف والحرية في الإسلام
/ محمد الهلالي وحنان قصبي
-
هذه حياة لا تليق بالبشر .. تحرروا
/ محمد حسين يونس
-
المرحومة نهى محمود سالم: لماذا خلعت الحجاب؟ لأنه لا يوجد جبر
...
/ سامي الذيب
-
مقالة الفكر السياسي الإسلامي من عصر النهضة إلى ثورات الربيع
...
/ فارس إيغو
المزيد.....
|