أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - حوا بطواش - عازفة البيانو














المزيد.....

عازفة البيانو


حوا بطواش
كاتبة

(Hawa Batwash)


الحوار المتمدن-العدد: 5110 - 2016 / 3 / 21 - 00:07
المحور: الادب والفن
    



لم أنتبِه متى اعتلتِ المنصة، جلستْ وبدأتْ عزفها في تلك الأمسية، فقد كنتُ مأخوذا في حديثٍ مع صديقي كمال، الذي التقيتُه من جديد قبلها بيومين، بعد خمسة عشر عاما من الغياب. دعاني للقاء في ذلك المطعم وبنبرة غامضة أضاف أن لديه مفاجأة لي. خفتَتِ الأصوات، خيّم السكونُ على المكان وانجذبت العيون نحو عازفة البيانو.
انبعثت نغمات «سوناتا لضوء القمر» بعذوبة متناهية، تهزّ أوتار القلوب، حملتْني في ثوانٍ إلى دنيا بعيدة، رائقة، جميلة. كنتُ مشدوهًا. حتى كمال انقطع عن ثرثرته لا محالة، استغرق في الصّمت ومن حين إلى آخر أرسل نحوي نظراتٍ غريبة لم أعرف تفسيرها.
دوّى المكان بتصفيق طويل بعد أن أتمّت عزفها، وعندها فقط، عندما قامتْ عازفة البيانو من مكانها وانحنتْ برأسها شاكرة الحضور... عرفتُها! كانت هذه حنين.
جلس كمال موجّها إليّ نظرات تشي بالاستمتاع . «مفاجأة جميلة، أليس كذلك؟» قال.
تأمّلتُها وهي واقفة هناك، جنب البيانو، بفستانٍ أحمر، لامع، أنيق. قوامها ما زال رشيقا كما كان دوما، شعرها الأسود طويل، غزير، يغطّى كتفيها، وملامحها هادئة، رقيقة، بات يشوبها شيءٌ من الحزن. ابتسمتْ بحياءٍ ممزوج بالكبرياء، وسرعان ما هبطتْ من المنصة واختفتْ وراء الكواليس.
«لماذا أردتَ أن ألتقيها؟» سألتُ كمال متعجّبا.
«لأنني أعرف كم أردتَ فعل ذلك قبل سنوات.»
«تغيّر الكثير من حينها.»
«شيءٌ واحد لم يتغيّر. أنت.»
«حتى أنا تغيّرتُ.»
«ما زلتَ وحيدا.»
لم أرُد. بعد لحظات، سألته: «متى التقيتَها؟»
«منذ أقل من شهر. جئتُ إلى هنا مصادفة ورأيتها.»
«إذن، فقد عادت.»
«نعم. عادت.»

* * *
منذ تركتْ القرية وسافرت إلى فرنسا لدراسة الموسيقى لم أرَها. كانت موهوبة جدا. سمعتُ أنها تزوّجت هناك وتركت دراستها... ولكن لم أعرف أكثر من ذلك.
كانت فتاة جميلة جدا، رقيقة، ذكية، وكثيرون من الشباب كانوا يتوقون لابتسامة صغيرة من شفتيها، طموحاتها كبيرة، مستقبل باهر ينتظرها... وأنا... كنتُ أتوق للتحدّث إليها، لدعوتها ربما على فنجان قهوة... في الليل، راودتني في أحلامي، وفي النهار، رافقتني في أفكاري،... ولكن... ماذا كان لديّ لأقدّمه لها؟ كنتُ مجرد شاب بلا مواهب... بلا مال.
* * *
منذ ذلك اليوم، بدأتُ أرتاد المطعم كل نهاية أسبوع، أستمع إلى عزفها، أتأمل وجهها الرقيق وابتسامتها الساحرة. تعجبتُ: ترى، لماذا عادت إلى البلاد؟ بتُّ أتوق للتحدّث اليها.
تحدثتُ إلى صاحب المقهى حول رغبتي بذلك، فقال لي إنها لا تجالس الزبائن، وحين قلتُ له إنني أرغب فقط في التعبير لها عن إعجابي بعزفها، قال: «يمكنك أن تكتب لها ذلك في رسالة قصيرة وأنا سأتكفّل بإيصالها لها.»
وفي اليوم التالي، كتبتُ لها:
في عزفك الفرح
في وجهك الهدوء
وفي قلبي الفضول
نعيم

ومعها قررتُ أن أرفق باقة من الورد الأحمر... ورقم الهاتف.
* * *

بعد أيام، بعد أن أتمّتْ عزفها وهبطت من المنصة، وإذ كنتُ جالسا بمفردي أرتشِف قهوتي... فوجئتُ بها. «نعيم؟»
التفتُّ إليها. كنتُ عاجزا عن النطق من فرط دهشتي.
قالت: «أرجو أنني لا أزعجك.»
«لا، أبدا.» قلتُ ودعوتُها للجلوس في المقعد المقابل.
جلست أمامي، آسرة بجمالها. قالت: «شكرا لك على الورد... وعلى الرسالة.»
ابتسمتُ لها. «شكرا لردّك.»
«الحقيقة، في العادة، لا أرد. ولكن...» لم تُكمِل.
طمأنتُها: «لستِ مضطرّة أن تشرحي.»
خيّم علينا الصمت. ناديتُ للنادل وطلبتُ لنا القهوة.
«عزفك جميل جدا كما كان دائما.» قلتُ لها. «ما زلتُ أذكر كم كنتِ موهوبة وطموحاتك كبيرة.»
أومأت برأسها علامة الإيجاب، وابتسمتْ قليلا. «الطموح كبيرٌ،» قالت. «ولكن الحب أكبر.»
«حقا؟» تعجبتُ
«طبعا.» ردّت جازمة. «ألا توافق معي؟»
«لا أدري.»
«فهمتُ.»
«ماذا فهمتِ؟»
«أنك لم تجرّب الحب.»
ضحكتُ. «ربما.»
لم ترد، وأنا فكّرتُ في زواجها العاجل وتنازلها عن طموحاتها ببساطة.
فسألتها: «وهل يستحق الحب كل هذه التضحية؟»
فاجأها سؤالي. وبعد تفكير طويل، قالت: «نعم.» ثم أضافت مؤكّدة بصوت حازم: «طبعا.»
ارتشفتُ من فنجاني وأنا أحدّق في عينيها وأحاول قراءة أفكارها. لم أقُل شيئا. سمحتُ لها بالتفكير معمّقا في قولها.
بعد دقيقتين، قلتُ لها: «الحبُ وهمٌ.»
«ولكنه وهمٌ جميلٌ.»
ثم أخبرتني أنها تزوّجت رجلا فرنسيا وقعت في حبه خلال دراستها. كان يتعلم معها وكان موسيقيا موهوبا. تزوجا وأنجبا ابنة، وقد قرّرت ترك دراستها لأسباب مالية، فقد انقطع عنها أهلها بسبب زواجها من الفرنسي. قبل عام مات زوجها في حادث سيارة وقرّرت العودة إلى البلاد، ولكن ليس إلى القرية. إنها تعيش في المدينة، تعمل عازفة بيانو وتربّي ابنتها التي تبلغ من العمر الآن عشر سنوات، لوحدها.
«وماذا عنك؟» سألتني.
أخبرتها أنني أعمل سائق باص، ما زلتُ أعيش في القرية... و... ما زلتُ لوحدي. لم أقُل لها ذلك، ولكنها ربما فهمت لوحدها.
«أنا سعيدة بلقائنا.» قالت ثم أخذت تنبش في حقيبتها.
وفجأة، أحسستُ بيدها في يدي. «هذه بطاقتي.» سمعتُها تقول وهي تضعها في يدي. «اتّصل بي.»
اضطربت أنفاسي داخل صدري وأنا أحسّ بلمستها الدافئة. سحبتُ يدي بسرعة وشكرتُها.
***
مضى أكثر من شهر على لقائنا. أستعيد حديثنا في ذهني كل صباح وكل مساء، صورتها البهيّة ماثلة أمام عينيّ، أتأمّل في البطاقة... وأفكّر.






#حوا_بطواش (هاشتاغ)       Hawa_Batwash#          



الحوار المتمدن مشروع تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم. ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي، انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة في دعم هذا المشروع.
 



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- نظرة إلى الوراء
- أشواق (قصة مترجمة)
- صمت
- جدي، التستر والثقة بالآخرين
- مزاج، رجال وفشة خلق
- الزوج المثالي
- خواطر عن العنصرية، العلمانية والتعاطف الإنساني
- أنا شركسي... أنا شركسية
- اختفاء رباب ماردين 28 (الأخيرة)
- شوق مؤجل
- الضمبازا
- اختفاء رباب ماردين 27
- اختفاء رباب ماردين 26
- اختفاء رباب ماردين 25
- اختفاء رباب ماردين 24
- العائد
- انفجار السكوت
- انما للصبر حدود
- مفاجآت على الطريق
- حبيبتي الفيسبوكية


المزيد.....




- فيلم -باليرينا-.. درس جديد في تصميم الأكشن على طريقة -جون وي ...
- التشادي روزي جدي: الرواية العربية طريقة للاحتجاج ضد استعمار ...
- ما آخر المستجدات بحسب الرواية الإسرائيلية؟
- تردد قناة ماجد الجديد لأطفالك 2025 بأحلى أفلام الكرتون الجذا ...
- -أسرار خزنة- لهدى الأحمد ترصد صدمة الثقافة البدوية بالتكنولو ...
- بمناسبة أربعينيّته.. “صوت الشعب” تستذكر سيرة الفنان الراحل أ ...
- خطوات الاستعلام عن نتيجة الدبلومات الفنية بالاسم فقط “هنــــ ...
- في ذكرى رحيل فلاح إبراهيم فنان وهب حياته للتمثيل
- الفنان صبيح كلش .. حوار الرسم والتاريخ
- مرتديًا بذلته الضيقة ذاتها .. بينسون بون يُصدر فيديو كليب سا ...


المزيد.....

- الصمت كفضاء وجودي: دراسة ذرائعية في البنية النفسية والجمالية ... / عبير خالد يحيي
- قراءة تفكيكية لرواية -أرض النفاق- للكاتب بشير الحامدي. / رياض الشرايطي
- خرائط التشظي في رواية الحرب السورية دراسة ذرائعية في رواية ( ... / عبير خالد يحيي
- البنية الديناميكية والتمثّلات الوجودية في ديوان ( الموت أنيق ... / عبير خالد يحيي
- منتصر السعيد المنسي / بشير الحامدي
- دفاتر خضراء / بشير الحامدي
- طرائق السرد وتداخل الأجناس الأدبية في روايات السيد حافظ - 11 ... / ريم يحيى عبد العظيم حسانين
- فرحات افتخار الدين: سياسة الجسد: الديناميكيات الأنثوية في مج ... / محمد نجيب السعد
- أوراق عائلة عراقية / عقيل الخضري
- إعدام عبد الله عاشور / عقيل الخضري


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - الادب والفن - حوا بطواش - عازفة البيانو