|
- الوهم اللذيذ - .. قصة قصيرة
أحمد فيصل البكل
الحوار المتمدن-العدد: 5103 - 2016 / 3 / 14 - 11:15
المحور:
الادب والفن
كان كل ما حوله فارغا لا باطن له ، أو هكذا كان يحدّثه قلبه ، الأمواج التى تتلاحق لتتكسّر على أطراف الرمال البيضاء ثم تعاود الكرّه من جديد ، وحبّات الندى التى لم تكد تستقر بين أصابعه حتى تتلاشى وكأنها لم تكن . كانت ليلته الأخيرة في أولى إجازاته الصيفية ب " شرم الشيخ " ، وفي ذلك اليوم بالذات أحس أن الساعات تدفع بعضها بعضا ، وأن التفاصيل تصطرع من حوله لئلا يبقى منها شيئا في قلبه بعكس الأيام السابقة الرتيبة . قضى ساعات الصباح الأولى في استقبال آشعة الشمس الوضّاءة مستلقيا في بلاج فندق " شرم جراند بلازا " على سطح المياه الدافئة تاركا صفحتها الصافية تتلاعب بجسده ما شاء لها هواها ، خُيّل إليه وكأنما هو كان عاريا في مواجهة الطبيعة وكأنه الإنسان الأول ، كأنه آدم يفتح عينيه البريئتين ووجدانه البكر على جمال الطبيعة وقسوتها للمرة الأولى ، أو ناسك يتعبّد في محرابها صامتا ، واستولت عليه وحشة فاتنة ، وحدة لم يكن في استطاعته إلا أن يستعذب ألمها . كان يجد لذّة في تلك اللا مبالاة التي يبديها إزاء كل ما حوله ، وكأنه ينتقم بشكل ما من هؤلاء اللذين لم يعنوا يوما به . استسلم للمياه التي جعلت تدغدغ جلده ، وأمهل الشمس ما يكفيها كي تلفح حواسّه ما استطاعت ، بينما كان يلح عليه سؤالا ما عن أهله اللذين لم يعودوا يهتمّون بأي من أفعاله ، كان يود أن يستمرىء شعورهم بالرفض تجاهه ، غير أنه لم يبلغ منهم ما يريد . ولأن الحياة المعاصرة لا تترك للمرء متسعا كي يدرك ذلك الحد الفاصل بين المزاج الصوفي والمزاج المتوتّر الذي تفرضه عجلة السوق التي ليس في إمكاننا إيقافها ، كان عليه أن ينتقل من عالم الطبيعة إلى عالم الإنسان .
ما أن تجاوز حافة ديسكو "Little Buddha" حتى وجد نفسه يذوب على غير إرادة منه في قلب ساحة الرقص ، وتعانقت الأيدى التي كانت تبدو بين الفينة والاخرى غريبة عن بعضها البعض ، وعلى وقع نغمة " لما بدا يتثنّى " التي جمعت المزاج الفارسي والغربي راح الجميع يتثنّى ويتعانق ، وأثارت الموسيقى في أعماقه إحساسا بقبول حياته للمرة الأولى بكل ما فيها ، وشعر أن قلبه مستعد في تلك اللحظة بالذات لاحتضان كل ما استبد به من شقاوة ، بل خُيّل إليه وكأنه يدرك مغزى كل شقاء ، ومعنى كل ألم . ولم تكن هي إلا لحظات حتى أدرك بعينيه فتاتين يعرفهما جيدا ، إحداهما كانت زميلة له في "إدارة أعمال" ، مّرت أيام وسنوات على تلك العلاقة التي لم تبدأ يوما كما أراد هو لها ، غير أن الأيام لم تزد سُمرتها إلا نضارة ، ولم تبلغ من خصلاتها الكستنائية المذيّلة بضفيرتين قصيرتين معقوصتين أي مبلغ ، ونظرتها التي لم يفهمها يوما هى الاخرى على ما هى عليه ، إنها تثبّت عينيها في عينيه للحظات ليشعر وكأنها لا تريد غيره ، ثم تلتف بجيدها وتثنيه ليحس أن نظرتها لم تكن سوى لفتة عابرة لم يكن هو الأول الذى تهبه إياها ، كما أنه لن يكون الأخير . لم يكن يفهم شعوره نحوها ، غير أن لذة ما كانت تستولى عليه حين كان يشعر بتلك الحطّه ، شيء ما كان يشل كيانه في كل مرة يشعر فيها أن أكثر الفتيات إثارة لفضوله هى تلك التى لا تعيره أي اهتمام ، كان يستعذب هوانه ذلك في كل مرة ، وربما أن ذلك الهوان هو ما يدفعه إليها دفعا ، ربما أن لذّة الحب كلها تكمن في ذلك الهوان ، في ذلك الضياع ، الضياع في المعشوق حد الذوبان والغرق فيه ، إنها الرغبة فى الفناء ، غير أنها أعذب الفناءات .
أحس على حين فجأة برغبة عنيفة في أن يغرز أصابعه حول خصرها النحيل ، غير أن يده انقبضت وانطبقت على نفسها ، قبل أن ترتكن السمراء إلى إحدى الطاولات رفقة صديقتها . راحت تجوب الأركان بعينيها ، وثبّتت نظرها على حفنة من الشبّان الذين كانوا يلعبون "الروليت" على إحدى الطاولات الصغيرة بجانب الأوروبيات الهيفاوات اللواتى كُن يتحدّثن بكلمات بدت مفهومة لهؤلاء الشبّان ذوى البشرة الطينية ، وكأن شيء ما في ذلك المزج الأوروبي الصعيدى قد اجتذب انتباهها ، وقبل أن تحوّل نظرها عنهم فوجئت به يجلس أمامها دون أن ينبس بكلمة ، وإذ به يقول : بتحبى الكوتشينة؟ وهزّت هي رأسها مبديةً تعجّبها وليس قبولها أو رفضها ، غير أنها كانت على الأرجح تفهم ما يعنيه . واسترسل بعد أن فشل في الظفر منها بأي همسة : بس هما بيلعبوا علشان حاجات تانية غير تضييع الوقت . وابتسمت نصف ابتسامة مقضومة ساخرة في دخيلة نفسها من عدم جرأته على التصريح بما يود قوله ، فما كان من تلك البسمة المقضومة الساخرة إلا أن بلغت منه مبلغ التلذّذ ، قبل أن يستطرد وكأنه يستصرخها لتستزيد في سخريتها : أيام كتير عدت من وقت ما كنا في الجامعة ، لكن يمكن دي فرصة أحسن علشان نتكلم أكتر . وبدأت تشعر هى من فورها بتصلّب أطرافه وهو يحدّثها ، التصلّب نفسه الذي عهدته عليه ، وكانت وتيرة السخرية تتعاظم في قرارة نفسها ، على حين كان تلذّذه يتضاعف في قلبه بذلك الهوان . وقالت وهى تهز رأسها على وقع الموسيقى دون أن تنظر في عينيه : نتكلم فى ايه ؟ . عن نفسنا . تحبى تشربى ايه ؟ تشامبانيا كويس؟ كان يود ربما أن يختار النوع الأغلى ، غير أن ذلك لم يكن يعنى لها شيئا ، إذ كان التصلّب قد عاد من جديد ، وكانت نبرته قد وقعت في شراك الارتباك ، فيما كانت تضحك هى من آنٍ لآخر دونما باعث على الضحك لتختبر إلى أقصى حد ذلك التصلّب وهذا الارتباك ، وكأنما قد وجدت فيه لعبة تأبى إلّا أن تسليها لتأنس بها بعض الوقت . لم تجب ، وران الظلام على الديسكو على حين فجأة ، وراح يلتفت هو من حوله دون أن يبارح مكانه دون جدوى ، قبل أن يتنسّم رائحة عطر نسائي يلف كل ما حوله ، وشعر بيدين دقيقتين نحيلتين تحيطان برقبته على مهل ، قبل أن يحاول تحسّس تلك اليد الرهفاء الرقيقة التي كانت تبتعد كلما دنا هو ، وأحس بشفتين مزمومتين تطبعان على خده قبلة خاطفة ، وكان الظلام قد أضفى على كل ذلك نشوة جعلته يظن أنه يحلم ، بل كان على يقين من ذلك . وعاد النور ومعه الضجيج والصخب ، وعادت معه بسمة السمراء المقضومة الساخرة ونظرتها المتفلّتة الهاربة ، ووجد نفسه وحيدا ، دون العطر ، ودون اليد الرهفاء ، ودون الشفتين المزمومتين ، وطافت الأخيلة في رأسه ، وجعل يقول في نفسه : ربما تكون إحدى الأوروبيات الهيفاوات قد اُعجبت به دون أن تصارحه ، وسرعان ما تخلّى عن ذلك الخاطر ، إذ ما الذي يمكن أن تخجل منه أوروبية؟! وقال لما لا تكون السمراء؟ ربما تعوزها الجرأة ليس أكثر ، غير أن بسمتها المقضومة لا تشى بشيء من ذلك . ربما تكون صديقتها التي لم تحاول أن تتدخّل في حديثهما ! ولكنه أقنع نفسه أنها هي السمراء ، إن كل ما فيه يود أن تكون هى صاحبة القبلة ، وفي الوقت نفسه يود لو لم يعرف أبدا أنها هى ، إذ أنه يقدّس شيء ما فيها ، هي ليست صارخة الجمال بالمعنى التقليدى ، غير أنه يقدّس فيها ذلك السمار وهذا الأنف المنحوت الذي يبدو وكأنه مُستعار من إحدى حسناوات عصر الرومان ، ولا بد لتلك القداسة أن تبقيها على مسافة منه ، لا بد أن تسكنها في عليائها بلا حراك ، ولو كُتب له أن يعرف أنها هي من قبّلته لهبطت من مستقرّها العلوى ذلك ، ولغدا سمارها وأنفها المنحوت وبسمتها المقضومة الساخرة أشياء عادية لا تثير فيه شيئا ، لا تحرّك فيه الهوان . وجعل يبحث من جديد عن العطر ، وعن اليد الرهفاء ، وعن الشفتين المزمومتين ، غير أنه لم يعثر على ضالته . وكان عليه أن يعود للفندق انتظارا للحظة الرحيل . وبعد العودة كان كل ما حوله فارغا لا باطن له ، أو هكذا كان يحدّثه قلبه ، حتى تلك القُبلة التي لا صاحبة لها !
#أحمد_فيصل_البكل (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
- إرادة السعادة -
-
- لحظة -
-
- خربشات .. المانيكان -
-
- خربشات 2 .. نرسيس الذي أُسيء فهمه ! -
-
- خربشات -
-
- لا شيء -
-
- لاعب النرد - و - شفقة -
-
- الفرج - و - عم حسنين -
-
قصتان قصيرتان
-
خالعة العقد .. قصة قصيرة
-
- أزمة وعي -
-
هل الإسلام دين شمولي؟ نظرة لحد الردّة
-
مدام هناء .. قصة قصيرة
-
الضاحك الباكي .. قصة قصيرة
-
المأزوم .. قصة قصيرة
المزيد.....
-
-كائناتٌ مسكينة-: فيلم نسوي أم عمل خاضع لـ-النظرة الذكورية-؟
...
-
مصر.. الفنان بيومي فؤاد يدخل في نوبة بكاء ويوجه رسالة للفنان
...
-
الذكاء الاصطناعي يعيد إحياء صورة فنان راحل شهير في أحد الأفل
...
-
فعالية بمشاركة أوباما وكلينتون تجمع 25 مليون دولار لصالح حمل
...
-
-سينما من أجل غزة- تنظم مزادا لجمع المساعدات الطبية للشعب ال
...
-
مشهور سعودي يوضح سبب رفضه التصوير مع الفنانة ياسمين صبري.. م
...
-
NOW.. مسلسل قيامة عثمان الحلقة 154 مترجمة عبر فيديو لاروزا
-
لماذا تجعلنا بعض أنواع الموسيقى نرغب في الرقص؟
-
فنان سعودي شهير يعلق على مشهد قديم له في مسلسل باللهجة المصر
...
-
هاجس البقاء.. المؤسسة العلمية الإسرائيلية تئن من المقاطعة وا
...
المزيد.....
-
لا ميّةُ العراق
/ نزار ماضي
-
تمائم الحياة-من ملكوت الطب النفسي
/ لمى محمد
-
علي السوري -الحب بالأزرق-
/ لمى محمد
-
صلاح عمر العلي: تراويح المراجعة وامتحانات اليقين (7 حلقات وإ
...
/ عبد الحسين شعبان
-
غابة ـ قصص قصيرة جدا
/ حسين جداونه
-
اسبوع الآلام "عشر روايات قصار
/ محمود شاهين
-
أهمية مرحلة الاكتشاف في عملية الاخراج المسرحي
/ بدري حسون فريد
-
أعلام سيريالية: بانوراما وعرض للأعمال الرئيسية للفنان والكات
...
/ عبدالرؤوف بطيخ
-
مسرحية الكراسي وجلجامش: العبث بين الجلالة والسخرية
/ علي ماجد شبو
-
الهجرة إلى الجحيم. رواية
/ محمود شاهين
المزيد.....
|