أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - أحمد فيصل البكل - مدام هناء .. قصة قصيرة















المزيد.....

مدام هناء .. قصة قصيرة


أحمد فيصل البكل

الحوار المتمدن-العدد: 3840 - 2012 / 9 / 4 - 06:59
المحور: الادب والفن
    


قيظُ شديد يلفّ كل شيء ويصطبغ به كل ما فى الانحاء . لفحات الحرارة شديدة البأس تعيد الكرّه من آن لآخر وتواصل اندفاعاتها كأمواج هادرة حتى لتكاد تبلغ مبلغ الصفعات القاسية التي لا تعبّر إلا عن إنزال الهزيمة بالخصوم . الفناء البلاطي الذي يتلو أحد مداخل قسم الشرطة يبدو مفتقداً ملامحه وقد إكتسته وعلته الاتربة ، وعلى سطحه تتبدّى الآشعة الشمسيّة وكأنها قد إنبسطت كإحدى المفروشات الكتّانية . ربما يحسبه اجنبياً يوماً استثنائياً ، ولكن لسوء الحظ ، إنه ليس سوى يوماً تقليدياً من أيام الصيف العديدة في مصر .

تتقدّم إحدى السيدات وتلج القسم في خطى متمهّلة وهي تبعثر تحاياها يميناً ويساراً في حرارة ، وقد غاص جسدها السمين الممتليء ذو التعاريج اللافتة للنظر والبشرة البيضاء التي تبدو عليها علائم اللزوجة والتعرّق في " بلوزة " فضفاضة ذات ألوان مشجّرة .

تتقدّم بإتجاه مكتب إستخراج صحف الحالة الجنائية في خطوات متمايلة قليلاً علّها تحظى بنظرة إعجاب أو حتى إشتهاء من هنا او هناك ، فنظرة واحدة عابرة إلى المرأة ، نظرة عابرة إلى هذا المخلوق الرقيق قد تصنع حدثاً ، إما جرحاً غائراً متعذّراً على العلاج كل التعذّر ، أو ليلة هادئة تهفو بها النفس وتنعم بسكينة تضع نقطة فاصلة في وسط ركام هائل من ليالي العوز والحرمان .

سرعان ما يفتضح أمرها إن وصلت دون أن تقوم بالتوقيع بإستمارة الحضور أو دون أن يلتفت إليها أحداً ، إذ ما هي إلا نصف ساعة بعد أن تستوي فوق مقعدها الخشبي حتى تفوح رائحة البصل الأخضر منبعثة من مكتبها لتعلن عن حضورها . تلتهمه وحدها تارة إلى جانب الفول والفلافل والمخللات ، وتارة آخرى يشاركها ذاك الزميل الأشيب الذي لا يقضى ساعات عمله إلا بغمس الأصابع بالأحبار

تلك هي مدام هناء التي تبدو في ثوبها الناصع الشفاف حيناً ، كما تظهر كشريدة تتلاطمها الأمواج أحاييناً .

تدُب الحياة في أوصال المكان . البعض يبدي حركة دائبة ، والبعض الآخر منهم يتبدّون كأشلاء وجثامين منزوية بالأركان بلا حراك . تعدّل مدام هناء وضعيّة نظارتها المرتكزة إلى أسفل عند طرف أنفها الدقيق لتكاد تلامس وجنتيها الشاحبتين . لا تجيب إلا بعبارات متأخرة ومقتضبة ، ترمق طابور الإنتظار خلسة بنظرات خاطفة تخلو من اي تعبير بينما تفرغ يدها اليمنى من سكب البيانات على الورق ، نظرات ربما تضفي على الإنتظار شيئاً ما ، أو ربما من شأنها تصدير الإطمئنان والشعور بالأهتمام بالمواطن في عصر ما بعد الثورة .. من يدري !؟

يقترب منها شاباً يبدو متجاوزاً العشرين بقليل برفقة شاب آخر ، حليق الرأس ، بارز الفكّين ، ممتد القامة ، ينتظره بالخارج . يحملق بها ، لا تعيره اهتماماً . " محتاج ورقك لإيه ؟ " هكذا قالت وعينيها إلى أسفل ، " للسفر " أجاب هو ، فين ؟ ، " الإمارات إن شاء الله " . تتلفّت حولها قبل أن تنطق : أستاذ حسين مش موجود ، مش هقدر املأ الورقة النهاردة طالما هو مش موجود . " حضرتك تقدري تبصّمى له بنفسك ، أو على الاقل تخليه يبصّم لنفسه ، أو أبصّم له انا .. المهم تكون الورقة في مديرية الأمن النهارده او بكره او اياً كان مكانها على حسب شغلكم . إحنا مستعجلين الحقيقة " هكذا قال الشاب الرفيق في نبرة تشوبها الحدّة . " مش هينفع يا أستاذ . أظن كلامي كان واضح . إنت في مكان شغل له قواعد ، وكل موظّف له صلاحياته " . هكذا قالت في لهجة واثقة لم ترتفع او تنخفض عن الحد قبل أن توجه ناظراها لأعلى لتكتشف رحيل الشابين دون أن يتفوّها بحرف .

بعد الثانية والنصف بقليل . تتجه للخارج بعد إنقضاء يوم عمل كان ثقيلاً على نفسها ، الجميع يتدفّقون إلى الشوارع والطرقات ما ضاق منها وما إتسع ، المواصلات الحكومية وبعض الخاصة منها تحوي ما يقارب ضعف طاقتها الإستيعابية حيث القامات منتصبة والرؤوس مدلّاة إلى الخارج . مدام هناء منشغلة بالإلتفات إلى أغطية الرأس وأكمام الملابس النسائية ، فهي لديها من الوله بتناسق الأشياء ما يدفعها إلى الإنتباه لغطاء رأس منكمش قليلاً ، أو أطراف فستان طويلة أو مهترئة قليلاً . تنتابها حينئذ تلك اللذّة النسوية بأفضلية ما لها من مظهر .

يهتز هاتفها ، تجيب في هدوء : أهلاً يا سها ، أخبارك إيه ؟ ، صديقتها : أنا كويسة وإنتي ؟ معايا تذكرة ليكي لعرض مسرحي إسمه الدكتاتور ، المسرحية هتبدأ الساعة 7 . إيه رأيك ؟ . أبطاله جدد ؟ ، تستطرد صديقتها ضاحكة : معظم الممثلين شبّان .. شبّان في الخمسين ! . زى ما إ.... ، تقطع عليها الطريق لتقول في نبرة يتمازج بها التهكّم بالجد : دي موجة من موجات معارضة ما بعد الفوضى ولا تصنفيها إزاى ؟ . فكرتيني بشريك بابا في شغله ، هو سوري ، وبيقول إن اللي قايمين بثورة شعبية في سوريا مجرد مثيرين للشغب أو عملاء . لكن دايماً كنت بحس بنبرة الأسى في كلامه . أفتكر إن كلامه مصدره هو الحقد على الشعوب اللي قامت بثورات حققت نتايج ملموسة . ومع ذلك إنتي بالذات أنا متفهمة موقفك من مسألة الثورات .. أو الفوضى ( تقولها باسمة ) .
" إحنا أخدنا شهادات وعملنا دراسات عن الفوضى في العراق " قالت في لهجة صاخبة .
" فيه فرق يا هناء بين فوضى الحروب الأهلية والإستعمار وفوضى الثورة الشعبية . ثم إنك في مصر من خمس ست سنين ، كل دة لسه على نفس حالك ؟ "
" مش مهم . فكّرتيني بآخر أيامي في السليمانية ، كانت حياة سياحيّة بمعنى الكلمة . آخر أيامي فيها كانت على جبل إزمر ، وبعدها سمعنا خبر سقوط بغداد وقرر جوزى وقتها إننا ننزل مصر فوراً " .
" بصراحة يا هناء أنا مش شايفة أي سبب لإنفصالك عن جوزك طول السنين دي . حتى لو مش علشانك فعلشان هشام إبنك " .
تزفر هناء تنهيدة خارجة من الأعماق قبل أن تقول : إحنا منفصلين من خمس سنين ، والسبب الوحيد اللي أنا موجودة علشانه هو إن هشام يعمل عملياته ويرجع لمستقبله في الكورة حتى لو كان قرر إنه يعيش مع أبوه . السبب الوحيد اللي كنت ممكن أكمل علشانه هو إنه يساعدني في توفير تكاليف العمليتين ، لكن بعد مشاكله في شغله وخسارته في البورصة بقى الموضوع واضح بالنسبة لي . "
لاذت صديقتها بالصمت برهة قبل أن تسائلها : أفتكر إن هشام إتصاب مع ناديه وهو في سن سبع سنين تقريبا او اكتر بشهور . تفتكري عمليات العظام والغضاريف بعد الفترة دي هتكون مفيدة بالنسبة لمستقبله في الرياضة ؟
" الظروف فرضت علينا دة يا سها وأكيد هتكون مجدية لمستقبله مع أي نادي " .
على العموم العرض هيبدأ الساعة 7 زى ما قلت لك . هيكون في مسرح السلام في شارع القصر العيني . هستناكي .

إنتهي العرض . كان الخروج يسيراً كما الدخول فالحضور كما العادة كان متواضعاً . المتفرّجون يتهامسون بشأن ما قد إنتهى توّاً . تُكسب محاكاة الواقع الإنسان المرهف شيئاً من المناعة ضد كل ما هو واقعي على نحو ما ، فتراه صموتاً لدقائق تطول أو تقصر بعد إنتهاء المحاكاة . هذا ما تبدّى على أسارير بعضهم ، وظهر بعضهم مزهوّاً مكتسياً بثوب الثقافة .

" مدام هناء . إبن حضرتك في مستشفى " النيل بدراوي " ، قسم العناية المركزة .. غرفة 63 - هذا ما أخبرها إياه أحدهم في مكالمة قصيرة - . تنطلق برفقة صديقتها ، تدخلا القسم ، إبنها مستلقياً ويبدو نصف واعياً ، لم تنبس بكلمة واحدة ، تقطب حاجباها الرفيعان وتتسع حدقة عيناها السوداويتين . هل ذهبت سنواتي الأخيرة سدى ؟ إستدانتي من صديقتي وبيعي لقطع من ذهبي ومن أقراط أمي ، وتفريطي في مؤخّرى لزوجي بعد إتفاقنا لتوفيره لإجراء عمليات هشام . كل شيء ذهب سدى لأجل جزء أمكن التخلص منه في ساعات أو ربما أقل ؟! . ذاك ما إستنطق به لسان حالها . يتدخل أحد الأطباء - والذي بقليل من التدقيق أدركت أنه الذي إحتدّ عليها هذا الصباح - ليكسر الصمت : " إحنا آسفين يا مدام . إضطرينا لبتر الساق بعد الحادثة مباشرة بدون إستئذان أي من الأهل . الحالة كانت خطيرة . إحنا آسفين " .



#أحمد_فيصل_البكل (هاشتاغ)      


ترجم الموضوع إلى لغات أخرى - Translate the topic into other languages



الحوار المتمدن مشروع تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم. ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي، انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة في دعم هذا المشروع.
 



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- الضاحك الباكي .. قصة قصيرة
- المأزوم .. قصة قصيرة


المزيد.....




- بسبب شعارات مؤيدة لفلسطين خلال مهرجان -غلاستونبري-.. الشرطة ...
- العمارة العسكرية المغربية جماليات ضاربة في التاريخ ومهدها مد ...
- الجيوبولتكس: من نظريات -قلب الأرض- إلى مبادرات -الحزام والطر ...
- فيديو.. الفنانة الشهيرة بيونسيه تتعرض لموقف مرعب في الهواء
- بالأسم ورقم الجلوس.. نتيجة الدبلومات الفنية 2025 الدور الأول ...
- “استعلم عبر بوابة التعليم الفني” نتيجة الدبلومات الفنية برقم ...
- “صناعي – تجاري – زراعي – فندقي” رابط نتيجة الدبلومات الفنية ...
- إبراهيم البيومي غانم: تجديد الفكر لتشريح أزمة التبعية الثقاف ...
- بوابة التعليم الفني.. موعد إعلان نتيجة الدبلومات الفنية 2025 ...
- البندقية وزفاف الملياردير: جيف بيزوس يتزوج لورين سانشيز في ح ...


المزيد.....

- رواية الخروبة في ندوة اليوم السابع / رشيد عبد الرحمن النجاب
- الصمت كفضاء وجودي: دراسة ذرائعية في البنية النفسية والجمالية ... / عبير خالد يحيي
- قراءة تفكيكية لرواية -أرض النفاق- للكاتب بشير الحامدي. / رياض الشرايطي
- خرائط التشظي في رواية الحرب السورية دراسة ذرائعية في رواية ( ... / عبير خالد يحيي
- البنية الديناميكية والتمثّلات الوجودية في ديوان ( الموت أنيق ... / عبير خالد يحيي
- منتصر السعيد المنسي / بشير الحامدي
- دفاتر خضراء / بشير الحامدي
- طرائق السرد وتداخل الأجناس الأدبية في روايات السيد حافظ - 11 ... / ريم يحيى عبد العظيم حسانين
- فرحات افتخار الدين: سياسة الجسد: الديناميكيات الأنثوية في مج ... / محمد نجيب السعد
- أوراق عائلة عراقية / عقيل الخضري


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - الادب والفن - أحمد فيصل البكل - مدام هناء .. قصة قصيرة