أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - أحمد فيصل البكل - - الفرج - و - عم حسنين -















المزيد.....

- الفرج - و - عم حسنين -


أحمد فيصل البكل

الحوار المتمدن-العدد: 4051 - 2013 / 4 / 3 - 04:14
المحور: الادب والفن
    


" ساعة الفرج " .. قصة قصيرة

ولّى " موسم " المدارس بحلوّه ومرّه ، وربما فاقت مرارته حلاوته ، وها هو ذا موسم الصيف يزفر أنفاسه الوليدة ، يُصدر أنفاساً غلاظ ممزوجة بأثقال الأشهر العجاف ، مكتومة ، محمومة ، شقيّة ، نابعة من صدر أكل عليه الضيق وشرب ، بل لها وإستروح ! وأي ضيق ! ضيق الدين ، وإقتراب مواعيد إستحقاقات الدفعات الأولى لشيكات التُجّار ، والهرولة خلف عقارب الساعة ، وعقارب الساعة قد تتوقّف في أية لحظة ، فليس في مقدور أحد أن يدرك متى يبدأ الموسم في قلب السوق ومتى ينتهي ، فهو يبدأ بإقبال " الزبون " ، وينتهي بعزوفه وإدباره ، فمتى يُقبل ، ومتى يعزف ويدبر على وجه التحديد ، تلك هي المسألة التي ينتفي معها اليقين ، وإن كنت أعتى التجار وأرفعهم شأناً ، فسوق التجارة هو اليم ، وأمّا الزبون فهو النوّة التي لا يُعرف لها وقتاً ، ولا يُدرك لها ميعاداً ، ولا تُقرأ لها ملامح ، وحين تأتي فلا تبقي ولا تذر . يتغيّر على إثرها كل شيء . كل ما هنالك من فرق أن نوّة السوق نوّة مطلوبة ، محمودة ، مُشتهاة ، مُنتظرة دوماً ، وإن طال الإنتظار . والحال لا يختلف كثيراً قبل أن يحتدم الصراع في قلب السوق بالنسبة لأرباب الأعمال ، فعلي الأطراف في الواقع يبدأ كل شيء . وهم لا يدركون أيضاً ما الذي يبتغيه الزبون أو العميل على وجه الدقّة .. الجدّة أم المحافظة؟ الكم أم الكيف؟ ليس في وسع أحد التأكيد .
أنفاس الموسم مكتومة ؟! أي موسم ذاك ؟! وأي أنفاس تلك التي يزفرها ؟! إنها أنفاس التجار في الواقع ، فشهقاته من شهقاتهم ، و زفراته من زفراتهم . حركته من حركاتهم ، وسكناته من سكناتهم . نعم هو له روح ، و روحه هي ايضاً روحهم .

الرجل مازالت خفيفة داخل السوق وخارجه ، خفيفة جداً ، حد النُدرة ! في خُف الريشة ! والسؤال عن الرجل ومدى خفّتها لا يقتصر على المحال ، حيث قلب عمليات البيع والشراء ، بل يتعدّى إلى المصانع والمكاتب ، فرجل العميل للآن لا تقل خفّة عن رجل الزبون . والخفّة في حقيقة الأمر ليست خفّة الحركة ، وإنما خفّة الرغبة ، وخفّة الجيب في غالب الحال . وحالما تطول خفّة الرجل ، تتسلل وقتئذ خفّة من نوع آخر مُستقرّها ألباب التُجار ، فتطير وتطيش على إثرها .

صب اللعنات على عالم السياسة ، وكل من ينتمي إليه ، وعلى شعب أمسى في جملته بين عشيّة وضحاها يعي كل ما يقول وكل ما يفعل ، وإلقاء المسئولية على وزارات الداخلية المتعاقبة لتقاعسها عن منع تهريب البضائع الشرق آسيوية الأرخص المنسلّة عبر مواني المدن الساحلية ، ليس إلّا هكذا يفسّرون حالة الشلل التي تصيب سوقهم من فترة لآخرى .

العمال جالسون على ماكيناتهم ، وكل ما فيهم يتحرّك دون إمهال طالما أن كل ما في الماكينات يتحرك أيضاً بلا إمهال . ربما تحسبهم في باديء الأمر إن كنت لم تعتد رؤياهم أعضاء فرقة شعبيّة لإحدى الفنون الحركيّة ، وحين تطالع أرجلهم وهي ترتفع فترتفع معها تروس الماكينة ، وحين تهبط أطرافها الحديدية فتهبط معها أيديهم ، وهم لا يتخيّرون حركاتهم تلك ولا يشعرون بها ولا بوقعها من فرط ما آلفوها وآلفتهم ، ربما تُدهش وتتسائل : من السيد ومن المسود ؟ ومن يدفع الآخر للحركة المتواصلة تلك ؟ هم أم تلك ؟
إقترب أحدهم من ذلك المصنع الكائن بأحد أحياء شرق القاهرة ، وأوقف عربته " النصف نقل " بالقرب منه . وما أن وطأت قدمه أرض الشارع وبجانبه من كان يقود العربة حتى وجد في وجهه من يرحّب به ترحيباً فيه من الإفتعال بقدر ما فيه من التلقائية ، قبل أن يقوده إلى أعلى . وليس المهم من يقود بالأسفل ، فليقود بالأسفل من يقود ، ولتُختزن الطاقات إلى ما هو آت .

صعدوا ثلاثتهم إلى الدور الثالث ، المستقبِل ، والمستقبَل ، ومن خلفه السائق وفي يمناه المفتاح . ما أن دخل حتى أطلق نظرة خاطفة جابت أرجاء الشقّة وجدرانها في ثوان . قصدت نظرته كل شيء عدا ذلك الرجل الذي كان يجلس خلف مكتبه بعينين هائمتين في شيء ما كان يقرأه أو يسترجعه ، حتّى قُدّم كل منهما للآخر : الحاج حسن .. الأستاذ نادر . وهنا نظر كل منهما إلى الآخر نظرته الأولى ، قبل أن ينتصب جسد الحاج حسن منثنياً نصف إنثناءة ليرحب بضيفه داعياً إياه للجلوس على أحد الكرسيين المواجهين لبعضهما البعض على الدفّة الآخرى للمكتب . المسافة لم تكن كبيرة على أية حال ، كرسي خلف المكتب ، وكرسيين أمامه ، والكراسي الثلاثة المكسوّة بالجلد البنّى تكاد تلتصق بالمكتب تماماً ، كما ينبغي أن يكون الأمر ، فلا يجدر بأية كلمة أن تتسلل إلى خارج تلك الرقعة . رقعة المكتب والكراسي الثلاثة .

أخذ الأستاذ نادر واجبه ، والواجب كان خفيفاً كل الخفّة ، ربما ملائمةً للظرف ، للإستهلالة . مشروب طبيعي كان . ليس إلا . ثم إندفع شريك الحاج حسن قائلاً وإبتسامته - التي تبلغ حد البلاهة أحياناً - متسعة كاشفةً تلك الأسنان التي إستبد بظاهرها وباطنها القطران : وأخبار بني مزار إيه يا أستاذ نادر ؟
- أجابه وهو يمعن النظر في هاتفه كأنه يبحث عن شيء ما : نحمد الله يا حاج أشرف . الناس مستنية توزيع الشغل في أجرب وقت . أنا بجالي يومين في مصر ، والشغل صراحة في أماكن وأماكن ، وإنت تحت شفت بنفسك ضهر العربية لسه فيه أماكن . الموسم دة كتير خايفين يجازفوا بشغل كتير علشان مايخسروش بضاعتهم .
- الحاج حسن وكأنه لم يستمع إلى ما قد قيل للتو : من بني مزار نفسها يا أستاذ نادر ؟
- أجاب وهو يتلمّس الزجاجة الفارغة أمامه : أيوة . من بني مزار نفسها . ثم راح يتلفّت حوله وقال في نبرة بها مسحة ثقة ملؤها الصلف : العينات موجودة ؟
- الحاج أشرف مجيباً قبل أن يكمل الرجل سؤاله : موجودة . لحظة واحدة . وقام ليسير بإتجاه الباب الخلفي جاذباً إياه بعد أن أشبعه شريكه بنظرات تفوق في بلاغتها أي حديث ، دون أن ينبس أثناء حديثهما بحرف . فقط ينتهي من سيجارة ليُشعل الآخرى وكأنما يوكّل دخّانه بالنطق نيابة عنه . وما أن عاد حاملاً بضاعته وعيناته حتى وقف قبالة الرجل عارضاً عليه الفستان تلو الآخر ، فيُمسك هو بدوره بهم ويتفحّص كل ما فيهم ، وأعين الحاج حسن تراقب تعبيراته في هدوء يبدو مصتنعاً . نظرة إلى أعلى ، ونظرة إلى أسفل . دخان إلى الداخل ، ودخان إلى الخارج . دون كلام . والعميل يقتل العينات بحثاً ، وهو في الحقيقة لا يتفحّص عينات ، وإنما يتفحّص ذهناً لا يهدأ ، وقلباً لا يهنأ ، وبالاً لا ينعم بالراحة . المساحات المطرّزة هي الأيام والساعات التي تفلّت فيها النوم ، وتمنّع ، وإستعصى . وقطع الصناعة اليدويّة اللامعة المتراصّة هي الضحكات التي كانت تصدر على دفعات ، ضحكات ليست من الصفاء في شيء . أمسك الرجل بأحد الفساتين وأخذ يقلّبه ثم إستوقفه ظهر الفستان وقال : الحتّة حلوة . الموديل كويس . لكن سوستة الضهر مش كفاية ، الحتّة بمجاسها دة مش هتلبّس عيال كتير . عندنا في جبلي الزبون بيشتري الحتّة تعيش معاه اربع خمس سنين ، فبياخد مجاس أكبر من اللي محتاجه . كدة حتة زي دي سوجها يتحرج . فما كان من الحاج حسن الا ان قال باسماً في نبرة معتدلة : والله يا استاذ نادر الحتة بتطلع للزبون الفاهم ، وكل حتة لها زبونها . وحتة زي دي هيحتاجها زبون فاهم عاوز يلبّس بنته ويفرح بيها .
- يا حاج حسن أنا عارف اللي بجول لك عليه . زبون جدامي اخد لابنه بدلة ، الكامر كان واصل فوج سرّة العيّل ، والجاكيتة عند ركبته . زبوني هو اللي بيحكمني . لكن هي حتة حلوة . جالونها ، وجيليها نضيف ، وفيها شغل . كانت بس محتاجة اتنين تلاتة سنتي مساحة هنا وهنا علشان زبونها . وإلتفت عن يمينه إلتفاتة سريعة قبل أن يقول مشيراً بسبابته : تعرف يا حاج أشرف إن الحتة دي كمان سوجها يجف عندنا ، الزبون في جبلي يجول لك لا ، اللون الفاجع دة يلم لي الحشرات . معقول ؟ آه والعدرا . تصدج انت بجى ؟! فنظر الحاج أشرف إلى شريكه ، ثم عاد يرمق الرجل الجالس قبالته في صمت كأنما آنس وإستشرف منه هو الآخر رغبة ما .
أشعل -الضيف- هو الآخر سيجارة . صمت مُطبق ، فنظرات مستلَبة . صمت العارفون هو ، العارفون بقواعد اللعبة . واللعبة تقول أن المصالح مشتركة غير أن أحدهم فقط من يفوز . نظرة من هنا من خلف فقّاعات الدخان الملتوية ، ونظرة من هناك من خلف سحابة دخانية متكاثفة . العيون خبيرة ، عارفة بأن نظرة العين كزلّة اللسان ، فاضحة ، لا يمكن رد أثرها . لا أحد يتعجّل الحديث ، فنبرات الصوت ونغماته ، وتوقيت الحديث ، قد يكشف ما يحاول كل طرف ستره ، فالرغبات والحاجات الآن قد إستحالت إلى سوءات ، وجب حجبها ، ولا يجوز سواه . الحاج حسن يلجم شريكه بنظرة من آن لآخر ، فخفة الرجل لا تبرر ابداً خفة العقل . والعميل يرفع كل فستان على حده ، يبعده عن ناظريه ، يفتّش كل ما فيه ، ويمعن النظر به ، كأنما يجني بفعلته ما عظم من التلذذ ، ففي التقييم لذة لا ريب ، وفي التجاهل كذلك ، او في تكلّفه ، لذة آخرى ، كان يسعى الرجل القابع خلف مكتبه الظفر بها . ودون تردد سألهم الرجل : والأسعار عامله ايه؟
- باللهجة نفسها التي تخلو من أي تردد أجاب الرجل المقابل له مسرعاً : موديل 101 اللي في إيدك يعمل خمسة وسبعين .
- واللي جبله ؟
- سبعين .
- ستين .
- سبعين .
لوى الرجل شفتاه ، وجذب نفساً بدا وكأنه إستقر بين أضلاعه .
- الحاج حسن مطرق الرأس وبسمته بين شفتيه وبصره معلّق على المطفأة : قريب من النوفوتية دة يا أستاذ نادر . وكل حتة على قد شغلها انت عارف . والشيفون اللي عينك عليه دة جديد .
- الرجل وقد إحتفظ بهدوءه : النوفوتية في سوقه . فيه منه . لكن أسعارك تقيلة .
- الرجل المقابل له وإبتسامته المعتادة تطفح على وجهه : إحنا جايبين معاك من الآخر يا أستاذ نادر ، حد تاني كان ممكن يلاعبك .

قام الحاج حسن وإتجه للداخل في صمت قبل أن يقطع شريكه شوطاً لا بأس به قائلاً : نظام شغلك إيه يا استاذ نادر ؟ فأجاب الرجل وكأنه شعر أن الملعب قد إفتسح له : أنا بلم شغلي ، ولما بيتوزّع ، والناس تفرش ، والحتّة سوجها يمشي ، بسدد دفعة لكل مكان . حسابي مفتوح إن شاء الله . والمهم البلد تهدأ علشان خاطر الزبون يتطمن على جرشه .
- يقول الحاج أشرف وكأن وقع الحديث قد حفّزه للمضي : حسابنا مفتوح إن شاء الله لحد يوليو وأغس.. ، داهمه شريكه قبل أن يكمل حديثه صائحاً : يوليو وأغسطس إيه يا أشرف ؟! إحنا بنفتح حسابات لرمضان والعيد ؟!
- العميل وكأنه لم يأبه أو يلتفت لحديثهما محافظاً على ما إكتسب : أنا هاخد من الحتة دي ستين ، ومن دي زيهم ، ومن دي خمسين بإذنك يا رب .
إرتعش الوجه المقابل له ، وتداعت كل ما بدت عليه من بهجة بنظرة واحدة من شريكه ، قبل أن يقول -الأخير- في غير إكتراث بكل شيء ، خفة الرجل ، وعقارب الساعة ، وكل شيء : إحنا مابنفتحش حسابات يا أستاذ نادر ، إكتب لنا شيكاتك ، وإنزل السوق إشتغل براحتك ، وسدد على راحتك ، لكن إحنا حساباتنا مقفولة .
- أنا حسابي مفتوح مع الكل ، وبيوصل 200 ، و250 ، و300 ألف في أوقات . واحد منهم كنت عنده امبارح وحياة ربنا - قال وهو يهز يده ويبسطها على الفساتين أمامه - .
- دي طريقة شغلنا مع اي حد يا أستاذ نادر .
- ولو حتة مااشتغلتش و إتكررت تاني مرة ؟
- أول مرة علينا ، لكن لو إتكررت تاني . عليك . كل السوق بيتعامل كدة .

صمت يطبق من جديد ، وتتبعه نظرات . نظرات تستجدي في بلاهة ، ونظرات تنتظر في خبث ، ونظرات تعلن الإستسلام .
تسلّم الرجل فاتورة بضاعته ، قبل أن يدس يده في جيبه مخرجاً دفتر شيكاته . الحبر يركض ويعدو فوق الورق . شيك ، فالثاني ، فالثالث ، فسلام ، فضحكات ، فغمزات .. إلى آخر اليوم .


" عذراً يا عم حسنين " .. قصة قصيرة

عذراً يا عم حسنين فهم لا يدركون من الأمر إلا ما يرون ، وما أقل ما يرى الناس ، وما أفقر ما يطالعون . قليلُ ، فقير ، سطحي ، باهت ، شائه ، أسمر ، كلون جلدك يا عم حسنين . أسمر مثله على الدوام ، لا يتغيّر ، ولا يدركه التبدّل . حُكم نهائي ، فصل ، لا رجعة فيه ، ولا عود .
لم يكن عم حسنين قبل ذلك اليوم قد إختبر مثل ذلك الإحساس ، إحساسه بنفسه ، وإحساسه بالفزبة . والفزبة في حياته أمست هي رأسماله ، إلى جانب لسانه . فالفزبة تطلق جسده ، ولسانه يحل " كيس " الزبون ، ويفك عقدة جيبه .

والحق أن عم حسنين ليس له من دخل ثابت ، فهو يشتري بضاعة مستعملة ، أو بضاعة بها " ديفوهات " ، ومن ثم يقوم هو بإخفاء تلك العيوب برشاقة لسانه الذي يوجّه به زبونه إلى حيث يريد ، و زبونه على الدوام ليس صيداً يسيراً ، فهو زبون " المنشيّة " ، وليس زبون " جاردن سيتي " ، وهو الآخر جيبه ثقيل ، ونظره حاد . فأما ثقل الجيب فهو من صعوبة إختراقه . وأما حدّة النظر فهي من سهولة إختراقه . وعم حسنين ينتظر ايضاً في أغلب الأحيان بواقي بضاعة المحلات والمصانع ويقوم هو بإعادة تشغيلها في نطاقه . كما أن مجال عمله ليس ثابتاً ، غير أن أغلب بضاعته هي من الملابس ، ويوم رزقه هو يوم الجمعة ، حيث يذهب منذ السادسة صباحاً قاصداً السوق الشهير الحافل بشتى صنوف المبيعات . ولأنه يؤمن تمام الإيمان بأن الرزق يحب الخفيّة ، فهو لم يخل ابداً من خفة ، وزناً ، وحركة .
وفي ذلك اليوم كان عليه أن يوصل بنفسه زوجته وأولاده إلى حماته ليزورونها ، وكان عليهم ركوب الفزبة للمرة الأولى .

عم حسنين يتقدّمهم ، ومن خلفه زوجته والأولاد . الفزبة تدور ، وتنطلق . تهدأ ، وتعدو . وما أن يزيد هو من حدّة الضغط على البنزين ، حتى تتلاحم الأجساد ، يضغط فتأتلف ، ويرخي فترتجف . المطب الأول ، تعلو الفزبة ، فيعلو معها من يعلوها ، وتهبط ، فيهبط . يعلون في الواقع ، ويهبطون . يُسرع ، فيزيد ويضاعف في سرعته ، الزوجة تُحكم الإمساك به ، والأولاد يتشبّثون بها ، فيغالون في التشبّث . أجساد تلهث ، وتئن . تلهف في وحدة ، وتئن في إتحاد . لهاثها ظاهر ، وأنينها باطن . فالأولاد مازالوا صغار ، وعرض الطريق بالنسبة لهم كعرض البحر . الإشارة الأولى . يوقف عم حسنين الفزبة كارهاً ، النظرات مصوّبه إليه من خلف الزجاج ، إستخفافاً ؟ شفقةً ؟ لا يهم . المهم أنها مصوّبة . وأحدهم من داخل سيارة الأجرة يصيح في وجهه : يا أخي بيعها وهات لك " سيات " بدل الشحططة دي . معذور ! لا يدرك ما يشعر به عم حسنين الآن ولا يكاد يتسع صدره لإحتوائه .

إشارة المرور تُفتح ، وعم حسنين يضغط ، فيبالغ في الضغط . الإستمساك يتضاعف ، والتشبّث يتعاظم . الأجساد تتخبّط ، فتتوحّد ، لحماً في لحم ، وعظماً في عظم . كرة لحم ملفوفة ، بلا ثقوب ، وبلا منافذ . دون إنفصال ولا إنفصام . نظرات المساكين تتابع ، وهم حقاً مساكين ، فهم يظنّون أن الزجاج المغلق ، والأبواب ، والجنوط العريضة ، والأسقف ، إنما هي مواد تجلب الشعور بالخصوصيّة ، والأمان الباطني ، وما هم في ذلك إلّا واهمون . النظرة تصوّب ، وعم حسنين يضغط ، ويضغط ، وكرة اللحم يتعاظم تماسكها ، وماذا يضيره ؟ إنه في عز مجده الآن ، إنه يكتشف ما لم يكتشفه راكب السيارة " الفور باي فور " ذاك ، أو راكب الآخرى " الزيرو " . الضغط مستمر ، وكرة اللحم في قلب الطريق تتضخّم ككرة ثلج في قلب المحيط ، إلى أن وصلوا . فكانت الفُرقة . عم حسنين في ناحية ، والزوجة والأولاد في ناحية ، والفزبة في ناحية . إلّا أن النشوة لازالت مستبدّة بنفس عم حسنين ، ومازال يتسائل : لماذا كانوا هؤلاء ينظرون إليه هكذا فيطيلون النظر ؟ ولكن عذراً يا عم حسنين ، فهم لا يدركون إلّا ما يرون ، وما أقل ما يرى الناس ، وما أفقر ما تدركه أفهامهم !



#أحمد_فيصل_البكل (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- قصتان قصيرتان
- خالعة العقد .. قصة قصيرة
- - أزمة وعي -
- هل الإسلام دين شمولي؟ نظرة لحد الردّة
- مدام هناء .. قصة قصيرة
- الضاحك الباكي .. قصة قصيرة
- المأزوم .. قصة قصيرة


المزيد.....




- -بنات ألفة- و-رحلة 404? أبرز الفائزين في مهرجان أسوان لأفلام ...
- تابع HD. مسلسل الطائر الرفراف الحلقه 67 مترجمة للعربية وجمي ...
- -حالة توتر وجو مشحون- يخيم على مهرجان الفيلم العربي في برلين ...
- -خاتم سُليمى-: رواية حب واقعية تحكمها الأحلام والأمكنة
- موعد امتحانات البكالوريا 2024 الجزائر القسمين العلمي والأدبي ...
- التمثيل الضوئي للنبات يلهم باحثين لتصنيع بطارية ورقية
- 1.8 مليار دولار، قيمة صادرات الخدمات الفنية والهندسية الايرا ...
- ثبتها أطفالك هطير من الفرحه… تردد قناة سبونج بوب الجديد 2024 ...
- -صافح شبحا-.. فيديو تصرف غريب من بايدن على المسرح يشعل تفاعل ...
- أمية جحا تكتب: يوميات فنانة تشكيلية من غزة نزحت قسرا إلى عنب ...


المزيد.....

- صغار لكن.. / سليمان جبران
- لا ميّةُ العراق / نزار ماضي
- تمائم الحياة-من ملكوت الطب النفسي / لمى محمد
- علي السوري -الحب بالأزرق- / لمى محمد
- صلاح عمر العلي: تراويح المراجعة وامتحانات اليقين (7 حلقات وإ ... / عبد الحسين شعبان
- غابة ـ قصص قصيرة جدا / حسين جداونه
- اسبوع الآلام "عشر روايات قصار / محمود شاهين
- أهمية مرحلة الاكتشاف في عملية الاخراج المسرحي / بدري حسون فريد
- أعلام سيريالية: بانوراما وعرض للأعمال الرئيسية للفنان والكات ... / عبدالرؤوف بطيخ
- مسرحية الكراسي وجلجامش: العبث بين الجلالة والسخرية / علي ماجد شبو


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - الادب والفن - أحمد فيصل البكل - - الفرج - و - عم حسنين -