أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - علي دريوسي - حدث في قطار آخن -3-















المزيد.....

حدث في قطار آخن -3-


علي دريوسي

الحوار المتمدن-العدد: 4967 - 2015 / 10 / 26 - 09:23
المحور: الادب والفن
    


شارفت الساعة على الرابعة صباحاً، نظر إليها بعينين هائمتين مخدّرتين راجيتين رائحة تبغها من جديد، دفّأته بجسدها وهمست بأذنه: "يكفي ما تناولتَه، لقد انتهى ما كان بجعبتي لهذا اليوم من مخصصات".

فجأةً بَرد جسدُه، تسارعت نبضات قلبه، ارتعد من هذا الإحساس المفاجئ، ضمّها أكثر، قال: "دفئيني، لا تتركيني لوحدي، أحتاج هواءً ساخناً". نهض متوتراً، فتح النافذة على مصراعيها، استنشق هواءً بارداً، وقال: "كم أرغب أن أطلق الصرخة، تلك التي أبدعها الرسام النرويجي إدفارت مونك، أرغب أن أصرخ في وجه الدم والقتل والتشويه والفقر والتجويع والرعب والخوف والتهجير والقلق والترقب".

قالت له: "والآن ما العمل؟"
ضحك ساخراً وعلّق: "اسألي الماركسي السوفييتي فلاديمير لينين".
أردف: "أصدقيني القول، ألسنا نهوي بشكلٍ مستمر؟"
علّقت ساخرة: "الألماني فريدريش نيتشه"، وأردفت: "ومن بعدنا الطوفان". سارع بالقول: "مدام دي بومبادور... أتعلمين أنّ هذه المقولات الثلاث تُعتبر من أهم معالم ومميزات الدرب الأساسية التي تصف هذا العصر الجديد الذي نعيشه عالمياً؟"

مشت عاريةً باتجاه النافذة المفتوحة على سكن الطلاب وعنفوانهم. وضعت يديها على إفريز النافذة ونظرت للبعيد المعتم...
سألها مناكفاً: ما الذي تفكرُ به امرأة شابة تقفُ أمام نافذة بيضاء مفتوحة على مصراعيها في بناية طلابية عالية؟
ردت عليه ببداهةٍ غريبةٍ: ربّما ستطير مثل فراشات "غارسيا ماركيز" الصفراء... ربّما ستحلِّق عالياً جداً جداً مثل "صبية/امرأة" تنشر غسيل غارسيا على سطح بيت العائلة في يومٍ غائم...

أكمل لها: أو لعلّها تتكلم مع طالبٍ وسيمٍ على الرصيفِ المقابلِ من النافذة... شابٌ تعتريه الحيرة، يقفُ أمام الخمّارة الطلابية الليلية والمقهى النهاري بآنٍ واحد، ولا أحد يراهُ سواها...

ردت: بل لعلّها ترغبُ أنْ تسمعَ روّاد المقهى أسفل النافذة يقولون: "هناك امرأة مشطورة شطرين بالنافذة"... أُسوةً بالفرنسي "أندريه بريتون"، الذي خطّ بالقلمِ الأزرّق: "هناكَ رجلٌ مشطور شطرين بالنافذة"...

قاطعها: "لعلّها منشغلة بالطناجرِ والمَقَالي، "مفردها: مِقْلاَة"، تلكَ التي شَاهدَتْها نهار البارحة في صالة "سآتشي" اللندنية، لعلّها تحسدُ الطناجر والمَقَالي على فرحها، إذْ تُغمّسُ فيها الأيادي الفقيرة في الضيع المنسّية، "لِتُقحِّفَها"، لعلها تتمتم سراً: "ما مّر عام وسوريا ليس فيها جوع"...

"لم يعدْ هناكَ طريقٌ آخرُ يقصده العشّاق إلّا الانتحار"... هذا ما دوّنه صديقنا "مارميلادوف"... ابتسمت وقالت: "لقد تأخر الوقت"...

أخرجت علبةً زجاجية من حقيبتها، وضعت نقاطاً منها على منديلٍ نظيف، ومسحت به ما بين فخذيها. طلبت تاكسي، قبّلته وغادرت.


عادَ للنوم وحيداً، حلم في ذاك الليل بتفاصيل المكان والزمان في رواية "الجريمة والعقاب"، حلم بالقوة الغريبة للشاب الجامعي الموهوب "رسكولينكوف" مرهف المشاعر، المغامر والراغب بالانتحار، القادر على ارتكابِ الجريمة وقتل المرابية العجوز وشقيقتها...

أفاق متأخراً من النوم، جلس على حافة السرير عاملاً بنصيحة رسول حمزاتوف "لا تنهض من النوم وكأنّ عقرباً قد لدغك، بل فكر بما حلمت به ليلة أمس"... استرجعَ تفاصيل الليل وأحلامه، ضحك لفكرةٍ راودته: أظن أنَّ المرأة الشابة الواقفة أمامَ نافذة بيضاء مفتوحة على مصراعيها في بناية طلابية عالية ترغب منه أن ينشغل بمفهوم المسافة وذاكرة الشم، ترغب منه أن يَعُدّ مثلاً خطوات أقدامه الفاصلة بين نافذتها وأقرب محطة توصله إلى موقع عملها، قبل أن تُلّوح له بيدها اليمنى الجميلة مودّعةً، بينما تسترخي سيجارة بولمول بين الوسطى والسّبّابة في يدها اليسرى، لتلاحقه سحب دخانها وتستوطن بين ثنايا ذاكرته الشّمّيّة...

أفاقَ من أحلام يقظته، اِستَحَمَّ، ارتدى أجمل ما عنده وغادر سَكَّ العَقْرَبِ إلى الجامعة، شعر بنفسه مثل مراهقٍ سوريٍّ يتيم، هجّره العنف وضاع في زحمة شوارع آخن، هكذا بدأ يومه الأول من بعد أن غادرته، غادرته دون أن تلحظ الخوف في عينيه والشوق ليبقى معلّقاً بطيات فستانها الأزرق، تركته ينام وحيداً في غرفة أصغر من مؤخرة عقرب، اشتاقت نفسه إلى راحة سجائرها، شعر بطعم حبة شوكولا الأمس من جديد، تساءل: "ما السر في سجائرها وشوكولاها؟"

بحث بعينيه عن "الكيوسك" الذي اعتاد أن يشتري منه علب سجائره. اندفع إليه مسرعاً وطلب من البائع دون تفكير علبة سجائر "بولمول". أعطاه البائع علبة سجائر "مالبورو" خفيفة.
قال بصوتٍ عالٍ: "أرغب شراء سجائر بولمول".
نظر البائع إليه متحشراً: "لكنّك لا تدخن إلا سجائر مالبورو الخفيفة!".
قال: "واعتباراً من هذه اللحظة سأدخن سجائر بولمول ذات الرائحة المجنونة".
أضاف: هل لديك مانعٌ؟ أعتقد أن فيها شيئاً يشبه ما يمكن أن يُسمّى "محرّضات على اللوعة".

هزّ البائع رأسه وأعطاه ما يرغب. وبسرعة البرق أشعل السيجارة الأولى، سحبها بعمق، نظر إلى السماء، إلى الأشجار، إلى الناس، لم يشعر بما شعر به ليلة البارحة، أو ليلة الأسبوع الفائت. أشعل السيجارة الثانية، وراح يتمشّى في طريقه إلى الجامعة. خطر له أن يتّصل بها ليسألها عن اسم شوكولا الأمس، ليسألها عن سعادة احتراق الأمس...

أراد فقط أن يعاتبها: لماذا نسيت قبل فرارها أن تُهَدْهِدَ له فِي الْمَهْدِ لِيَنَامَ، عساه يستريح من ذكريات طفولته البائسة، طفولة "دوستويفسكي"، عساه يستريح من ثرثراته عن أصناف القتل والنهب والخطف في سوريا أو روسيا...

أراد أن يقول لها: إنّ عدّه للخطوات التي خطاها الطالب "رسكولينكوف" في الحّارة قبل ارتكابه الجريمة قد أضناه، هل كانت قرابة 87 خطوة؟
أراد أن يقول لها: إنّ الشّغف وصل به لدرجة أن قاس بخطواته المسافة الفاصلة بين مكتبه ومدخل شركتها، هل كانتْ قرابة 475 خطوة؟
لعلها ستجيبُهُ: "حتماً، إنّها بالفعل 475 خطوة تروح وتجيء في قلبي الصغير".

شعر بجسدها يحتاجه، وصل إلى مكتبه في الجامعة، أدار رقمها، رتّب مفردات الجملة التي سيقولها كي يبدو في عينيها أيضاً القادر على النطق، الهاتف أخرس، أعاد الكرّة مراتٍ ومرات، الهاتف مشلول...

فقد القدرة على التركيز، فقد الرغبة بالعمل، ذاكرته تبحث عن روائحَ مشابهةً لروائح الأمس. نظر إلى التقويم على طاولة مكتبه، اكتشف أنّ اليوم هو يوم العطلة الأسبوعية. خرج من مكتبه الفارغ إلّا من جسده، توجه إلى أقرب مطعمٍ تركي، طلب بيتزا، أكل وعاد إلى سكنه الطّلّابيّ.

يُتبع في الجزء الرابع



#علي_دريوسي (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- حدث في قطار آخن -2-
- حدث في قطار آخن
- حَمِيمِيَّات فيسبوكية -52-
- حَمِيمِيَّات فيسبوكية -51-
- حَمِيمِيَّات فيسبوكية -50-
- حَمِيمِيَّات فيسبوكية -49-
- المرسم
- حَمِيمِيَّات فيسبوكية -48-
- حَمِيمِيَّات فيسبوكية -47-
- يانصيب الفرح
- قصة فيسبوكية قصيرة 2
- قصة فيسبوكية قصيرة 1
- السرسكية
- حَسْنَاءُ بِسْنَادا
- حَمِيمِيَّات فيسبوكية -46-
- حَمِيمِيَّات فيسبوكية -45-
- حَمِيمِيَّات فيسبوكية -44-
- حَمِيمِيَّات فيسبوكية -43-
- حَمِيمِيَّات فيسبوكية -42-
- حَمِيمِيَّات فيسبوكية -41-


المزيد.....




- بلدية باريس تطلق اسم أيقونة الأغنية الأمازيغية الفنان الجزائ ...
- مظفر النَّواب.. الذَّوبان بجُهيمان وخمينيّ
- روسيا.. إقامة معرض لمسرح عرائس مذهل من إندونيسيا
- “بتخلي العيال تنعنش وتفرفش” .. تردد قناة وناسة كيدز وكيفية ا ...
- خرائط وأطالس.. الرحالة أوليا جلبي والتأليف العثماني في الجغر ...
- الإعلان الثاني جديد.. مسلسل المؤسس عثمان الحلقة 157 الموسم ا ...
- الرئيس الايراني يصل إلي العاصمة الثقافية الباكستانية -لاهور- ...
- الإسكندرية تستعيد مجدها التليد
- على الهواء.. فنانة مصرية شهيرة توجه نداء استغاثة لرئاسة مجلس ...
- الشاعر ومترجمه.. من يعبر عن ذات الآخر؟


المزيد.....

- صغار لكن.. / سليمان جبران
- لا ميّةُ العراق / نزار ماضي
- تمائم الحياة-من ملكوت الطب النفسي / لمى محمد
- علي السوري -الحب بالأزرق- / لمى محمد
- صلاح عمر العلي: تراويح المراجعة وامتحانات اليقين (7 حلقات وإ ... / عبد الحسين شعبان
- غابة ـ قصص قصيرة جدا / حسين جداونه
- اسبوع الآلام "عشر روايات قصار / محمود شاهين
- أهمية مرحلة الاكتشاف في عملية الاخراج المسرحي / بدري حسون فريد
- أعلام سيريالية: بانوراما وعرض للأعمال الرئيسية للفنان والكات ... / عبدالرؤوف بطيخ
- مسرحية الكراسي وجلجامش: العبث بين الجلالة والسخرية / علي ماجد شبو


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - الادب والفن - علي دريوسي - حدث في قطار آخن -3-