محمود جلبوط
الحوار المتمدن-العدد: 1352 - 2005 / 10 / 19 - 11:21
المحور:
الادب والفن
كان خارجا مما يشبه الحلم , عندما اتخذ له ليلاَ مكانا إلى جهاز الكمبيوتر القريب من النافذة عن سابق إصرار ليطل عبرها من حين لآخر إلى المدى البعيد حين يستغرقه الرحيل في عالمه الخاص خلال الانترنيت . شغّله وانتظر وقتا لاكتمال جاهزيته للرحيل, ألقى خلاله نظرة عبر النافذة إلى بحر الليل الصامت الذي يخدشه ضوء القمر , يختفي تارة عبر الغمام وتارة يظهر بألوانه البنفسجية . ليل مفعم بالندى والضباب والصمت. وهو على هذه الحالة تذكر شقته القديمة في مدينته السابقة حيث كان يقطن قبل رحيله إلى شقة صديقته الألمانية التي يقطن عندها مؤقتا , كم أصبحت بليدة هذه الكلمة (مؤقتا) التي أمضى سنينه الخمسين في ظلها بانتظار مجيء الوضع الدائم . كانت شقته السابقة بشرفتها الواسعة تقع في الطابق السابع من بناء سكني برجي يطل على بحيرة تتوسط غابة يخترقها نهر سالة كما يسمونه أهل المدينة . كان يطيب له ليلا الجلوس على الشرفة وحيدا برفقة كأس من النبيذ يتقي به برد ليلة مقمرة بشكل غير عادي بسبب انعكاس ضوء القمر على سطح الثلج المتناثر على ضفاف البحيرة و المرج الذي تساقط طوال الليلة السابقة. هذا الحشد من الأخضر والأبيض والبنفسج والذي كان يؤلف كرنفالا ليليا يلفه , كثيرا ما أغراه للتوغل فيه ليلا , بينا يجف الحلم والأمل داخله , كان يتوغل برفقة مسجله الصغير , تدندن في أذنيه عبر السماعة المعلقة على راسه أغنية لأم كلثوم(رق الحبيب) التي تعود أن يسمعها هناك في زاوية ما من الوطن وخضاره بقرب الساقية , عندما كان الليل يسدل ستائره على البساتين المحيطة بالضيعة التي كان يقيم فيها الأهل . يتوغل , و يمضي تتداوله الأشجار والزهور والصخور والجزر الصغيرة التي كانت تتوازع مساحة عرض النهر , إلى أن يرتعش النور فيه ثانية ويتوهج الأمل من جديد فتعمه الحياة , فتعود إليه ابتسامته البهية فيخرج من أسر الصمت , فيغني....كان يستطيع من شرفته رؤية الأوزات والبجعات التي أخفت رؤوسها تحت أجنحتها غطت في نوم قلق يقطعه من حين لآخر الأسماك التي كانت تنقر أقدام البجعات من تحت الماء ظنا منها أنها فريسة ما... يرقب أرنبا يطل بحذر من خلف كوم من النبات أو أرنبا يقفز من خلف شجرة منتهزا هدوء الليل وخلو المكان من متطفلي النهار متلمظّا الأعشاب الندية التي يستطيبها . كان قد أدمن المكان عندما فجأة تلقى إنذارا من إدارة السكن لإفراغ الشقة والبحث عن سكن آخر بعد مهلة شهر لأن برج السكن هذا ستهدمه الشركة لعدم جدواه الاقتصادية , فانقهر حزنا . قطعت سروده رنة رسالة الكترونية في المسنجر قادمة من الكمبيوتر , جلس إلى مقعده ونظر من يكون , كانت صديقته التي اعتاد أن يجول معها تضاريس الوطن أثيريا يجترون الذكريات متشابكي الأيدي تلقي براسها على كتفه . وجهت له دعوة للمحادثة فلم يستجب لها , فكتبت له : ما بك لماذا لا تقبل دعوتي للحديث...قال لها : لا رغبة لي اليوم للحديث... قد عرفته صديقته وتعودت أنه لما تتزاحمه هواجسه وتختلط أفكاره ويعمه القهر يفقد رغبته في الكلام , ويستعيض عنها بلغة العيون للتواصل مع متعلقاته البشرية... حين يعتمره القهر , يمتصه الصمت فيفقد قدرة الكلام بضعة أيام. وجهت له ثانية دعوة للحديث رفضها أيضا , كتبت له ثانية: لماذا لا تقبل دعوتي اليوم , أجابها :لا أستطيع يا صديقتي, إن القهر و الحزن والبلادة تعماني ولا أستطيع في حالتي هذه البوح إلا عن طريق صمتي وعليك لفهم ما يجري معي السفر في عيوني . كتبت له مندهشة:وهل للصمت معنى, وهل في الصمت بوح ؟ إن الذي أعلمه أن على الإنسان إذا أراد التواصل أو البوح فعليه بالكلام أو الصراخ أو الإشارات , يضحك , يكتب , يبكي , يثور, أن يكون هناك صوت ما للتعبير.فالإنسان منذ الولادة يعبر بصرخة, عندما يفرح يضحك, وعندما يحزن يبكي, وعندما يغضب تنتفخ أوداجه فيصرخ ويشتم, حتى الصم لديهم لغتهم من خلال الحركة , أما الصمت, فكيف يمكن أن نتواصل بالصمت؟ ثم كيف لي أن أسبح في عيونك وأفهم ما يدور في خلدك منها وأنت بعيد عني يفصلنا كل هذه المساحات و لا أطول أن أراها ؟توقف هنيهة عن الكتابة ثم كتب لها: حاولي يا صديقتي , إن حاولت ستريني وتلمسيني أيضا , وعندها دعينا نصمت ونترك الحوارية للعيون, فهي اللغة الأعذب والأصدق, فصمتها المتنوع أبجدية , فعندما تشع العيون يعني الحب, ولما تتراقص يعني الفرح , ولما تخبو وتنكسر يعني القهر و الحزن والألم. إنها تتخطى كل اللغات المعروفة , في لحظة تحكي كل ما يعجز عنه اللسان, تتسلل الأعماق فتكتشف المشاعر, لغة لا تعرف الكذب ولا الرياء, لغة صافية تعكس مباشرة كل المشاعر الحقيقية وتبوح بكل الأسرار , إن العين يا صديقتي أفضل وسيلة للإتصال.
صمتت هي متأوهة من فنتازياه الغريبة , أحست هذه المرة أن اللقاء يجري بينهما في مكان مقفر مساحته الخواء, لكنها تقمصت دعوته إليها للصمت وأخذت تحاول, فاستسلمت و أخفت عنه شوقها له ولسماع صوته . عندما كان يسيطر القهر على أنفاسه في المرات السابقة و يشكو لها أنه حزين , كانت تغني له أغنية أميمة ( أحبك أكثر) بصوتها المطرز بالشجون , فيستسلم لاحتضان صوتها فيعود ليقينه .كم لحظة عبرت لا تدري, كيف أتى إليها فلمسته و حدث الإلتحام لا تدري , أحست بالإمتلاء , بالحاجة للبوح , للإنصات لإيقاع القلبين , و لحديث العيون فكتبت له تقرّه: ها أنا أنظر إليك ؟ أجابها: اقتربي مني وحاولي أن تتمليني ,النظرة الأولى لنا معا نطارح فيها بعضنا ونشرب نخبها , والنظرة التي تأتي بعدها هي للوجد والسر تعريه نظراتنا لبعضنا . نشوانة صارت , استغرقت صمته فاستغرقها . سألته : هل أعجبك حديث عيوني ؟ أجابها: أحب عيونك و أحب حديثها , إن حديث العيون أستهويه ويستهويني , ولكني أحيانا أخشاه وأحيانا يتعبني , ربما خوفي منه وتقديسي له أتاني بسبب أمي , فلقد كانت تستطيع أن تقرأ كل شيء فيّ من عيوني , فرحي , قلقي , حزني , وكانت تعرف إن كنت أقول الحقيقة لها أم الكذب , كانت عندما تحملق في عيوني وتطلب مني أن أنظر إليها تربكني , وإذا صمت ولم أتفوه بأي كلمة تعرف ما قد حصل لي دون أن أنبس ببنت شفة, هي التي جعلتني أحب حديث العيون , كانت عيونها جميلة , كنت أنصت إلى عيونها كثيرا , كم كان حديث عيونها جميلا..صمت , أحس بغصة تأكله ستقطع عليه صمته , وعاد بالذاكرة للبعيد, لقد رحلت أمه عنه و هو لم يتجاوز بعد الثالثة من العمر , فاختزلت في مخيلته و ذاكرته إلى عيونها فقط , قدر ما تملى عيونها الجميلة الواسعة وأنصت إليها ...عندما كبر راحت تستهويه دراسة الشخصيات من خلال عيونها كنافذة إليها ... بكى بصمت , تمنى لو تستطيع صديقته أن تسمع عيونه دون أن تراه , فتدرك أسباب قهره وبلادته دون أن يشرح لها , آه لو يستطيع أن يشرح لها ما معنى القهر وما تأثير البلادة , أو أنها تستطيع أن تعرف دون أن يقول..اكتشفت صديقته ما يدور داخله من عيونه , أرادت أن تقطع عليه الحالة التي استغرقته بعد أن أدركت ما قد ألم به عندما أصغت إلى عيونه أكثر , كتبت إليه: ماذا بك ؟ أين أنت ؟ هل ما زلت على الخط ؟ لم يستطع إجابتها , فلقد امتصه القهر , نظر من النافذة إلى الأفق البعيد عبر بحر الليل الصامت , وغرق فيه .
#محمود_جلبوط (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟