هدى توفيق
الحوار المتمدن-العدد: 4858 - 2015 / 7 / 6 - 10:16
المحور:
الادب والفن
تلك الرواية التي تزخر بتصوير عالم غرائبي يمتزج فيه الواقع بالخيال في سرد عالم روائي خصب ومحكم فنيا ولغويا، مبدعا حالة من الجمال الواقعي الخيالي، لرؤية مختلفة عن الصحراء والريف. أعترف أنني بعد القراءة الأولى مباشرة شعرت بقدر عالٍ من الغموض الفني واستعصى عليّ فك شفرات ذلك العمل الروائي من الوهلة الأولى، وعندما بدأت القراءة الثانية بدأت بالتدريج نتيجة لطبيعة العمل السلسة والعذبة التقديم لتحل تلك العقدة المتواجدة في بعض الأطروحات الروائية داخل السرد، فالغموض الفني كما أظنه يؤدي في أحيان كثيرة إلى فرض حالة من التعتيم والعجز لمواصلة العمل الروائي لإدراك الأحداث، وملاحقة الشخصيات داخل السرد، لكن مع التركيز والقراءة يمتزج العمل بداخل نفسي وأستمتع في قراءته كل مرة، فربما أني في بادئ الأمر لجهلي وعدم معرفتي بالأماكن التي ذكرها الروائي مثل مرج عامر، وأسطورته الخاصة بالنساء، حيث يبلغ الولع فيه بالنساء مداه، سواء في نصيبهم من الإرث (الميراث)، ورئاسته المرج والنسب إلى الأم، نجع كوم ربيع، نجع كبير العلما، ترعة الفلفة وموردة أبو غريب، وغيرها من الأماكن التي لا أعرفها فعلا.
تتناول الرواية عالم الصحراء، وما به من عرب أشرار وأخيار، وهم لهم طبيعة مختلفة، فهم بارعون في عرض ما لديهم، وأساليب المحايلة والإقناع والمساومة تضع الواحد في فخ، ثم {الجمال والجمالين} وعالم الفلاحين، الناظر، السوق، معصرة أبو سراج والعمدة، أبو جبل وابنه سعيدوأخيرا مصنع مصطفى علوان على الوجه الآخر نشاهد عالم المدينة المتمثل في السفير، الأوبرا، المايسترو والبدلة، وأنهار، إذاعة المركز ومكتب الشئون الإدارية والأفراد ومخزن المهمات.
يخترق تلك العوالم الواقعية الممتزجة بالخيال، نسيج فني يظهر في المواويل وغناءها من خلال موروث شعبي أصيل ممتلئ بألوان فنية بديعة عن الرومانسية كحب العاشق والمعشوق واللوم والعتاب من لوعة الحنين، والفقد بل وأحيانا تكون أغاني وطنية، تبرز شغف الروائي بالموسيقى والغناء، كإخبارنا عن درجات ومستويات موسيقية مثل نهاوند الذي هو مقام رمش الغزال، وبين شطين مقام راست وماشي كلامك مقام هزام ويتم كل هذا عن طريق بطل الرواية سالم الفنان المعذب بعشقه لسلمى وإفتتانه بسندس.
يمتزج المكان بالفن والموسيقى والأسطورة من خلال حكي ثري رائع ودال يغلفه غطاء روحي رقيق، حتى يبدو للناظر والقارئ، كقبس من النور الساطع لمسيرة ليست بالهينة تقودها سلمى حيث النور يشع من وجهها كاملا واضحا مبهرا للقارئ آخذا بيده من الجذب الشديد أن يصبح أسير وتابع هذا النور الرومانسي الصافي. فسلمى هنا مثلا الجانب الطاهر والخير داخل النفس البشرية، فهي تداوي الناس من أمراضها وعقدها، وتقيم الصلح بين الناس حين يبقى الصفاء والرضا والسلام التام، شئ أقرب منه إلى النزعة الصوفية عن مجرد كونه سيدة صالحة أو خيرة حتى أن الكاتب يشبه لبن سلمى بلبن الإبل، ودموعه الرقراقة الوادعة بفعل غناء سالم الشعبي، الذي به يتناسَ الإبل أوجاعه، وآلام السفر الطويل المنهك دونما راحة، حتى نحرت على يد العرب الأشرار في الصفقة المشبوهة.
هذا المربع المتساوي الأضلاع والآثر الروائي العميق، المتجسد في سالم الفنان المجنون العاشق للموسيقى والغناء، وسلمى البيضاوية الوجه، المنير على الدوام من بؤرة الخير الكبيرة المملوءة بها في كل جوانحها وأفكارها لصنع الخير والصالح للآخرين، ثم سندس العاشقة{ لعوف }أحد الفلاحين، وحناالفلسطينى ذو السمت البرئ والطاهر تلك الشخصيات المحورية هي من خلقت أسطورة المكان برؤية مبهمة في إطارها الخارجي ولكنه برؤية مغايرة وفاحصة نجد أنها عوالم باحثة عن أهداف بعيدة المدى وسامية في فكرتها من أجل فتح مغاليق الروح الإنسانية الحقيقية، وانتزاع عنصر الشر الوجه الآخر للخير باعتبارها أمثولة العالم كل شئ يقع تحت إطارهما الواضحان طبقا للمنهج الأرسطي.
والوجه القبيح نظير الجميل والرائع نجد{ نار حماصة }العربي الذي طعن سالم طعنة نكراء، خادعة، وعبرة أبو دراع الذي بترت ذراعه في اليوم التالي للمسة ذراع سلمى الطاهرة، ولأن القبح حاد وشديدة الوطأة على النفوس، فإن آثاره وفعالياته تطرح بما يمكن لنا أن نسميه مجازا، حالات من الجمال المشوه، كجمال شامية التي سكنها الجني، وأخرجها عن وعيها تماما، حتى وضعت طفل من غير زوجها أحمد الرز، وبعد أن دمرت عاشقها الأوحد عبد الفتاح البط، وكاملة أخت يوسف الطبال زوج وخادم سلمى التي ماتت هي وزوجها يوم زفافهما، حين انقلبت السيارة ليلا بالعروسين في الترعة عند عرقوب سليم، فزف العروسان إلى مقبرة واحدة، وورد ام سالم الداية الماشطة التي لا تصدق أن زوجها مات منذ عشرين عاما، بل تعد له القفصين وتنتظره كل يوم كما تنتظر حنا فلسطين ليحضر لها زلع العسل لتنجز عملها.
بالتأكيد هو عالم واسع ولكنه محكم بشخصياته الحية والمؤثرة في النفس إلى أقصى حد بطله المكان المتنوع، الذي يجمع تحت تعدده واختلافه مشهد قوي لدموع عشرين من الإبل ذاهبة إلى الموت، فتلك الدموع هي لدينا دموع كل أبطال الرواية الذين ينتظرون حتفهم وفنائهم في نهاية الرواية.
كل هذا الثراء السردي والحكائي داخل الرواية، فلابد لناأيضا ألا نغفل الجانب المعرفي لكثير من المعلومات الخاصة بالموسيقى ومقاماتها، وسرد العديد من الأغاني والمواويل الموحية والمناسبة والمشاركة في تألق السرد وتنوير دروب ومسالك أعترف أنني كنت لا أعرفها كثيرا مثلا كوصفه للغرفة الموسيقية في{ صفحة28}، ثم ينتقل الروائي في طرح معارف ومعلومات أخرى، كحديثه عن طريقة ماما السلطان في {صفحة 45}، ثم الانتقال للتحدث عن الطبيعة بإستفاضة عن النباتات، والنخيل، والأشجار والعديد من أنواع الأزهار التي تملأ أجواء الرواية بعبق روائحها الذكية وخاصة في{ صفحة 166}، وغير ذلك من المعلومات التي آزرت السرد كالحديث عن أدوات الخياطة، ووصف الصحراء والجمال والجمالين والعرب، ومعلومة قطمير الذي هو كلب أهل الكهف الذي سكتت له الكلاب وقد تم تضفير الجانب المعرفي بجسد الرواية وبناء العالم الفني بأسوار ومحكات عالية الإستخدام الفني الضروري لإكتمال السرد الروائي والبناء الروائي الرصين والممتع في آن واحد، فالدهشة في إعتقادي هي روح العمل الفني الناجح، يجعلني أبدي دهشتي لما أقرأ، ثم إعجابي وأخيرا أستسلم لواقع الروائي المتخيل وأشعر بالمتعة لذلك الإغواء الفني الملفت للنظر والقراءة.
وبكل ذلك التعدد والتنوع والثراء اللغوي والسردي، توجد اليقظة السردية التي تجعلني أتأمل وأستغرق في عالم واقعي خيالي خصب، يأخذك بهدوء ونعومة فائقة إلى نهاية الرواية وأنا أشتهي بشدة أن أجرب مذاق بلح المرج وثماره الذي لا يأكله أحد من خارج المرج، وإذا حدث وكان مندفعا لمذاقه، فيكون نصيبه المقصلة كما جرى لكبير العلما.
عرض
هدى توفيق
المصدر:
- رواية :دموع الإبل
- الكاتب :محمد إبراهيم طه
- الناشر:دار نشر الناشر 2008
#هدى_توفيق (هاشتاغ)
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟