أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - عبد الله عنتار - منزلنا الريفي (85)














المزيد.....

منزلنا الريفي (85)


عبد الله عنتار
كاتب وباحث مغربي، من مواليد سنة 1991 . باحث دكتوراه في علم الاجتماع .


الحوار المتمدن-العدد: 4833 - 2015 / 6 / 10 - 04:55
المحور: الادب والفن
    


البركال

كانت السنابل قد أينعت والتوت حتى شارفت على السقوط من هول الشمس المسلطة في عنان السماء، أيام ودخلت الحصادات إلى حقول التيرس لكي تلتهم الأخضر واليابس، وتسوي الجميع بالأرض فاسحة المجال للأغنام والأبقار والماعز التهام السنابل المتناثرة هنا وهناك.
إننا في شهر يونيو، المدرسة القروية تقيأت أطفالها، والمسجد القابع جوارها ما فتئ يتقيأ في كل لحظة صلاة نزرا من المصلين الرعاع، أما الحانوت فضم كل الشباب المدمن على التدخين وممارسي لعبة (الكارطة)، بينما المقبرة سادها صمت كسيح تتخلله شذرات من نعيق البوم، في حين استقبل الوادي بأسف جموعا من (البركالة) الذين تقاطروا عليه كقطيع من الفئران الجائعة، استقبلهم على مضض، وراحوا يغسلون أياديهم القذرة وملابسهم المتسخة وأرجلهم العفنة، فعكروا مياهه، شعروا ببصيص راحة، فصاروا يتراشقون معرة ومسبة مع بعضهم البعض، فهناك من حصل على حفنتين من الشعير يحقد على من حصل على أربع حفنات، وهذا الأخير يحقد على من حصل على كيس، حتى صاحب الكيس إذا كان ما حصل عليه مليئا بالأتربة، فإن فمه يطفو شررا على من حصل على حفنتين لا تطالهما شائبة، كان العربي واحدا من هؤلاء، فحظه التعيس خول له الحصول على حفنتين مليئتين بالأحجار والأتربة والأشواك، ناهيك عن بنيته العضلية القوية التي جعلت الحصادة يتأففون في منحه حفنات من الشعير، لكنه لم يفقد الأمل وظل طيلة الصباح يطارد الحصادات، ويتسول الحصادة، فرغم أنهم يعلمون أنه أمه مسنة كسيحة، فإن هذا لم يشفع له كسب عطفهم، فراح يخبط الأرض ويقذف المياه بالأحجار، توقف برهة ليسائل ضميره : ( لماذا لم أحملها معي لعلي أقنع هؤلاء الحصادة ليكونوا معي أكثر سخاءا ؟ ماذا لو أتيت بالوالدة وقضت عليها الشمس الحارقة بمن أتسول إذن؟)، راح يطرح السؤال تلو السؤال حتى وجد نفسه بين أحضان الوادي الذي استعمرته أصوات (البركالة) التي تتوق شوقا إلى المزيد من الأكياس في غضون المساء، (فليمر هذا الزوال اللعين، وتنخفض الحرارة، فنحمل أكياسنا على ظهورنا وحميرنا، لعلنا نفوز بمزيد من الأكياس النقية الخالصة، آه يا أحلامنا المريضة لا تحلمي أكثر، ألم تعلمي أن أرض كرزاز هي أرض موت الأحلام، فلتموتي هنا بسلام خير لك أن تمرضي...)، حل العصر، تركوا المؤذن يلعلع تعويذاته التافهة، بينما هم لازالوا منهمكين في نوم عميق جوار المقبرة وعلى ضفاف الوادي، كانت المقبرة مبعثرة حد أن الجثث طفت للعيان من جراء المياه، إلا أن هذا المنظر لم يثر شيئا في العربي، ففي الوقت الذي كان يقذف نفسه في الوادي كان يفكر في عدد الأكياس التي سوف يحصل عليها في المساء من أجل أن يعود مرتاح البال إلى كوخه عند سدول الليل ويطعم والدته الكسيحة. انهمك العربي يسبح في الوادي، فنسي الكيس، وحينما ارتدى ملابسه لم يعثر عليه، وراح يندب حظه التعيس، ويدغدغ صدره بأقدح النعوت لاعنا الحجر والشجر والزرع والإله والبشر، بل حتى سنه الصغير الذي لا يوافق بنيته العضلية الصلبة : (آه لو وصلت إلى سن البطاقة الوطنية يمكن أن أعمل في البناء، وأعيل الوالدة الهالكة، تبا لي، تبا لمن أوجدني في هذا الواقع العاهر والمقلون).
****
كانت الشمس قد زاغت نحو المغيب، تسرب إلى خلد العربي أن الكيس قد ضاع، وأن عودته إلى الكوخ خالي الوفاض مسألة وقت، ها هم الحصادة يعودون أدراجهم، ولا ذرة شفقة، ولا بصيص رحمة، اللهم البخل والشح، كل الأكياس متجهة نحو المخازن، كم تمنى العربي أن يجيء جفاف ماحق يستشعر فيه هؤلاء الحصادة بمعاناة (البركالة) وجموع المتسولين. ذهب العربي من حصيدة إلى أخرى مضاجعا حظه التعيس، وبينما يقترب من ثلة من الشباب حتى لاح كيس أزرق في يد أحد هؤلاء. سر العربي كثيرا لما وجد كيسه في يد أمينة تتمثل في رشيد، فقبلا بعضهما وعانقا بعضهما عناقا شديدا، وانطلق العربي يساعد الحصاد رشيد لعله يكون سخيا معه.
****
أطبقت ظلمة شديدة على أرض التيرس، وأشعلت الحصادات أضواءها، وراحت تلتهم كل الحقول، حمل رشيد أكياسه فوق العربة، ومنح كيسين للعربي، فسر بذلك، (على الأقل، هذا اليوم لم يمر خالي الوفاض، لعل الغد سوف يكون أحسن، اليوم لم أكن أعول على شيء، حتى جاء رشيد ومنحني هذين الكيسين من القمح، أمي الكسيحة ستبتسم في وجهي حينما ترى في يدي حبة قمح كعلامة أقاوم بها الموت مثلما تقاوم هي الموت على كرسي متحرك منذ عشرين سنة خلت، سوف تضحك هي بلا شك حتى لو مت في سبيل حياتها، بلاشك ستضع بقايا زهور على قبري وشظايا مياه، سوف أصل إلى المنزل في غضون لحظات... لقد هدني الجوع).
****
استوت العربة مع الجسر، التفت العربي إلى أضواء الحصادات، سمع نعيق الغربان، تدفقت الأكياس، وهامت في الوادي مختلطة بالدماء، والتفت آخر التفاتة فرأى شاحنة طالها الانقلاب، وأمه ما عادت كسيحة، وراحت تجري نحوه وتقول : (كل شيء يا العربي إلا الموت)، بينما دمه يهرق من مؤخرة رأسه سمع رشيد يقول : (ما أحببت اليوم شخصا أكثر من العربي)، أما جموع (البركالة) والحصادة راحوا يفتشون جيوب العربي ورشيد ويجمعون القمح المتدفق، حتى لحظة الموت تولد فيها الإنسانية بقدر ما تموت، كم هو جائع الإنسان ليس إلى المادة وحسب بل إلى الفكر... قرب النهر سالت دموع، شيدت خيام، وبقي العربي الإنسان حيا لا يموت.

عبد الله عنتار/ 08 يونيو - حزيران/ بني ملال وسط المغرب



#عبد_الله_عنتار (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- اختفت كلماتي
- منزلنا الريفي (84)
- منزلنا الريفي (83)
- متى تعودين يا عشتروت ؟
- منزلنا الريفي (82)
- أنت أنا وأنا أنت
- تحت الصفر
- هوامات الحضيض
- أظمأ إلى وردة
- بارقة ضوء
- منزلنا الريفي (81)
- تغازوت*
- صلاة في حضرة الغروب
- في انتظار الخلاص
- الرماد
- رأيتك عارية
- أزهار قريتي
- حواء
- هو الشحرور
- أجرؤ على النظر هناك


المزيد.....




- مواجهة ايران-اسرائيل، مسرحية ام خطر حقيقي على جماهير المنطقة ...
- ”الأفلام الوثائقية في بيتك“ استقبل تردد قناة ناشيونال جيوغرا ...
- غزة.. مقتل الكاتبة والشاعرة آمنة حميد وطفليها بقصف على مخيم ...
- -كلاب نائمة-.. أبرز أفلام -ثلاثية- راسل كرو في 2024
- «بدقة عالية وجودة ممتازة»…تردد قناة ناشيونال جيوغرافيك الجدي ...
- إيران: حكم بالإعدام على مغني الراب الشهير توماج صالحي على خل ...
- “قبل أي حد الحق اعرفها” .. قائمة أفلام عيد الأضحى 2024 وفيلم ...
- روسيا تطلق مبادرة تعاون مع المغرب في مجال المسرح والموسيقا
- منح أرفع وسام جيبوتي للجزيرة الوثائقية عن فيلمها -الملا العا ...
- قيامة عثمان حلقة 157 مترجمة: تردد قناة الفجر الجزائرية الجدي ...


المزيد.....

- صغار لكن.. / سليمان جبران
- لا ميّةُ العراق / نزار ماضي
- تمائم الحياة-من ملكوت الطب النفسي / لمى محمد
- علي السوري -الحب بالأزرق- / لمى محمد
- صلاح عمر العلي: تراويح المراجعة وامتحانات اليقين (7 حلقات وإ ... / عبد الحسين شعبان
- غابة ـ قصص قصيرة جدا / حسين جداونه
- اسبوع الآلام "عشر روايات قصار / محمود شاهين
- أهمية مرحلة الاكتشاف في عملية الاخراج المسرحي / بدري حسون فريد
- أعلام سيريالية: بانوراما وعرض للأعمال الرئيسية للفنان والكات ... / عبدالرؤوف بطيخ
- مسرحية الكراسي وجلجامش: العبث بين الجلالة والسخرية / علي ماجد شبو


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - الادب والفن - عبد الله عنتار - منزلنا الريفي (85)