عباس علي العلي
باحث في علم الأديان ومفكر يساري علماني
(Abbas Ali Al Ali)
الحوار المتمدن-العدد: 4830 - 2015 / 6 / 7 - 15:32
المحور:
المجتمع المدني
4
بعض الأراء والأفكار والرؤى الخاصة عندما تطرح فكرة الدولة المدنية تشترط وجود نزعتين مهمتين كي تتم لديها صورة التمدن كوصف للنظام والمؤسسة الوطنية الجامعة بعنوان الدولة ذات الطابع المدني الشمولي بالقاعدة المنشأة أو بالتشريعات التي تلي النشأة وهذه النزعتين تتمحور الأولى حول تجريد المجتمع من سمة التكوين التأريخي وإنزاع المجتمع الميل الغالب نحو لحدنة النظام والقانون والعلاقات المجتمعية العامة والخاصة بأعتبار أن الإلحاد هو الحياد التام الذي يحمي المجتمع من العودة للنظام القديم , والنزعة الثانية التخلي التام والجبري عن حق المجتمع بخيارات أخرى من ضمن النظام المدني وتكريس مفهوم سيادة القاعدة القانونية المعادية للدين سواء أكانت هذه القاعدة لديها نصيب من النجاح أو الفشل وسواء أكانت القاعدة التي تم التخلي عنها ناجحة وإيجابية أم لا .
هذا المنطق الإلحادي الإقصائي لا يمكن معه تصور نجاح المشروع المدني في ظل حقيقة أن مجتمع عاش التاريخ بغالبيته في ظل علاقة دينية تشلكت لأول مرة في العالم وتجذرت ونمت وتطورت ومارست أقصى أنواع الهيمنة على وجود الإنسان في أرضها يمكن أن تسلهم بسهولة ودون مقاومة ولا تجربة لنظرية نازعة وطاردة لهذه الحقيقية ونريد أن نضمن لها النجاح , هذا نوع من الهراء الأجتماعي والطوبائية الفكرية تشكل نموذجا لعبثية حقيقية في الطرح النظري تخلو من العقلانية الواقعية ,لا يمكن للدين في مجتمع غارق بالكلية في تأريخيته الدين أن تنجح محاولة التخلي عن الدين لأنه يعتقد أن وجودية الدين لا يمكنها أن تكون محل نقاش لا عقلي ولا عملي إن لم نسلم أولا أن مكمن الوجود مرتبط به ونهاية الوجود تعود له , هذه الأحتوائية تحتاج إلى ضبط من داخل مفهوم الدين كمرحلة تأسيسية ومن ثم الإنطلاق نحو العودة للأسس المدنية المتوفرة أساسا في تأسيسيات الدين الأول لوضع مقارنة واعية بين البداية والواقع .
ليست الدولة المدنية في واقع الأرض العملي وأستنادا للنماذج المطروحة والتي تقدم نفسها على أنها الحل الممكن للعودة بالمجتمع إلى علاقات الإنسان بالإنسان من خلال طبيعته الفطرية المدنية ,ما يشير إلى هذه الإلحادية الإقصائية وإنما أوجدت فكرتين الأولى فكرة المواطنة التي تعني علاقة شعورية وأنتمائية للمجتمع الذي هو الوطن وليس الأرض وإن العلاقات التي يتميز بها المجتمع وتضبط سير سلوكه هي قوانين المواطنة الصالحة بعيدا عن أي أعتبار أخر وهي ذات الفكرة التي يؤمن بها الدين الإسلامي من القراءة المدنية لأفكاره ,والنقطة الثانية أن مفردات المواطنة ترتكز على طرفي معادلة هي (وطن واحد يساوي مواطن واحد), الجمع بين القاعدتين لا يمكن معهما أن يكون هناك لا إقصاء ولا أهتمام بالعلاقات الفردية أو الجماعية التي تتخذ من الدين منهل لها وبالتالي التعارض الذي يمكن أن يحصل يتم حله تلقائيا بطريقة تقديم القاعدة المنظمة للمواطنة على القاعدة المنظمة لغير علاقة مع أحترام أكيد للأخيرة لكن تبقى في حدها الطبيعي ومجالها الحيوي طالما كانت غير مشاركة في صنع ونبلور وداخله في مفاهيم المواطنة الملزمة.
من حق المواطن المدني في الدولة المدنية أن يعيش حياة روحية ما ويعمل على تفعليها في تفاصيل وجوده والخضوع لها وهو حر أيضا برفضها والتخلي عنها ,ولكن لا يجب أن يكون ذلك على حساب قيم المواطنة أو أنتهاك قاعدة وطن واحد مواطن واحد ,هذا التناسق ممكن وحقيقي وواقعي ومطبق في أكثر من مجتمع وتحرص المجتمعات المدنية على تنمية الشعور بالمواطنة من خلال أحترام خيارات أفرادها ومنحهم حق التمتع بها في الحدود التي لا تشكل تعارضات مع مبدأ سيادة القانون , فمثلا المجتمع المدني يعترف بالزواج كممارسة حياتيه فيها شق روحي كما فيها شق أجتماعي ولا يمانع أن تستوفي روحيتها كما تستوفي حدها الأجتماعي ولكن لا تفرض على الفرد إبدال هذه الممارسة بالزواج المدني الذي يتخلى عن جزء مهم من هذه الممارسة وهو الجانب الروحي كما لا يشجع على التقيد الجبري بالشكل الأول .
إن السعي لترسيخ قواعد الفكر المدني عموما ومفهوم مدنية الدولة في المجتمع العراقي تبدو للكثيرين مهمة أشبه بالمستعصية مع هذا الإنحياز الأعمى للتاريخية الإجتماعية بشقيها العرفي والديني والذوبان الكلي والمدمر للشخصية العراقية بالمشروع التأريخي ,والسر الذي يكمن وراء ذلك أن المجتمع العراقي مجتمع يعيش التأريخ ويتعايش معه رافضا أصلا فكرة المغادرة لأن الوجهة المقبلة التي عليه أن يسعى لها لم تتضح معالمها ولا حدودها قبال الفكرة الأجتماعية الأولية التي تربط مفهوم الجنة كمستقبل بمفهوم العمل التأريخي سلوكيا ,بالتالي هذه الجدلية التأريخية لا يمكن أن تولد حسا مدنيا قادرا على صياغ مجنمع قابل للتحول .
إذا ووفقا لهذه الفهم علينا أن نختار أمرين حاسمين هما أن نعري المجتمع من تأريخيته ولو بالقوة وأستخدام أساليب تعديل السلوك النفسية مع أشتراط المواجهة مع المجتمع وأحتمال التصادم العنيف كما حصل في المجتمع الصيني أبان الثورة الثقافية ,أو أنتهاج خط المهادنة مع القوى التأريخية ومحاولة أقناعها بعقم مشروعها وأنتظار أعلان فشلها الكامل وتقهقهرها للخلف ,أرى أن الحديث عن هذه الأحتمالات في ظل التطور المدهش والحراك الأجتماعي الذي يسود المجتمع العالمي تصبح هكذا نظريات ضرب من الجنون والعبث وعلى القوى المدنية أن تكون حاضرة ومستنفرة وبكل قوة للنضال لتجسيد مشروعها المدني مع كل هذا الفشل الذريع للمشروع التأريخي الديني والعرفي ليس في العراق وحده ولكن أيضا بالمجتمعات التي تشارك العراق في الكثير من الأوصاف الأجتماعية .
إن تأخر نجاح المشروع المدني الإنقاذي في العراق لا يعني فشله ولا يعني الإقرار بأستحالة تنفيذ التحولات الديناميكية فيه ولكن يرجع في غالب أسبابة إلى قوة وفاعلية وسطوة المشروع المنافس الذي تلقى الدعم والمساندة والدفع به إلى أمام في فرصة خاظئة وغير محسوبة بعد تحولات عام 2003 التي لم يكن لصاحب المشروع فيها تصور حقيقي وكامل عن أسلوب المعالجة وعدم أمتلاكة القدرة على التحكم بالواقع بعد أن وضع القوى التأريخية في صدارة المشهد الأجتماعي والسياسي في محاولة منه لأمتصاص ما كان يظنه ردة فعل ورفض أجتماعي لفكرة الأحتلال ,وبذلك أظهر برغماتية فاشلة وسوء إدراك وفهم وسوء إدارة زادت من إشكالية التحول المدني وعرقل بقوة مشروع النهضة العراقي بغباء الحمار الأمريكي وبعده بلادة الفيل الأزرق .
#عباس_علي_العلي (هاشتاغ)
Abbas_Ali_Al_Ali#
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟