مريم نجمه
الحوار المتمدن-العدد: 4660 - 2014 / 12 / 12 - 16:18
المحور:
سيرة ذاتية
صفحات من ملعب الزهر - الطفولة - لا يعرف البلد إلا من يمشي فيها .؟
تتزاحم الأفكار والصور في مخيلتي , وكل صورة تحاول أن تقفز لما قبل الأولى , كأنها في سباق لتترأس القائمة !
لكنني أحاول أن أسترجعها كلها واحدة واحدة , وأنسّقها بقدر الإمكان , لتكون متناغمة مع بعضها البعض , ضمن الموضوع العام والخطوط العريضة والفكرة الرئيسية وبمكانها المناسب .
فكلها عزيزة على قلبي , كلها مُعاشة بتفاعل حي مباشر وبديناميكية وعفوية وبساطة , وقد عَبّأت لحظات وأيام وسنين طفولتي المَرِحة السعيدة .
------
مواسم الباعة المتجولون لا تنتهي سنوياً . ففي كل شهر مناسبة تقام , أو يجري معرض , ومشهد و " فيلم ريفي " جميل محبّب للأطفال , موسم
يتوافد فيه مرة أو مرتين في السنة لقريتنا , حسب ما يرتأون من كثافة العمل ومطلوب رجوعهم أو مكوثهم فيها ..
*
هكذا كان صوت المنادي في الصيف : " مجلّخ مجلّخ " ... سكاكين مقصات وغيرها من الأدوات التي يجب أن تنظف وتشحذ وتلمّع سنوياً . يزور البلدة مرة أو مرتين في السنة تنتظره كل عائلة فيها لتلميع حاجياتهم وأدوات اعمالهم الصدِئة , وتتراقض وتجتمع حوله الأطفال من كل جهة وحارة , ليشاهدوا العملية اليدوية المرافقة بالصوت والحركة واللباقة والمهارة , والإنتباه على الاّلة الخشبية والدولاب المعدني الذي يديره بقدمه . فقد كنا نحن الأطفال نفرح في هكذا مشهد غريب علينا في تلك الحِقب البعيدة عن الإتصال بالخارج وجديده وأضوائه ,, فقد كانت كل هذه الحركات والمشاهد البسيطة تنّمي لدى الطفل حبّ المعرفة والإطلاع واكتشاف الجديد , وبالتالي فرصة لتجمع الأطفال وتنمية الإدراك والتلاقي والفرح , فسوق البلدة ملعب مفتوح للجميع دون قيود .
**
- " بساط الصيف واسع " . ونهاره دافئ وطويل ..
..... ويأتي ( النداف ) من دمشق أو بقية المدن السورية سنوياً في فصل الصيف ونهاية الخريف أيضا التي تنتظره كل أسرة لتجديد وندف قطن وصوف الفُرش واللُحف والمخدّات , خاصة في مواسم الأفراح والأعراس , إبتداء من الربيع حتى نهاية الخريف لحاجة الندّاف لفترات الشمس والصحو , والعمل على الشرفات وأساطيح المنازل في الهواء الطلق خارج المنازل , لوساعتها وأخذ حريته فيها , وإبعاد عوالق ووبر القطن المؤذية للصحة , وبالتالي للمحافظة على نظافة البيت ,, وكان الغداء أو العشاء يُجهّز له يومياً مع ضيافة الشاي والقهوة ..
ولقد كانت تقوم بهذه المهنة أيضاً , سيدة كبيرة في العمر من قريتنا تعرفها أهل البلدة , تتقن هذا العمل بمهارة من عائلة (... الثمنية ) , بيتها بجانب كنيسة أجيا صوفيا , كانوا أهلي يدعونها لإنجاز وتجديد فُرش أسرّتنا سنوياً في فصل الصيف , كنت أرافقها في منزلنا وأجلس بجانبها وهي تندف القطن على اّلة تحضرها معها ( المغزل المندف ) مصنوعة من اليد الخشبية وأوتار خيوط الجلد , كانت تصدر صوتاً ناعماً جميلاً وهي تندف أكوام القطن المجمعة بجانبها ...
*
وأما ( المبيّض ) كان ياتي من ناحية دوما أنذاك - الذي يبيّض الأواني المنزلية النحاسية , فقد كان يجلس في ساحة كل حارة من ساحات القرية أسبوعياً , ويجتمع حوله الأطفال , والكبار بعد أن يجول في كل أنحائها لينادي ويعلم الناس بقدومه : " مبيّض مبيّض " ...
فكانت كل عائلة تجمع ما تريد تبييضه مثل : الطناجر ( القدور ) والصحون لَكَن العجين لكَن الغسيل الِدست الحَلّة المَنسَف صحن الجدي صَدر النحاس الكفكيرة المغرفة , القشّاشة سطل اللبن طاسات الشرب الماء للشفة وغيرها ...
عمل المبيّض مهمّ , ومرغوب , عندنا لأنه مُستهلَك ومتكرّر نظرًا للإستعمالات اليومية للأواني النحاسية , وقد يستغرق وقتاً طويلاً حيث أواني المستعملة المنزلية لأهل البلدة أغلبها تقريباً كانت نحاسية – وقد كانوا يتباهون به – لأنه أبدي كالذهب , , وقليل من الألمنيوم والفخار والتوتياء – لم نكن نعرف بعد البيريكس والستانلي ستيل والتيفال , وغيرها من المعادن .
كان عمله يأخذ أكثر من شهر من الزمن يستأجرغرفة في البلدة - فهو إبن مدينة دوما ريف دمشق من منطقة واحدة - قريبة من الساحة العامة , في ساحة العين في بيت ( كرياكي , والفحل ) لينام فيها هو ومساعده , مع أدوات العمل : القصدير والحطب والكير والماء وغيرها . وقد أصبح صديقاً لأكثر العائلات , نظراً لتكرار العمل وصنعته المُتقنة وثقتهم به وبإخلاصه للعمل , وتبرع أهل البلدة بالوقود .
-----------
جميلة هي الحِرف اليدوية وعمّالها ومعلميها , وجميلة إبداعاتها وصدق اتقانها , وفرح المحافظة على الأشياء وتجديدها وصيانتها ونظافتها , وهذه صفة رائعة لىشعبنا السوري الشاطر الذكي النظيف الفنّان , المحافظ والمطوّر لعمله وتجديد حياته ....
هذه اللوحة الطفولية التي نقلتها , هي جُزء من مدرسة الحياة الشعبية الغنية بالقيم وحب العمل واحترام الناس التي عشناها في الريف بتواضع وحرية وبساطة وبعمق وشغف ...
لقد قيل : " البلد يُعرَف من مركزِه لا من أطرافه " .
حقيقة لا يعرف البلد وأهلها إلا من مشى ويمشي ويعيش فيها عن قرب .
والوطني الصادق هو مَن أحبّ وطنه ومشى أرضه ومدنه واكتشفها شبراً شبرًا, وعاش مفرداتها بشغف وضمير صادق ..
في الحقيقة إنني أعتبر نفسي محظوظة بموقع بيت أهلي الإستراتيجي , المُطِلّ والواقع في مركز ووسط الشارع والسوق الرئيسي للبلدة حينذاك - وما زال - والذي أعطاني القدرة على الإحاطة والإطلاع والعيش عن قرب مع المؤثرات الخارجية وإيجابياتها بالنسبة لتوسيع مدارك الطفولة وغناها الفكري والحسّي والتخيلي , والإطلاع على حركة التجارة والأخبار وأحداث القرية وأهلها مباشرة ووجهاً لوجه ,, بالإضافة إلى فضولية الطفلة التي تريد أن تعرف وتستكشف كل جديد ,, وكثير من الأوقات كانت البائعات أو البائعين الذين نعرفهم وفي قرابة معهم من الأحياء البعيدة , أو من القرى المجاورة كثيراً ما يرتاحون على مصطبة باب دارنا الحجرية العريضة , ونقدم لهم الماء , أو أي حاجة ومعونة طلبوها من الأهل ...... ,, سقا الله أيام زمان !
مريم نجمه / هولندة
#مريم_نجمه (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟