سهر العامري
الحوار المتمدن-العدد: 1305 - 2005 / 9 / 2 - 12:06
المحور:
اخر الاخبار, المقالات والبيانات
قبل ليل من ساعة وقوع الفاجعة على جسر الأئمة من بغداد كنت أحدث صديقا لي عبر الانترنت ، يقطن على مسافة من ضاحية الكاظمية ، كان مدار حديثنا هو الرغبة الجامحة التي كانت تجتاح هذا الصديق في التوجه صباح ذاك الليل للمشاركة في مراسم العزاء التي ستقام بمناسبة وفاة الإمام الكاظم عليه السلام ، مشيا على الأقدام .
لقد حاولت ثنيه عن ذلك ما استطعت ، وطرحت له أكثر من علة وسب في خطل نواياه ومقاصده ، قلت له - يا أخي – كنت مثلك أذهب لزيارة الأمام الكاظم حين كنت طفلا مصاحبا لأمي التي لا تفقه من القراء والكتابة شيئا ، وكذلك حين كبرت ، وسكنت بغداد في مكان ليس ببعيد عن ضريح الأمام ، ولكننا ما كنا نذهب إلا ركوبا في وسائط نقل ، دون أن نكلف أنفسنا مشقة الطريق ، وأضفت أن قرن المشي بزيارة أضرحة أهل البيت بدعة جديدة ما كانت معروفة من قبل ، ويبدو أنها ظهرت حين استغلت بعض الأحزاب الدينية الشيعية هذه المناسبات من أجل استعراض العضلات ، واستفزاز الآخرين ، ولا شيء غير ذلك ، وأثنيت عليه أن يتدبر القران الكريم وهو يقول : لا يكلف الله نفسا إلا وسعها . لكن صديقي رد علي قائلا : لماذا تؤاخذني على معتقد أنا أعتقده ؟ قلت له المشي على الأقدام ليس معتقدا ، وإنما المعتقد يكون في فكر أو في نظرية ، وأظن أنك توافقني الرأي فيما أقول ، وأنت واحد من مربي الأجيال ، ثم أنني أخشى عليك سوء العاقبة والمآل ، فأنت ، كما ألاحظ ، رغم شحط المسافة بينا ، قد عُبئت على ركوب الخطر ، ودفعت دفعا لغايات سياسية أنت لا تعلمها على ما يبدو ، ولتعلم – يا عزيزي – أن زيارتك للضريح مع هذه الحشود الضخمة ، المتدافعة بالمناكب تخلو من شعور بالمسؤولية اتجاه نفسك أولا ، وأسرتك ثانية ، ومجتمعك ووطنك خيرا .
وأضفت : أتعلم أن مصادر خبرية من داخل العراق ، ومن أوساط قوات الاحتلال والحكومة قد نقلت بغباء خبرا يقول : إن الزرقاوي قد ارتحل من العراق الى القرن الأفريقي ؟ كما أضافت مصادر في الحكومة العراقية الى ذلك متباهية : إن العمليات الإرهابية لجماعة الزرقاوي قد أخذت في التناقص ! فهل تعلم أنت أين يقع القرن الأفريقي ؟ وما الغاية من انتقال الزرقاوي له ؟ قال لي : لا . عبر الانترنت ، هذه النعمة التي جمعت شمال الأرض مع جنوبها في حديثنا هذا ، رغم أن صديقي على ما يبدو كان لا يحس بعميم نفع نعمة العلم هذه ، تماما مثل أمي يرحمها الله التي كانت تستمع الى الراديو ، لكنها ما اقتنعت مني أبدا أن هناك رجل يتحدث أو يغني في بغداد ، ونحن نسمعه هنا في أهوار الناصرية ، كانت تصر على أن الشيطان هو الذي يتكلم من الراديو ذاته ، ورغم أنني بذلت الكثير من المحاولات في سبيل اقناعها ، لكنها ظلت على اصرارها ذاك .
وبذات الطريقة ظل صديقي مصرا على قناعاته مثلما أصرت أمي على تلك القناعات قبل أكثر من خمسين سنة ، نصف قرن من الزمن ، ففي أية فاجعة يعيش المتعلم داخل العراق اليوم ؟ والى أية مرحلة من التخلف يعود القهقرى الآن ؟
جئت لصديقي أخيرا من طريق أخرى ، طريق الترهيب وتخويف ، قلت له : أنني أخشى عليك الموت في شدة الزحام ، فقد مات الكثيرون من قبل في مناسبات مثل هذه المناسبات ، وأفظعها ذلك الكم الهائل من القتلى الذي ذهب في مناسبة مثل هذه المناسبة ، وفي باب القبلة من ضريح الإمام الحسين عليه السلام ، والذي كان من بين ضحاياها أبو زوجتي ، ولهذا أتمنى عليك أن تتفحص جيدا قوله تعالى : ولا تلقوا بأنفسكم الى التهلكة !
غاب عني صديقي الليلة ، وأنا أكتب هذه الكلمات ، فقد كان أنيس رحلتي الى بغداد عبر الانترنت كل ليلة ، كان لا يبخل علي بأخبارها ، ينقل لي أراء العراقيين الذين ضاقوا ذرعا بكل شيء ، فالاحتلال جاثم على صدر العراق ، والحكومة خائرة القوى ، والأزمات تأخذ بخناق البشر ، ومع هذا كان صديقي يأنس حين تلو عليه بيتا من الشعر مثل بيت الشاعر بشارة الخوري حين يقول :
من الجهل أن تلقى المهند بالعصا = = = وأن تدفع الأعداء بالصلوات
لكنني أتذكر أنه سألني : ما قصة القرن الأفريقي ؟ وما قصة تناقص العمليات الإرهابية التي أعلنت عنها بعض المصادر الحكومية ؟ قلت : أن إشاعة رحيل الزرقاوي الى القرن الأفريقي ما هو إلا تحضير لعمل إرهابي كبير ، تماما مثل خبر تناقص العمليات الإرهابية التي أشاعته بين الناس مصادر في الحكومة العراقية ، والتي ساهمت في الدعاية لهذه الجريمة الشنيعة من حيث تدري تلك المصادر أو لا تدري .
لقد غاب صاحبي الليلة عني ، ويبدو لي أنه كان من بين ضحايا فقراء الشيعة الذين قضوا عند جسر الأئمة ، والذين زاد عددهم على ألف إنسان بريء ، وفي عملية سهلة التخطيط ، فظيعة التأثير والوقع ، تمت على أكثر الظن بعقل مخابرات صدام ، وبتنفيذ المجرمين من أتباع الزرقاوي ، كانت سهولة العملية تلك تنبع من إلقاء بعض القنابل الصاروخية على مقربة من حشود الناس على الجسر ، لتثبت انفجاراتها لهم صدق إعلان واحد من بين صفوفهم : إن هناك رجلا انتحاريا ، يريد تفجير نفسه ، فما كان من موج البشر المتدفق على الجسر إلا أن أخذ يضرب بعضه بعضا ، أو يلقي بنفسه من على الجسر لينام النومة الأبدية ، في مسرحية أعدت لها بعض الأحزاب الدينية الشيعية العراقية ، وباركتها الحكومة العراقية ، واستغلتها القوى الإرهابية بذكاء منقطع النظير ، أذهب نشوة تلك الحكومة ، وتلك الأحزاب في حسابات الكسب الجماهيري المزيف . فالمعروف أن شيعة العراق ، وقبل ظهور الأحزاب الشيعية المتاجرة بدمائهم ، ومنذ مئات السنين ، كانوا يؤدون طقوس الزيارة لأضرحة أهل البيت ، فقد جاء في التاريخ أن أول من مارس هذا الطقس ، هو سليمان بن صرد الخزاعي ، ورفاقه في الحركة التي عرفت في التاريخ بحركة التوابين ، أولئك الذين لم يزد عددهم على المئة والخمسة والسبعين شخصا ، والذين زاروا قبر الحسين بعد موته بأشهر ، ثم بكوه بكاء مرا ، بعدها كسروا أغماد سيوفهم ، متوجهين صوب جيوش الشام ، حيث دخلوا معهم في معركة حامية الوطيس ، عرفت بعين الوردة ، استشهدوا فيها جميعا . وقيل كذلك إن علي بن منصور القادم من جنوب اليمن كان من بين العرب الأوائل الذي زار قبر الحسين واصحابة في مطلع القرن الثالث الهجري ، وحين رؤوه أصحاب حمدان القرمطي يسفح الدمع بغزارة عند القبر ، وثقوا به ، وجندوه في صفوفهم ، فكان كبير دعاتهم الذي ظهر بظهور دعوتهم ، وقيام دولتهم في البحرين والإحساء واليمن كذلك ، تلك الدولة التي دام حكمها قرابة المئة سنة .
وبعد كل هذا يظل السؤال من يتحمل مسؤولية هذه الفاجعة التي هزت القلوب هزا ؟ والجواب عن هذه السؤال هو : هي تلك الجهات المسؤولية عن أمن المواطنين العراقيين بالدرجة الأولى ، وفي المقدمة منها تكون قوات الاحتلال الأمريكية ، ثم الحكومة العراقية ، متمثلة بوزارة داخليتها بالدرجة الأولى ، ثم تأتي الجهات الإعلامية المرتبطة ببعض الأحزاب الدينية الشيعية التي شجعت الناس على هذه التحشد الكبير في وقت كانت تلك الجهات الإعلامية تعلم حالة الوضع المدمر الذي يمر فيه الناس بالعراق ، وتعلم عظيم الجرائم التي يقوم بها الإرهابيون على مختلف مشاربهم ، وعلى هذا ليس من الحكمة أن يفتش المرء عن أخطاء ارتكبها بحق نفسه عند آخرين يعلم أنهم أعداءه ، وأنهم يتحينون الفرص للانقضاض عليه .
لو حدثت مثل هذه الجريمة الكبرى في بلد من بلدان الديمقراطيات في العالم لاستقال المسؤولون الحكوميون المباشرون دون أن يكلف أحد من الناس نفسه في طلب الاستقالة منهم ، ولوضعوا أنفسهم بشجاعة أمام رجال القانون للمسائلة ، متحملين ذلك بشجاعة الرجال ، وليس بجبن أشباه الرجال ، فهلا فعل حكام العراق الجدد ذلك ! ؟
#سهر_العامري (هاشتاغ)
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟